لم تكن هذه الزيارة هي الأولى للأمير الصغير وكثير ما يطرح المتابعون لأحداث التاريخ الحديث أسئلة للبحث في زيارة الملك فيصل الثاني للقدس مرتين، فما كانت رسالة العائلة الهاشميّة؟
يطلق المقدسيّون حتّى يومنا هذا على باب العتم في المسجد الأقصى المُبارك باب الملك فيصل، فقد أطلق المجلس الإسلامي الأعلى هذه التسمية بعد زيارة الملك فيصل للقدس عام 1943، حيث تبرّع آنذاك بعمارة هذا الباب في المسجد الأقصى المُبارك، في حين لم تكن هذه الزيارة هي الأولى، وكثير ما يطرح المتابعون لأحداث التاريخ الحديث والمدقّقون لتفاصيله أسئلة للبحث والتفكير حول سبب زيارة الملك فيصل الثاني للمدينة المقدّسة مرتين خلال أقل من عامين، فيتساءلون هل كان الأمر محاولة جديّة من خاله الوصيّ لتوطيد أركان الحكم الهاشميّ في القدس، أمّ أنّ الامر لا يتعدّى سوى رسائل رمزيّة تودّ العائلة الهاشميّة أن ترسلها للشعوب العربيّة بأنّهم هم الراعون والحامون للأماكن المقدّسة في فلسطين؟
وتزودنا مجلّة المنتدى في عددها الأول بتفاصيل حول الزيارة الأولى للقدس، حين كان الملك فيصل في الثامنة من عمره، فتمدّنا بتفاصيل الزيارة وأسماء المرافقين للملك، فشارك فيها قنصل العراق العام وقائمقام القدس ونرى أيضًا في الصورة فضيلة الشيخ يوسف طهبوب، أحد اعضاء المجلس الإسلامي الأعلى البارزين.
ونراه يوقّع أسمه في دفتر التشريفات بدار القنصليّة العراقيّة حيث أقام وعائلته، ومن الملفت أنّه خصّصت المجلّة رسّامًا خاصًّا، قام برسم الملك رسمة خاصة على الدرج المُقابل لقبّة الصخرة المشرّفة.
فيما يزودنا العدد الثاني من مجلة المنتدى في الأول من تموز 1944 بتفاصيل الزيارة الثانية والتي كانت هذه المرة تستهدف توطيد العلاقات السياسية، فنرى صورًا من زيارته لقادة في الجيش الانجليزي، إضافة لزيارة للجيش العربي عند وصوله.
رُبّما لم يعلم الملك فيصل الثاني أنّ تسمية الباب ستدوم أكثر من كلّ محاولاته التي لن تتكلّل بالنجاح التام، فكان اغتيال الملك عبد الله في القدس عام 1950، أما الملك الصغير فسيتم تصفيته في احدى أبشع المجازر في التاريخ الحديث، فيقتل هو ووالدته وخاله في ساحة القصر عام 1958 لتختتم قصة العائلة الهاشميّة في العراق.
يعقوب الغصين مرّ من هنا
محطات في حياة السياسي الفلسطيني ابن مدينة الرملة الأستاذ يعقوب الغصين
ولد السياسيّ الفلسطينيّ يعقوب الغصين في مدينة الرملة عام 1900، ومنذ فترة شبابه، سطع أسمه مبكّرًا كأحد الشباب المتحمّسين، حيث بدأ حياته السياسيّة كعضو في جمعيّة الشبّان المسلمين، والتي كانت حينها في ذروة انتشارها وعطاءها حينها، وكانت محطّة ضرورية للشباب الراغبين في العمل السياسي. لكن الغصين وكالكثير من أبناء جيله سرعان ما شعروا أن هذه الجمعيّة تمامًا كما اللجنة التنفيذية والتي كانت الاطار الجامع لكل التنظيمات الفلسطيني، لا تلبّي طموحاتهم وبالتالي كان من الشباب الذين حاولوا خلق بديل للقيادة الفلسطينية التي كانت حينها.
مع بداية ثلاثينيات القرن الماضي وتعاظم شعور الفلسطينيين بضعف اللجنة التنفيذية وعدم قدرتها على حماية الفلسطينيين أو تحقيق تطلعاتهم، خاصة بعد أحداث ثورة البراق واضطرابات يافا واستمرار الهجرة اليهودية، بدأت حالة تذمر شديدة بين الفلسطينيين من اللجنة ومن واقع البلاد، انعكس هذا التذمر في مئات المقالات التي عجت بها الصحف وكذلك في انطلاق أحزاب وتنظيمات فلسطينية جديدة، كان من بينها مؤتمر الشباب العربي الفلسطيني الذي سرعان ما صار يعقوب الغصين رئيسًا له.
كان مؤتمر الشباب العربي الفلسطيني يعكس التوجّه السياسيّ لشريحة من الفلسطينيين ضد الانتداب البريطاني والصهيونية ولكن في نفس الوقت النقد العميق للقيادات الفلسطينية التقليدية التي لم تفلح في تحقيق انجازات ملموسة للناس، وهو ما يمكن استشعاره في البيانات المتكررة التي أطلقها الغصين كرئيس لمؤتمر الشباب والتي تعكس الفكر السياسي للغصين وحزبه.
دعوة للإضراب، أرشيف المكتبة الوطنية الاسرائيلية، 29 تشرين أول 1932.
كان يعرف يعقوب الغصين أهمية الصحافة في توعية الناس، وفي بناء توجهاتهم وأفكارهم ولذلك فمن خلال رئاسته للحزب قام بافتتاح فروع جديدة له في العديد من القرى والمدن، ثم سيفتتح بعدها جريدة “الكفاح” لسان حال مؤتمر الشباب الفلسطيني حيث سيكون أحد الداعمين لها وستتصدر مقالته صفحتها الأولى في عددها الأول كافتتاحية لـ “عهد الكفاح”:
في مقالته أكد يعقوب الغصين على المبادئ التي انطلق من أجلها مؤتمر الشباب العربي الفلسطيني، وهي التوجه القومي الوحدوي الرافض للاستعمار البريطاني والذي يرى بالدولة العربية كلها جبهة واحدة لذات الصراع، ورفض بيع أي جزء من الأراضي الفلسطينية والنضال ضد الصهيونية.
يصب الغصين في مقاله جام غضبه على القيادة الحالية والتي لم تستطع انقاذ البلاد ولم تفعل شيئًا سوى الكلام، وظلت حال البلاد تتدهور من سيء إلى أسوء، في حين ترفض الهيئات الوطنية التجديد ودخول الناس إليها مستأثرة بالمناصب دون وجود كفاءات وهو ما يسعد السلطة التي تفضل أن يظل التناحر الداخلي قائمًا لكي تستطيع السيطرة عليهم.
سنة واحدة فقط بعد انطلاقة جريدة “الكفاح” سيظهر اسم يعقوب الغصين مجدّدًا على الصفحات الأولى للصحف الفلسطينية كأحد المبعدين الذين قررت السلطات البريطانية نفيهم إلى جزر سيشل بعد حل اللجنة العربية العليا، التي مثلت الفلسطينيين في الثورة التي اندلعت عام 1936.
في ذروة شبابه ومجد وقف يعقوب الغصين الشاب الفلسطيني المولود بالرملة أحد الأشخاص ا وراء اصدار جريدة “الكفاح” والتي ستكون لسان حال مؤتمر الشباب العربي الفلسطيني، الحزب الذي حاول خلق قيادة فلسطينية بديلة.
بعد عودة يعقوب الغصين من منفاه، سيعود إلى نشاطاته السياسية السابقة في مؤتمر الشباب، وفي صندوق الأمة الذي سيكون يعقوب الغصين من الأسماء البارزة فيه، وهو المبادرة التي كان تسعى القيادة الفلسطينية من خلالها لشراء الأراضي المهددة بالتسرب للحركة الصهيونية.
لكن القدر لن يمنحه اكمال أشهر قليلة في وظيفته حيث سيغادر يعقوب الغصين هذا العالم في عمر صغير (47 عاماً). لكنه مليء بالنشاط والانجازات قد يكون أخفق في بعضها ونجح في بعض، إلا أنه يظل شخصية مهمة لا يمكن تجاوزها في دراسة تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية لتكون قصته جزءاً من قصة تستحق البحث والتنقيب من جديد والصحافة مدخل مهم لذلك لما توفره من معلومات وتفاصيل ضرورية.
في تشرين الأول من عام 1937 أقدمت السلطات البريطانية على خطوة نوعية لإخماد الثورة الفلسطينية المشتعلة في البلاد، كانت الخطوة ابعاد الزعماء الفلسطينيين المؤثرين ونفيهم إلى سيشل، حيث اعتقدت السلطات البريطانية أن ابعادهم قد يخمد الثورة، وقد يجعل القيادة تعيد النظر في قرارتها ومواقفها.
شمل الابعاد كُلاً من حسين الخالدي رئيس بلدية القدس ورئيس حزب الاصلاح، يعقوب الغصين رئيس لجنة مؤتمر الشباب التنفيذية، فؤاد سابا سكرتير اللجنة العربية العليا، جمال الحسيني رئيس الحزب العربي الفلسطيني، رشيد الحاج ابراهيم مدير البنك العربي في حيفا واحمد زعماء حيفا المؤثرين، أحمد حلمي باشا مدير عام البنك العربي.
يكفي التمعن في الأسماء المذكورة لفهم التوجه البريطاني، فهي اختارت القيادة الفاعلة على الأرض والقادرة اقتصادياً وسياسياً، حيث حاولت السلطات من جهة قطع الامكانيات المادية عن الثورة من خلال ابعاد احمد حلمي باشا، ومن جهة أخرى ابعاد المؤثرين في الشارع كيعقوب الغصين.
ترك الابعاد أثراً قوياً في نفوس الفلسطينيين حيث كانوا يتتبعون أخبار الزعماء بشوق شديد، لهذا سعت الصحف الفلسطينية لتغطية كل ما يجري مع المبعدين، فوثقت دوماً وصول رسائلهم ونشرت مضمونها وتواصلت مع عائلاتهم للاطلاع على كل جديد، كما تتبعت أخبارهم من خلال ما تورده الصحف الغربية ونشرت تفاصيل حياتهم اليومية. بالتالي فالكثير من المعلومات التي نعرفها اليوم عن حياتهم هناك، مستقاة من الرسائل والمواد التي نشرتها الصحف الفلسطينية في تلك الفترة والتي توفر لنا امكانية الوقوف على تفاصيلها.
يقول الأستاذ فؤاد سابا في برقية أرسلها لزوجته ونشرتها جريدة الدفاع “وصلنا سيشل، صحتنا جيدة، خبروا عائلات حلمي باشا، والدكتور الخالدي ورشيد الحاج ابراهيم ويعقوب الغصين. سلام للجميع، فؤاد” هذه كانت برقية الوصول إلى جزيرة سيشل في الحادي عشر من تشرين الأول 1937.
في سيشل – وكما تذكر صحيفة الديلي اكسبرس البريطانية – كان المبعدون يتلقون اعانات مالية لكنهم كانوا ممنوعين من الزيارات، حيث كان يقف أمام مقرهم أربعة من رجال البوليس ويرافقهم حارس خاص اذا خرجوا للتنزه، كي يضمنوا ألا يتحدثوا للناس.
ومما تخبرنا به الصحف أن المبعدين كانوا يسكنون في دارين، واحدة يسكنها احمد حلمي باشا، رشيد الحاج ابراهيم والثانية يسكنها حسين الخالدي، فؤاد سابا ويعقوب الغصين. وتتحدث الصحيفة أنهم لم يأكلوا لحم الضأن مذ وصلوا حيث لا يوجد في الجزيرة من يعرف الذبح وبالتالي فأكثر طعامهم سمك.
كانت الصحيفة في ذاك الوقت مصدراً أساسياً للمعرفة، كانت أهميتها توازي أهمية الانترنت في ايامنا هذه، ولكنهم أيضاً كانوا محرومين منها، حيث كانت تصلهم أعداد قليلة كل فترة، كما لم يكن هناك كتب عربية فحاولوا الحصول على بعضها واهداء مكتبة الجزيرة بعضها.
إن غياب الطعام الذي قد اعتاد عليه الزعماء المبعدين وغياب الصحف والكتب الاذاعات العربية، كل ذلك خلق حالة من السأم والملل في نفوس المبعدين، وهو ما ذكره فؤاد سابا في رسالته التي أرسلها لرئيس الجامعة العربية في الثامن من أيلول من عام 1938 ثم نشرتها جريدة الدفاع في 23 من الشهر نفسه.
كانت رسائل فؤاد سابا تتويجاً – أيضاً – لنشاطات شعبية فلسطينية قام بها رجال الدين ورؤساء الأموال ووجهاء القرى أرسلوا خلالها رسائل احتجاج لرئيس الوزراء البريطاني مطالبين إياه بنقل المبعدين لمكان يتوفر فيه مناخ مريح.
أثمر كل هذا النشاط في نهاية الأمر لأخلاء سبيل الزعماء والذين سيعودون بدورهم لإكمال مسيرتهم السياسية، ليمضي كل في اتجاه، وسيكون لكل واحد منهم قصة مختلفة، لكن فيها أثراً مهماً من تلك الفترة، الفترة التي كانوا يرسلون فيها السلام من سيشل.
مقدمة: تاريخ الصحافة العربية في فلسطين
يستعرض المقال تاريخ الصحافة العربية خلال الفترة الانتدابية والعثمانية على فلسطين؛ كيف تطورت؟ وكيف كان ظهورها المتأخر في النصف الثاني من القرن الـ 19.
اعتبرت فلسطين منذ مطلع القرن السادس عشر وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى جزءًا من الدولة العلية العثمانية التي سيطرت على غالبية البلدان الناطقة بالعربية. ومع الاحتلال البريطاني للبلاد في سنة 1917/1918، تحوّلت إلى سيطرة الإمبراطورية البريطانية، إذ خضعت بداية (1917-1920) لنظام حكم عسكري وفيما بعد (منذ تموز 1920) لنظام مدني حيث انتدبتها عصبة الأمم لحكم البلاد. تغطي مجموعة الصحف السنوات الأخيرة للعصر العثماني – منذ ثورة تركيا الفتاة – والحقبة البريطانية بكاملها.
عديدة هي العوامل التي ساهمت في تأخّر ظهور الصحافة العربية في المنطقة بصورة عامة وفي فلسطين بصورة خاصة، مقارنة بأوروبا، كما أثقلت مجمل هذه العوامل خطى تطوّر الصحافة بعد صدورها لاحقًا. ومن أهم هذه العوامل كان تأخّر اعتماد الطباعة في الدولة العلية العثمانية، إذ اجتمعت جملة من العوامل الثقافية والاعتبارات السياسية لإحجام السلاطين عن اعتماد الطباعة حتى منتصف القرن الثامن عشر تقريبًا، وإتاحة المجال أمام الجمهور لاستخدام الطباعة منذ منتصف القرن التاسع عشر فقط. كذلك، فإنَّ تباطؤ خطى التحديث في الدولة العلية، وخاصة في مجال التربية والتعليم، إلى جانب فرض نظام رقابي صارم، كانت جميعها عراقيل وقفت أمام ظهور الصحافة ونموّها.
ظهرت الصحافة العربية بداية خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر في مصر، حيث صدرت الصحيفة الأولى في سنة 1828، وتسارعت وتيرة صدور الصحف فيها بصورة كبيرة خلال النصف الثاني للقرن ذاته، وذلك بفضل مبادرات فردية واهتمام حكّام مصر حينئذ بتطويرها. أما في لبنان، فقد صدرت أولى الصحف في النصف الثاني للقرن التاسع عشر بإيعاز من منظمات تبشيرية أوروبية وأمريكية. كما وشهدت أماكن أخرى في أرجاء الدولة العلية في تلك الفترة نهضة، وإن كانت بطيئة، في هذا المجال، إلاّ أنَّ نظام السلطان عبد الحميد الثاني (1876- 1909) الصارم كان على الأبواب، وأثقل كاهل جميع المبادرات لإنماء وتطوير المطبوعات كالصحف وغيرها في كافة أنحاء الدولة العلية. ولهذا فإنَّ مصر ولبنان شكّلتا مركزين يتيمين تقريبًا للنشاط الصحفي في المنطقة حتى انطلاق ثورة تركيا الفتاة في سنة 1908. كذلك كانت الحالة في فلسطين، التي لم تشهد هي الأخرى، أسوة ببقية البلدان المجاورة، نموًا لصحافة محلّية حتى مطلع القرن العشرين (باستثناء صحافة عثمانية رسمية متواضعة جدًا).
أتّسمت الفئات السكانية العربية في فلسطين في منتصف القرن التاسع عشر بكونها قروية بالأساس، إلى جانب بعض المدن المتوسّطة والصغيرة – كالقدس (نحو 40,000 نسمة) ويافا (نحو 30,000 نسمة) وغزة (نحو 20,000 نسمة) -وفق التعداد السكاني في نهاية القرن- ونابلس والخليل وعكّا وحيفا. فقد سكنت غالبية السكان العرب في نحو 800 قرية كبيرة وصغيرة – شكّل التجمّع اليهودي في حينه، في نهاية القرن، نحو 25,000 نسمة بالمجمل، تركّز في القدس وفي المدن المقدّسة الثلاث الأخرى: الخليل وطبرية وصفد. كذلك، فقد بلغت نسبة معرفة القراءة والكتابة في المجتمع العربي المحلّي مستويات متدنية جدًا، فقد تشكّلت من شريحة بسيطة جدًا من السكان. أسوة بالمجتمعات الأخرى في المنطقة، فقد وقفت عوامل ثقافية خلف هذا الواقع وتجلّت في تحديد بالغ الصرامة للمعلومات التي يتعيّن صيانتها وتوريثها، إضافة إلى أنها لعبت دورًا بالغ السلبية في تضييق الخناق على مجالات تأثير التربية والتعليم في المجتمع. أفضت هذه العوامل إلى خلق بيئة لا تشجّع على نمو أنشطة نشر الإصدارات المكتوبة والمطبوعة.
دخلت الطباعة إلى البلاد بدايةً في منتصف القرن التاسع عشر. ويبدو أنَّ الرهبان الفرنسيسكان في القدس كانوا أول المبادرين في هذا المضمار، فقد أنشئوا أول مطبعة في سنة 1846 (هي مطبعة رهبان دير الفرنسيسكان في القدس). وأنشأت بعض المنظمات المسيحية والتبشيرية لاحقًا بعض المطابع الأخرى في القدس، أصدرت جميعها نشرات تحمل طابعًا دينيًا. وعلى ما يبدو، فقد صدرت أول نشرة بالعربية (والعثمانية) في البلاد في سنة 1876 هي “قدسى شريف/القدس الشريف”، التي تعتبر نشرة رسمية بائسة أصدرتها السلطات العثمانية في القدس، وسعت إلى نشر الفرمانات والتشريعات. لم تصمد هذه النشرة فترة طويلة ولم تصلنا منها أية نسخة. وكذلك الأمر بخصوص نشرة الغزال، التي صدرت في البلاد في نفس الفترة، وفق ما جاء في بعض المصادر. لم تظهر أية نشرة أخرى بعد هاتين المحاولتين المتواضعتين حتى مطلع القرن العشرين. وقد ظهرت النشرة الرسمية البائسة “قدسى شريف/القدس الشريف” مجدّدًا في سنة 1903 بصورة أسبوعية بوصفها صحيفة وحيدة تقريبًا في البلاد، ووقف الشيخ علي الريماوي على تحرير القسم العربي فيها بينما ترأس عبد السلام كمال هيئة تحرير القسم التركي. أسوة بالولايات العثمانية المجاورة، فقد انتظرت البلاد طويلاً لهبوب رياح التغيير فيها، تلك الرياح التي ستهب أخيرًا منذ سنة 1908، والتي ستتيح الفرصة أمام ازدهار الأنشطة في المجال الصحفي. وبالرغم من افتقار البلاد للنشاطات الصحفية المحلّية إلاّ أنها لا تكن منفصلة عن محيطها، فقد استهلكت طبقة المثقفين المتواضعة فيها الصحافة والمجلات والكتب الصادرة في مصر ولبنان، وحافظ المثقفون عبر كتاباتهم على روابط نشطة مع زملائهم المقيمين في الولايات الأخرى.
أدخلت ثورة “تركيا الفتاة” (صيف 1908) تغييرات على قلب السلطة السياسية العثمانية، ومن بين جملة الأمور فقد تجلّت في ظهور مبادرات للكتابة والنشر بكافة الأنواع الأدبية في جميع أرجاء الدولة العلية. أسوة ببقية البلدان المجاورة، استجابت البلاد بصورة مباشرة وصدرت فيها نشرات صحفية، إذ نشهد صدور ما لا يقل عن 15 صحيفة ودورية ناطقة باللغة العربية في تلك السنة نفسها (1908)، إضافة إلى نحو 20 صحيفة ودورية أخرى صدرت حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى. وكانت أهم هذه النشرات صحيفة الكرمل (حيفا، 1908)، لصاحبها نجيب نصّار، وصحيفة فلسطين (يافا، 1911)، لصاحبيها عيسى داود العيسى وابن عمّه يوسف حنا العيسى، بادرت هذه الشخصيات الوطنية المسيحية إلى تأسيسهما، وتحوّلتا الصحيفتان في العقود التالية إلى العمود الفقري للصحافة العربية السياسية في البلاد. كما صدرت نشرات دورية هامة أخرى بدءًا من سنة 1908، هي صحيفة القدس (القدس)، لصاحبها جورج حبيب حنانيا، وصحيفة النفير (القدس وحيفا)، التي أسّسها بداية إبراهيم زكا في الإسكندرية بعنوان “النفير العثماني” وانتقلت إلى القدس ولاحقًا إلى حيفا وتحوّل الامتياز إلى شقيقه إيليا زكا، ومجلة النفائس (دورية أدبية صدرت في حيفا)، لصاحبها الأديب خليل بيدس، إلى جانب نشرات سياسية وثقافية ودينية وغيرها صدرت غالبيتها لفترات قصيرة. يعتبر هذا النشاط مهد الصحافة العربية في البلاد، وتميّز بمواجهته صعابًا عديدة، وحيازة وسائل شحيحة، وسوق مستهلكين بالغ الضيق: إذ نجحت الصحف العربية بمجملها في البلاد، بحسب أحد التقديرات، بتسويق نحو 5,000 نسخة قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى، وهو عدد قليل جدًا قياسًا بعدد السكان البالغ نحو 650 ألف نسمة في ذلك الحين، إذ كان استهلاك الصحف لا يزال في خطواته الأولى.
أفضت سنوات الحرب العالمية الأولى وظروفها الصعبة إلى شلل كامل لحقل الصحافة في فلسطين كما جرى في البلدان المجاورة كذلك. وعند انتهاء الحرب، بدأت حقبة جديدة وعاصفة في تاريخ البلاد، إذ تحوّلت إلى حلبة صراع وتصادم بين مختلف اللاعبين المحليّين والأجانب. كما ظهرت تنظيمات جديدة داخل المجتمع العربي في البلاد -من حركات وأحزاب سياسية واتحادات دينية ومنظمات نسائية وشبابية وغيرها- واجهت تحدّيات جديدة لم يسبق أن اختبرها المجتمع الفلسطيني في الحقبة العثمانية. فقد استُخدمت الصحف لأول مرّة كأدوات في الصراعات العامة ولخدمة قيادات وحركات وأحزاب بعينها. وقد نما خطاب متسارع حول القضايا الكبرى التي أدرجت على جدول الأعمال، وخاصة الصراع ضد الصهيونية والسلطات الأجنبية، إلى جانب ظهور تعبيرات صحافية للصراعات السياسية المحلّية الداخلية في المدن وكذلك الصراعات الوطنية. لم تول السلطة البريطانية بداية أهمية بالغة لهذه المنشورات المكتوبة، بسبب تفشّي الأمية بنسب عالية في المجتمع العربي في البلاد، فأتاحت الفرصة أمام الصحف للتعبير بحرية كبيرة حتى الإعلان عن الإضراب العام في سنة 1936. صدرت في البلاد كافة نحو 200 صحيفة بين السنتين 1919-1948، صدرت غالبيتها لفترات قصيرة ولم تتمتّع بأهمية كبيرة، ولكن تحوّل بعضها إلى أدوات هامة لا على الصعيد الإخباري فحسب بل على صعيد تشكيل الأحداث التاريخية في البلاد كذلك.
يمكن تقسيم تاريخ الصحافة الفلسطينية في حقبة الانتداب إلى قسمين، ما قبل الأحداث الدامية التي اندلعت في صيف 1929 وما بعدها. فقد تركّزت هذه الصحف قبل هذه الأحداث في البلاد في مركزين مدنيّين مركزيّين، هما يافا والقدس، إلى جانب نشاط صحفي متواضع في حيفا وغزة وعكا وبيت لحم وطولكرم. ومن أبرز صحف تلك الفترة نذكر صحيفة فلسطين وصحيفة الكرمل العريقتين، واللتان صدرتا من جديد بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وركّزتا على الصراع القومي مجددًا؛ وصحيفة مرآة الشرق (القدس، 1919، لصاحبها بولس شحادة)؛ وصحيفة الصراط المستقيم (القدس، 1925، لصاحبها الشيخ علي القلقيلي) التي اتّسمت بتوجّه ديني إسلامي؛ وصحيفة الجامعة العربية (القدس، 1927، لصاحبها منيف الحسيني) بوصفها ناطقًا رسميًا بلسان المجلس الإسلامي الأعلى. وتجدر الإشارة إلى أنه لم تظهر بعد في تلك الفترة صحافة فلسطينية يومية، إذ ظهرت الصحف الإخبارية مرة أو مرتين أسبوعيًا، وهي الوتيرة التي عكست الجو الهادئ للحياة العامة والوطنية/القومية في البلاد -مقارنة بما ستشهده البلاد لاحقًا- وكذلك عكست الاهتمام المتواضع للجمهور العربي بمثل هذه الإصدارات، إذ انحصر إلى درجة كبيرة بين طبقة المثقفين المقيمين في المدن فقط. لقد عكست الصحف في تلك الفترة المبكّرة مجمل التحدّيات والمشكلات، التي شغلت بال الخطاب الجماهيري المكتوب على طول الفترة بكاملها: التعبير عن الريبة من الصهيونية والعدائية لها، والغضب من السلطة البريطانية، وتأجّج الصراعات بين معسكر الحسيني ورجالات المجلس من جهة، وبين المعسكر المعارض بزعامة عائلة النشاشيبي من جهة أخرى. وفي صميم هذه المنظومة المتصارعة، قليلة هي الصحف التي حافظت على توجّه سياسي موحّد ودعم دائم لأحد الطرفين، إذ نشهد أنَّ غالبية هذه الصحف اعتمدت توجّهًا براغماتيًا استبطنت مواقف متباينة وفقًا للظروف المختلفة وبما يتلاءم مع الاحتياجات المتغيرة. وعليه، فقد اتّسم التوجّه السياسي للصحف العربية في تلك الفترة بكونها براغماتية ومتحوّلة وبقيت كذلك حتى انتهاء حقبة الانتداب. هيمنت صحيفة فلسطين اليافية على المشهد الصحفي في البلاد وحازت على النسبة الأكبر من التوزيع. فقد باعت في سنة 1929 نحو 3,000 نسخة من كل عدد، وهو ضعف نسخ أية صحيفة أخرى في البلاد بل وأكثر من ذلك، بالرغم من حقيقة أنَّ عدد النسخ هذا يبقى متواضعًا كما أسلفنا. وبالمجمل، فقد بلغ حجم مبيعات جميع الصحف العربية البارزة في البلاد في تلك السنة نحو 12,500 نسخة، ما يشكّل ضعفين ونصف من حجم المبيعات في سنة 1914، علمًا بأنَّ هذا الحجم يبقى متواضعًا جدًا (قياسًا بلبنان على سبيل المثال، حيث وصل حجم المبيعات فيها في تلك الفترة إلى 68,000 نسخة، علمًا بأنَّ عدد سكانها قد بلغ نفس عدد سكان البلاد الفلسطينيّين). يبدو واضحًا أنَّ الصحافة الفلسطينية في هذه الحقبة لا زالت في طور التشكّل بوصفها حلبة للخطاب الجماهيري.
تعتبر الأحداث الدامية التي وقعت في صيف 1929 نقطة مفصلية في تاريخ البلاد، وتشير إلى بداية فصل متوتّر في العلاقات بين اللاعبين الثلاثة المركزيّين – المجتمع العربي، والاستيطان العبري، والسلطات البريطانية – وبلغ الصراع ذروته في سنوات الإضراب العام والثورة الفلسطينية 1936-1939. انعكس تأجّج هذا الصراع والتوتّر بالعلاقات في الصحافة: بالتزامن مع سكون لهب الأحداث الدامية المندلعة في صيف 1929، تحوّلت بعض الصحف الفلسطينية المركزية لأول مرة في شهر أيلول من نفس السنة من صحف أسبوعية أو نصف أسبوعية إلى صحف يومية، وزاد بعضها عدد صفحاته. فإلى جانب صحيفة فلسطين واسعة الانتشار، والتي كانت صحيفة يومية رائدة حتى سنة 1934 وسوّقت أعدادها في كافة أرجاء البلاد، فقد صدرت في شهر نيسان من نفس السنة (1934) صحيفة يومية أخرى هي صحيفة الدفاع، صحيفة يافية طموحة بلغ حجم مبيعاتها نفس حجم مبيعات صحيفة فلسطين، لا بل وفاق حجم مبيعاتها لاحقًا حجم مبيعات صحيفة فلسطين بوصفها الصحيفة اليومية الأكثر انتشارًا في البلاد (يبدو أن ذلك طرأ بفعل الانتماء الإسلامي لصاحبها، إبراهيم الشنطي، في مقابل الانتماء المسيحي لصاحب صحيفة فلسطين). ويعتبر التنافس بين هاتين الصحيفتين أحد المعالم البارزة للحياة الفلسطينية العامة حتى نهاية حقبة الانتداب، إذ ساهمت مساهمة دائمة في تحسين الجودة التقنية والمستوى الصحفي المهني وحجم التوزيع، إذ بلغ حجم مبيعات كل واحدة من هاتين الصحيفتين بين 4 آلاف وحتى 6 آلاف نسخة لكل عدد. وإلى جانب هاتين الصحيفتين، صدرت في يافا صحيفة يومية أخرى، هي صحيفة الجامعة الإسلامية (1933) لصاحبها الشيخ سليمان التاجي الفاروقي، وحملت ميولاً إسلامية، ولكنها لم تنجح في الوصول إلى حجم مبيعات صحيفتي فلسطين والدفاع.
إنَّ مدينة يافا، التي اعتبرت في حينه عاصمة الصحف اليومية الكبيرة واسعة الانتشار إلى جانب صحف ودوريات أخرى، باتت مركز النشاط الصحفي الفلسطيني برمّته. أما المركز الثاني فتمثّل في القدس، التي صدرت فيها صحافة يومية هامة مثل صحيفة اللواء (1933)، الناطق الرسمي بلسان معسكر الحسيني، قام جمال الحسيني على تحريرها. ظهرت في مقابل ذلك العديد من الدوريات السياسية والأخرى التي اهتمت بقضايا أخرى مختلفة، مثل التربية والتعليم والثقافة والآداب والسينما والرياضة (مجلة الحياة الرياضية، يافا 1938).
على غرار الفترة السابقة، فقد ركّز الخطاب الصحفي السياسي الفلسطيني بصورة خاصة على قضيتين محوريتين في هذه الفترة: صراع ضد الصهيونية والسلطة البريطانية؛ والصراعات الداخلية بين المعسكرين (عائلة الحسيني وقف على رأسها المفتي وعائلة النشاشيبي) والأحزاب. انعكس تأجّج الصراع ضد الحركة الصهيونية في التطرّف اللفظي نحوها ونحو البريطانيّين الذي سهروا على تعزيزها. وعند الإعلان عن الإضراب العام، في نيسان 1936، الذي تحوّل سريعًا إلى ثورة فلسطينية، حملت الصحافة العربية على كاهلها وظيفة مركزية تتلخّص بتحديد أهداف الإضراب والثورة، وتعبئة الجمهور، وتوجيه مسيرة الإضراب، ورعاية النشاطات التطوعية والتبرّع. إلاّ أنَّ المجتمع الفلسطيني في البلاد كان منقسمًا آنذاك على نفسه، لا على صعيد تحديد الأهداف الوطنية وسبل تحقيقها فحسب، وإنما على صعيد القضايا المركزية الأخرى السياسية والاجتماعية التي ورث بعضها من حقب سابقة. إضافة إلى الرسائل الإخبارية، فقد شكّلت الصحف وسائل في الصراعات الداخلية بين الأطراف المختلفة كذلك. لم تكن هذه الصراعات الداخلية أخف وطأة من تلك الصراعات الخارجية، لا بل نشهد أنها كانت أكثر عنفًا أحيانًا. أما السلطات البريطانية، التي تابعت هذه الصراعات وارتفاع نبرتها باهتمام كبير، فقد تخلّت في أعقاب ذلك عن عدم اكتراثها واعتمدت سياسة أكثر حزمًا بكل ما يتعلّق بالصحافة المحلّية وذلك بهدف تحييد مصادر التوتّر. كما بادرت سلطات الانتداب إلى وضع قانون جديد للصحافة في كانون الثاني 1933، إلى جانب التشريعات العثمانية الخاصة بالصحافة، وأدخلت عليه تعديلات كثيرة خلال ذلك العقد، وفرضت قيودًا إضافية على حرية التعبير، وعاقبت صحفًا وأغلقتها بشكل متكرّر. احتاج الجمهور الفلسطيني خلال هذه الفترة أكثر من أية فترة سابقة إلى المعلومات حول الأحداث والتأويلات التي عرضها الصحافيون، ولم يقل الطلب على الصحف حتى بعد انطلاق الإذاعة الفلسطينية (هنا القدس) في سنة 1936. زاد الطلب على الصحف بصورة خاصة في سنوات الإضراب العام والثورة، واعتمد المجتمع الفلسطيني، الذي كان لا يزال يعاني من تفشّي الأمية، على نمط قديم ومتعارف عليه يتلخّص بالقراءة الجماعية وبصوت مرتفع في الأماكن العامة – مثل المقاهي والساحات العامة في الأحياء والمساجد وغيرها. إنَّ اعتماد هذا النمط في المدن والقرى قد عزّز بصورة بالغة عدد الأشخاص المنكشفين على الرسائل الضمنية للصحف أكثر بكثير من نسبة أولئك الذين يجيدون القراءة والكتابة في المجتمع الفلسطيني.
أفضت التبعات الوخيمة لثورة 1936-1939 على المجتمع والنخبة السياسية الفلسطينية، إضافة إلى ظروف الحرب العالمية الثانية، إلى شلل الصحافة العربية في البلاد. مع اندلاع هذه الحرب، أغلقت سلطات الانتداب جميع الصحف العربية باستثناء فلسطين والدفاع والصراط المستقيم التي صدرت بصورة دورية. وقد جاء هذا الاستثناء بهدف استخدامها كوسيلة اتصال مع المجتمع الفلسطيني والسيطرة عليه. لم تسمح السلطات البريطانية بصدور صحف جديدة، باستثناء عدد قليل من الدوريات غير السياسية، وسمحت خلال الفترة الأخيرة من الحرب بصدور الصحيفة اليسارية الشيوعية الاتحاد (حيفا، 1944، وقف إميل توما على رأس هيئة تحريرها)، وهي الناطق الرسمي بلسان اتحاد العمال في حيفا، والتي لا زالت تصدر حتى وقنا الحاضر. وبعد انطفاء نار الحرب، حاول المجتمع العربي في البلاد إنعاش نفسه من الأزمات التي وجد نفسه عالقًا فيها، والبحث عن سبل للتعامل مع التحدّيات الوجودية الجديدة، ونشهد مرة أخرى انتعاشًا للصحف والإقبال عليها في هذه الفترة. وبقيت فلسطين والدفاع الصحيفتان المركزيتان حتى انتهاء هذه الحقبة، وتراوح حجم توزيع كل منها بين 6 آلاف و 10 آلاف لكل عدد، ويبدو أنَّ صحيفة الدفاع قد كانت أكثر انتشارًا من صحيفة فلسطين. كما واستمرت صحيفة الصراط المستقيم العريقة بالصدور إلى جانب هاتين الصحيفتين، إضافة إلى صحيفة يومية أخرى جديدة هي صحيفة الوحدة (حزيران 1945، لصاحبها إسحاق عبد السلام الحسيني). كما وصدرت صحف أخرى، سياسية وغيرها، في هذه الفترة بصورة أسبوعية أو نصف أسبوعية، إلاّ أنَّ غالبيتها صدرت بصورة غير منتظمة ولم تنجح بتحقيق انتشار واسع، بينما أغلقت بعضها أبوابها بعد فترة وجيزة. ويمكن تقدير الحجم الإجمالي لمبيعات هذه الصحف بين العامين 1945-1948 ما بين 20 ألف إلى 25 ألف نسخة.
لقد عكست الصحافة العربية الصادرة في حقبة الانتداب في البلاد بأمانة الحياة السياسية والصراعات القومية والوطنية التي كانت سائدة في تلك الحقبة. إلاّ أنَّ معاينة قريبة لها تكشف أمامنا أوجه هامة أخرى للكيان الفلسطيني في العقود القليلة قبل سنة 1948. فقد تركت الصحافة أثرها على جوانب الحياة في البلاد بطرق عديدة، إذ استُخدمت كوسيلة لمناقشة القضايا اليومية الجارية، ونشر المعلومات والبيانات الاقتصادية والتجارية، وتسويق الخدمات والمنتجات الاستهلاكية، ونشر حيثيات النشاطات الثقافية التي جرت وتلك التي ستجري لاحقًا، وتقديم نصائح في قضايا التربية والتعليم، ومناقشة قضايا الأسرة والعائلة، والإعلان عن مناسبات الأفراح والوفيات، ونشر الإعلانات الشخصية وغيرها. أما الجمهور الفلسطيني، الذي عاش حتى مطلع القرن العشرين من دون أدوات ووسائل صحفية محلّية، فقد تعوّد لاحقًا على استخدام هذه الأدوات الحديثة الواردة من الخارج وتحوّل تدريجيًا إلى التعلّق بها على صعيد مختلف الخدمات. وعليه، تعتبر الصحافة الفلسطينية المتاحة هنا نافذة متنوعة ومميزة لا مثيل لها تطلّ على واقع المجتمع العربي في البلاد في النصف الأول من القرن العشرين، ويمكننا من خلال قراءتها بصورة عميقة الاستفادة منها أكثر بكثير مما يبدو للعيان للوهلة الأولى.