واصف جوهرية: مؤرخ روح القدس

نشأ واصف جوهرية، الطفل الذي نسج حياته في نسيج تاريخ المدينة الغني، في قلب القدس. وُلد واصف عام 1897 لعائلة مقدسية من الطبقة الوسطى،  ورث عن والده جريس حب الحكايات والموسيقى. كان والده، صانع الحرير ورسام الأيقونات الدينية، يشجعه على دراسة القرآن لتعزيز ملكته اللغوية، ويعلمه أساسيات الموسيقى، ليزرع فيه شغفًا سيستمر طوال حياته. تعلم

832 629

نشأ واصف جوهرية، الطفل الذي نسج حياته في نسيج تاريخ المدينة الغني، في قلب القدس. وُلد واصف عام 1897 لعائلة مقدسية من الطبقة الوسطى،  ورث عن والده جريس حب الحكايات والموسيقى. كان والده، صانع الحرير ورسام الأيقونات الدينية، يشجعه على دراسة القرآن لتعزيز ملكته اللغوية، ويعلمه أساسيات الموسيقى، ليزرع فيه شغفًا سيستمر طوال حياته.

تعلم واصف في مدارس مرموقة مثل المدرسة اللوثرية ومدرسة المطران والمدرسة الدستورية التي أسسها الأديب خليل السكاكيني. أتاح له هذا التعليم التعرف على تنوع القدس الثقافي، حيث تعايش المسلمون والمسيحيون معًا. لكن الموسيقى كانت الشغف الذي أسر قلبه. تحت إشراف المعلم عمر البطش الحلبي، أحد أعظم عازفي العود في العهد العثماني، صقل واصف موهبته وبدأ رحلته في المشهد الموسيقي  للمدينة.

قادته موهبته إلى ما وراء حدود القدس. خلال الحرب العالمية الأولى، خدم كـ”ضابط عود” في البحرية العثمانية، وهو لقب أشار إليه لاحقًا بمزيج من الفخر والسخرية. بعد الحرب، عمل في حكومة الانتداب البريطاني، لكنه ظل غارقًا في المشهد الثقافي المتغير للقدس، حيث عزف في فرق موسيقية وإذاعات، وسجل كل ما عاشه في مذكراته التي أصبحت إرثه الأعظم.

جوهرة مذكراته

كانت حياة واصف مليئة بالقصص وثقها جميعًا في المذكرات الجوهرية، وهي مخطوطات ضخمة في أربعة مجلدات. كُتبت المذكرات بدقة المؤرخ وروح الموسيقي، وتُعد كنزًا مليئًا بالطرائف والملاحظات والتأملات. تناولت تفاصيل التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية التي عاشتها القدس خلال فترات حاسمة مثل نهاية الحقبة العثمانية والحكم البريطاني.

المذكرات الجوهرية
المذكرات الجوهرية

ما يُميز مذكرات واصف هو المنظور المزدوج الذي قدمه. بصفته عضوًا في نخبة القدس، كان لديه علاقة مباشرة مع حكام المدينة وصناع القرار، ووثق حياتهم بذكاء وسخرية أحيانًا. وفي الوقت نفسه، ظل مرتبطًا عاطفيًا بشعب المدينة العاديين، فوصف أفراحهم ومعاناتهم وتقاليدهم بعمق وتعاطف. شكلت هذه المذكرات نافذة نادرة على الحياة اليومية في مجتمع متنوع.

واحدة من أهم إنجازات واصف تأتي في كتاب القدس العثمانية في المذكرات الجوهرية: الكتاب الأول من مذكرات الموسيقي، الذي يحتوي على قرص مدمج موسيقي يضم مقطوعات موسيقية من الفترة العثمانية بأداء واصف نفسه. هذه التسجيلات، المتوفرة في الأرشيف الرقمي للمكتبة الوطنية، تم نسخها من شريط مغناطيسي قديم سُجل خلال حياة واصف، وهي تعكس روح القدس العثمانية من خلال موسيقى تمثل الحياة الثقافية والاجتماعية لتلك الفترة.

لم تقتصر كتابات واصف على الموسيقى، بل شملت وصفًا حيًا للأحداث التاريخية مثل دخول الجيش البريطاني إلى القدس عام 1917 والاحتفالات بالأعياد الدينية. وصفه التفصيلي ينقل القارئ إلى تلك الأزمنة، مما يجعل تاريخ القدس يبدو حيًا ومباشرًا.

المذكرات الجوهرية
المذكرات الجوهرية

رغم كل ذلك، كان فقدان المدينة محورًا مؤلمًا في مذكراته. بعد نكبة 1948، أُجبر واصف على مغادرة القدس ليستقر في بيروت، حيث استمر في الكتابة والعزف. هذا المنفى أضاف طبقة من الحزن إلى أعماله، حيث أصبحت كلماته وسيلة للاحتفاظ بالقدس التي لم يعد بإمكانه العودة إليها.

تحتفظ المكتبة الوطنية بكتابات واصف جوهرية ضمن مجموعاتها والتي بالإمكان طلبها والوصول إليها من خلال زيارة مبنى المكتبة.