عينٌ على أحياء عكا : “لا يصيبنا إلّا نصيبنا”

ضمن سلسلة عين على العرب، اخترنا هذه المرة بقعة جغرافية ينظر إليها الناظر؛ البعيد قبل القريب برؤى ثقافية وتاريخية متعددة ومتباينة، إنها مدينة عكا الساحلية.

حي الفاخورة عام 1951، عكا

ضمن سلسلة عين على العرب، اخترنا هذه المرة بقعة جغرافية ينظر إليها الناظر؛ البعيد قبل القريب برؤى ثقافية وتاريخية متعددة ومتباينة، إنها مدينة عكا الساحلية. هذه المدينة، الصغيرة برقعتها الجغرافية الممتدة بتاريخها العريق وصيتها الذي وصل مشارق الأرض ومغاربها، تختزن العديد من الحكايا والسرديات والمواد المؤرشفة التي آن لنا أن نلقي الضوء عليها ونمسح عنها الغبار. في هذا المقال، ارتأينا أن نظهر بعض مواد مؤرشفة متنوعة تركز على الواقع المعاش لأهالي المدينة خلال فترة الحكم العسكري الذي تم فرضه على المواطنين العرب في البلاد وخاصة الفترة التي أعقبت سنوات الحرب عام 1948. تتضمن المواد الأرشيفية صور توثيق معالم المدينة وساكينيها بالإضافة إلى مقتطفات إخبارية من الصحافة العربية التي هدفت لإيصال صوت أهل عكا ومعاناتهم.

تدلّنا المواد المؤرشفة بين أيدينا من صورٍ التقطها مصوّرون في عكا في سنوات الخمسينات والستينات، أو أخبار تناولت المدينة في الصحافة الفلسطينية آنذاك على واقعٍ سكنيّ أليم، كانت ولا تزال تعايشه المدينة القديمة. ففي صور أرشيف المصوّر بوريس كارمي مثلًا، والذي زار عكا في الخميسنيات والستينيات والسبعينيات والثمانينيات، ووثّق حالة بعض الأحياء السكنية، نستطيع تمييز حالة المباني وظروف ساكنيها الصعبة بوضوح. إلا أنها على الجانب الآخر تُظهر لنا طبيعة الحياة اليومية وأسلوب المعيشة الفريد لدى ساكني المدينة وزوّارها، على اختلاف مجالات الحياة من صيدٍ وتجارة وتعليم وسياحة وعبادة.

عكا؛ رومانسية الماضي وواقع الحكم العسكري الأليم

جاء في في مقالة كتبها رمزي خوري لجريدة الاتحاد في الأول من أيار عام 1950 بعنوان “يومٌ مع الحكم العسكري في عكا”، يصف بها اجراءات وقفه وسجنه لأسبوع، على أثر قدومه إلى عكّا من قرية البعنة بلا تصريح من الحاكم العسكريّ.

“وما وصلت بنا السيارة قرب تل الفخار القريب من عكا الا وكاننا في ميدان الجنود مبعثرين على اليمين وعلى الشمال يوقفون السيارات ليسألوا ركابها “اذا كان بينهم عرب” فيطلبون منهم ابراز التصاريح العسكرية…لا حاجة للكلام عن الانتظار في الساحة والاوامر الصارمة بالانتقال من مكان الى آخر والجلوس وعدم الوقوف ومنع الكلام ومنع الاتصال مع احد من الناس..الا انّ ما لفت نظري هناك كان عدد من النساء الفلّاحات.. وقد جمعن في احدى زوايا الساحة (ساحة قسم الشرطة حيث الحاكم العسكريّ)، امام كل منهن دست من اللبن كانت قد جاءت به مشيًا على الأقدام لتبيعه في عكا”.

في عكا مدينتين؛ مدينة للسواح ومدينة لأهالي عكا العرب

في مقالته “جولة قصيرة في عكا” عام 1963، يرافق رمزي خوري إحدى السائحات في طرقات “ضيّقة، متعرّجة، مزروعة بأطفال حفاة وأوحال”،  ليريها واقعًا آخر لعكا غير الذي يرونه السّياح، وغير الذي وصفته له هي بال”رومنطيقي”. في الحقيقة، تشير نسبة كبيرة من الأخبار التي خصّت عكا بالذكر في تلك الفترة إلى خطر انهيار المنازل في البلدة القديمة وازدياد الركام ومطالبات أهلها بتوفير سكنٍ بديل أو ترميمها أو توفير بعض المقوّمات الأساسية للعيش.

إحدى حارات عكا القديمة، 1975، مجموعة بوريس كرمي، الأرشيف المصور للمكتبة الوطنية الإسرائيلية.

قام محمود أبو شنب مثلًا بكتابة مجموعة من المقالات لجريدة الاتّحاد في سنوات الستينات والسبعينات، يُسائل بها بلدية عكا والحكومة ويحمّلها مسؤولية انهيار بعض المباني على رؤوس ساكنيها في أحياء المدينة المختلفة. في إحدى تلك المقالات يخص بالذكر بيت عائلة الناطور الذي انهار أحد جدرانه بالفعل وكان على وشك الانهيار بالكامل. يقول أبو شنب في وصف البيت: “يسكن في شيء يقع في الطابق الثالث، ولكي تصل الى هذا الشيء، عليك أن تنحني مرتين أو ثلاث لتتفادى قناطر الدرج أو خطأ الدخول الى بيت الجيران.. لأن الدرج يمرّ هكذا الى أعلى حتى تنتهي الى درجات لا يزيد عرض الواحدة عن نصف متر بين جدرانين مرتفعين يكون أحدهما جدار الغرفة التي ينام فيها أولاد محمد ناطور الستة…إذ قبل أن تطأ قدمك عتبة البيت، يواجهك الحائط الشماليّ للغرفة التي ينام فيها الأطفال لترى فيه شقًا طويلًا من أعلى الحائط الى أسفله، وقبل أن تدخل البيت، تدرك سلفًا أن العائلة في خطر”. يكمل أبو شنب ليصف لنا مشوار محمود الناطور صاحب البيت في مطالبة البلدية بالإلتفات للجدار المشقوق في غرفة نوم أطفاله، حيث ينامون تحت السرير خشية انهيار الجدار عليهم مباشرةً، إلا أن مطالباته، كما يشير أبو شنب، لم تأت إلا بتسجيل المنزل في خانة “خطر” في سجلّات البلديّة، التي طالبته قبل أي شيء بالحصول على عقد إيجار من شركة “عميدار”، المالكة لبيوت عكا المسجّلة كأملاك غائبين. ومنها بيت العائلة المذكور.

أحد بيوت عكا القديمة من الداخل – 1975، مجموعة بوريس كرمي، الأرشيف المصور للمكتبة الوطنية الإسرائيلية.

ويشير خوري في مقالة أخرى إلى اهتمام البلدية ب”طريق السيّاح” الذين يتوافدون إلى المدينة لزيارة مواقعها الأثرية والاستجمام، في حين تهمل الأحياء السكنية والسوق “الموحل”. يقول بولس “ينفقون ألوف الليرات سنويًا للمحافظة على المظهر “الرومانتيكي” لهذا الطريق – الذي يجب أن لا يكون فيه أي مظهر من مظاهر البناء والتجديد..حتى عريش من الخشب والحصير يقيمها بقال”. وفي مقالةٍ إضافية، يخبّر أبو شنب عن انهيار أربعة بيوت بالفعل فوق ساكنيها ومصرع أحدهم تحت الركام.

مدخل لبيت فوق إحدى الخرائب عام 1962 – علّقت عليه نجمة داوود ومكتوب فوقها “لا يصيبنا الّا نصيبنا، مجموعة بوريس كرمي، الأرشيف المصور للمكتبة الوطنية الإسرائيلية.
المدخل الى متحف “حمام الباشا” بجانب سجن عكا، مجموعة بوريس كرمي، الأرشيف المصور للمكتبة الوطنية الإسرائيلية.

لم يكن قدم البيوت وميلها للانهيار المشكلة الوحيدة التي عانى منها العكاويون ولا يزالون الى اليوم. فكما تشير مقالات خوري وأبو شنب، عانى أهالي المدينة من فقرٍ شديد وبطالة واكنظاظٍ في المدارس، واعتاش الكثيرون على صيد السمك بالفعل. إلا ان كمّ الاشارات إلى العيش بين الركام وفوق الخرائب لا يمكن تجاهله. ففي النهاية، عكا التي لطالما سحرت الناظرين من بعيد مدينة عتيقة، يدرك أهلها عتقها كما لا يفعل أحد.

لتصفح البوابة المعرفية الخاصة بمدينة عكا وقراها المحيطة اضغطوا هنا 

مقطع من سوق عكا الكبير، 1950، مجموعة بوريس كرمي، الأرشيف المصور للمكتبة الوطنية الإسرائيلية.

 

الملك الصغير في حضرة المسجد الأقصى المبارك

لم تكن هذه الزيارة هي الأولى للأمير الصغير وكثير ما يطرح المتابعون لأحداث التاريخ الحديث أسئلة للبحث في زيارة الملك فيصل الثاني للقدس مرتين، فما كانت رسالة العائلة الهاشميّة؟​

​​​​يطلق المقدسيّون حتّى يومنا هذا على باب العتم في المسجد الأقصى المُبارك باب الملك فيصل، فقد أطلق المجلس الإسلامي الأعلى هذه التسمية بعد زيارة الملك فيصل للقدس عام 1943، حيث تبرّع آنذاك بعمارة هذا الباب في المسجد الأقصى المُبارك، في حين لم تكن هذه الزيارة هي الأولى، وكثير ما يطرح المتابعون لأحداث التاريخ الحديث والمدقّقون لتفاصيله أسئلة للبحث والتفكير حول سبب زيارة الملك فيصل الثاني للمدينة المقدّسة مرتين خلال أقل من عامين، فيتساءلون هل كان الأمر محاولة جديّة من خاله الوصيّ لتوطيد أركان الحكم الهاشميّ في القدس، أمّ أنّ الامر لا يتعدّى سوى رسائل رمزيّة تودّ العائلة الهاشميّة أن ترسلها للشعوب العربيّة بأنّهم هم الراعون والحامون للأماكن المقدّسة في فلسطين؟​

​عنوان الصفحة الأولى من مجلة المنتدى – آذار 1943

وتزودنا مجلّة المنتدى في عددها الأول بتفاصيل حول الزيارة الأولى للقدس، حين كان الملك فيصل في الثامنة من عمره، فتمدّنا بتفاصيل الزيارة وأسماء المرافقين للملك، فشارك فيها قنصل العراق العام وقائمقام القدس ونرى أيضًا في الصورة فضيلة الشيخ يوسف طهبوب، أحد اعضاء المجلس الإسلامي الأعلى البارزين.

صورتان حول زيارة الملك إلى المسجد الأقصى: الاولى مع مستقبليه الرسميّين، الثانية مع شيوخ الحرم الشريف​

ونراه يوقّع أسمه في دفتر التشريفات بدار القنصليّة العراقيّة حيث أقام وعائلته، ومن الملفت أنّه خصّصت المجلّة رسّامًا خاصًّا، قام برسم الملك رسمة خاصة على الدرج المُقابل لقبّة الصخرة المشرّفة.

وجبة الغذاء للملك فيصل الصغير في قصر الأمير عبدالله المعظّم

فيما يزودنا العدد الثاني من مجلة المنتدى في الأول من تموز 1944 بتفاصيل الزيارة الثانية والتي كانت هذه المرة تستهدف توطيد العلاقات السياسية، فنرى صورًا من زيارته لقادة في الجيش الانجليزي، إضافة لزيارة للجيش العربي عند وصوله.

الملك فيصل الثاني في حضرة مودّعيه، ونرى في الصورة أعضاء المجلس الإسلامي الأعلى

رُبّما لم يعلم الملك فيصل الثاني أنّ تسمية الباب ستدوم أكثر من كلّ محاولاته التي لن تتكلّل بالنجاح التام، فكان اغتيال الملك عبد الله في القدس عام 1950، أما الملك الصغير فسيتم تصفيته في احدى أبشع المجازر في التاريخ الحديث، فيقتل هو ووالدته وخاله في ساحة القصر عام 1958 لتختتم قصة العائلة الهاشميّة في العراق.

التغطية الصحفيّة في العدد الرابع من المجلد الثاني من مجلّة المُنتدى

 

حركة الإعمار؛ ما بين الرأسمالية الفلسطينية والوعي الوطني

ماذا عن الدور الذي لعبته الطبقة الرأسمالية العربية الفلسطينية في إعمار البلاد في الفترة الانتدابية؟

حين نفكر في فلسطين الانتدابية، دومًا ما يتم الربط بين مفاهيم مثل “تطوير” و”اعمار البلاد” وبين الاستيطان الصهيوني أو السلطات البريطانية. لكن، الأبحاث الحديثة تظهر أن هذه القضايا قد شغلت بذات المستوى المستثمرين والطبقة الرأسمالية العربية الفلسطينية في الفترة ذاتها. إن مراجعة النقاشات الكثيرة حول “حركة الاعمار” في فترة الانتداب تمكّننا من دحض الادعاء الذي يقول أن الحركة الصهيونية والانجليز اشتغلوا في القضايا “الحداثية” أكثر من نظرائهم الفلسطينيين.

الكثير من الأخبار التي تعقّبت الحراك في فرع البناء ظهرت في الصحف العربية التي تعود لفترة الانتداب، جريدة الدفاع – على سبيل المثال – خصّصن العديد من المقالات القصيرة في مطلع تشرين الأول – أكتوبر 1935، حول قضية تباطؤ البناء في حيفا، مشيرة لارتفاع أسعار المواد وأجور العمال كعوامل مسببة لذلك. وفي تشرين الثاني – نوفمبر من ذات العام، نشرت الجريدة معطيات إحصائية للسنوات 1934-1933 تقارن بين مدن فلسطين الانتدابية في جوانب مثل: وتيرة البناء، المصروفات في فرع البناء، عدد تصاريح البناء التي منحتها السلطات.

جريدة فلسطين من جهتها تعقبت هي الأخرى هذه القضية، فمن فترة الحرب العالمية الثانية وحتى عام 1948 خصصت الجريدة أخبارًا حول خطط البناء الحكومية وعلى حركة البناء بشكل عام، مع التركيز على ما يجري في الأحياء اليهودية في البلاد. في ذات الفترة كلا الجريدتين خصصوا مقالات حول النقص بمواد البناء والغلاء المتزايد، والذي أضر بتطوير الكثير من مشاريع البناء الفلسطينية والتي كانت ستلبي متطلبات الاسكان للمجتمع العربي في البلاد.

                                                                الدفاع، 5 تشرين الثاني 1935

لتصفح أعداد صحيفة “الدفاع”، اضغطوا هنا

                                                           فلسطين، 6 كانون الأول 1946

لتصفح أعداد صحيفة “فلسطين”، اضغطوا هنا   

عدا عن الاعلانات التجارية، كإعلانات الغرف التجارية لم يكن على ما يبدو من تطرق وبشكل معمق ومفصل لموضوع البناء أكثر من جريدة “مرآة الشرق”، الطريقة التي غطت بها فقاعة العقارات التي انفجرت في القدس عام 1933 توفر لنا امكانية لفهم الرؤية الاقتصادية والبرجوازية لمحرري الجريدة ولشدة الملاحظة التي أبدوها اتجاه التغيرات والتطورات الاقتصادية العالمية.

تفاقم الجفاف في صيف 1932 أدى لقيام سلطات الانتداب باتباع سياسية تقنين شديد للماء في القدس، وفق افادات “مرآة الشرق” كان لهذه السياسة آثار عديدة خاصة على قطاع البناء في المدينة. في 27 تموز من ذات العام، نشرت الجريدة بأن منع استخدام المياه لأعمال البناء والذي كان ضروريًّا لصناعة الطين والباطون، أدى لتوقف تام لهذا الفرع في المدينة. وكنتيجة لذلك، فإن عمال البناء في المدينة، اضافة للكثير من العاملين في  الصناعات المرتبطة بهذا الفرع كالنجارين، الحجارين، عمال المقالع، عانوا ليس فقط من تقنين المياه والتي عانى منها كل السكان، وإنما من البطالة حين وجدوا أنفسهم بلا عمل أو دخل. مع ذلك اختتم الخبر بأسلوب متفائل، وبأمل المحررين بأن تعود حركة البناء لسابق عهدها حين تنتهي الأزمة.

                                                                مرآة الشرق، 27 تموز 1932

لتصفح أعداد مرآة الشرق، اضغطوا هنا

ستكملت أعمال البناء بعد أشهر فعلاً. ولكن وبحسب ادعاء محرري “مرآة الشرق” فلشدتها أنتجت اشكالية مختلفة تماماً في جوهرها “فقاعة عقارية” مقدسية، في الأعداد من 29 نيسان وحتى 3 أيار 1933، نشرت الجريدة  على صفحاتها الأولى سلسلة من مقالين حول حركة البناء في المدينة. وأستبدل الأمل حول تجدد أعمال البناء باتهامات شديدة اللهجة، مفادها بأن ثروة المقدسيين تهدر على “الحجارة والقصارة” والتي لا تنتج شيئًا. المشكلة بنظر محرري الجريدة ليس في غياب البناء وانما العكس، أصحاب رؤوس الأموال المقدسيين يبنون بنهم. ولما كان المقدسيّ قبل عشر سنوات يفتش بالسراج والفتيلة كي يجد شقة يسكنها، فاليوم يجد مئات الشقق ولا مستأجر.

بعد استشارة “اقتصاديين كبار” استنتج كاتب المقال أن نهم البناء المقدسي يعارض “المبادئ الاقتصادية الحقيقية” ولهذا فمصيره الفشل، وفق هذه المبادئ كتب: يبدو أنه قد كان منطق ما هذا الجنون قبل عشر سنوات، حين كان هناك الكثير من المسؤولين البريطانيين يصلون البلاد وكانت هجرة يهودية متزايدة، فأدى ذلك كله لطلب متزايد على الايجار وعلى تكلفته.  يبدو أيضًا – وفق المقالات – أن لرؤوس الأموال كان منطقيًّا أن يبنوا بهذا الشكل حين لاحظوا هبوط الباوند الانجليزي وخافوا أن يكون مصيره كمصير المارك الألماني الذي انهار عام 1931.  ولكن ألم يميز أصحاب رؤوس الأموال أن أعداد المسؤولين الانجليز محدودة وأنه مذ أحداث العنف عام 1929، ارتد اليهود عن استئجار الشقق من أصحاب البيوت العرب وحتى عن الاستئجار في الأحياء العربية كلها؟ وأن الباوند الانجليزي لا يشبه المارك الألماني لأن امبراطورية بأكملها ومساحات حيوية من الاقتصاد العالمي مرتبط  بها؟
                                                                مرآة الشرق، 29 نيسان 1933

للمزيد حول صحيفة “مرآة الشرق”، اضغطوا هنا

المشكلة وفق “مرآة الشرق” كانت أن اصحاب رؤوس الأموال المقدسيين، اتخذوا لأنفسهم أنماط وسلوكيات غير منطقية وغير مهنية اقتصادياً، ورغم أن هذا التحليل مثير في جوهره، فمن المثير أيضاً نقاش كيف قامت الجريدة بصرف النظر عنه والذي يعكس اختلافاً في فهم علاقات القوى الاقتصادية في المدينة، وبيد من تكمن القدرة الاقتصادية في البلاد. سبق ذلك باقل من عام أن وصفت الجريدة مستقبل الاقتصاد في القدس بأنه رهينة بيد سياسية تقنين المياه البريطانية وهو تحت رحمة الطبيعة،  بينما الآن هو رهينة الطبقة البرجوازية العربية في البلاد. كان بمقدورهم أن يتبنوا “المبادئ الاقتصادية الحقيقية” ويوجهوا اقتصاد القدس بعيداً عن الكارثة.

                                                                      مرآة الشرق، 3 أيار 193​3
اضغطوا هنا، لتصفح العدد 3 أيار 1922

المقالات هذه في جريدة “مرآة الشرق” تعكس جوانباً هامة من تاريخ المجتمع الفلسطيني وفترة الانتداب والتي اعتاد البحث العلمي وحتى فترة قريبة تجاهلها. فالأبحاث عادة ما تهتم وتشدد على أهمية الفكر والأيديولوجيات العامة لأصحاب رؤوس الأموال والمثقفين العرب في فترة فلسطين الانتدابية، وعلى محاولاتهم بناء اقتصاد فلسطيني يرتكز على المبادئ الاقتصادية “الحقيقية” أو “العلمية” من النوع الذي وثقته مؤخراً المؤرخة شيرين صيقلي في كتابها Men of Capital اضافة لمقالات أخرى اهتمت بقضايا البناء، والتي تظهر أن “اعمار الأرض” والذي اعتبر مصطلحاً أيديولوجياً يخص الخطاب الصهيوني فقط كان خطاباً فلسطينياً أيضاً أثار اهتمام شرائح اجتماعية مهمة في المجتمع الفلسطيني وقيادته.

وختاماً تعكس هذه المقالات كيف أنه – وخلافاً للتوجه الذي يصور الفلسطينيين في فترة الانتداب كمتلقين أو كأشخاص يعملون فقط من منطلق رد الفعل على الصهيونية والانتداب، فان الطريقة التي تعاملت بها الصحافة الفلسطينية مع الواقع متغيرة بلورتها رؤية العاملين فيها لأنفسهم كوكلاء تاريخيين واقتصاديين ذوي تأثر وقوة.

 

يعقوب الغصين مرّ من هنا

محطات في حياة السياسي الفلسطيني ابن مدينة الرملة الأستاذ يعقوب الغصين

ولد السياسيّ الفلسطينيّ يعقوب الغصين في مدينة الرملة عام 1900، ومنذ فترة شبابه، سطع أسمه مبكّرًا كأحد الشباب المتحمّسين، حيث بدأ حياته السياسيّة كعضو في جمعيّة الشبّان المسلمين، والتي كانت حينها في ذروة انتشارها وعطاءها حينها، وكانت محطّة ضرورية للشباب الراغبين في العمل السياسي. لكن الغصين وكالكثير من أبناء جيله سرعان ما شعروا أن هذه الجمعيّة تمامًا كما اللجنة التنفيذية والتي كانت الاطار الجامع لكل التنظيمات الفلسطيني، لا تلبّي طموحاتهم وبالتالي كان من الشباب الذين حاولوا خلق بديل للقيادة الفلسطينية التي كانت حينها.

مع بداية ثلاثينيات القرن الماضي وتعاظم شعور الفلسطينيين بضعف اللجنة التنفيذية وعدم قدرتها على حماية الفلسطينيين أو تحقيق تطلعاتهم، خاصة بعد أحداث ثورة البراق واضطرابات يافا واستمرار الهجرة اليهودية، بدأت حالة تذمر شديدة بين الفلسطينيين من اللجنة ومن واقع البلاد، انعكس هذا التذمر في مئات المقالات التي عجت بها الصحف وكذلك في انطلاق أحزاب وتنظيمات فلسطينية جديدة، كان من بينها مؤتمر الشباب العربي الفلسطيني الذي سرعان ما صار يعقوب الغصين رئيسًا له.

كان مؤتمر الشباب العربي الفلسطيني يعكس التوجّه السياسيّ لشريحة من الفلسطينيين ضد الانتداب البريطاني والصهيونية ولكن في نفس الوقت النقد العميق للقيادات الفلسطينية التقليدية التي لم تفلح في تحقيق انجازات ملموسة للناس، وهو ما يمكن استشعاره في البيانات المتكررة التي أطلقها الغصين كرئيس لمؤتمر الشباب والتي تعكس الفكر السياسي للغصين وحزبه.

دعوة للإضراب، أرشيف المكتبة الوطنية الاسرائيلية، 29 تشرين أول 1932.

لفحص المطويات والإعلانات في أرشيف المكتبة الوطنية، اضغطوا هنا

كان يعرف يعقوب الغصين أهمية الصحافة في توعية الناس، وفي بناء توجهاتهم وأفكارهم ولذلك فمن خلال رئاسته للحزب قام بافتتاح فروع جديدة له في العديد من القرى والمدن، ثم سيفتتح بعدها جريدة “الكفاح” لسان حال مؤتمر الشباب الفلسطيني حيث سيكون أحد الداعمين لها وستتصدر مقالته صفحتها الأولى في عددها الأول كافتتاحية لـ “عهد الكفاح”:

 

الكفاح، 5 كانون الأوّل 1935

لتصفح أعداد صحيفة “الكفاح”، اضغطوا هنا

في مقالته أكد يعقوب الغصين على المبادئ التي انطلق من أجلها مؤتمر الشباب العربي الفلسطيني، وهي التوجه القومي الوحدوي الرافض للاستعمار البريطاني والذي يرى بالدولة العربية كلها جبهة واحدة لذات الصراع، ورفض بيع أي جزء من الأراضي الفلسطينية والنضال ضد الصهيونية.

يصب الغصين في مقاله جام غضبه ​على القيادة الحالية والتي لم تستطع انقاذ البلاد ولم تفعل شيئًا سوى الكلام، وظلت حال البلاد تتدهور من سيء إلى أسوء، في حين ترفض الهيئات الوطنية التجديد ودخول الناس إليها مستأثرة بالمناصب دون وجود كفاءات وهو ما يسعد السلطة التي تفضل أن يظل التناحر الداخلي قائمًا لكي تستطيع السيطرة عليهم.

سنة واحدة فقط بعد انطلاقة جريدة “الكفاح” سيظهر اسم يعقوب الغصين مجدّدًا على الصفحات الأولى  للصحف الفلسطينية كأحد المبعدين الذين قررت السلطات البريطانية نفيهم إلى جزر سيشل بعد حل اللجنة العربية العليا، التي مثلت الفلسطينيين في الثورة التي اندلعت عام 1936.

في ذروة شبابه ومجد وقف يعقوب الغصين الشاب الفلسطيني المولود بالرملة أحد الأشخاص ا وراء اصدار جريدة “الكفاح” والتي ستكون لسان حال مؤتمر الشباب العربي الفلسطيني، الحزب الذي حاول خلق قيادة فلسطينية بديلة.

                                                                 فلسطين، 19 تشرين الأوّل 1937

للمزيد حول صحيفة “فلسطين”، اضغطوا هنا

بعد عودة يعقوب الغصين من منفاه، سيعود إلى نشاطاته السياسية السابقة في مؤتمر الشباب، وفي صندوق الأمة الذي سيكون يعقوب الغصين من الأسماء البارزة فيه، وهو المبادرة التي كان تسعى القيادة الفلسطينية من خلالها لشراء الأراضي المهددة بالتسرب للحركة الصهيونية.

                                                                 فلسطين، 10 نيسان 1945

للمزيد حول صحيفة “فلسطين”، اضغطوا هنا

سيكون آخر منصب يتقلده يعقوب الغصين هو رئاسة بلدية الرملة

                                                          جريدة فلسطين، 27 شباط 1947

لقراءة العدد الكامل من هذا التاريخ، اضغطوا هنا

لكن القدر لن يمنحه اكمال أشهر قليلة في وظيفته حيث سيغادر يعقوب الغصين هذا العالم في عمر صغير (47 عاماً). لكنه مليء بالنشاط والانجازات قد يكون أخفق في بعضها ونجح في بعض، إلا أنه يظل شخصية مهمة لا يمكن تجاوزها في دراسة تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية لتكون قصته جزءاً من قصة تستحق البحث والتنقيب من جديد والصحافة مدخل مهم لذلك لما توفره من معلومات وتفاصيل ضرورية.

                                                             جريدة فلسطين، 22 تموز 1947

اضغطوا هنا لقراءة الخبر الكامل من عدد 22 تموز من جريدة “فلسطين”