نشرة دائرة الزراعة ومصايد الأسماك: حكاية حماية إرث الصيد

كان الصيد قبل وخلال الفترة الانتدابية، أكثر من مجرد وسيلة لكسب العيش؛ اذ كان شريان الحياة الذي يربط المجتمعات الساحلية والقرى القريبة من البحيرات والأنهار. في يافا، وحيفا، وحول بحيرة طبريا، كان الصيادون ينطلقون في الصباح الباكر على قواربهم الخشبية الصغيرة، مثل الحسكة والسمبوك، حاملين الشباك وخطوط الصيد الطويلة التي علمتهم إياها أجيال سبقتهم.

832 629

كان الصيد قبل وخلال الفترة الانتدابية، أكثر من مجرد وسيلة لكسب العيش؛ اذ كان شريان الحياة الذي يربط المجتمعات الساحلية والقرى القريبة من البحيرات والأنهار. في يافا، وحيفا، وحول بحيرة طبريا، كان الصيادون ينطلقون في الصباح الباكر على قواربهم الخشبية الصغيرة، مثل الحسكة والسمبوك، حاملين الشباك وخطوط الصيد الطويلة التي علمتهم إياها أجيال سبقتهم.

لكن وراء كل رحلة كانت هناك تحديات تنتظر الصيادين. كانت البحار والأنهار تتحكم بمزاجها، تتغير بتغير المواسم، وأحيانًا تجلب قلة الصيد معها أيامًا عصيبة. قد زاد على هذه الصعوبات ظهور ممارسات مدمرة لبعض الصيادين لم تكن جزءًا من إرث الأجداد. بدأ البعض يلجأ إلى استخدام الديناميت والسموم في محاولة لجني مكاسب سريعة. وبينما كانت هذه الأساليب تأتي بربح قليل في البداية، كانت تترك وراءها دمارًا بيئيًا يمتد إلى ما هو أبعد من أفق البحر.

في خضم هذه التحديات، ظهرت نشرة دائرة الزراعة ومصائد الأسماك عن الحكومة الانتدابية آن ذاك. بين عامي 1937 و1939، بدأت النشرة الصادرة عن حكومة الانتداب البريطاني في القدس تشق طريقها إلى أيدي الصيادين والمزارعين. لم تقتصر النشرة على مجموعة من التعليمات، بل كانت بمثابة صوت جامع يهدف لحماية ما تبقى من هذا الإرث العريق.

تحدثت النشرة عن أساليب الصيد غير المستدامة، مثل استخدام المفرقعات التي كانت تقتل الأسماك بلا تمييز وتتركها تتعفن في المياه، مما يخيف بقية الأسماك ويجلب كائنات غير مرغوبة مثل كلاب البحر. أكدت النشرة أن هذه الأساليب تدمر النظم البيئية بأكملها، مما يؤثر على مجموعات الأسماك الكبيرة والصغيرة.

لم تكن دعوات النشرة للتغيير بلا جدوى. مع زيادة الوعي، بدأ العديد من الصيادين بالتعاون مع السلطات والإبلاغ عن من يستخدمون الأساليب المدمرة. وتوالت القصص عن صيادين تم الإمساك بهم ومعهم أسماك ميتة مسممة بالديناميت،و تم تغريمهم خمسة جنيهات فلسطينية مما عزز الوعي بتبعات هذه الممارسات. كان هذا بمثابة تحول كبير في التزام المجتمع بحماية موارده المشتركة.

كما تحدث النشرة عن زيارات المسؤولين  للقرى، تحدثوا مع الصيادين كما الفلاحين، سمعوا قصصهم وأعطوهم توجيهات ملموسة.كما نشروا دورات تدريبية، و ناقشوا ممارسات مستدامة وأفكار جديدة لدعم الصيادين و الفلاحين.

وفي خضم هذا الحراك، تأسس مجلس مكون من 12 عضوًا من الصيادين، اجتمعوا ليضعوا رؤيتهم لحماية مصلحة الصيد، فاقترحوا قوارب أكثر كفاءة، وطالبوا بتوفير الشباك للصيادين الفقراء الذين لا يستطيعون تحمل تكلفتها.

قادت هذه الجهود المشتركة، المدعومة بالنشرة والتعاون بين المجتمع والسلطات، إلى تحسينات ملموسة في البلاد آنذاك.اذ لم تُحسن النشرة ممارسات الصيد فحسب، بل عززت أيضًا شعور المسؤولية داخل المجتمع، مما ساهم في اقتصاد أكثر استدامة ودعمًا لسبل عيش الصيادين، ومهد الطريق لصناعة صيد قادرة على الاستمرار لأجيال قادمة.

أرض الفرص: كيف غيّرت دير عمرو حياة الأيتام العرب

تحولت هذه الأرض، بخضرتها الخصبة وتربتها الغنية، إلى مدرسة تربوية زراعية. ولكن بالنسبة للأطفال الذين عاشوا هناك، كانت أكثر من مجرد مدرسة؛ كانت مكانًا للأمل والتجديد والفرص. لنتعرف سويًا على أحد المشاريع العربية الرياديّة خلال الفترة الانتدابية

832 629

في عام 1942، بدأت ثورة هادئة في تلال دير عمرو، وهي قرية صغيرة تقع بالقرب من القدس. ولم تكن هذه الثورة سياسيةً، بل كانت تجربة اجتماعية جريئة تهدف إلى تغيير حياة الأيتام العرب الذين تركتهم الاضطرابات في تلك الفترة بلا توجيه أو مستقبل واضح.

كان مأوى هؤلاء الأطفال دور الأيتام في البلاد، ولكن على الرغم من المأوى الذي وفرته لهم، لم يجد الأيتام في تلك المؤسسات سوى القليل مما يغذي أرواحهم أو يرشدهم إلى مستقبلهم. في هذا الوقت من عدم اليقين، اجتمع أربعة عشر رجلاً، مدفوعين بشعور بالواجب، في أحد أحياء ضواحي القدس لوضع خطة. كانت الخطة محفوفة بالمخاطر، طموحة، ولم يسبق تجربتها من قبل، لكنها كانت تحمل وعدًا بشيء استثنائي.

بقيادة المربي القدير صاحب الرؤية أحمد سامح الخالدي، استأجر الرجال قطعة أرض من المجلس الإسلامي الأعلى، الذي اشترى قرية دير عمرو. وتحولت هذه الأرض، بخضرتها الخصبة وتربتها الغنية، إلى مدرسة تربوية زراعية. ولكن بالنسبة للأطفال الذين عاشوا هناك، كانت أكثر من مجرد مدرسة؛ كانت مكانًا للأمل والتجديد والفرص.

كان جَوهَرُ فَلسفة المدرسة قويٌّ ببساطته: لم يكن هؤلاء الأطفال أيتامًا عاجزين، بل كانوا أفرادًا قادرين على تشكيل مستقبلهم بأنفسهم. لم تكن هناك قواعدُ صارِمة أو جَداول دِراسية مُحددة، ولم يكن هناك شعور بالمُؤَسَّسيّة أو التقييد. أصبحت المدرسة آنذاك مجتمعًا يعيش فيه الأطفال كجزء من عائلةٍ كبيرة. اذ تشاركوا الأعمال اليومية مثل الطهي والتنظيف ورعاية الحيوانات. ومن خلال هذه الأنشطة تعلموا المسؤولية والاعتماد على الذات والتعاون.

كان منهج المدرسة غير تقليدي أيضًا. اذ كانت صباحات الأطفال تمضي في العمل في الحقول، حيث يزرعون الخضروات والبقوليات ويربون الماشية. وفي فترات بعد الظهر، كانوا يحضرون دروسًا في القراءة والرياضيات والصحة والزراعة. هذا التوازن بين العمل البدني والدراسة الأكاديمية لم يُثقف الأطفال فحسب، بل كان يمنحهم أيضًا إحساسًا بالهدف والاتجاه. امتلأ المكان بالضحك والنشاط، وأضحى للأطفال، الذين كانوا ضائعين ذات يوم، رؤية أوضح لمستقبلهم.

ولضمانِ سَلامة الطلاّب والعُمال، تم بِناء مُستوصف صغيرٌ على أرضِ المدرسة. وبتمويل من التبرعات، قدم المستشفى الرعاية الطبية ليس فقط للمدرسة ولكن أيضًا للقرويين المجاورين. كانت هناك ممرضة داخلية وطبيب يأتي ويذهب للعناية بالأطفال، وسرعان ما أصبحت المدرسة نموذجًا للتعاون المجتمعي والخدمة الاجتماعية.

أصبحت دير عمرو حديث القرى المجاورة، حيث أعجب بها الناس بسبب نهجها المبتكر ونجاحها. ما بدأ كتجربة محفوفة بالمخاطر أصبح الآن يُعتبر قرية عربية مثالية، رمزًا لما يمكن تحقيقه من خلال التفاني والوحدة. تخرج الطلاب من المدرسة، بعضهم بقي ليساهم في العمل في الحقول، بينما دخل آخرون سوق العمل حاملين معهم المهارات والاستقلالية التي اكتسبوها.

كانت هذه المدرسة الزراعية بمثابة شهادة على قوة الجهد الجماعي. لقد رأى الرجال الذين بنوا هذا المشروع بصمت رؤيتهم تتحقق أمام أعينهم. وبحلول عام 1946، كان هناك حوالي 60 طالبًا في المدرسة، وفي السنة التالية، بدأ التخطيط لإنشاء مدرسة مماثلة للبنات.

على الرغم من أن المدرسة تأثرت بأحداث عام 1948، فإن إرثها استمر. أعاد موسى العلمي إحياء مبادئ دير عمرو من خلال إنشاء مدرسة مشابهة للبنين في أريحا، والتي لا تزال قائمة حتى اليوم.

تعتبر قصة دير عمرو قصة أمل ومرونة مجتمع. من خلال جهودهم، حول مُؤَسِّسو مدرسة دير عمرو الزراعية تجربة مَحفوفة بالمخاطر إلى نجاح باهر، مما أدى إلى تغيير حياة الكثيرين وَوَضَعَ مثالاً لما هو ممكن عندما يعمل الناس معًا من أجل الصالح العام.

خليل طوطح: المربّي الذي طبق تعاليمه

كان خليل طوطح شخصية بارزة في مجال التعليم، وترك بصمة لا تُنسى على الأجيال من الطلاب والمعلمين. وُلد في 20 مايو 1887 في رام الله، ونشأ في بيئة فكرية محفزة حيث كان والده أول معلم له. بدأ تعليمه المبكر في المنزل، لكنه سرعان ما التحق بمدرسة الفرندز في بلدة البيرة القريبة، مما كان بداية التزامه الدائم بالتعليم.

كان خليل طوطح شخصية بارزة في مجال التعليم، وترك بصمة لا تُنسى على الأجيال من الطلاب والمعلمين. وُلد في 20 أيار 1887 في رام الله، ونشأ في بيئة فكرية محفزة حيث كان والده أول معلم له. بدأ تعليمه المبكر في المنزل، لكنه سرعان ما التحق بمدرسة الفرندز في بلدة البيرة القريبة، مما كان بداية التزامه الدائم بالتعليم.

دفعه شغفه بالعلم إلى مواصلة تعليمه في لبنان ثم الولايات المتحدة، حيث أكمل دراسته الثانوية في ولاية ماين، ثم التحق بكلية كلارك في ماساتشوستس، وحصل في النهاية على درجة الماجستير في التربية من جامعة كولومبيا عام 1912. تركت هذه السنوات في الولايات المتحدة أثراً عميقاً في فلسفته التربوية، مما عزز إيمانه بالقوة التحويلية للتعليم.

عاد طوطح إلى البلاد عام 1912 لتولي إدارة مدرسة الفرندز في رام الله. تحت ادارته، تحولت المدرسة إلى مركز للإبداع الفكري والفني، حيث أدخل الموسيقى والفنون والدراما في المناهج الدراسية، وهي خطوة غير تقليدية في ذلك الوقت. كما كان طوطح من أشد المدافعين عن تعليم الفتيات، مُدركاً دور التعليم في تمكين المجتمع. خلال فترة إدارته، أصبحت المدرسة رمزاً للتعليم التقدمي في المنطقة، مقدمة للطلاب تجربة تعليمية شاملة ومبتكرة.

خارج إطار المدرسة، كان طوطح منخرطاً بعمق في الدعوة إلى الإصلاح التربوي، حيث رأى أن التعليم يجب أن يكون مستقلاً ومتجذراً في الثقافة المحلية، بهدف تمكين الشعب. وقد دافع عن إنشاء مناهج دراسية تعكس القيم والهوية المحلية، معتبراً التعليم أداة ليس فقط للنمو الشخصي، بل للتحرر الوطني والاجتماعي.

كما أسهم طوطح في مجال الكتابة، حيث تعاون مع بولص شحادة، رئيس تحرير صحيفة “مرآة الشرق”، في تأليف كتاب عن تاريخ القدس. وقد استكشف هذا الكتاب الغني الثقافة والتاريخ للمدينة، مسلطاً الضوء على أهميتها عبر العصور. تجسد هذه الشراكة التزام طوطح بالحفاظ على التاريخ المحلي، وتعزز أهمية العمل الجماعي في فهم إرث القدس.

إرث التعليم في كتابات طوطح

إلى جانب دوره كمربٍّ، كان خليل طوطح كاتباً غزير الإنتاج، تطرق في أعماله إلى المعاني العميقة للتعليم وتاريخه. يُعد كتابه “التربية عند العرب” من أبرز مؤلفاته، حيث استعرض فيه تطور التعليم في العالم العربي عبر العصور، وكيف تأثر بالتغيرات المجتمعية والثقافية.

التربية عند العرب

يتناول طوطح في كتابه كيف بدأ التعليم عند العرب كعملية مرتبطة بالتعاليم الدينية، حيث لعب القرآن دوراً محورياً في نشر القراءة والكتابة وتأسيس المدارس. ومع توسع الحضارة العربية، توسعت أيضاً أنظمة التعليم لتشمل العديد من المجالات مثل الأدب والعلوم والرياضيات. بالنسبة لطوطح، كان التعليم عند العرب ليس مجرد نقل للمعرفة، بل عملية تهدف إلى بناء عقل الفرد، وتشكيل الإطار الأخلاقي له.

من أبرز النقاط التي يعرضها طوطح في كتابه هي المكانة العالية التي كان يحظى بها المعلمون في المجتمع العربي. فقد كانوا يحصلون على ألقاب ومناصب مرموقة بناءً على كفاءتهم ومعرفتهم. كما يُشيد طوطح بدور النساء في الحياة التعليمية والثقافية، حيث يشير إلى أن العديد من النساء العربيات كن يتمتعن بالذكاء وحب العلم، مثل الخنساء وعائشة -رضي الله عنها-، اللواتي تركن أثراً في الأدب والشعر والتعليم.

من قلب القدس: دار المعلمات العربية

باعتبارها أعلى مؤسسة تعليمية للبنات في فلسطين الانتدابية، لعبت كلية دار المعلمات دورًا حيويًا في تشكيل مستقبل التعليم في المنطقة. كانت مكانًا يمكن للشابات فيه أن يحلمن بتجاوز القيود التي فرضها المجتمع، حيث يمكنهن الطموح إلى مهن وحياة من اختيارهن. في عام 1919، وفي مَدينة القُدس، تَأَسست كُلية دار المعلمات كأول مؤسسة تعليمية رائدة للنساء

832 629

باعتبارها أعلى مؤسسة تعليمية للبنات في فلسطين الانتدابية، لعبت كلية دار المعلمات دورًا حيويًا في تشكيل مستقبل التعليم في المنطقة. كانت مكانًا يمكن للشابات فيه أن يحلمن بتجاوز القيود التي فرضها المجتمع، حيث يمكنهن الطموح إلى مهن وحياة من اختيارهن.

في عام 1919، وفي مَدينة القُدس، تَأَسست كُلية دار المعلمات كأول مؤسسة تعليمية رائدة للنساء في فلسطين. جاءت هذه الكلية لتلبية الحاجة المُلحة إلى تَعليم الفتيات وإعدادِهنّ لِمهنة التّدريس في زَمنٍ كانت فيهِ الفُرص التعليمية للنساء محدودة. كانت الرؤية التي قامت عليها هذه المؤسسة ليست مجرد توفير التعليم، بل إعداد جيلٍ جديدٍ من المعلماتِ القادرات على النهوض بمستوى التعليم في البلاد، وفَتح آفاق جديدة للمرأة الفلسطينية في مجالات التعليم والمجتمع.

بدأت الكلية بمبادرة متواضعة، حيث كانت مُقامة في مبانٍ مستأجرة لم تكن مناسبة تمامًا لغرض التعليم. ورغم التحديات التي فَرَضَتها هذه المرافق غير الملائمة، استطاعت دار المعلمات سريعًا أن تُثبت نفسها كمركز للتعلم. كان القسط السنوي 24 جنيهًا فلسطينيًا، وهو مبلغ كبير في ذلك الوقت، لكن العديد من العائلات كانت مستعدة لدفعه مقابل أن تحصل بناتها على تعليم عالي الجودة.

في سنواتها الأولى، كان عدد الطالبات قليلًا. ففي عام 1920، لم يكن هناك سوى 23 طالبة مسجلة. وبحلول العام الدراسي 1924-1925، تضاعف العدد ليصل إلى 54 طالبة، ووصل في العام الدراسي 1945-1946 إلى 104 طالبات. جاءت هؤلاء الفتيات من مختلف أنحاء البلاد، حيث أقامت 70 منهن في القسم الداخلي بالكلية، بينما كانت البقية يأتينَ من بيوتهن كل يوم.

كانت مناهج دار المعلمات شاملة، تَعكس كلّ من الصرامة الأكاديمية والمهارات العملية اللازمة للتدريس. كان البرنامج التعليمي يمتد لخمس سنوات: أربع سنوات من التعليم الثانوي يليها سنة خامسة تركز على التدريب المهني والتربوي. قُسّم التعليم الثانوي إلى دورتين—الدورة الثانوية الدنيا التي تشمل السنة الأولى والثانية، والدورة الثانوية العليا التي تشمل السنة الثالثة والرابعة. بعد الانتهاء من التعليم الثانوي، كان على الطالبات اجتياز امتحان “المتريكوليشن”، وهو خطوة حاسمة تؤهلهن للانتقال من مرحلة الطالبات إلى مرحلة المعلمات المحترفات.

لم يكن التدريب المقدم في السنة الأخيرة مجرد تدريب أكاديمي، بل كان عمليًا أيضًا، مما يضمن أن الخريجات مستعدات بشكل جيد للتعامل مع متطلبات التدريس في المدارس الابتدائية. شملت المناهج أيضًا دروسًا في التدبير المنزلي والحياكة والخياطة، مما يعكس التوقعات المجتمعية للنساء في ذلك الوقت.

أشرَفت على المدرسة مديرة إنجليزية كرست نفسها لقيادة هذه المؤسسة، حيث عملت كمديرة ومفتشة على مدارس البنات في البلاد. تحت قيادتها، حافظت الكلية على معايير عالية، وازدادت سمعتها في الأوساط التعليمية. وبحلول عام 1946، تقدمت 20 طالبة من الكلية لامتحان “المتريكوليشن”، ونجحت 9 منهن، فيما حصلت 10 طالبات على شهادة المدرسة الثانوية. وفي نفس العام، تخرجت 19 طالبة من الصف الخامس الثانوي، مضيفات إلى العدد المتزايد من الخريجات اللواتي سيتولين مراكز تعليمية في جميع أنحاء البلاد.

لم تقتصر تأثيرات كلية دار المعلمات على حدودها الجغرافية. فبحلول عام1946، كانت الكلية قد خرّجت أكثر من 300 امرأة، معظمهن أصبحن العمود الفقري لنظام التعليم للفتيات في المدن كافة. لم تكن هؤلاء الخريجات مجرد معلمات، بل كن رائدات، والكثير منهن أصبحن شخصيات مؤثرة في مجالات متعددة. من بينهن شخصيات بارزة مثل الأديبة سميرة أبو غزالة والمذيعة فاطمة البديري، اللتين تركتا بصمات واضحة في الأدب والإعلام على حدٍ سواء.

لكن الحياة في دار المعلمات لم تكن مقتصرة على الدراسة فقط. بل كانت الكلية تقدم تعليمًا شاملًا، يتضمن التربية البدنية والأنشطة اللامنهجية. شاركت الطالبات في مختلف أنواع الرياضة، مثل الريشة الطائرة وكرة السلة وكرة الطائرة وحتى الرقص الأوروبي. كانت هذه الأنشطة أكثر من مجرد هوايات؛ فقد كانت جزءًا أساسيًا من التجربة التعليمية، تعزز روح الفريق والانضباط والرفاهية البدنية بين الطالبات.

باعتبارها أعلى مؤسسة تعليمية للبنات في فلسطين الانتدابية، لعبت كلية دار المعلمات دورًا حيويًا في تشكيل مستقبل التعليم في المنطقة. كانت مكانًا يمكن للشابات فيه أن يحلمن بتجاوز القيود التي فرضها المجتمع، حيث يمكنهن الطموح إلى مهن وحياة من اختيارهن. لم تكن الكلية مجرد مدرسة؛ بل كانت قوة مكّنت أجيالًا من النساء من أن يصبحن معلمات وقائدات ورائدات في مجتمعاتهن.