يعقوب الغصين مرّ من هنا

محطات في حياة السياسي الفلسطيني ابن مدينة الرملة الأستاذ يعقوب الغصين

ولد السياسيّ الفلسطينيّ يعقوب الغصين في مدينة الرملة عام 1900، ومنذ فترة شبابه، سطع أسمه مبكّرًا كأحد الشباب المتحمّسين، حيث بدأ حياته السياسيّة كعضو في جمعيّة الشبّان المسلمين، والتي كانت حينها في ذروة انتشارها وعطاءها حينها، وكانت محطّة ضرورية للشباب الراغبين في العمل السياسي. لكن الغصين وكالكثير من أبناء جيله سرعان ما شعروا أن هذه الجمعيّة تمامًا كما اللجنة التنفيذية والتي كانت الاطار الجامع لكل التنظيمات الفلسطيني، لا تلبّي طموحاتهم وبالتالي كان من الشباب الذين حاولوا خلق بديل للقيادة الفلسطينية التي كانت حينها.

مع بداية ثلاثينيات القرن الماضي وتعاظم شعور الفلسطينيين بضعف اللجنة التنفيذية وعدم قدرتها على حماية الفلسطينيين أو تحقيق تطلعاتهم، خاصة بعد أحداث ثورة البراق واضطرابات يافا واستمرار الهجرة اليهودية، بدأت حالة تذمر شديدة بين الفلسطينيين من اللجنة ومن واقع البلاد، انعكس هذا التذمر في مئات المقالات التي عجت بها الصحف وكذلك في انطلاق أحزاب وتنظيمات فلسطينية جديدة، كان من بينها مؤتمر الشباب العربي الفلسطيني الذي سرعان ما صار يعقوب الغصين رئيسًا له.

كان مؤتمر الشباب العربي الفلسطيني يعكس التوجّه السياسيّ لشريحة من الفلسطينيين ضد الانتداب البريطاني والصهيونية ولكن في نفس الوقت النقد العميق للقيادات الفلسطينية التقليدية التي لم تفلح في تحقيق انجازات ملموسة للناس، وهو ما يمكن استشعاره في البيانات المتكررة التي أطلقها الغصين كرئيس لمؤتمر الشباب والتي تعكس الفكر السياسي للغصين وحزبه.

دعوة للإضراب، أرشيف المكتبة الوطنية الاسرائيلية، 29 تشرين أول 1932.

لفحص المطويات والإعلانات في أرشيف المكتبة الوطنية، اضغطوا هنا

كان يعرف يعقوب الغصين أهمية الصحافة في توعية الناس، وفي بناء توجهاتهم وأفكارهم ولذلك فمن خلال رئاسته للحزب قام بافتتاح فروع جديدة له في العديد من القرى والمدن، ثم سيفتتح بعدها جريدة “الكفاح” لسان حال مؤتمر الشباب الفلسطيني حيث سيكون أحد الداعمين لها وستتصدر مقالته صفحتها الأولى في عددها الأول كافتتاحية لـ “عهد الكفاح”:

 

الكفاح، 5 كانون الأوّل 1935

لتصفح أعداد صحيفة “الكفاح”، اضغطوا هنا

في مقالته أكد يعقوب الغصين على المبادئ التي انطلق من أجلها مؤتمر الشباب العربي الفلسطيني، وهي التوجه القومي الوحدوي الرافض للاستعمار البريطاني والذي يرى بالدولة العربية كلها جبهة واحدة لذات الصراع، ورفض بيع أي جزء من الأراضي الفلسطينية والنضال ضد الصهيونية.

يصب الغصين في مقاله جام غضبه ​على القيادة الحالية والتي لم تستطع انقاذ البلاد ولم تفعل شيئًا سوى الكلام، وظلت حال البلاد تتدهور من سيء إلى أسوء، في حين ترفض الهيئات الوطنية التجديد ودخول الناس إليها مستأثرة بالمناصب دون وجود كفاءات وهو ما يسعد السلطة التي تفضل أن يظل التناحر الداخلي قائمًا لكي تستطيع السيطرة عليهم.

سنة واحدة فقط بعد انطلاقة جريدة “الكفاح” سيظهر اسم يعقوب الغصين مجدّدًا على الصفحات الأولى  للصحف الفلسطينية كأحد المبعدين الذين قررت السلطات البريطانية نفيهم إلى جزر سيشل بعد حل اللجنة العربية العليا، التي مثلت الفلسطينيين في الثورة التي اندلعت عام 1936.

في ذروة شبابه ومجد وقف يعقوب الغصين الشاب الفلسطيني المولود بالرملة أحد الأشخاص ا وراء اصدار جريدة “الكفاح” والتي ستكون لسان حال مؤتمر الشباب العربي الفلسطيني، الحزب الذي حاول خلق قيادة فلسطينية بديلة.

                                                                 فلسطين، 19 تشرين الأوّل 1937

للمزيد حول صحيفة “فلسطين”، اضغطوا هنا

بعد عودة يعقوب الغصين من منفاه، سيعود إلى نشاطاته السياسية السابقة في مؤتمر الشباب، وفي صندوق الأمة الذي سيكون يعقوب الغصين من الأسماء البارزة فيه، وهو المبادرة التي كان تسعى القيادة الفلسطينية من خلالها لشراء الأراضي المهددة بالتسرب للحركة الصهيونية.

                                                                 فلسطين، 10 نيسان 1945

للمزيد حول صحيفة “فلسطين”، اضغطوا هنا

سيكون آخر منصب يتقلده يعقوب الغصين هو رئاسة بلدية الرملة

                                                          جريدة فلسطين، 27 شباط 1947

لقراءة العدد الكامل من هذا التاريخ، اضغطوا هنا

لكن القدر لن يمنحه اكمال أشهر قليلة في وظيفته حيث سيغادر يعقوب الغصين هذا العالم في عمر صغير (47 عاماً). لكنه مليء بالنشاط والانجازات قد يكون أخفق في بعضها ونجح في بعض، إلا أنه يظل شخصية مهمة لا يمكن تجاوزها في دراسة تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية لتكون قصته جزءاً من قصة تستحق البحث والتنقيب من جديد والصحافة مدخل مهم لذلك لما توفره من معلومات وتفاصيل ضرورية.

                                                             جريدة فلسطين، 22 تموز 1947

اضغطوا هنا لقراءة الخبر الكامل من عدد 22 تموز من جريدة “فلسطين”

مقدمة: تاريخ الصحافة العربية في فلسطين

يستعرض المقال تاريخ الصحافة العربية خلال الفترة الانتدابية والعثمانية على فلسطين؛ كيف تطورت؟ وكيف كان ظهورها المتأخر في النصف الثاني من القرن الـ 19.

أ.د. عامي أيالون ود. نبيه بشير

اعتبرت فلسطين منذ مطلع القرن السادس عشر وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى جزءًا من الدولة العلية العثمانية التي سيطرت على غالبية البلدان الناطقة بالعربية. ومع الاحتلال البريطاني للبلاد في سنة 1917/1918، تحوّلت إلى سيطرة الإمبراطورية البريطانية، إذ خضعت بداية (1917-1920) لنظام حكم عسكري وفيما بعد (منذ تموز 1920) لنظام مدني حيث انتدبتها عصبة الأمم لحكم البلاد. تغطي مجموعة الصحف السنوات الأخيرة للعصر العثماني – منذ ثورة تركيا الفتاة – والحقبة البريطانية بكاملها.

عديدة هي العوامل التي ساهمت في تأخّر ظهور الصحافة العربية في المنطقة بصورة عامة وفي فلسطين بصورة خاصة، مقارنة بأوروبا، كما أثقلت مجمل هذه العوامل خطى تطوّر الصحافة بعد صدورها لاحقًا. ومن أهم هذه العوامل كان تأخّر اعتماد الطباعة في الدولة العلية العثمانية، إذ اجتمعت جملة من العوامل الثقافية والاعتبارات السياسية لإحجام السلاطين عن اعتماد الطباعة حتى منتصف القرن الثامن عشر تقريبًا، وإتاحة المجال أمام الجمهور لاستخدام الطباعة منذ منتصف القرن التاسع عشر فقط. كذلك، فإنَّ تباطؤ خطى التحديث في الدولة العلية، وخاصة في مجال التربية والتعليم، إلى جانب فرض نظام رقابي صارم، كانت جميعها عراقيل وقفت أمام ظهور الصحافة ونموّها.

ظهرت الصحافة العربية بداية خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر في مصر، حيث صدرت الصحيفة الأولى في سنة 1828، وتسارعت وتيرة صدور الصحف فيها بصورة كبيرة خلال النصف الثاني للقرن ذاته، وذلك بفضل مبادرات فردية واهتمام حكّام مصر حينئذ بتطويرها. أما في لبنان، فقد صدرت أولى الصحف في النصف الثاني للقرن التاسع عشر بإيعاز من منظمات تبشيرية أوروبية وأمريكية. كما وشهدت أماكن أخرى في أرجاء الدولة العلية في تلك الفترة نهضة، وإن كانت بطيئة، في هذا المجال، إلاّ أنَّ نظام السلطان عبد الحميد الثاني (1876- 1909) الصارم كان على الأبواب، وأثقل كاهل جميع المبادرات لإنماء وتطوير المطبوعات كالصحف وغيرها في كافة أنحاء الدولة العلية. ولهذا فإنَّ مصر ولبنان شكّلتا مركزين يتيمين تقريبًا للنشاط الصحفي في المنطقة حتى انطلاق ثورة تركيا الفتاة في سنة 1908. كذلك كانت الحالة في فلسطين، التي لم تشهد هي الأخرى، أسوة ببقية البلدان المجاورة، نموًا لصحافة محلّية حتى مطلع القرن العشرين (باستثناء صحافة عثمانية رسمية متواضعة جدًا).

أتّسمت الفئات السكانية العربية في فلسطين في منتصف القرن التاسع عشر بكونها قروية بالأساس، إلى جانب بعض المدن المتوسّطة والصغيرة – كالقدس (نحو 40,000 نسمة) ويافا (نحو 30,000 نسمة) وغزة (نحو 20,000 نسمة) -وفق التعداد السكاني في نهاية القرن- ونابلس والخليل وعكّا وحيفا. فقد سكنت غالبية السكان العرب في نحو 800 قرية كبيرة وصغيرة – شكّل التجمّع اليهودي في حينه، في نهاية القرن، نحو 25,000 نسمة بالمجمل، تركّز في القدس وفي المدن المقدّسة الثلاث الأخرى: الخليل وطبرية وصفد. كذلك، فقد بلغت نسبة معرفة القراءة والكتابة في المجتمع العربي المحلّي مستويات متدنية جدًا، فقد تشكّلت من شريحة بسيطة جدًا من السكان. أسوة بالمجتمعات الأخرى في المنطقة، فقد وقفت عوامل ثقافية خلف هذا الواقع وتجلّت في تحديد بالغ الصرامة للمعلومات التي يتعيّن صيانتها وتوريثها، إضافة إلى أنها لعبت دورًا بالغ السلبية في تضييق الخناق على مجالات تأثير التربية والتعليم في المجتمع. أفضت هذه العوامل إلى خلق بيئة لا تشجّع على نمو أنشطة نشر الإصدارات المكتوبة والمطبوعة.

دخلت الطباعة إلى البلاد بدايةً في منتصف القرن التاسع عشر. ويبدو أنَّ الرهبان الفرنسيسكان في القدس كانوا أول المبادرين في هذا المضمار، فقد أنشئوا أول مطبعة في سنة 1846 (هي مطبعة رهبان دير الفرنسيسكان في القدس). وأنشأت بعض المنظمات المسيحية والتبشيرية لاحقًا بعض المطابع الأخرى في القدس، أصدرت جميعها نشرات تحمل طابعًا دينيًا. وعلى ما يبدو، فقد صدرت أول نشرة بالعربية (والعثمانية) في البلاد في سنة 1876 هي “قدسى شريف/القدس الشريف”، التي تعتبر نشرة رسمية بائسة أصدرتها السلطات العثمانية في القدس، وسعت إلى نشر الفرمانات والتشريعات. لم تصمد هذه النشرة فترة طويلة ولم تصلنا منها أية نسخة. وكذلك الأمر بخصوص نشرة الغزال، التي صدرت في البلاد في نفس الفترة، وفق ما جاء في بعض المصادر. لم تظهر أية نشرة أخرى بعد هاتين المحاولتين المتواضعتين حتى مطلع القرن العشرين. وقد ظهرت النشرة الرسمية البائسة “قدسى شريف/القدس الشريف” مجدّدًا في سنة 1903 بصورة أسبوعية بوصفها صحيفة وحيدة تقريبًا في البلاد، ووقف الشيخ علي الريماوي على تحرير القسم العربي فيها بينما ترأس عبد السلام كمال هيئة تحرير القسم التركي. أسوة بالولايات العثمانية المجاورة، فقد انتظرت البلاد طويلاً لهبوب رياح التغيير فيها، تلك الرياح التي ستهب أخيرًا منذ سنة 1908، والتي ستتيح الفرصة أمام ازدهار الأنشطة في المجال الصحفي. وبالرغم من افتقار البلاد للنشاطات الصحفية المحلّية إلاّ أنها لا تكن منفصلة عن محيطها، فقد استهلكت طبقة المثقفين المتواضعة فيها الصحافة والمجلات والكتب الصادرة في مصر ولبنان، وحافظ المثقفون عبر كتاباتهم على روابط نشطة مع زملائهم المقيمين في الولايات الأخرى.

أدخلت ثورة “تركيا الفتاة” (صيف 1908) تغييرات على قلب السلطة السياسية العثمانية، ومن بين جملة الأمور فقد تجلّت في ظهور مبادرات للكتابة والنشر بكافة الأنواع الأدبية في جميع أرجاء الدولة العلية. أسوة ببقية البلدان المجاورة، استجابت البلاد بصورة مباشرة وصدرت فيها نشرات صحفية، إذ نشهد صدور ما لا يقل عن 15 صحيفة ودورية ناطقة باللغة العربية في تلك السنة نفسها (1908)، إضافة إلى نحو 20 صحيفة ودورية أخرى صدرت حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى. وكانت أهم هذه النشرات صحيفة الكرمل (حيفا، 1908)، لصاحبها نجيب نصّار، وصحيفة فلسطين (يافا، 1911)، لصاحبيها عيسى داود العيسى وابن عمّه يوسف حنا العيسى، بادرت هذه الشخصيات الوطنية المسيحية إلى تأسيسهما، وتحوّلتا الصحيفتان في العقود التالية إلى العمود الفقري للصحافة العربية السياسية في البلاد. كما صدرت نشرات دورية هامة أخرى بدءًا من سنة 1908، هي صحيفة القدس (القدس)، لصاحبها جورج حبيب حنانيا، وصحيفة النفير (القدس وحيفا)، التي أسّسها بداية إبراهيم زكا في الإسكندرية بعنوان “النفير العثماني” وانتقلت إلى القدس ولاحقًا إلى حيفا وتحوّل الامتياز إلى شقيقه إيليا زكا، ومجلة النفائس (دورية أدبية صدرت في حيفا)، لصاحبها الأديب خليل بيدس، إلى جانب نشرات سياسية وثقافية ودينية وغيرها صدرت غالبيتها لفترات قصيرة. يعتبر هذا النشاط مهد الصحافة العربية في البلاد، وتميّز بمواجهته صعابًا عديدة، وحيازة وسائل شحيحة، وسوق مستهلكين بالغ الضيق: إذ نجحت الصحف العربية بمجملها في البلاد، بحسب أحد التقديرات، بتسويق نحو 5,000 نسخة قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى، وهو عدد قليل جدًا قياسًا بعدد السكان البالغ نحو 650 ألف نسمة في ذلك الحين، إذ كان استهلاك الصحف لا يزال في خطواته الأولى.

صحيفة فلسطين
صحيفة فلسطين

أفضت سنوات الحرب العالمية الأولى وظروفها الصعبة إلى شلل كامل لحقل الصحافة في فلسطين كما جرى في البلدان المجاورة كذلك. وعند انتهاء الحرب، بدأت حقبة جديدة وعاصفة في تاريخ البلاد، إذ تحوّلت إلى حلبة صراع وتصادم بين مختلف اللاعبين المحليّين والأجانب. كما ظهرت تنظيمات جديدة داخل المجتمع العربي في البلاد -من حركات وأحزاب سياسية واتحادات دينية ومنظمات نسائية وشبابية وغيرها- واجهت تحدّيات جديدة لم يسبق أن اختبرها المجتمع الفلسطيني في الحقبة العثمانية. فقد استُخدمت الصحف لأول مرّة كأدوات في الصراعات العامة ولخدمة قيادات وحركات وأحزاب بعينها. وقد نما خطاب متسارع حول القضايا الكبرى التي أدرجت على جدول الأعمال، وخاصة الصراع ضد الصهيونية والسلطات الأجنبية، إلى جانب ظهور تعبيرات صحافية للصراعات السياسية المحلّية الداخلية في المدن وكذلك الصراعات الوطنية. لم تول السلطة البريطانية بداية أهمية بالغة لهذه المنشورات المكتوبة، بسبب تفشّي الأمية بنسب عالية في المجتمع العربي في البلاد، فأتاحت الفرصة أمام الصحف للتعبير بحرية كبيرة حتى الإعلان عن الإضراب العام في سنة 1936. صدرت في البلاد كافة نحو 200 صحيفة بين السنتين 1919-1948، صدرت غالبيتها لفترات قصيرة ولم تتمتّع بأهمية كبيرة، ولكن تحوّل بعضها إلى أدوات هامة لا على الصعيد الإخباري فحسب بل على صعيد تشكيل الأحداث التاريخية في البلاد كذلك.

يمكن تقسيم تاريخ الصحافة الفلسطينية في حقبة الانتداب إلى قسمين، ما قبل الأحداث الدامية التي اندلعت في صيف 1929 وما بعدها. فقد تركّزت هذه الصحف قبل هذه الأحداث في البلاد في مركزين مدنيّين مركزيّين، هما يافا والقدس، إلى جانب نشاط صحفي متواضع في حيفا وغزة وعكا وبيت لحم وطولكرم. ومن أبرز صحف تلك الفترة نذكر صحيفة فلسطين وصحيفة الكرمل العريقتين، واللتان صدرتا من جديد بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وركّزتا على الصراع القومي مجددًا؛ وصحيفة مرآة الشرق (القدس، 1919، لصاحبها بولس شحادة)؛ وصحيفة الصراط المستقيم (القدس، 1925، لصاحبها الشيخ علي القلقيلي) التي اتّسمت بتوجّه ديني إسلامي؛ وصحيفة الجامعة العربية (القدس، 1927، لصاحبها منيف الحسيني) بوصفها ناطقًا رسميًا بلسان المجلس الإسلامي الأعلى. وتجدر الإشارة إلى أنه لم تظهر بعد في تلك الفترة صحافة فلسطينية يومية، إذ ظهرت الصحف الإخبارية مرة أو مرتين أسبوعيًا، وهي الوتيرة التي عكست الجو الهادئ للحياة العامة والوطنية/القومية في البلاد -مقارنة بما ستشهده البلاد لاحقًا- وكذلك عكست الاهتمام المتواضع للجمهور العربي بمثل هذه الإصدارات، إذ انحصر إلى درجة كبيرة بين طبقة المثقفين المقيمين في المدن فقط. لقد عكست الصحف في تلك الفترة المبكّرة مجمل التحدّيات والمشكلات، التي شغلت بال الخطاب الجماهيري المكتوب على طول الفترة بكاملها: التعبير عن الريبة من الصهيونية والعدائية لها، والغضب من السلطة البريطانية، وتأجّج الصراعات بين معسكر الحسيني ورجالات المجلس من جهة، وبين المعسكر المعارض بزعامة عائلة النشاشيبي من جهة أخرى. وفي صميم هذه المنظومة المتصارعة، قليلة هي الصحف التي حافظت على توجّه سياسي موحّد ودعم دائم لأحد الطرفين، إذ نشهد أنَّ غالبية هذه الصحف اعتمدت توجّهًا براغماتيًا استبطنت مواقف متباينة وفقًا للظروف المختلفة وبما يتلاءم مع الاحتياجات المتغيرة. وعليه، فقد اتّسم التوجّه السياسي للصحف العربية في تلك الفترة بكونها براغماتية ومتحوّلة وبقيت كذلك حتى انتهاء حقبة الانتداب. هيمنت صحيفة فلسطين اليافية على المشهد الصحفي في البلاد وحازت على النسبة الأكبر من التوزيع. فقد باعت في سنة 1929 نحو 3,000 نسخة من كل عدد، وهو ضعف نسخ أية صحيفة أخرى في البلاد بل وأكثر من ذلك، بالرغم من حقيقة أنَّ عدد النسخ هذا يبقى متواضعًا كما أسلفنا. وبالمجمل، فقد بلغ حجم مبيعات جميع الصحف العربية البارزة في البلاد في تلك السنة نحو 12,500 نسخة، ما يشكّل ضعفين ونصف من حجم المبيعات في سنة 1914، علمًا بأنَّ هذا الحجم يبقى متواضعًا جدًا (قياسًا بلبنان على سبيل المثال، حيث وصل حجم المبيعات فيها في تلك الفترة إلى 68,000 نسخة، علمًا بأنَّ عدد سكانها قد بلغ نفس عدد سكان البلاد الفلسطينيّين). يبدو واضحًا أنَّ الصحافة الفلسطينية في هذه الحقبة لا زالت في طور التشكّل بوصفها حلبة للخطاب الجماهيري.

تعتبر الأحداث الدامية التي وقعت في صيف 1929 نقطة مفصلية في تاريخ البلاد، وتشير إلى بداية فصل متوتّر في العلاقات بين اللاعبين الثلاثة المركزيّين – المجتمع العربي، والاستيطان العبري، والسلطات البريطانية – وبلغ الصراع ذروته في سنوات الإضراب العام والثورة الفلسطينية 1936-1939. انعكس تأجّج هذا الصراع والتوتّر بالعلاقات في الصحافة: بالتزامن مع سكون لهب الأحداث الدامية المندلعة في صيف 1929، تحوّلت بعض الصحف الفلسطينية المركزية لأول مرة في شهر أيلول من نفس السنة من صحف أسبوعية أو نصف أسبوعية إلى صحف يومية، وزاد بعضها عدد صفحاته. فإلى جانب صحيفة فلسطين واسعة الانتشار، والتي كانت صحيفة يومية رائدة حتى سنة 1934 وسوّقت أعدادها في كافة أرجاء البلاد، فقد صدرت في شهر نيسان من نفس السنة (1934) صحيفة يومية أخرى هي صحيفة الدفاع، صحيفة يافية طموحة بلغ حجم مبيعاتها نفس حجم مبيعات صحيفة فلسطين، لا بل وفاق حجم مبيعاتها لاحقًا حجم مبيعات صحيفة فلسطين بوصفها الصحيفة اليومية الأكثر انتشارًا في البلاد (يبدو أن ذلك طرأ بفعل الانتماء الإسلامي لصاحبها، إبراهيم الشنطي، في مقابل الانتماء المسيحي لصاحب صحيفة فلسطين). ويعتبر التنافس بين هاتين الصحيفتين أحد المعالم البارزة للحياة الفلسطينية العامة حتى نهاية حقبة الانتداب، إذ ساهمت مساهمة دائمة في تحسين الجودة التقنية والمستوى الصحفي المهني وحجم التوزيع، إذ بلغ حجم مبيعات كل واحدة من هاتين الصحيفتين بين 4 آلاف وحتى 6 آلاف نسخة لكل عدد. وإلى جانب هاتين الصحيفتين، صدرت في يافا صحيفة يومية أخرى، هي صحيفة الجامعة الإسلامية (1933) لصاحبها الشيخ سليمان التاجي الفاروقي، وحملت ميولاً إسلامية، ولكنها لم تنجح في الوصول إلى حجم مبيعات صحيفتي فلسطين والدفاع.

إنَّ مدينة يافا، التي اعتبرت في حينه عاصمة الصحف اليومية الكبيرة واسعة الانتشار إلى جانب صحف ودوريات أخرى، باتت مركز النشاط الصحفي الفلسطيني برمّته. أما المركز الثاني فتمثّل في القدس، التي صدرت فيها صحافة يومية هامة مثل صحيفة اللواء (1933)، الناطق الرسمي بلسان معسكر الحسيني، قام جمال الحسيني على تحريرها. ظهرت في مقابل ذلك العديد من الدوريات السياسية والأخرى التي اهتمت بقضايا أخرى مختلفة، مثل التربية والتعليم والثقافة والآداب والسينما والرياضة (مجلة الحياة الرياضية، يافا 1938).

صحيفة الدفاع
صحيفة الدفاع

على غرار الفترة السابقة، فقد ركّز الخطاب الصحفي السياسي الفلسطيني بصورة خاصة على قضيتين محوريتين في هذه الفترة: صراع ضد الصهيونية والسلطة البريطانية؛ والصراعات الداخلية بين المعسكرين (عائلة الحسيني وقف على رأسها المفتي وعائلة النشاشيبي) والأحزاب. انعكس تأجّج الصراع ضد الحركة الصهيونية في التطرّف اللفظي نحوها ونحو البريطانيّين الذي سهروا على تعزيزها. وعند الإعلان عن الإضراب العام، في نيسان 1936، الذي تحوّل سريعًا إلى ثورة فلسطينية، حملت الصحافة العربية على كاهلها وظيفة مركزية تتلخّص بتحديد أهداف الإضراب والثورة، وتعبئة الجمهور، وتوجيه مسيرة الإضراب، ورعاية النشاطات التطوعية والتبرّع. إلاّ أنَّ المجتمع الفلسطيني في البلاد كان منقسمًا آنذاك على نفسه، لا على صعيد تحديد الأهداف الوطنية وسبل تحقيقها فحسب، وإنما على صعيد القضايا المركزية الأخرى السياسية والاجتماعية التي ورث بعضها من حقب سابقة. إضافة إلى الرسائل الإخبارية، فقد شكّلت الصحف وسائل في الصراعات الداخلية بين الأطراف المختلفة كذلك. لم تكن هذه الصراعات الداخلية أخف وطأة من تلك الصراعات الخارجية، لا بل نشهد أنها كانت أكثر عنفًا أحيانًا. أما السلطات البريطانية، التي تابعت هذه الصراعات وارتفاع نبرتها باهتمام كبير، فقد تخلّت في أعقاب ذلك عن عدم اكتراثها واعتمدت سياسة أكثر حزمًا بكل ما يتعلّق بالصحافة المحلّية وذلك بهدف تحييد مصادر التوتّر. كما بادرت سلطات الانتداب إلى وضع قانون جديد للصحافة في كانون الثاني 1933، إلى جانب التشريعات العثمانية الخاصة بالصحافة، وأدخلت عليه تعديلات كثيرة خلال ذلك العقد، وفرضت قيودًا إضافية على حرية التعبير، وعاقبت صحفًا وأغلقتها بشكل متكرّر. احتاج الجمهور الفلسطيني خلال هذه الفترة أكثر من أية فترة سابقة إلى المعلومات حول الأحداث والتأويلات التي عرضها الصحافيون، ولم يقل الطلب على الصحف حتى بعد انطلاق الإذاعة الفلسطينية (هنا القدس) في سنة 1936. زاد الطلب على الصحف بصورة خاصة في سنوات الإضراب العام والثورة، واعتمد المجتمع الفلسطيني، الذي كان لا يزال يعاني من تفشّي الأمية، على نمط قديم ومتعارف عليه يتلخّص بالقراءة الجماعية وبصوت مرتفع في الأماكن العامة – مثل المقاهي والساحات العامة في الأحياء والمساجد وغيرها. إنَّ اعتماد هذا النمط في المدن والقرى قد عزّز بصورة بالغة عدد الأشخاص المنكشفين على الرسائل الضمنية للصحف أكثر بكثير من نسبة أولئك الذين يجيدون القراءة والكتابة في المجتمع الفلسطيني.

صحيفة الدفاع
صحيفة الدفاع

أفضت التبعات الوخيمة لثورة 1936-1939 على المجتمع والنخبة السياسية الفلسطينية، إضافة إلى ظروف الحرب العالمية الثانية، إلى شلل الصحافة العربية في البلاد. مع اندلاع هذه الحرب، أغلقت سلطات الانتداب جميع الصحف العربية باستثناء فلسطين والدفاع والصراط المستقيم التي صدرت بصورة دورية. وقد جاء هذا الاستثناء بهدف استخدامها كوسيلة اتصال مع المجتمع الفلسطيني والسيطرة عليه. لم تسمح السلطات البريطانية بصدور صحف جديدة، باستثناء عدد قليل من الدوريات غير السياسية، وسمحت خلال الفترة الأخيرة من الحرب بصدور الصحيفة اليسارية الشيوعية الاتحاد (حيفا، 1944، وقف إميل توما على رأس هيئة تحريرها)، وهي الناطق الرسمي بلسان اتحاد العمال في حيفا، والتي لا زالت تصدر حتى وقنا الحاضر. وبعد انطفاء نار الحرب، حاول المجتمع العربي في البلاد إنعاش نفسه من الأزمات التي وجد نفسه عالقًا فيها، والبحث عن سبل للتعامل مع التحدّيات الوجودية الجديدة، ونشهد مرة أخرى انتعاشًا للصحف والإقبال عليها في هذه الفترة. وبقيت فلسطين والدفاع الصحيفتان المركزيتان حتى انتهاء هذه الحقبة، وتراوح حجم توزيع كل منها بين 6 آلاف و 10 آلاف لكل عدد، ويبدو أنَّ صحيفة الدفاع قد كانت أكثر انتشارًا من صحيفة فلسطين. كما واستمرت صحيفة الصراط المستقيم العريقة بالصدور إلى جانب هاتين الصحيفتين، إضافة إلى صحيفة يومية أخرى جديدة هي صحيفة الوحدة (حزيران 1945، لصاحبها إسحاق عبد السلام الحسيني). كما وصدرت صحف أخرى، سياسية وغيرها، في هذه الفترة بصورة أسبوعية أو نصف أسبوعية، إلاّ أنَّ غالبيتها صدرت بصورة غير منتظمة ولم تنجح بتحقيق انتشار واسع، بينما أغلقت بعضها أبوابها بعد فترة وجيزة. ويمكن تقدير الحجم الإجمالي لمبيعات هذه الصحف بين العامين 1945-1948 ما بين 20 ألف إلى 25 ألف نسخة.

شاهد/ي أيضًا: الحرب العالمية الثانية: معارض رقمية لصور وأخبار من الصحف

لقد عكست الصحافة العربية الصادرة في حقبة الانتداب في البلاد بأمانة الحياة السياسية والصراعات القومية والوطنية التي كانت سائدة في تلك الحقبة. إلاّ أنَّ معاينة قريبة لها تكشف أمامنا أوجه هامة أخرى للكيان الفلسطيني في العقود القليلة قبل سنة 1948. فقد تركت الصحافة أثرها على جوانب الحياة في البلاد بطرق عديدة، إذ استُخدمت كوسيلة لمناقشة القضايا اليومية الجارية، ونشر المعلومات والبيانات الاقتصادية والتجارية، وتسويق الخدمات والمنتجات الاستهلاكية، ونشر حيثيات النشاطات الثقافية التي جرت وتلك التي ستجري لاحقًا، وتقديم نصائح في قضايا التربية والتعليم، ومناقشة قضايا الأسرة والعائلة، والإعلان عن مناسبات الأفراح والوفيات، ونشر الإعلانات الشخصية وغيرها. أما الجمهور الفلسطيني، الذي عاش حتى مطلع القرن العشرين من دون أدوات ووسائل صحفية محلّية، فقد تعوّد لاحقًا على استخدام هذه الأدوات الحديثة الواردة من الخارج وتحوّل تدريجيًا إلى التعلّق بها على صعيد مختلف الخدمات. وعليه، تعتبر الصحافة الفلسطينية المتاحة هنا نافذة متنوعة ومميزة لا مثيل لها تطلّ على واقع المجتمع العربي في البلاد في النصف الأول من القرن العشرين، ويمكننا من خلال قراءتها بصورة عميقة الاستفادة منها أكثر بكثير مما يبدو للعيان للوهلة الأولى.

إعلان في صحيفة القافلة 
إعلان في صحيفة القافلة 

شُرب البيرة من بحر غزّة

يبيّن التاريخ القصير لمدينة غزّة كمدينة تجارة بحريّة كيفيّة مشاركة البدو من النقب الذين زرعوا الشعير في تغيير مذاق البيرة البريطانيّة

فيما يلي ترجمة بتصرف خاصة بموقع مدونة “أمناء المكتبة” لمقال الكاتب دوتان هاليفي- ورشة التاريخ الاجتماعي . للاطلاع على المقالة باللغة العبرية الرجاء الضغط هنا.

جريدة “فلسطين” عن مدينة غزة،7 أيلول 1912، أرشيف جرايد للصحف

 

في مطلع شهر أيلول 1912، نشر رئيس تحرير الصحيفة اليافاويّة “فلسطين” عيسى داود العيسى مقالة تصف زيارته الأخيرة لمدينة غزة. هكذا كتب: “ورد في كتاب صفنيا، الأصحاح الثاني، الآية 4، أنّ “غزة ستكون مهجورة “. هذه المقولة التي قيلت في عهد يوشيا بن آمون حوالي 630 قبل الميلاد لا تزال سارية المفعول بقوّة بالنسبة إلى غزّة. لقد إذ تخلّت عنها الحكومة، معزولة عن العالم، أهمله الله “. وتابع، واصفًا الحالة الحزينة للمدينة، موضّحًا: تخلّت عنها الحكومة – لعدم وجود بنية تحتية فيها، معزولة عن العالم – لعدم وجود طرق للعربات أو سكك حديدية تصل إليها، مهملة من قبل الله – لتوقّف هطول الأمطار في السنوات الأخيرة الذي يحول دون أن تكسب المدينة رزقها من منتج التصدير الرئيسيّ فيها – الشعير.

كان هذا وصفًا موثوقًا به. منذ خمسينيّات القرن التاسع عشر، كان شاطئ غزة هو محور التصدير السنويّ لعشرات الآلاف من أطنان الشعير لصناعة البيرة البريطانيّة. لكنّ الغريب أنّ غزة لم تتطوّر لتصبح مدينة ميناء مثل جاراتها على ساحل البحر المتوسّط. إنّ تحقيق نبوءة صفنيا، كما اقترح العيسى، هو تفسير ممكن لذلك، لكن في ما يلي أودّ أن أقدّم شرحًا آخر لماذا وكيف جاء الشعير من النقب الشماليّ إلى مصانع البيرة في إنجلترا واسكتلندا (أيضًا)، وإظهار أنّ مدينة غزّة لا تزال صغيرة وفقيرة بسبب التجارة هذه بالذات. كما هو الحال في العديد من الحالات الأخرى في تاريخ الشرق الأوسط، أدّت عمليات التحديث التي تربط الأسواق والمنتجات المحلّيّة بالمنظومات الاقتصاديّة العالميّة إلى ربح أحاديّ الجانب وليس لصالح الطرف من الشرق الأوسط.

لفهم القصة بأكملها، دعونا نركّز على حدثين تعطّل فيهما شيء ما في هذه الآليّة التجاريّة.  بالنسبة إلى المؤرخ، مثل هذه الأحداث بالذات، تعرض التفاصيل التاريخيّة الهامّة التي كانت ستبقى مخفيّة عن الأنظار. إليكم الأوّل من بينها: في 17 كانون الأوّل 1863، تحرّرت السفينة البخاريّة “طاوبيلو” ” من سلسلة المرساة بالقرب من ميناء غريمسبي في إنكلترا، وانجرفت إلى منطقة اليابسة في بلدة قريبة. تم وُصف السفينة في الصحافة البريطانيّة بأنّها “محطّمة”، لكنّ مالكيها لم يتركوا الشحنة الغالية التي كانت على متنها لتغرق في أعماق البحر. كانت هذه أكياس من الشعير حُمّلت من شاطئ غزّة. إذ فُرّغت هذه الحمولة بسرعة ونُقلت مسافة 300 ميل لكي لا يتأخّر وصولها إلى وجهتها الأصليّة، مدينة ألوا في اسكتلندا. كانت ألوا أحد أهمّ مراكز إنتاج البيرة في المملكة المتّحدة، ومثال جيد لنا على الأماكن التي استهلكت الشعير من غزة. أنتجت ألوا النسخة الأكثر حداثة للبيرة البريطانيّة التي خُصّصت للدول المستقلّة البيضاء في الإمبراطوريّة. في تلك السنوات، لعب المستعمرون البيض، وكذلك المسؤولون وجنود الإمبراطوريّة، دورًا هامًا في تطوير مذاق ولون وملمس جديد للمشروبات التقليديّة البريطانيّة. تحت تأثير صادرات البيرة البريطانيّة إلى المستعمرات، أصبحت البيرة الفاتحة اللون، التي تتمتّع بطعم زغبيّ الفوّارة والباردة، الأكثر شعبية من البورتر (الحمّال) التقليديّة، وهي البيرة ما قبل التصنيع الداكنة واللزجة، وكاسمها (بورتر بالإنجليزيّة أي حمّال أو عامل كادح) كانت مرتبطة بعمّال الموانئ.

المثال المعروف لعشاّق البيرة هو بالطبع “إنديا فايل آيل (IPA – المزر) المشروب الفاتح اللون المنتج في مصانع الجعة في بيرتون، والتي انبثقت نكهته الفريدة من الكحول وعشبة الدينار التي أضيفت إليه موازنة بالماء الكبريتيّ من نهر ترينت، حتى لا تفسد خلال الرحلة الطويلة إلى الهند. في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أدّت القدرات التكنولوجيّة والعلميّة الجديدة التي تمّ تطبيقها تدريجيًّا على مصانع البيرة، مثل: التبريد والبسترة، إلى تسريع هذه التغييرات الأسلوبيّة وجعلت البيرة منتجًا مستهلكًا طوال العام وليس فقط في الأشهر الباردة، كما كان الحال منذ قرون. جنبًا إلى جنب مع الإزالة التدريجية العوائق القانونيّة التي تحول دون بيع البيرة التي بدأت في عام 1830 وفتح الأسواق البريطانية لاستيراد الحبوب ابتداء من عام 1846، ظهرت النكهات والأساليب الجديدة في المشروب وتزايد الطلب على أنواع مختلفة من الشعير من مختلف أنحاء العالم.

سوق بئر السبع في سنواته الأولى – رمز للنجاح الجزئي للإدارة العثمانية في حكم القبائل البدوية في النقب. من مجموعة مكتبة الكونغرس

كانت أحد مصادر الشعير أرض النقب، كما ترون من الحدث الثاني الذي سننظر فيه. في 11 تشرين 1897، رفض الحمالون في ميناء هول في لندن تفريغ مائة وثلاثة وستين طنًّا من الحبوب من سفينة قادمة من غزة، مدعين أنها مليئة بـ “الغبار”. رفضت إدارة الميناء ادّعاءاتهم، حيث زودت مديري الأرصفة في الميناء بقائمة سوداء بأسماء العمال المتحدّين. ومع ذلك، لم يختلق العمال هذه الادّعاءات. إن حقيقة أنّه على الأقلّ بعض الحبوب التي جاءت من ميناء غزة مليئة بالتراب وأحيانًا حتّى الرمال والأحجار ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالطريقة التي اتّبعتها القبائل البدوية في شمال النقب في زراعة الشعير.

خطاب من مجلس ولاية القدس إلى وزارة الداخليّة في اسطنبول بشأن استخدام أموال تجارة الشعير لتحسين البنية التحتية المدينيّة في غزة، 10 أيّار 1893. مجموعة الباب الأعلى، 25169، أرشيف رئاسة الوزراء في اسطنبول

في الواقع، على العكس الصورة التقليدية للبدو، فإنّ القبائل البدوية الرحّل في النقب في القرن التاسع عشر، قامت بزراعة الأرض وعملت في الزراعة بشكل مكثف. كان هذا نتيجة لتغلغل إداري متزايد من قبل الإدارة العثمانيّة في حياتهم. تدخّل الولاة العثمانيون بشكل مكثّف في الحروب بين القبائل على الأراضي الخصبة بهدف واضح وهو التوطين الثابت للقبائل. فترات السلام النسبي التي نشأت في النقب نتيجة للتهدئة المحلّيّة للنزاعات في النصف الثاني من القرن سمحت للقبائل بزيادة عملها في الأرض تدريجيًّا على حساب الرعي. على مر السنوات، مع استقرار المناطق القبلية نتيجة للضغوط العثمانية، أنتجت الزراعة أيضًا فوائض، تم بيعها في أسواق غزة والخليل وفي السوق الذي سيصبح لاحقًا بئر السبع.

غزة، ربّما من منحدرات تلّة عليّ المنطر، من الدليل السياحيّ الثلاثيّ الأبعاد لشركة ستيريو تراڤل الذي نشر في أيّار 1908. من مجموعة مكتبة الكونغرس

ليس من  العبث وقع اختيار البدو في النقب من أجل التركيز على زراعة الشعير – إذ كان (وما زال) الأكثر تكيّفًا مع الظروف المناخيّة لشمال النقب، وهو الذي يمكن أن ينتج المحاصيل حتى في ظروف قلّة الأمطار. جعلت هذه الظروف أيضًا شعير النقب مناسبًا بشكل خاصّ لصناعة البيرة البريطانيّة. لصنع بيرة عالية الجودة، هناك حاجة لحبوب الشعير الغنيّة بالسكر والفقيرة بالبروتين، ولهذا الغرض يجب أن ينمو الشعير في تربة خفيفة، جافّة وفقيرة بالنيتروجين. بعبارة أخرى، إنّ ظروف التربة والمناخ غير المثالي للنقب هي التي جعلت الشعير الذي نما فيها مرغوبًا فيه لإنتاج البيرة.

في غياب الماء، كان الشعير قصير السيقان، مما أجبر البدو على اقتلاعه يدويًّا، وبالتالي اختلطت البذور بالتربة والأحجار المستخرجة من التربة مع الجذور. لاءمت الدورة الزراعيّة في النقب الطلب على المواد الخام في المملكة المتحدة لأنّها كانت تمامًا على عكس الدورة الزراعيّة في بريطانيا. ففي حين كان الشعير في المملكة المتحدة محصولًا صيفيًّا تم حصاده في أوائل الشتاء، كان الشعير في غزّة محصولًا شتويًّا تم حصاده في الربيع. وهكذا، كان الشعير في غزة قادرًا على الوصول كمحصول أول في العام إلى أسواق المملكة المتحدة وناسب القدرات الجديدة على إنتاج البيرة في أشهر الصيف بفضل الثلاجات التي، كما ذكرنا، دخلت مصانع البيرة. بين حصاد الشعير وبيعه لتجار غزة للتصدير، كان البدو يدفنون البذور في حفر أو أكوام من التراب. وبالتالي فإن الرمال الممزوجة بالحبوب نتيجة لاقتلاع نباتات الشعير والتخزين ملأت السنابل بذلك “الغبار” الذي أسفر عن إضراب واحد على الأقل للعمّال في موانئ لندن.

كان الوسطاء بين صانعي البيرة البريطانيين الذين طالبوا بموادّ خام عالية الجودة والبدو في النقب الذين كانوا قادرين على توفير هذا الطلب من التجار، بمن فيهم يهود الذين عاشوا في غزّة. خرج هؤلاء إلى مضارب القبائل البدوية بضعة أشهر في كلّ عام واشتروا الشعير الذي كانوا يحملونه على الجمال إلى شاطئ غزة، من هناك نقلوا الشعير بواسطة قوارب التجديف إلى السفن البخارية التي كانت ترسو على مسافة من الشاطئ. حصل هؤلاء التجار على ثروة صغيرة من تجارة الشعير، ولكن لماذا لم يتغلغل هذا النجاح إلى المدينة نفسها؟ تكمن الإجابة على ذلك في التغييرات الطويلة الأمد التي مرّت بها المدينة مع تحوّلها إلى مصدّرة للشعير. بسبب موقعها الجغرافيّ على طرف الصحراء، شكّلت غزة لعدّة قرون نقطة التقاء للقوافل التي نقلت التجارة بين مصر وسوريا، وكمورد للغذاء والإمدادات لقوافل الحجاج السنوية التي مرّت في شرق الأردن وسيناء. مع افتتاح قناة السويس، أصبحت طرق التجارة والحج بحريّة، وخلال عقدين فقدت غزة حركة النقل البري. كان ربط غزة بنظام التجارة البحرية للشعير بديلًا اقتصاديًّا جديرًا بالاهتمام منذ عدة عقود، لكنه على المدى الطويل قلّل من الإمكانيّات الاقتصاديّة للمدينة وربط مصيرها أكثر فأكثر بالمناخ غير المستقرّ في شمال النقب.

لاحظ الوكيل القنصليّ البريطاني في غزة ألكسندر كينزويتز هذا فور تعيينه في عام 1906: “يكسب معظم السكان في المدينة والمنطقة رزقهم من تجارة الشعير فقط”. بهذه الجملة القصيرة لخّص في التقرير الأول الذي كتبه حول سيرورة استمرت نصف قرن، “وبالتالي فإن حالة المحاصيل تؤثر بشكل مباشر على حالة الناس والمدينة “. نتيجة للاعتماد على تجارة الشعير، كانت غزة في أوائل القرن العشرين عرضة لتقلبات حادة بين أشهر التجارة المكثّفة في الصيف والسبات الاقتصادي الكلي تقريبًا في فصل الشتاء. جعل هذا الانتقال عبر التقويم والتقلبات بين السنوات الماطرة وسنوات القحط من الصعب على المؤسّسات التجارية مثل البنوك أو الوكالات التجارية أن يكون مقرّها في المدينة. في غياب الجدوى الاقتصادية، اكتفت الإدارة العثمانية بفرض ضرائب على صادرات الشعير وتخلّت مرارًا عن مبادرات التطوير المخطط لها. لقد ركز اهتمام الحكومة الآن على تطوير مدينة بئر السبع الجديدة التي تأسست عام 1900 (في السياق الجيو-سياسي، انظروا هنا أيضًا). وشعر مصنّعو البيرة في المملكة المتحدة أيضًا بعدم الاستقرار هذا، حيث إنّهم شككوا بالفعل، عشيّة الحرب العالمية الأولى، في قدرة المدينة على توفير المنتج بانتظام، وبعد ذلك انتقلوا للاعتماد على الإمداد الثابت والجودة العالية لشعير كاليفورنيا.

المشاهد القاتمة الذي رآها محرر مجلّة “فلسطين” في زيارته لغزة في عام 1912 بعد عدة سنوات من الجفاف، لم يكن قدرًا أو نتاجًا لـ “الحتميّة المناخيّة” إذ تطوّر اعتماد غزة على المناخ المتقلّب في شمال النقب على خلفية دورها الاقتصادي في الحيّز. تُظهر حالة غزة أنه من أجل فهم ازدهار المدينة أو تدهورها، من المهم فهم علاقتها بحيّزها الطبيعيّ، ولكن يجب أن يتم ذلك من منطلق الافتراض بأن هذه العلاقات ليست ببساطة “طبيعية”. هذه العلاقات، بدورها، هي نتاج السيرورات السياسيّة، الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي لها تاريخ يستحقّ سرده.

من كتب وعد بلفور؟

من خلال المقال يمكنكم تتبع التغييرات التي نجح القادة الصهاينة وغير الصهاينة في إدخالها على الوعد التاريخي؛ وعد بلفور والتي سبقت الاعلان الرسمي عنها.

كلما ترسخ وازداد الاستيطان اليهودي في البلاد، كان قادة اليشوف اليهودي يعلمون أن تحقيق رؤية الدولة اليهودية لن تتم دون دعم حقيقي من القوى العظمى في العالم وعلى رأسها الامبراطورية البريطانية.

ولذلك، حين نجحت بريطانيا في الحرب العالمية الأولى من هزيمة الوجود العثماني في البلاد  والذي امتد لمئات السنين، سارع الدكتور حاييم وايزمان في تموز 1917 بتقديم مسودة إعلان للحكومة البريطانية والذي تعترف بموجبه بفلسطين كأرضٍ للشعب اليهودي، وتعترف في حقه بإقامة دولة يهودية فيها.

مع الأيام ستكون هذه المسودة هي وعد بلفور المشهور، وعد اللورد آثر جيمس بلفور والذي تقلد منصب وزير خارجية بريطانيا.

مر الوعد بعدد غير قليل من التغييرات التي قدمها الدكتور وايزمان لحكومة بريطانيا. حتى بداية تشرين الأول 1917 عملوا في وزارة الحرب البريطانية، وبتنسيق مع البعثة الصهيونية برئاسة وايزمان، على صيغة نهائية للوعد، حيث أزيلت منه قضية الحق بالأرض، وتحول فيه كلمة الدولة إلى “بيت قومي” وهو مصطلح غير مسبوق من الجانب القضائي والدبلوماسي.

اقرأ/ي أيضًا: وعد بلفور: معرض رقمي للصور والرسائل والأخبار

شهر واحد قبل أن يسلم اللورد بلفور وبشكل رسمي وعده للورد روتشلد، أرسلت وزارة الحرب المسودة لبعض القيادات الصهيونية وغير الصهيونية، لكي تستشيرهم في الموضوع. من بين القيادات التي تم استشارتها: السير فيليب ماغنوس، وهو رجل دين إصلاحي وسياسيّ بريطاني مهم والذي طُلب منه ابداء رأيه على مسودة الوعد.

الرجل الدين والسياسي اليهودي-بريطاني فيليب ماغنوس (1842-1933)

تحتفظ المكتبة الوطنية بالمسودة التي أرسلتها وزارة الحرب للراب ماغنوس. من خلال التمعن فيها، تظهر اختلافات كبيرة بينها وبين الصيغة النهائية، مثلاً: في الصيغة النهائية للوعد ترى حكومة جلالته بعين الاعتبار إقامة بيت قومي يهودية في فلسطين للشعب اليهود، في الصيغة التي سُلمت كان الحديث عن بيت لليهود فقط “للعرق اليهودي”.

مسودة الوعد كما أرسلت للراب فيليب ماغنوس (من مجموعة فيليب ماغنوس)

من الممكن أن التعديل هذا كان تعبيرًا عن موافقة بريطانيا بأن ترى بالطلب الصهيوني، طلباً ذو ميزة قومية، بدلاً من طلب صاحب ميزة دينية أو حضارية، كما يتضح من الكلمات “العرق اليهودي”.

كانت رسالة الرد التي كتبها ماجنوس لوزارة الحرب محفوظة هي أيضاً في المكتبة الوطنية. وهي تشكل فرصة مميزة للاطلاع على أفكار اليهود البريطانيين غير الصهيونيين والكثر في تلك الفترة، منذ بداية الرسالة يسحب الراب والسياسي الأرض من تحت الأقدام حين طلب منه الرد كممثل يهودي، حيث رأى أن أفكاره كيهودي لا تنفصل عن أفكاره كبريطاني. يدعي ماغنوس في رده أنه ومنذ الاحتلال الروماني لفلسطين، توقف الشعب اليهودي على أن يكون جسماً سياسياً، ولذلك فهو اليوم يدير فقط علاقات دينية مشتركة والتي تحمل أية طموحات قومية مشتركة في فلسطين.

بدلاً من ذلك، يقترح ماغنوس صيغة بديلة للوعد، والتي تقضي بأن “حكومة جلالته ترى بعين الاعتبار إقامة مركز حضاري يهودي في فلسطين”  هكذا بحيث لا يضر بحقوق أبناء حضارة أو دين آخر، أو بحقوق ومركز اليهود السياسي في البلاد الأخرى.

الصفحة الأولى من رد فيليب ماغنوس لوزارة الحرب البريطانية، الرد محفوظ في مجموعة فيليب ماغنوس في المكتبة الوطنية

يبدو أن في هذا الأمر تكمن مساهمة ماغنوس الكبيرة في تعديل مسودة وعد بلفور. في نهاية الصيغة النهائية، توضيح مفصل غير موجود في مسودة السادس من تشرين الأول، وفيها أن إقامة البيت اليهودي القومي في فلسطين لا تضر بحقوق المواطنة لليهود في دول أخرى، وبالتالي أذعنت الحكومة لمطالب اليهود المناوئين للصهيونية، ومن بينهم فيليب ماغنوس.

 

أين يُحفظ الوعد الأصلي؟

عام 1924 سُأل اللورد  روتشيلد، هل المكتوب الأصلي الذي وصله من اللورد بلفور في حوزته؟  في المكتبة وجدنا الإجابة لهذا السؤال؛ داخل رسالة أرسلها روتشيلد إلى يسرائيل كوهين، أحد أعضاء الهستدروت الصهيونية في بريطانيا، في الرسالة يشرح روتشيلدر أن المكتوب الأصلي ليس في حوزته،  حيث – وبسبب أهميته التاريخية – قام بايداعه في المكتبة البريطانية حيث يُحفظ المكتوب هناك حتى يومنا هذا.

رسالة الرد من اللورد بلفور لعضو الهستدروت الصهيونية في بريطانيا يسرائيل كوهين. الرسالة أُرسلت في السادس من حزيران 1924. مجموعة ليونيل ولتر روتشيلد في المكتبة الوطنية الاسرائيلية.