حين يُذكر اسم حيدر حيدر، غالبًا ما تُستحضر معه موجة طويلة من الجدل والانقسام. وُلد الكاتب السوري عام 1936 في قرية حصين البحر بمحافظة طرطوس، عُرف بكتاباته التي تلامس خطوطًا حمراء، وتتجرأ على تفكيك ما يعتبره كثيرون مسلمات ثقافية ودينية. لم يكن حيدر يومًا من الكتّاب المحايدين أو الراغبين في إرضاء القارئ. تميزت تجربته الروائية بنبرة احتجاجية، وسرد يختبر اللغة والذاكرة في آنٍ معًا. عاش في الجزائر فترة بعد الاستقلال، وهناك تشرّب تفاصيل مجتمعات خارجة تواً من جحيم الاستعمار، لكنها متجهة إلى صراعات من نوع آخر، داخليّة هذه المرة.

من هذه الخلفية، خرجت رواية وليمة لأعشاب البحر، العمل الذي استغرق حيدر تسع سنوات في كتابته، ليصدر أول مرة عام 1983، ويثير عاصفة من الجدل بعد إعادة طباعته في القاهرة عام 2000. الرواية ليست سيرة ذاتية، لكنها ليست بعيدة عن سيرة الكاتب. بطلاها، العراقي مهدي جواد والجزائرية آسيا الأخضر، يعيشان في زمن ما بعد الثورة، في مرحلة لم يعد فيها الصراع مع المستعمر هو المحرك، بل سؤال أكثر قسوة: ماذا نفعل بكل هذا الخراب المتبقي؟
الرواية تتنقّل بين العراق والجزائر، وتسرد تفاصيل ما بعد الفقد. ليست عن النصر ولا عن الهزيمة المباشرة، بل عن ما يحدث في الظلّ: العلاقات الهشّة، المنفى الداخلي، ومصائر الثوار بعد أن يخفت صوت البنادق. تصف الرواية عالمًا متشظيًا، تتداخل فيه السياسة مع العاطفة، وتتصادم فيه الشعارات مع الواقع. فيها يلتقي اللاجئون والمطرودون، الحالمون والمنكسرون، في لحظة عبثية لا تقدم أجوبة.

لكن ما جعل الرواية أكثر إثارة للجدل هو لغتها المباشرة، التي لم تتجنب الشتائم أو التعابير الجنسية، ما دفع البعض لاتهامها بازدراء الأديان. غير أن هذا الهجوم، بحسب الكثير من القراءات، أغفل البنية العميقة للنص، التي كانت تحاول الكشف عن تناقضات المجتمع لا التهجم عليه. استخدم حيدر شخصياته كمرآة لواقع مضطرب، حيث الثورات تُجهض من الداخل، وحيث يتحوّل الحالمون إلى عبءٍ على السلطة الجديدة.

كما هو الحال مع كثير من الكتب التي تثير الجدل، ربما وقع كثير من القرّاء في فخ القراءة السطحية، أو التمسك بتفاصيل صادمة منعزلة عن السياق، دون الغوص في السؤال الجوهري الذي تطرحه الرواية بوضوح: ماذا يحدث بعد الحرب؟ هل يعقب الفوضى سلام فعلاً؟ هل نحن مهيئون للعيش دون القيود التي سيطرت على حياتنا لسنوات؟
قد تبدو الأسئلة قاسية، لكنّها ضرورية. الرواية لا تحتفل بالنصر ولا تمجّد الثورة، بل تسأل عن ما بعد الشعارات، عن هشاشة الإنسان حين تختفي الجدران التي كان يحاربها. كثيرون يحبون التمسك بالكلمات الكبيرة: حرية، كرامة، استقلال… لكن هل نعرف فعلاً ما تعنيه هذه الكلمات إذا لم نختبرها من الداخل؟