الجانب السياسيّ للغة العربية في الصحافة الفلسطينية

اللغة العربية كمشروع سياسي من منظور الصحافة الفلسطينية

شكّل خوف الفلسطينيين من مشروع “التتريك” في نهاية الحقبة العثمانيّة أساس ذلك، حيث حاول العثمانيون وعبر التتريك فرض اللغة التركيّة على البلاد العربيّة، والتي بدأت ملامحها تظهر من خلال إدخال اللغة التركيّة للمؤسسّات والجهات الرسميّة في الدولة، اضافة لإدخال اللغة التركية في الكثير من المدارس العربيّة في مصر وبلاد الشام وغيرها من المناطق العربيّة، وقد ازداد الأمر بشكل ملحوظ بعد العام 1908، ممّا حدا بالعرب عامّة والفلسطينيّين خاصّة إلى العمل على تعزيز اللغة العربية. فالنخب الثقافيّة العربيّة عملت على تأسيس أطر ونوادي قوميّة وعربيّة، كما وعمل المثقّفون العرب على إحياء العلوم والآداب والترجمات، فيما ذهب آخرون نحو تعزيز حضور اللغة العربيّة في المدارس والكتاتيب.

من هنا نرى أنّ الصحافة الفلسطينيّة تزخر بمقالات ونصوص لتعزيز اللغة العربيّة والتنبيه بمخاطر أفولها، وسيعمل على ذلك نخبة من الكتّاب الفلسطينيّين، أمثال: محمد اسعاف النشاشيبي وحبيب الخوري وخليل السكاكيني وأديب فرحات وتوفيق الزيبق والشيخ علي الريماوي، وهم بدورهم سيتحوّلون إلى نخبة المجتمع الفلسطينيّ في حينه.

إنّ مقالة اسعاف النشاشيبي الواردة في مجلّة “النفائس العصريّة” تحمل كمًّا شعوريًّا هائلًا إتّجاه التخوّف من واقع اللغة العربيّة والخطر المحدق بها كما رآه النشاشيبي

النفائس العصريّة، 1 شباط 1911

(لقراءة المزيد من “النفائس العصرية” في أرشيف جرايد، اضغطوا هنا!)

إنّ شعور الخوف على اللغة العربيّة لن ينقضي بانقضاء الدولة العثمانيّة، بل سيستمرّ مع الانتداب البريطاني، ولكن الخوف على اللغة سيختلف هذه المرّة وسيكون مركّبًا، فاللغة العربية ستفقد مركزيّتها مرّة أخرى مع اعلان الانتداب الذي سيعلن منذ بدايته أنّ اللغات الرسميّة في البلاد هي العربيّة والانجليزيّة والعبريّة، ممّا سيولد شعور الخوف مجدّدًا على اللغة العربيّة، وهو ما سيظهر في العديد من الكتابات التي يمكن من خلالها تلمس الشعور بالخطر، ولكن هذه المرّة في مواجهة اللغتين العبريّة والانجليزيّة.

مرآة الشرق، 14 آذار 1931

(اضغطوا هنا لقراءة المزيد من “مرآة الشرق” في أرشيف جرايد)

يبدو أنّ هذا الشعور والذي يظهر في منشورات العديد من الكتّاب الفلسطينيّين في تلك الفترة سيولد ردّة فعل لدى الفاعلين في الحيّز الاجتماعيّ حيث سيُطالب الكثيرون بافتتاح المدارس، وسيناشد بعض الكتاب ذوي القرار بافتتاح جامعة، فيما سيدعو آخرون لتشييد مجمع للغة العربيّة

مرآة الشرق، 11 تشرين الأول 1930

(لقراءة المقالة الكاملة، اضغطوا هنا)

​انتشار المدارس وازدياد أعداد المتعلّمين فيها سيساهم في ازدياد الذي يجيدون القراءة والكتابة، هذا ما يوضّحه جبرائيل كاتول – مفتّش وزارة المعارف، في مقاله “نظام التعليم في فلسطين، المدارس وازالة الأمية”

المنتدى، 1 تموز 1943

(​لتصفّح الأعداد الكاملة من “المنتدى” اضغطوا هنا​)

ان هذا الازدياد المتسارع في المتعلّمين سيساهم في تنشيط الصحافة الفلسطينيّة، كون أنّ الآلاف سنويًّا ينضمّون لشريحة مستهلكي الصحافة، هكذا ستتزايد أعدادها، وستقفز مبيعات الصحف من 12.500 عدد تقريبًا عام 1914 إل 20.000 – 25.000 عدد بين 1945-1948[1].

التطوّر المُلفت في الصحف والتعليم الذي سيُساهم في تعزيز اللغة العربية، سواء عبر ازدياد المتعلّمين الذي يتقنونها، أو عبر توفير وسيلة التواصل الأكثر انتشارًا وهي الصحف العربيّة، التي ستوفّر عاملًا يعزّز حضور اللغة بين الناس سواء من خلال مضامينها الأدبيّة التي ذكرناها لاحقًا أو من خلال طرح ونقاش موضوعات مهمّة متعلّقة باللغة العربيّة، والتي كانت تسعى لتوعية القرّاء وتعزيز اللغة العربيّة، مثل زاوية “اللغة” التي أطلقتها صحيفة مرآة الشرق، والتي حاولت من خلالها أن تشير في كلّ مرة لكلمة واحدة في اللغة العربية، توضّح أصولها وتشرح معناها.

الدفاع 18 حزيران 1935

(​يمكنكم قراءة المزيد من جريدة “الدفاع” بالضغط هنا)

مرآة الشرق، 19 أيلول 1934

(يُمكنكم الاطلاع على تفاصيل إضافية عن “مرآة الشرق” من هنا​)

ذهبت صحف أخرى إلى النشر عن آخر إصدارات الكتب باللغة العربيّة أو حولها، فيما ذهبت أخرى لاستكتاب مفكّرين فلسطينيّين للحديث عن قضايا اللغة العربيّة واشكاليّاتها.

المنتدى، 15 شباط 1946

(​من هنا يمكنكم قراءة تفاصيل إضافيّة عن مجلّة “المنتدى”​)

من جهة أخرى ناضلت الصحف الفلسطينيّة لتعزيز حضور اللغة العربيّة في الحيّز العام كالدوائر الحكوميّة أو الرسميّة

الدفاع، 16 تشرين الثاني، 1935

(اضغطوا هنا لقراءة المزيد عن جريدة “الدفاع”)

فلسطين، 7 حزيران 1945

(بالضغط على هذا الرابط يُمكنكم قراءة مزيد من التفاصيل عن جريدة “فلسطين”)

كانت قضايا الترجمة قد شغلت الكتّاب الفلسطينيّين أيضًا، والذين وجدوا أنفسهم فجأة أمام سيل من الانتاج الغربيّ الذي لا مقابل له بالعربيّة (فخليل بيدس مثلًا كان من أوائل المترجمين الفلسطينيّين) وبالتالي كان على هؤلاء الكتّاب والمترجمين أن يبحثوا عن مقابل للكثير من الكلمات التي واجهوها خلال ترجمتهم أو خلال تفاعلهم اليوميّ مع الانجليز واليهود وانكشافهم على اللغتين العبريّة والانجليزيّة.

النفير، 3 أيار 1930

(​​اضغطوا هنا لتصفح العدد كاملا من مجلّة “النفير”​)

​هل نجحت الصحف في ذلك أم لا؟ هل أدّت مهمّتها كما يجب؟ وكيف يمكن قياس مستوى النجاح، أسئلة صعبة تحتاج بحوثًا معمّقة، لكن ممّا لا شكّ فيه، أنّ الصحف ساهمت في تعزيز اللغة العربيّة مساهمة واضحة سواء من خلال المقالات التي أدرجتها والقضايا التي عالجتها، أو من خلال اللغة العربيّة نفسها التي استخدمتها لمخاطبة القرّاء لتحافظ بذلك على اللغة في مرحلة مهمّة من تشكيل الهويّة الفلسطينيّة المعاصرة.

نظرة خاطفة إلى دفتر تمارين اللغة العربيّة لإحاد هعام

نظرة إلى الطرق التي اختارها صاحب لقب لقب "نبيّ عصرنا" لدراسة اللغة العربية

منذ أول زيارة له إلى البلاد عام 1891، صرّح إحاد هعام بأن الاعتقاد بأنّ فلسطين (أرض إسرائيل) خالية من البشر هو اعتقاد عارٍ عن الصحّة. اعتقد الزعيم الصهيوني أنّه لكي يستطيع اليهود العائدون إلى أرضهم القديمة أن يطوّروا فيها المركز الثقافيّ والروحيّ الذي يتخيّله، عليهم أن يسعوا إلى تعلّم لغة سكّانها. لذلك كانت دراسة اللغة العربية أحد المواضيع التي دفع إلى دمجه في جهاز التربية والتعليم الناشئ في الاستيطان اليهوديّ.

إحاد هعام خلال إحدى زياراته إلى فلسطين عام 1911، مجموعة أبراهام شبدرون، المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة

في الثلاثين سنة التي مرت منذ زيارته الأولى للبلاد، لم يتفرّغ إحاد هعام لتحقيق ذلك المطلب بنفسه. في شتاء عام 1922، عندما تفرّغ للوفاء بوعد آخر، هاجر إلى البلاد واستقرّ بالقرب من أصدقائه ومعارفه في تل أبيب، وقرر أنّ الوقت قد حان لتعلّم اللغة.

الطريقة التي اختارها إحاد هعام لتعلّم اللغة تفيدنا بالكثير عن الرجل الذي توّج في حياته بلقب “نبي جيلنا”. للتدرّب على الكتابة باللغة العربية، لم يستعن إحاد هعام بقائمة الأحرف والكلمات الهامّة باللغة العربيّة فحسب، بل أيضًا بنصّ مشحون بمعنى رمزيّ وشخصيّ: مقدمة موجزة للفصل 29 في الجزء الثاني من “دلالة الحائرين” لموسى بن ميمون. فعل ذلك في دفتر مخصّص محفوظ في المكتبة الوطنية الإسرائيليّة.

 

“دلالة الحائرين” لموسى بن ميمون

يبدو أنّ هناك سببين رئيسيّين وجّها إحاد هعام في اختيار النصّ: أوّلًا، عزا مفكّر “الصهيونية الروحية” دورًا مركزيًّا في تطوره الفكري إلى دلالة الحائرين. ثانيًا، في النصّ المحدّد الذي استعان به، يؤكّد موسى بن ميمون أنّ اللغة المحكية يجب أن تتوافق مع سعة استيعاب مستمعيها حتّى يتمكّنوا من فهم الرسائل الموجودة في النص بدقّة.

يجابه المترجم بين اللغتين، العربيّة والعبريّة خطرًا من نوع خاصّ بسبب القرب بينهما وأصلهما المشترك. ربط موسى بن ميمون ذلك بأنّ المتحدّث بإحداهنّ معرّض للوقوع في الخطأ في فهم اللغة الأخرى بسبب وجود كلمات تُسمع ككلمات متطابقة لكنّها تختلف من حيث المعنى، بل قد تكون بمعنًى معاكس أحيانًا. من الممكن أنه في ترجمة ذلك النصّ المعيّن، أراد إحاد هعام أن يحذّر نفسه من أنّ القرب بين اللغتين قد يجعله ينسى المسافة بينهما.

إحاد هعام يتدرّب على نهايات الأفعال

حروف بالعربيّة والعبريّة

إذا اعتمدنا على هذا الدفتر الموجود بين أيدينا كشهادة وحيدة، فسوف يتعيّن علينا أن نقرّر أنّ أحاد هعام استطاع اكتساب المعرفة الأساسية فقط باللغة العربيّة. لا يمكننا أن نعزو هذا إلى عدم وجود دافعيّة من جانبه. كما أوضح مرارًا وتكرارًا لكل من وافق على الاستماع إليه، فإن السبب الذي من أجله استقرّ في البلاد هو ليتسنّى له أن يستريح ويستكمل، بقدر ما يستطيع، مشروعه الأدبيّ.

لم يستجب الجمهور لدعوته، وبدلًا من الراحة والوقت للكتابة والتعلّم، أمضى إحاد هعام سنواته الأخيرة في النشاطات الجماهيريّة الواسعة والمرهقة. توفّي عام 1927.