كان يا ما كان: حين قرر كامل الكيلاني أن يكتب أدب الأطفال

تعالوا وتعرفوا على كامل الكيلاني ومشروعه النوعيّ للأطفال

​منذ القدم والحكاية الشعبية للأطفال كانت مركز الثقافية العربية، إذ تناقلها الناس بين بعضهم البعض، لكن كامل الكيلاني المصري الجنسية والمولود عام 1897 قرر أن يأخذ قصص الأطفال نحو اتجاه آخر، اتجاه أكثر أدبي وأكثر علمي ليبدأ مشروعه النوعيّ وهو كتابة قصص الأطفال.

في مقدمة طريقه في أحدى كتبه، يقول الكيلاني موجهاً كلامه للطفل العربي، اخترت أن “أسهل عليك الأمر فتقرأ بنفسك أحسن القصص التي تحبها، لتقصها أنت على أبويك وجدتك وعلى أصحابك الأعزاء”

كامل الكيلاني، قصص جديدة للأطفال: بابا عبد الله والدرويش، مطبعة المعارف ومكتبتها في مصر.

كانت رواية السندباد البحري أول قصة كتبها للأطفال عام 1927، الرواية مستمدة من رواية “ألف ليلة وليلة” التراثية، ولكن الكيلاني يوضح أسباب استحضارها، إذ يقول أن الرواية الأصلية لم تحظ بالانتشار لركاكة الأسلوب وغياب الصور وضعف الخيال وبالتالي فمشروع الكيلاني هو الكتابة للأطفال بأسلوب سهل يحبب القراءة على الأطفال، ثم تزيين القصص بالصور لكي تجذب الأطفال كل ذلك لأجل تحبيب القراءة والمطالعة.

كامل الكيلاني، السندباد البحري، مطبعة المعارف ومكتبتها في مصر.

نجح مشروع الكيلاني نجاحاً جميلاً وانتشرت قصصه في الكثير من الدول العربية، ولكي ينوع الكيلاني مصادره فقد استوحى أحيانًا قصصه من التراث العربي الإسلامي كقصة السندباد التي ذكرناها أعلاه أو من التراث المشرقي كالهند والتي كتب من وحي قصصها مجموعة حكايات مثل قصاص الأثر، القصر الهندي، في غابة الشياطين وغيرهم.


كامل الكيلاني، قصاص الأثر، مطبعة المعارف ومكتبتها في مصر.

كما استوحى الكيلاني قصصاً خيالية لم يُعرف لها منشأ كقصة “في بلاد العجائب.


​لأكثر من ثلاثين عام استمر مشروع الكيلاني والذي فيه كتب خلالها ما يقارب ال250 قصة، لتتحول قصصه إلى معالم أساسية من معالم الطفولة العربية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، ولما توفى الكيلاني عام 1959 كان قد خلف وراءه إرثًا ثميناً، وربما فقط بعد وفاته تنبه النقاد لأهمية ما خلفه الكيلاني الذي شق طريقاً جديداً في الأدب ليحصل وبجدارة على لقب “رائد أدب الأطفال”.

أن نقرأ إميل حبيبي الشاب…

توفّر لنا الصحافة الفلسطينية فرصة ثمينة للاطّلاع على التشكيل الفكريّ المبكّر لأحد أبرز السياسيين والأدباء الفلسطينيين في القرن العشرين.

توفّر لنا أعداد مجلتي “الغد” و”المهماز” الصادرتين بعد الحرب العالميّة الثانية، فرصة ثمينة للاطّلاع على التشكيل الفكريّ المبكّر لأحد أبرز السياسيين والأدباء الفلسطينيين في القرن العشرين.

يُعد إميل حبيبي (1922-1996) رمزًا لنضال الفلسطينيين وتناقضاتهم اليومية وخاصّة بعد تحولّهم مواطنين في اسرائيل بعد العام 1948. عُرف من خلال نشاطه كعضو كنيست ممثّلًا للحزب الشيوعيّ الاسرائيليّ، تمامًا كما عُرف من خلال أدبه كرواية “المتشائل” وغيرها من الانتاجات، أو كفائز حاز على جائرة اسرائيل للأدب في مطلع التسعينيات وفي نفس الوقت جائزة القدس للثقافة الفلسطينيّة.

إميل حبيبي، كعضو كنيست شاب، 1951 (تصوير تيدي)

عبّر إميل حبيبي عن رؤيته السياسيّة بين دفّات الصحف الفلسطينيّة منذ سنوات الأربعينيات، في المقالات العديدة التي نشرها في مجلة “الغد” أو من خلال كتاباته في مجلة “المهماز” والذي كان أحد محرريها. كان ذلك، قبل أن يصير سياسيًّا وقبل أن يكون أديبًا يجوب أسمه الآفاق. إن قراءة في انتاجه المبكر تمكّننا من فهم عميق لتشكيل فكره السياسي والأيديولوجيّ، وتمنحنا فرصة فريدة لتأمل السياسة الفلسطينيّة في تلك الفترة من خلال عيني إميل حبيبي والذي كان يفكّر بمفاهيم أيدولوجيّة أمميّة وبنضالات تتجاوز حدودها المحليّة.

بالنسبة لإميل حبيبي الشاب: السياسة الفلسطينيّة، النضال ضد الصهيونيّة وضد الانتداب الانجليزيّ، كل ذلك هو جزء من نضال عالمي واسع، نضال الحريّة الوطنيّة أمام الاستعمار، أمام الفاشيّة والرجعيّة، سواء كانت داخل المجتمع وخارجه.

وفق إميل حبيبي فإنّ الفاشية والاستعمار خدموا بعضهم البعض، ففي مقاله الذي نُشر في العدد الأول من مجلة الغد في تموز 1945 (نشر قبلها في جريدة “الاتحاد”) هاجم حبيبي وبقسوة كافّة الأطراف في الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة والذين علقوا آمالهم على الفاشيّة الايطاليّة والألمانيّة، سواء من انتظر بصمت أن ينتصروا أو من أيّدهم علنًا تحت شعار “عدوّ عدوّي صديقي”. هذه الأطراف – كما يقول حبيبي – أخطأت وضلّلت الجمهور الفلسطينيّ من خلال دعمها للفاشية والتي هي بطبيعة الحال حركة استعماريّة في جوهرها. في ذات الوقت قدّموا خدمة لبريطانيا وللصهيونيّة من خلال صبغهم الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة بمظهر العنصريّة وعدم الوعي.

مقال إميل حبيبي في العدد الأوّل من “الغد”

انتقد إميل حبيبي وبشكل حاد القيادات العربيّة خارج البلاد والتي رأت في الفاشية حركة يمكن استلهامها. فأنطون سعادة رئيس الحزب القوميّ الاجتماعيّ السوريّ والذي اختار لنفسه لقب “الزعيم” يلقبه حبيبي بالفيهرر، مستخدمًا اللفظ الألماني المقابل لكلمة زعيم، متهمًا إيّاه ومناصريه ومتبعي نظرية “عدو عدوي صديقي” بأنهم يقوّضون أساسات استقلال لبنان وفلسطين في ذات الوقت، يقوّضون فكرة “سوريا الكبرى” والوحدة العربيّة. رأى حبيبي أن هذه المشاريع كلها هي مشاريع بريطانيّة استعماريّة، خاصّة أنها تأتي في هذا الوقت الذي لم تتحرّر فيه بعد شعوب الشرق الأوسط.

“جرب الكردي” عن عودة الزعيم (أنطون سعادة)

مقال إميل حبيبي حول أنطون سعادة، كان واحدًا من سلسلة مقالات والتي نشرها حبيبي في مجلة الغد تحت عنوان “جراب الكردي” والتي تحدث فيها حبيبي عن أولئك الذين يحاولون تضليل الشعب الفلسطيني، ومن بينهم أيضًا وكالات الاعلام التي توفّر كافة الأخبار العالميّة للإعلام الفلسطيني. ربط حبيبي بين المصالح الاستعماريّة والمصالح الاقتصاديّة لوكالات الاعلام المحافظة والدول التي تقف من ورائها متهمًا إيّاها بتضليل الجمهور لأجل مصالحها. الوكالات هذه كما يدعى حبيبي هي شكل آخر من أشكال هذا الكردي المتنقل بجرابه، حيث لا يعرف أحد ما يحتويه جرابه. هذه الوكالات تحرّف، تغيّر، تناقض الأخبار بشكل عجيب، كي لا ينكشف الاستعمار، وكي لا تنكشف الأفاعي التي تربض أسلفهن.

يضيف حبيبي في موقع آخر، أنّ الادّعاءات الصهيونيّة والتي تروّج لها في الاعلام العالميّ عن الحضارة التي جلبتها لفلسطين، وعن حياة الفلسطينيين التي لا تناسب القرن العشرين، كل ذلك أيضًا يخرج من ذات “الجراب” العجيبة. تتحدث الصهيونيّة عن رجعيّة الفلّاح العربيّ، لكن الحقيقة هي أنّ الفلّاح نفسه تمت تحويله على يد الصهيونيّة والاستعمار لعامل مياوم[KA1] ، لا يملك أرضًا، يعيش في أحياء الصفيح كما يعيش أولئك في حي الحواسة على مشارف حيفا، هناك لا توفّر له حكومة الانتداب أو لعائلته لا مياهًا صالحة، ولا كهرباء، ولا تمنحه حتى رخصة للبناء. الاستعمار البريطاني والحركة الصهيونية هم من دمر فلسطين. وليست حياة الفلسطينيين ما لا يتناسب مع القرن العشرين بل أفعالهم هم.

​​

المقال الأول في سلسلة “جراب الكردي”

يصف إميل حبيبي الشاب النضال الوطنيّ الفلسطينيّ في نهاية الأربعينيات بمفاهيم أمميّة وفي سياق عالميّ. بالنسبة له المجتمع الفلسطيني مقسّم لطبقات وأيدولوجيّات: العمال والبرجوازيين، اليمين واليسار، الوطنيين المُدَّعين ومقاتلي الحرية الحقيقيين. عن علاقة الفلسطينيين بالصهيونية، الانجليز والمحيط العربي، والاقليمي، يرى إميل حبيبي الأمر كله، جزءاً من السياق، جزء من الصراع بين الأيدولوجيات الاستعمارية والعنصرية وبين الشعوب التي تناضل من أجل حريتها لأجل مستقبلها ومستقبل الانسانية.

إن هذا التوجه الذي يحمله حبيبي يتناقض تماماً مع الصورة التي وصف بها السياسة الفلسطينية في فترة الانتداب، كسياسة عائلية في مستواها الأولى، أو مناطقية أو دينية، والتي تعمل بمعزل عن التيارات السياسية الأخرى في حينها.

على الرغم من المقالات والتي تحمل توجهات عامة لفكر وعالم إميل حبيبي، إلا أنها تضل مقالات ثرية ومركبة تتيح لنا إمكانية فهم المجتمع الفلسطيني في فترته وفهم البنى الفكرية الأولى والتي ستشكل لاحقاً فكر أحد أبرز الأدباء الفلسطينيين.​

نظرة خاطفة إلى دفتر تمارين اللغة العربيّة لإحاد هعام

نظرة إلى الطرق التي اختارها صاحب لقب لقب "نبيّ عصرنا" لدراسة اللغة العربية

منذ أول زيارة له إلى البلاد عام 1891، صرّح إحاد هعام بأن الاعتقاد بأنّ فلسطين (أرض إسرائيل) خالية من البشر هو اعتقاد عارٍ عن الصحّة. اعتقد الزعيم الصهيوني أنّه لكي يستطيع اليهود العائدون إلى أرضهم القديمة أن يطوّروا فيها المركز الثقافيّ والروحيّ الذي يتخيّله، عليهم أن يسعوا إلى تعلّم لغة سكّانها. لذلك كانت دراسة اللغة العربية أحد المواضيع التي دفع إلى دمجه في جهاز التربية والتعليم الناشئ في الاستيطان اليهوديّ.

إحاد هعام خلال إحدى زياراته إلى فلسطين عام 1911، مجموعة أبراهام شبدرون، المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة

في الثلاثين سنة التي مرت منذ زيارته الأولى للبلاد، لم يتفرّغ إحاد هعام لتحقيق ذلك المطلب بنفسه. في شتاء عام 1922، عندما تفرّغ للوفاء بوعد آخر، هاجر إلى البلاد واستقرّ بالقرب من أصدقائه ومعارفه في تل أبيب، وقرر أنّ الوقت قد حان لتعلّم اللغة.

الطريقة التي اختارها إحاد هعام لتعلّم اللغة تفيدنا بالكثير عن الرجل الذي توّج في حياته بلقب “نبي جيلنا”. للتدرّب على الكتابة باللغة العربية، لم يستعن إحاد هعام بقائمة الأحرف والكلمات الهامّة باللغة العربيّة فحسب، بل أيضًا بنصّ مشحون بمعنى رمزيّ وشخصيّ: مقدمة موجزة للفصل 29 في الجزء الثاني من “دلالة الحائرين” لموسى بن ميمون. فعل ذلك في دفتر مخصّص محفوظ في المكتبة الوطنية الإسرائيليّة.

 

“دلالة الحائرين” لموسى بن ميمون

يبدو أنّ هناك سببين رئيسيّين وجّها إحاد هعام في اختيار النصّ: أوّلًا، عزا مفكّر “الصهيونية الروحية” دورًا مركزيًّا في تطوره الفكري إلى دلالة الحائرين. ثانيًا، في النصّ المحدّد الذي استعان به، يؤكّد موسى بن ميمون أنّ اللغة المحكية يجب أن تتوافق مع سعة استيعاب مستمعيها حتّى يتمكّنوا من فهم الرسائل الموجودة في النص بدقّة.

يجابه المترجم بين اللغتين، العربيّة والعبريّة خطرًا من نوع خاصّ بسبب القرب بينهما وأصلهما المشترك. ربط موسى بن ميمون ذلك بأنّ المتحدّث بإحداهنّ معرّض للوقوع في الخطأ في فهم اللغة الأخرى بسبب وجود كلمات تُسمع ككلمات متطابقة لكنّها تختلف من حيث المعنى، بل قد تكون بمعنًى معاكس أحيانًا. من الممكن أنه في ترجمة ذلك النصّ المعيّن، أراد إحاد هعام أن يحذّر نفسه من أنّ القرب بين اللغتين قد يجعله ينسى المسافة بينهما.

إحاد هعام يتدرّب على نهايات الأفعال

حروف بالعربيّة والعبريّة

إذا اعتمدنا على هذا الدفتر الموجود بين أيدينا كشهادة وحيدة، فسوف يتعيّن علينا أن نقرّر أنّ أحاد هعام استطاع اكتساب المعرفة الأساسية فقط باللغة العربيّة. لا يمكننا أن نعزو هذا إلى عدم وجود دافعيّة من جانبه. كما أوضح مرارًا وتكرارًا لكل من وافق على الاستماع إليه، فإن السبب الذي من أجله استقرّ في البلاد هو ليتسنّى له أن يستريح ويستكمل، بقدر ما يستطيع، مشروعه الأدبيّ.

لم يستجب الجمهور لدعوته، وبدلًا من الراحة والوقت للكتابة والتعلّم، أمضى إحاد هعام سنواته الأخيرة في النشاطات الجماهيريّة الواسعة والمرهقة. توفّي عام 1927.