في عام 1942، بدأت ثورة هادئة في تلال دير عمرو، وهي قرية صغيرة تقع بالقرب من القدس. ولم تكن هذه الثورة سياسيةً، بل كانت تجربة اجتماعية جريئة تهدف إلى تغيير حياة الأيتام العرب الذين تركتهم الاضطرابات في تلك الفترة بلا توجيه أو مستقبل واضح.
كان مأوى هؤلاء الأطفال دور الأيتام في البلاد، ولكن على الرغم من المأوى الذي وفرته لهم، لم يجد الأيتام في تلك المؤسسات سوى القليل مما يغذي أرواحهم أو يرشدهم إلى مستقبلهم. في هذا الوقت من عدم اليقين، اجتمع أربعة عشر رجلاً، مدفوعين بشعور بالواجب، في أحد أحياء ضواحي القدس لوضع خطة. كانت الخطة محفوفة بالمخاطر، طموحة، ولم يسبق تجربتها من قبل، لكنها كانت تحمل وعدًا بشيء استثنائي.
بقيادة المربي القدير صاحب الرؤية أحمد سامح الخالدي، استأجر الرجال قطعة أرض من المجلس الإسلامي الأعلى، الذي اشترى قرية دير عمرو. وتحولت هذه الأرض، بخضرتها الخصبة وتربتها الغنية، إلى مدرسة تربوية زراعية. ولكن بالنسبة للأطفال الذين عاشوا هناك، كانت أكثر من مجرد مدرسة؛ كانت مكانًا للأمل والتجديد والفرص.
كان جَوهَرُ فَلسفة المدرسة قويٌّ ببساطته: لم يكن هؤلاء الأطفال أيتامًا عاجزين، بل كانوا أفرادًا قادرين على تشكيل مستقبلهم بأنفسهم. لم تكن هناك قواعدُ صارِمة أو جَداول دِراسية مُحددة، ولم يكن هناك شعور بالمُؤَسَّسيّة أو التقييد. أصبحت المدرسة آنذاك مجتمعًا يعيش فيه الأطفال كجزء من عائلةٍ كبيرة. اذ تشاركوا الأعمال اليومية مثل الطهي والتنظيف ورعاية الحيوانات. ومن خلال هذه الأنشطة تعلموا المسؤولية والاعتماد على الذات والتعاون.
كان منهج المدرسة غير تقليدي أيضًا. اذ كانت صباحات الأطفال تمضي في العمل في الحقول، حيث يزرعون الخضروات والبقوليات ويربون الماشية. وفي فترات بعد الظهر، كانوا يحضرون دروسًا في القراءة والرياضيات والصحة والزراعة. هذا التوازن بين العمل البدني والدراسة الأكاديمية لم يُثقف الأطفال فحسب، بل كان يمنحهم أيضًا إحساسًا بالهدف والاتجاه. امتلأ المكان بالضحك والنشاط، وأضحى للأطفال، الذين كانوا ضائعين ذات يوم، رؤية أوضح لمستقبلهم.
ولضمانِ سَلامة الطلاّب والعُمال، تم بِناء مُستوصف صغيرٌ على أرضِ المدرسة. وبتمويل من التبرعات، قدم المستشفى الرعاية الطبية ليس فقط للمدرسة ولكن أيضًا للقرويين المجاورين. كانت هناك ممرضة داخلية وطبيب يأتي ويذهب للعناية بالأطفال، وسرعان ما أصبحت المدرسة نموذجًا للتعاون المجتمعي والخدمة الاجتماعية.
أصبحت دير عمرو حديث القرى المجاورة، حيث أعجب بها الناس بسبب نهجها المبتكر ونجاحها. ما بدأ كتجربة محفوفة بالمخاطر أصبح الآن يُعتبر قرية عربية مثالية، رمزًا لما يمكن تحقيقه من خلال التفاني والوحدة. تخرج الطلاب من المدرسة، بعضهم بقي ليساهم في العمل في الحقول، بينما دخل آخرون سوق العمل حاملين معهم المهارات والاستقلالية التي اكتسبوها.
كانت هذه المدرسة الزراعية بمثابة شهادة على قوة الجهد الجماعي. لقد رأى الرجال الذين بنوا هذا المشروع بصمت رؤيتهم تتحقق أمام أعينهم. وبحلول عام 1946، كان هناك حوالي 60 طالبًا في المدرسة، وفي السنة التالية، بدأ التخطيط لإنشاء مدرسة مماثلة للبنات.
على الرغم من أن المدرسة تأثرت بأحداث عام 1948، فإن إرثها استمر. أعاد موسى العلمي إحياء مبادئ دير عمرو من خلال إنشاء مدرسة مشابهة للبنين في أريحا، والتي لا تزال قائمة حتى اليوم.
تعتبر قصة دير عمرو قصة أمل ومرونة مجتمع. من خلال جهودهم، حول مُؤَسِّسو مدرسة دير عمرو الزراعية تجربة مَحفوفة بالمخاطر إلى نجاح باهر، مما أدى إلى تغيير حياة الكثيرين وَوَضَعَ مثالاً لما هو ممكن عندما يعمل الناس معًا من أجل الصالح العام.