لا يرتبط موسم الحصاد في القرى والمناطق الزراعية في البلاد بجمع المحاصيل فقط، بل يمثل حدثًا جماعيًا تتوارثه الأجيال، حيث يجتمع الناس للعمل معًا،و تتداخل فيه الجهود الفردية مع التعاون الجماعي. في البلاد، ظل موسم الحصاد على مدى القرون الماضية جزءًا من التراث الزراعي، متأثرًا بالتغيرات السياسية والاجتماعية، لكنه حافظ على مكانته كأحد أهم الفترات السنوية التي تعكس ارتباط الإنسان بالأرض، والطرق التي شكلت نمط الحياة في القرى عبر العصور.
في قرى مثل دير غسانة وعقربا ويطا، وفي سهل مرج ابن عامر وحقول الخليل، يبدأ موسم الحصاد مع أوائل الربيع، حين يتحول القمح إلى بساط أصفر تحت شمس البلاد الساطعة.
في العصور الكنعانية، كانت الحقول جزءًا من الطقوس الدينية، حيث قدّم الناس أولى حزم القمح كقرابين للآلهة، طلبًا للبركة. ومع مرور الزمن، بقي الحصاد في البلاد يحمل طابعًا احتفاليًا، حيث اجتمعت العائلات لقطف ثمار تعبها.و خلال العهد العثماني، كانت الحقول تُدار وفق نظام العُشر، حيث يُقدّم جزء من المحصول للخزينة العثمانية، فيما احتفظ الفلاحون بالباقي لأنفسهم. أما في زمن الانتداب البريطاني، فبدأت بعض التقنيات الحديثة بالظهور، لكن القرى العربية بقيت متمسكة بأساليبها التقليدية، حيث كان المنجل هو الأداة الأساسية، والجهد الجماعي هو مفتاح النجاح.
مع أول ضوء للفجر، يخرج الرجال إلى الحقول حاملين المناجل، يبدأون بقطع السنابل المتمايلة تحت نسيم الصباح، بينما تتولى النساء إعداد الطعام والماء وترديد الأغاني الشعبية، مثل تلك التي ما زالت تُسمع في قرى الجليل وجبال نابلس:
“يا منجلي يا منجلاي.. قطع لي سنابل عليّات”
ترافق هذه الأهازيج ضحكات الأطفال الذين يركضون بين الحقول، يلتقطون سنابل القمح المتساقطة أو يجمعون باقات صغيرة لحملها إلى البيوت.
وفي قرى مثل بيت لاهيا والظاهرية، كان الجيران يتبادلون المساعدة في جني المحاصيل، فيما يُقام في نهاية الموسم احتفال بسيط يتضمن طهي “المفتول” أو “المسخن”، تعبيرًا عن الامتنان للأرض وخيراتها. كما كانت بعض العائلات تترك جزءًا من المحصول في الحقل “صدقةً” للطيور أو للفقراء، استمرارًا لتقاليد قديمة تعود إلى أزمان بعيدة.

مع دخول التكنولوجيا، تغيّرت معالم الحصاد. في أراضي طوباس والأغوار، بدأت الحصادات الميكانيكية تحلّ محل الأيدي العاملة، وباتت الحقول تُحصد في يوم أو يومين، بدلًا من أسابيع طويلة. رغم ذلك، لا يزال هناك من يصرّ على الاحتفاظ ببعض الطقوس القديمة، حيث يمكن رؤية فلاحين في بعض القرى يحصدون جزءًا صغيرًا من الأرض يدويًا، ليس لجمع القمح فقط، بل لاستعادة صلة مفقودة مع الأرض، مع الماضي الذي لا يزال يعيش في ذاكرة الجدّات، في الأغاني المنسية، وفي غبار الحقول الذي يملأ الأيدي برائحة الخبز.
ورغم التغيرات، يبقى موسم الحصاد في البلاد شاهدًا على الاستمرارية، على قدرة الفلاح العربي على التكيّف مع الزمن دون أن يفقد جذوره.

