يرون هرائيل، محاضر في جامعة بار إيلان
حين وصل لاجئو البلاد اليهود دمشق (خلال فترة الحرب العالمية الأولى)، قاموا بزرع بذور الفكرة الصهيونية في أوساط يهود المدينة. حين غادرها اللاجئون أنفسهم، وعلى رأسهم دافيد يلين، ُطلب منهم الحفاظ على إنجازات التربية العبرية الصهيونية في أوساط المجموعة اليهودية الأكثر قرباً من فلسطين، وهذا ما جعلهم يقومون بالتأثير على اللجنة التربوية المحلية من أجل التعامل مع الجالية اليهودية في دمشق تماماً كأنها محلية على جميع المستويات. في هذا الاطار أُرسل للمدينة “يهودا بورلي” لكي يدير مدرسة للصبيان، ويوسف يوئيل ريفلين (والد رئيس الدولة رئوفين ريفلين) من أجل ادارة مدرسة البنات. رافقهم مجموعة مربيات، معلمين ومعلمات من البلاد والذين استعانوا بشباب وفتيات يهود من مواليد دمشق.
في هذه الفترة، والتي كان للصحافة دور مهم في في تشكيل التاريخ السياسي والاجتماعي السوري وبلورته من خلال التعبير عن الرأي العام، وبموافقة من الملك الجديد فيصل (وبتشجيع منه أيضاً)، تبين لسفراء المؤسسات الصهيونية بدمشق، كما للشباب والشابات من أبناء الجالية، أن على المؤسسات الصهيونية العمل أيضاً على مستوى الدعاية. ولذلك، أشاروا لضرورة إصدار جريدة صاحبة رؤية معتدلة وهادئة، تساهم في التقريب بين العرب واليهود من أجل فهم الفكرة الصهيونية. خلاصة نشاطهم في هذا الجانب أدت لتأسيس جريدة الشرق الصادرة باللغتين، إذ طُبعت أول ثلاث أعداد منها في دمشق ثم توقفت عن الصدور بعدها. إتاحة النسخ المعدودة التي تبقت في العالم من الأعداد الثلاث في موقع الصحافة اليهودية التاريخية تتيح لنا تأملاً عميقاً في النشاط الصهيوني في دمشق في فترة الملك فيصل.
في الصحيفة، كانت دائرة الاستهداف الأولى عملياً هي دائرة الجمهور العربي في سوريا. جاء التوجه لهذه الشريحه لأجل خلق توازن في توجهات الجمهور بخصوص النشاط الصهيوني في فلسطين، ومن أجل عدم صب جام غضبه من الصهيونية على يهود دمشق. وفي اطار هذا المسعى صيغت تعبيرات تدل على أن هدف الجريدة أن “يكون جسراً بين العرب واليهود”. دائرة الاستهداف الثانية كانت المجتمع اليهودي في سوريا ولبنان عامة وفي دمشق خاصة. في نظر مندوبي اللجنة المرسلة لدمشق تبين رويداً رويداً أهمية النخبة اليهودية الاقتصادية والثقافية في المدينة كأداة للوصول لقيادة الحركة القومية العربية وكبار حكومة فيصل. هدف دائرة الاستهداف الثالثة كانت رؤساء المؤسسات الصهيونية في البلاد والعالم من أجل شرح صعوبات العمل الصهيوني في دمشق.
صدر العدد الأول من الجريدة يوم الاثنين، في الخامس من تموز 1920 قبل المساء. وفق الخطة الأصلية كانت الصحيفة بلغتين. احتوت “الشرق” على صفحتين باللغة العربية و”هـمزراح” احتوى على صفحتين باللغة العبرية. في المرحلة الأولى كان المسعى أن تصدر ثلاث مرات في الأسبوع.
كان نظام الجريدة يحاكي نظام الصحف العبرية الصادرة في فلسطين مثل “دوئر هيوم” (بريد اليوم)، بجوار التهاني والاعلانات (فندق القدس – الفندق العبري الأول في دمشق) نشر مقال نقدي عن الجالية ونظامها. يوسف يوئيل ريفلين نشر من على صفحات الجريدة هذه، النسخة الأولى من مقاله عن “النشرة العبرية الأولى في دمشق”. نشر جريدة الشرق أثار عاصفة في البرلمان السوري. معارضة ظهور الجريدة قادها رجال من الدوائر القومية ومن الفلسطينيين. الصحافة العربية بمعظمها لم تصمت على إصدار صحيفة الشرق وكانت بمعظمها موحدة في معارضتها لوجودها. كان غضب الصحف بالأساس على قرار السماح باصدار جريدة تحمل أهدافاً صهيونية، في حين تلقت صحف مناصرة للقضية الفلسطينية منعاً من الرقابة.
في التاسع من تموز 1920 صدر العدد الثاني من الجريدة في ظل الضغوطات والتهديد. الجزء العبري من الجريدة تم اختزاله لصفحة واحدة وفيه إعلانات اعتيادية حول ما يجري في مشافي ومدارس الجالية اليهودية. ومن أجل اثبات ولاء الجريدة للمصالح السورية – ربما – ألحق بها صفحة كاملة تدعو يهود سوريا من أجل التبرع للقرض الوطني السوري “القرض الوطني السوري هو حياة الأمة السورية، فاشترك به أيضاً أيها الوطني الاسرائيلي، لأنه لا حياة إلا بالإستقلال، ولا استقلال إلا بالمال”.
العدد الثالث والأخير صدر بتاريخ 12 تموز 1920 وكان كله باللغة العربية. وتزامن صدور العدد الثالث مع إنشغال دمشق بخطر الغزو الفرنسي وفي الإنذار الذي وجهته فرنسا لفيصل، وهذا ما أدى إلى تحول ظهور “الشرق” لحدث سياسي أدى إلى تلقي هيئة التحرير أمراً مباشراً من وزير الحرب “يوسف العظمة” بأن توقف إصدار الجريدة لزمن غير محدد.
دخول الفرنسيين لدمشق في تموز 1920 وإزاحة الملك فيصل، قد أثارت الأمل في الأوساط الصهيونية بدمشق،خاصة مع الشعور بأن السلطات الغربية المتنورة الجديدة قد تسمح بتجديد إصدار جريدة الشرق. ولكن هذا الأمل قد أُحبط، إذ في أواخر أيلول 1920 منعت السلطات الفرنسية تجديد إصدار الجريدة. التوضيح الذي أعطي حينها على يد الموظف الفرنسي المسؤول عن شؤون النشر كان بأن المستويات العليا اتخذت قرار عام يمنع ظهور أي جريدة جديدة مهما كانت. ولكن على ما يبدو أن هذا القرار طُبق بشكل جزئي، فوفق شهادات تعود لتلك الفترة، ظهرت العديد من الصحف العربية الجديد. سبب آخر أعطي لتفسير الحجب بأن اليهود يتلقون صحفاً كبريد اليوم وهآرتس من القدس ولذلك فلا حاجة لجريدة جديدة. كانت النتيجة بأن اليهود في دمشق ظلوا بلا نشرة خاصة، في حين كانت العديد من الصحف للمسيحيين والمسلمين. هذ الأمر ولّد شعوراً اشتد مع السنين بأن السلطات الفرنسية هي سلطات معادية لليهود.