صعود وأفول جريدة “الشرق – همزراح” الصهيونية في دمشق

تعرفوا على الجريدة التي أسسها يوسف ريفلين والد رئيس دولة اسرائيل والذي راهن على أن يكون جسراً بين العرب واليهود في الجمهورية السورية.

الصفحة الأولى من جريدة الشرق الصادرة باللغتين

يرون هرائيل، محاضر في جامعة بار إيلان

حين وصل لاجئو البلاد اليهود دمشق (خلال فترة الحرب العالمية الأولى)، قاموا بزرع بذور الفكرة الصهيونية في أوساط يهود المدينة. حين غادرها اللاجئون أنفسهم، وعلى رأسهم دافيد يلين، ُطلب منهم الحفاظ على إنجازات التربية العبرية الصهيونية في أوساط المجموعة اليهودية الأكثر قرباً من فلسطين، وهذا ما جعلهم يقومون بالتأثير على اللجنة التربوية المحلية من أجل التعامل مع الجالية اليهودية في دمشق تماماً كأنها محلية على جميع المستويات. في هذا الاطار أُرسل للمدينة “يهودا بورلي” لكي يدير مدرسة للصبيان، ويوسف يوئيل ريفلين (والد رئيس الدولة رئوفين ريفلين) من أجل ادارة مدرسة البنات. رافقهم مجموعة مربيات، معلمين ومعلمات من البلاد والذين استعانوا بشباب وفتيات يهود من مواليد دمشق.

من اليمين: دوف قمحي، دافيد أبيشر، يهودا بورلي، يوسف يوئيل ريفلين، أفيعازر يلين، موشي كرمون
من اليمين: دوف قمحي، دافيد أبيشر، يهودا بورلي، يوسف يوئيل ريفلين، أفيعازر يلين، موشي كرمون

في هذه الفترة، والتي كان للصحافة دور مهم في في تشكيل التاريخ السياسي والاجتماعي السوري وبلورته من خلال التعبير عن الرأي العام، وبموافقة من الملك الجديد فيصل (وبتشجيع منه أيضاً)، تبين لسفراء المؤسسات الصهيونية بدمشق، كما للشباب والشابات من أبناء الجالية، أن على المؤسسات الصهيونية العمل أيضاً على مستوى الدعاية. ولذلك، أشاروا لضرورة إصدار جريدة صاحبة رؤية معتدلة وهادئة، تساهم في التقريب بين العرب واليهود من أجل فهم الفكرة الصهيونية. خلاصة نشاطهم في هذا الجانب أدت لتأسيس جريدة الشرق الصادرة باللغتين، إذ طُبعت أول ثلاث أعداد منها في دمشق ثم توقفت عن الصدور بعدها. إتاحة النسخ المعدودة التي تبقت في العالم من الأعداد الثلاث في موقع الصحافة اليهودية التاريخية تتيح لنا تأملاً عميقاً في النشاط الصهيوني في دمشق في فترة الملك فيصل.

الملك فيصل الأول، ملك سوريا حتى ازاحته عام 1920 (مصدر الصورة: ويكبيديا)

في الصحيفة، كانت دائرة الاستهداف الأولى عملياً  هي دائرة الجمهور العربي في سوريا. جاء التوجه لهذه الشريحه لأجل خلق توازن في توجهات الجمهور بخصوص النشاط الصهيوني في فلسطين، ومن أجل عدم صب جام غضبه من الصهيونية على يهود دمشق. وفي اطار هذا المسعى صيغت تعبيرات تدل على أن هدف الجريدة  أن “يكون جسراً بين العرب واليهود”. دائرة الاستهداف الثانية كانت المجتمع اليهودي في سوريا ولبنان عامة وفي دمشق خاصة. في نظر مندوبي اللجنة المرسلة لدمشق تبين رويداً رويداً أهمية النخبة اليهودية الاقتصادية والثقافية في المدينة كأداة للوصول لقيادة الحركة القومية العربية وكبار حكومة فيصل. هدف دائرة الاستهداف الثالثة كانت رؤساء المؤسسات الصهيونية في البلاد والعالم من أجل شرح صعوبات العمل الصهيوني في دمشق.

 

صدر العدد الأول من الجريدة يوم الاثنين، في الخامس من تموز 1920 قبل المساء. وفق الخطة الأصلية كانت الصحيفة بلغتين. احتوت “الشرق”  على صفحتين باللغة العربية و”هـمزراح” احتوى على صفحتين باللغة العبرية. في المرحلة الأولى كان المسعى أن تصدر ثلاث مرات في الأسبوع.

الصفحة الأولى من جريدة الشرق الصادرة باللغتين

كان نظام الجريدة يحاكي نظام الصحف العبرية الصادرة في فلسطين مثل “دوئر هيوم” (بريد اليوم)، بجوار التهاني والاعلانات (فندق القدس – الفندق العبري الأول في دمشق) نشر مقال نقدي عن الجالية ونظامها. يوسف يوئيل ريفلين نشر من على صفحات الجريدة هذه، النسخة الأولى من مقاله عن “النشرة العبرية الأولى في دمشق”. نشر جريدة الشرق أثار عاصفة في البرلمان السوري. معارضة ظهور الجريدة قادها رجال من الدوائر القومية ومن الفلسطينيين. الصحافة العربية بمعظمها لم تصمت على إصدار صحيفة الشرق وكانت بمعظمها موحدة في معارضتها لوجودها. كان غضب الصحف بالأساس على قرار السماح باصدار جريدة تحمل أهدافاً صهيونية، في حين تلقت صحف مناصرة للقضية الفلسطينية منعاً من الرقابة.

في التاسع من تموز 1920 صدر العدد الثاني من الجريدة في ظل الضغوطات والتهديد. الجزء العبري من الجريدة تم اختزاله لصفحة واحدة وفيه إعلانات اعتيادية حول ما يجري في مشافي ومدارس الجالية اليهودية. ومن أجل اثبات ولاء الجريدة للمصالح السورية – ربما  – ألحق بها صفحة كاملة تدعو يهود سوريا من أجل التبرع للقرض الوطني السوري “القرض الوطني السوري هو حياة الأمة السورية، فاشترك به أيضاً أيها الوطني الاسرائيلي، لأنه لا حياة إلا بالإستقلال، ولا استقلال إلا بالمال”.

العدد الثاني من جريدة الشرق

العدد الثالث والأخير صدر بتاريخ 12 تموز 1920 وكان كله باللغة العربية. وتزامن صدور العدد الثالث مع إنشغال دمشق بخطر الغزو الفرنسي وفي الإنذار الذي وجهته فرنسا لفيصل، وهذا ما أدى إلى تحول ظهور “الشرق” لحدث سياسي أدى إلى تلقي هيئة التحرير أمراً مباشراً من وزير الحرب “يوسف العظمة” بأن توقف إصدار الجريدة لزمن غير محدد.

دخول الفرنسيين لدمشق في تموز 1920 وإزاحة الملك فيصل، قد أثارت الأمل في الأوساط الصهيونية بدمشق،خاصة مع الشعور  بأن السلطات الغربية المتنورة الجديدة قد تسمح بتجديد إصدار جريدة الشرق. ولكن هذا الأمل قد أُحبط، إذ في أواخر أيلول 1920 منعت السلطات الفرنسية تجديد إصدار الجريدة. التوضيح الذي أعطي حينها على يد الموظف الفرنسي المسؤول عن شؤون النشر كان بأن المستويات العليا اتخذت قرار عام يمنع ظهور أي جريدة جديدة مهما كانت. ولكن على ما يبدو أن هذا القرار طُبق بشكل جزئي، فوفق شهادات تعود لتلك الفترة، ظهرت العديد من الصحف العربية الجديد. سبب آخر أعطي لتفسير الحجب بأن اليهود يتلقون صحفاً كبريد اليوم وهآرتس من القدس ولذلك فلا حاجة لجريدة جديدة. كانت النتيجة بأن اليهود في دمشق ظلوا بلا نشرة خاصة، في حين كانت العديد من الصحف للمسيحيين والمسلمين. هذ الأمر ولّد شعوراً اشتد مع السنين بأن السلطات الفرنسية هي سلطات معادية لليهود.

الجانب السياسيّ للغة العربية في الصحافة الفلسطينية

اللغة العربية كمشروع سياسي من منظور الصحافة الفلسطينية

شكّل خوف الفلسطينيين من مشروع “التتريك” في نهاية الحقبة العثمانيّة أساس ذلك، حيث حاول العثمانيون وعبر التتريك فرض اللغة التركيّة على البلاد العربيّة، والتي بدأت ملامحها تظهر من خلال إدخال اللغة التركيّة للمؤسسّات والجهات الرسميّة في الدولة، اضافة لإدخال اللغة التركية في الكثير من المدارس العربيّة في مصر وبلاد الشام وغيرها من المناطق العربيّة، وقد ازداد الأمر بشكل ملحوظ بعد العام 1908، ممّا حدا بالعرب عامّة والفلسطينيّين خاصّة إلى العمل على تعزيز اللغة العربية. فالنخب الثقافيّة العربيّة عملت على تأسيس أطر ونوادي قوميّة وعربيّة، كما وعمل المثقّفون العرب على إحياء العلوم والآداب والترجمات، فيما ذهب آخرون نحو تعزيز حضور اللغة العربيّة في المدارس والكتاتيب.

من هنا نرى أنّ الصحافة الفلسطينيّة تزخر بمقالات ونصوص لتعزيز اللغة العربيّة والتنبيه بمخاطر أفولها، وسيعمل على ذلك نخبة من الكتّاب الفلسطينيّين، أمثال: محمد اسعاف النشاشيبي وحبيب الخوري وخليل السكاكيني وأديب فرحات وتوفيق الزيبق والشيخ علي الريماوي، وهم بدورهم سيتحوّلون إلى نخبة المجتمع الفلسطينيّ في حينه.

إنّ مقالة اسعاف النشاشيبي الواردة في مجلّة “النفائس العصريّة” تحمل كمًّا شعوريًّا هائلًا إتّجاه التخوّف من واقع اللغة العربيّة والخطر المحدق بها كما رآه النشاشيبي

النفائس العصريّة، 1 شباط 1911

(لقراءة المزيد من “النفائس العصرية” في أرشيف جرايد، اضغطوا هنا!)

إنّ شعور الخوف على اللغة العربيّة لن ينقضي بانقضاء الدولة العثمانيّة، بل سيستمرّ مع الانتداب البريطاني، ولكن الخوف على اللغة سيختلف هذه المرّة وسيكون مركّبًا، فاللغة العربية ستفقد مركزيّتها مرّة أخرى مع اعلان الانتداب الذي سيعلن منذ بدايته أنّ اللغات الرسميّة في البلاد هي العربيّة والانجليزيّة والعبريّة، ممّا سيولد شعور الخوف مجدّدًا على اللغة العربيّة، وهو ما سيظهر في العديد من الكتابات التي يمكن من خلالها تلمس الشعور بالخطر، ولكن هذه المرّة في مواجهة اللغتين العبريّة والانجليزيّة.

مرآة الشرق، 14 آذار 1931

(اضغطوا هنا لقراءة المزيد من “مرآة الشرق” في أرشيف جرايد)

يبدو أنّ هذا الشعور والذي يظهر في منشورات العديد من الكتّاب الفلسطينيّين في تلك الفترة سيولد ردّة فعل لدى الفاعلين في الحيّز الاجتماعيّ حيث سيُطالب الكثيرون بافتتاح المدارس، وسيناشد بعض الكتاب ذوي القرار بافتتاح جامعة، فيما سيدعو آخرون لتشييد مجمع للغة العربيّة

مرآة الشرق، 11 تشرين الأول 1930

(لقراءة المقالة الكاملة، اضغطوا هنا)

​انتشار المدارس وازدياد أعداد المتعلّمين فيها سيساهم في ازدياد الذي يجيدون القراءة والكتابة، هذا ما يوضّحه جبرائيل كاتول – مفتّش وزارة المعارف، في مقاله “نظام التعليم في فلسطين، المدارس وازالة الأمية”

المنتدى، 1 تموز 1943

(​لتصفّح الأعداد الكاملة من “المنتدى” اضغطوا هنا​)

ان هذا الازدياد المتسارع في المتعلّمين سيساهم في تنشيط الصحافة الفلسطينيّة، كون أنّ الآلاف سنويًّا ينضمّون لشريحة مستهلكي الصحافة، هكذا ستتزايد أعدادها، وستقفز مبيعات الصحف من 12.500 عدد تقريبًا عام 1914 إل 20.000 – 25.000 عدد بين 1945-1948[1].

التطوّر المُلفت في الصحف والتعليم الذي سيُساهم في تعزيز اللغة العربية، سواء عبر ازدياد المتعلّمين الذي يتقنونها، أو عبر توفير وسيلة التواصل الأكثر انتشارًا وهي الصحف العربيّة، التي ستوفّر عاملًا يعزّز حضور اللغة بين الناس سواء من خلال مضامينها الأدبيّة التي ذكرناها لاحقًا أو من خلال طرح ونقاش موضوعات مهمّة متعلّقة باللغة العربيّة، والتي كانت تسعى لتوعية القرّاء وتعزيز اللغة العربيّة، مثل زاوية “اللغة” التي أطلقتها صحيفة مرآة الشرق، والتي حاولت من خلالها أن تشير في كلّ مرة لكلمة واحدة في اللغة العربية، توضّح أصولها وتشرح معناها.

الدفاع 18 حزيران 1935

(​يمكنكم قراءة المزيد من جريدة “الدفاع” بالضغط هنا)

مرآة الشرق، 19 أيلول 1934

(يُمكنكم الاطلاع على تفاصيل إضافية عن “مرآة الشرق” من هنا​)

ذهبت صحف أخرى إلى النشر عن آخر إصدارات الكتب باللغة العربيّة أو حولها، فيما ذهبت أخرى لاستكتاب مفكّرين فلسطينيّين للحديث عن قضايا اللغة العربيّة واشكاليّاتها.

المنتدى، 15 شباط 1946

(​من هنا يمكنكم قراءة تفاصيل إضافيّة عن مجلّة “المنتدى”​)

من جهة أخرى ناضلت الصحف الفلسطينيّة لتعزيز حضور اللغة العربيّة في الحيّز العام كالدوائر الحكوميّة أو الرسميّة

الدفاع، 16 تشرين الثاني، 1935

(اضغطوا هنا لقراءة المزيد عن جريدة “الدفاع”)

فلسطين، 7 حزيران 1945

(بالضغط على هذا الرابط يُمكنكم قراءة مزيد من التفاصيل عن جريدة “فلسطين”)

كانت قضايا الترجمة قد شغلت الكتّاب الفلسطينيّين أيضًا، والذين وجدوا أنفسهم فجأة أمام سيل من الانتاج الغربيّ الذي لا مقابل له بالعربيّة (فخليل بيدس مثلًا كان من أوائل المترجمين الفلسطينيّين) وبالتالي كان على هؤلاء الكتّاب والمترجمين أن يبحثوا عن مقابل للكثير من الكلمات التي واجهوها خلال ترجمتهم أو خلال تفاعلهم اليوميّ مع الانجليز واليهود وانكشافهم على اللغتين العبريّة والانجليزيّة.

النفير، 3 أيار 1930

(​​اضغطوا هنا لتصفح العدد كاملا من مجلّة “النفير”​)

​هل نجحت الصحف في ذلك أم لا؟ هل أدّت مهمّتها كما يجب؟ وكيف يمكن قياس مستوى النجاح، أسئلة صعبة تحتاج بحوثًا معمّقة، لكن ممّا لا شكّ فيه، أنّ الصحف ساهمت في تعزيز اللغة العربيّة مساهمة واضحة سواء من خلال المقالات التي أدرجتها والقضايا التي عالجتها، أو من خلال اللغة العربيّة نفسها التي استخدمتها لمخاطبة القرّاء لتحافظ بذلك على اللغة في مرحلة مهمّة من تشكيل الهويّة الفلسطينيّة المعاصرة.

أن نقرأ إميل حبيبي الشاب…

توفّر لنا الصحافة الفلسطينية فرصة ثمينة للاطّلاع على التشكيل الفكريّ المبكّر لأحد أبرز السياسيين والأدباء الفلسطينيين في القرن العشرين.

توفّر لنا أعداد مجلتي “الغد” و”المهماز” الصادرتين بعد الحرب العالميّة الثانية، فرصة ثمينة للاطّلاع على التشكيل الفكريّ المبكّر لأحد أبرز السياسيين والأدباء الفلسطينيين في القرن العشرين.

يُعد إميل حبيبي (1922-1996) رمزًا لنضال الفلسطينيين وتناقضاتهم اليومية وخاصّة بعد تحولّهم مواطنين في اسرائيل بعد العام 1948. عُرف من خلال نشاطه كعضو كنيست ممثّلًا للحزب الشيوعيّ الاسرائيليّ، تمامًا كما عُرف من خلال أدبه كرواية “المتشائل” وغيرها من الانتاجات، أو كفائز حاز على جائرة اسرائيل للأدب في مطلع التسعينيات وفي نفس الوقت جائزة القدس للثقافة الفلسطينيّة.

إميل حبيبي، كعضو كنيست شاب، 1951 (تصوير تيدي)

عبّر إميل حبيبي عن رؤيته السياسيّة بين دفّات الصحف الفلسطينيّة منذ سنوات الأربعينيات، في المقالات العديدة التي نشرها في مجلة “الغد” أو من خلال كتاباته في مجلة “المهماز” والذي كان أحد محرريها. كان ذلك، قبل أن يصير سياسيًّا وقبل أن يكون أديبًا يجوب أسمه الآفاق. إن قراءة في انتاجه المبكر تمكّننا من فهم عميق لتشكيل فكره السياسي والأيديولوجيّ، وتمنحنا فرصة فريدة لتأمل السياسة الفلسطينيّة في تلك الفترة من خلال عيني إميل حبيبي والذي كان يفكّر بمفاهيم أيدولوجيّة أمميّة وبنضالات تتجاوز حدودها المحليّة.

بالنسبة لإميل حبيبي الشاب: السياسة الفلسطينيّة، النضال ضد الصهيونيّة وضد الانتداب الانجليزيّ، كل ذلك هو جزء من نضال عالمي واسع، نضال الحريّة الوطنيّة أمام الاستعمار، أمام الفاشيّة والرجعيّة، سواء كانت داخل المجتمع وخارجه.

وفق إميل حبيبي فإنّ الفاشية والاستعمار خدموا بعضهم البعض، ففي مقاله الذي نُشر في العدد الأول من مجلة الغد في تموز 1945 (نشر قبلها في جريدة “الاتحاد”) هاجم حبيبي وبقسوة كافّة الأطراف في الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة والذين علقوا آمالهم على الفاشيّة الايطاليّة والألمانيّة، سواء من انتظر بصمت أن ينتصروا أو من أيّدهم علنًا تحت شعار “عدوّ عدوّي صديقي”. هذه الأطراف – كما يقول حبيبي – أخطأت وضلّلت الجمهور الفلسطينيّ من خلال دعمها للفاشية والتي هي بطبيعة الحال حركة استعماريّة في جوهرها. في ذات الوقت قدّموا خدمة لبريطانيا وللصهيونيّة من خلال صبغهم الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة بمظهر العنصريّة وعدم الوعي.

مقال إميل حبيبي في العدد الأوّل من “الغد”

انتقد إميل حبيبي وبشكل حاد القيادات العربيّة خارج البلاد والتي رأت في الفاشية حركة يمكن استلهامها. فأنطون سعادة رئيس الحزب القوميّ الاجتماعيّ السوريّ والذي اختار لنفسه لقب “الزعيم” يلقبه حبيبي بالفيهرر، مستخدمًا اللفظ الألماني المقابل لكلمة زعيم، متهمًا إيّاه ومناصريه ومتبعي نظرية “عدو عدوي صديقي” بأنهم يقوّضون أساسات استقلال لبنان وفلسطين في ذات الوقت، يقوّضون فكرة “سوريا الكبرى” والوحدة العربيّة. رأى حبيبي أن هذه المشاريع كلها هي مشاريع بريطانيّة استعماريّة، خاصّة أنها تأتي في هذا الوقت الذي لم تتحرّر فيه بعد شعوب الشرق الأوسط.

“جرب الكردي” عن عودة الزعيم (أنطون سعادة)

مقال إميل حبيبي حول أنطون سعادة، كان واحدًا من سلسلة مقالات والتي نشرها حبيبي في مجلة الغد تحت عنوان “جراب الكردي” والتي تحدث فيها حبيبي عن أولئك الذين يحاولون تضليل الشعب الفلسطيني، ومن بينهم أيضًا وكالات الاعلام التي توفّر كافة الأخبار العالميّة للإعلام الفلسطيني. ربط حبيبي بين المصالح الاستعماريّة والمصالح الاقتصاديّة لوكالات الاعلام المحافظة والدول التي تقف من ورائها متهمًا إيّاها بتضليل الجمهور لأجل مصالحها. الوكالات هذه كما يدعى حبيبي هي شكل آخر من أشكال هذا الكردي المتنقل بجرابه، حيث لا يعرف أحد ما يحتويه جرابه. هذه الوكالات تحرّف، تغيّر، تناقض الأخبار بشكل عجيب، كي لا ينكشف الاستعمار، وكي لا تنكشف الأفاعي التي تربض أسلفهن.

يضيف حبيبي في موقع آخر، أنّ الادّعاءات الصهيونيّة والتي تروّج لها في الاعلام العالميّ عن الحضارة التي جلبتها لفلسطين، وعن حياة الفلسطينيين التي لا تناسب القرن العشرين، كل ذلك أيضًا يخرج من ذات “الجراب” العجيبة. تتحدث الصهيونيّة عن رجعيّة الفلّاح العربيّ، لكن الحقيقة هي أنّ الفلّاح نفسه تمت تحويله على يد الصهيونيّة والاستعمار لعامل مياوم[KA1] ، لا يملك أرضًا، يعيش في أحياء الصفيح كما يعيش أولئك في حي الحواسة على مشارف حيفا، هناك لا توفّر له حكومة الانتداب أو لعائلته لا مياهًا صالحة، ولا كهرباء، ولا تمنحه حتى رخصة للبناء. الاستعمار البريطاني والحركة الصهيونية هم من دمر فلسطين. وليست حياة الفلسطينيين ما لا يتناسب مع القرن العشرين بل أفعالهم هم.

​​

المقال الأول في سلسلة “جراب الكردي”

يصف إميل حبيبي الشاب النضال الوطنيّ الفلسطينيّ في نهاية الأربعينيات بمفاهيم أمميّة وفي سياق عالميّ. بالنسبة له المجتمع الفلسطيني مقسّم لطبقات وأيدولوجيّات: العمال والبرجوازيين، اليمين واليسار، الوطنيين المُدَّعين ومقاتلي الحرية الحقيقيين. عن علاقة الفلسطينيين بالصهيونية، الانجليز والمحيط العربي، والاقليمي، يرى إميل حبيبي الأمر كله، جزءاً من السياق، جزء من الصراع بين الأيدولوجيات الاستعمارية والعنصرية وبين الشعوب التي تناضل من أجل حريتها لأجل مستقبلها ومستقبل الانسانية.

إن هذا التوجه الذي يحمله حبيبي يتناقض تماماً مع الصورة التي وصف بها السياسة الفلسطينية في فترة الانتداب، كسياسة عائلية في مستواها الأولى، أو مناطقية أو دينية، والتي تعمل بمعزل عن التيارات السياسية الأخرى في حينها.

على الرغم من المقالات والتي تحمل توجهات عامة لفكر وعالم إميل حبيبي، إلا أنها تضل مقالات ثرية ومركبة تتيح لنا إمكانية فهم المجتمع الفلسطيني في فترته وفهم البنى الفكرية الأولى والتي ستشكل لاحقاً فكر أحد أبرز الأدباء الفلسطينيين.​

نظرة خاطفة إلى دفتر تمارين اللغة العربيّة لإحاد هعام

نظرة إلى الطرق التي اختارها صاحب لقب لقب "نبيّ عصرنا" لدراسة اللغة العربية

منذ أول زيارة له إلى البلاد عام 1891، صرّح إحاد هعام بأن الاعتقاد بأنّ فلسطين (أرض إسرائيل) خالية من البشر هو اعتقاد عارٍ عن الصحّة. اعتقد الزعيم الصهيوني أنّه لكي يستطيع اليهود العائدون إلى أرضهم القديمة أن يطوّروا فيها المركز الثقافيّ والروحيّ الذي يتخيّله، عليهم أن يسعوا إلى تعلّم لغة سكّانها. لذلك كانت دراسة اللغة العربية أحد المواضيع التي دفع إلى دمجه في جهاز التربية والتعليم الناشئ في الاستيطان اليهوديّ.

إحاد هعام خلال إحدى زياراته إلى فلسطين عام 1911، مجموعة أبراهام شبدرون، المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة

في الثلاثين سنة التي مرت منذ زيارته الأولى للبلاد، لم يتفرّغ إحاد هعام لتحقيق ذلك المطلب بنفسه. في شتاء عام 1922، عندما تفرّغ للوفاء بوعد آخر، هاجر إلى البلاد واستقرّ بالقرب من أصدقائه ومعارفه في تل أبيب، وقرر أنّ الوقت قد حان لتعلّم اللغة.

الطريقة التي اختارها إحاد هعام لتعلّم اللغة تفيدنا بالكثير عن الرجل الذي توّج في حياته بلقب “نبي جيلنا”. للتدرّب على الكتابة باللغة العربية، لم يستعن إحاد هعام بقائمة الأحرف والكلمات الهامّة باللغة العربيّة فحسب، بل أيضًا بنصّ مشحون بمعنى رمزيّ وشخصيّ: مقدمة موجزة للفصل 29 في الجزء الثاني من “دلالة الحائرين” لموسى بن ميمون. فعل ذلك في دفتر مخصّص محفوظ في المكتبة الوطنية الإسرائيليّة.

 

“دلالة الحائرين” لموسى بن ميمون

يبدو أنّ هناك سببين رئيسيّين وجّها إحاد هعام في اختيار النصّ: أوّلًا، عزا مفكّر “الصهيونية الروحية” دورًا مركزيًّا في تطوره الفكري إلى دلالة الحائرين. ثانيًا، في النصّ المحدّد الذي استعان به، يؤكّد موسى بن ميمون أنّ اللغة المحكية يجب أن تتوافق مع سعة استيعاب مستمعيها حتّى يتمكّنوا من فهم الرسائل الموجودة في النص بدقّة.

يجابه المترجم بين اللغتين، العربيّة والعبريّة خطرًا من نوع خاصّ بسبب القرب بينهما وأصلهما المشترك. ربط موسى بن ميمون ذلك بأنّ المتحدّث بإحداهنّ معرّض للوقوع في الخطأ في فهم اللغة الأخرى بسبب وجود كلمات تُسمع ككلمات متطابقة لكنّها تختلف من حيث المعنى، بل قد تكون بمعنًى معاكس أحيانًا. من الممكن أنه في ترجمة ذلك النصّ المعيّن، أراد إحاد هعام أن يحذّر نفسه من أنّ القرب بين اللغتين قد يجعله ينسى المسافة بينهما.

إحاد هعام يتدرّب على نهايات الأفعال

حروف بالعربيّة والعبريّة

إذا اعتمدنا على هذا الدفتر الموجود بين أيدينا كشهادة وحيدة، فسوف يتعيّن علينا أن نقرّر أنّ أحاد هعام استطاع اكتساب المعرفة الأساسية فقط باللغة العربيّة. لا يمكننا أن نعزو هذا إلى عدم وجود دافعيّة من جانبه. كما أوضح مرارًا وتكرارًا لكل من وافق على الاستماع إليه، فإن السبب الذي من أجله استقرّ في البلاد هو ليتسنّى له أن يستريح ويستكمل، بقدر ما يستطيع، مشروعه الأدبيّ.

لم يستجب الجمهور لدعوته، وبدلًا من الراحة والوقت للكتابة والتعلّم، أمضى إحاد هعام سنواته الأخيرة في النشاطات الجماهيريّة الواسعة والمرهقة. توفّي عام 1927.