المولد النبوي: احتفال ثابت على مر السلطات

لم يكن المولد النبوي في فلسطين العثمانية، مجرد تاريخ يُسجَّل في التقويم، بل كان مناسبة تحرك المدن والقرى، وتجمع الناس على الفرح والذكر. الى جانب اكتسابه في العهد العثماني، طابعًا دينيًا وروحانيًا، كان المولد النبوي أيضًا مهرجانًا اجتماعيًا تُشارك فيه مختلف فئات المجتمع.

يصادف يوم الخميس الرابع من أيلول من هذا العام ذكرى المولد النبوي.

لم يكن المولد النبوي في فلسطين العثمانية، مجرد تاريخ يُسجَّل في التقويم، بل كان مناسبة تحرك المدن والقرى، وتجمع الناس على الفرح والذكر. الى جانب اكتسابه في العهد العثماني، طابعًا دينيًا وروحانيًا، كان المولد النبوي أيضًا مهرجانًا اجتماعيًا تُشارك فيه مختلف فئات المجتمع.

كان السلاطين العثمانيون يرون في المولد فرصة لتأكيد مكانتهم كحماة للإسلام. كانت الاحتفالات في القدس ونابلس والخليل وغزة، تبدأ بتلاوة القرآن في المساجد، يعقبها خطب عن سيرة النبي عليه السلام وصفاته. أما في الشوارع والأسواق، فقد كان المشهد مختلفًا، اذ ملأت الشوارع ألوان وزينة، وأصوات الأناشيد، وحلقات الذكر التي قادتها بالمعظم الحركة الصوفية. كانت قصائد المديح النبوي تُنشد بإيقاع يجذب الناس، اذ اجتمع حولها المارة في حلقات يرددون معها أو يكتفون بالإنصات.

كما ازدهرت الأسواق في ذلك اليوم، حيث زُيّنت الدكاكين، وتوزّعت الحلوى على الأطفال، وأعدّت العائلات أطعمة خاصة. كما كانت السلطات العثمانية تُموّل الولائم العامة لتأكيد الطابع الرسمي والاحتفالي للمناسبة. وفي القدس خصوصًا، كانت الشوارع تُضاء بالفوانيس، وتخرج المواكب بالطبول والأعلام، لتمنح الاحتفال مظهرًا عامًا يجمع بين التدين والبهجة.

ومع دخول فترة الانتداب البريطاني في أوائل القرن العشرين، استمرت التقاليد نفسها، لكن في ظل ظروف سياسية جديدة. ففي يافا والقدس، أصبح المولد أيضًا تعبيرًا عن الهوية الثقافية والوطنية، إلى جانب كونه مناسبة دينية.

وفي القدس خاصة، اتخذ الاحتفال طابعًا مهيبًا ومركزيًا. تبدأ المراسم في الحرم الشريف، حيث تُقام التلاوات والابتهالات داخل قبة الصخرة والمسجد الأقصى. تتزين الساحات بالفوانيس المعلّقة، ويُفرش المكان بالسجاد الجديد، بينما يتجمع العلماء والفقهاء لتلاوة السيرة والمديح النبوي. وكانت السلطات العثمانية تُرسل وفودًا رسمية لإظهار الرعاية والاهتمام. بعد الصلاة، تنطلق مواكب تحمل الأعلام الخضراء والطبول من أبواب الحرم، مرورًا بأزقة البلدة القديمة، حتى تصل إلى أبوابها الرئيسية مثل باب العامود. هناك، كانت الحشود تتسع، ويختلط صوت المديح الصوفي بفرح الأطفال الذين يركضون خلف المواكب، فيما يوزع التجار الحلوى في الأسواق مثل سوق القطانين وسوق العطارين.

كانت الأسر العربية ترى في هذا اليوم فرصة للتجمع العائلي والزيارة. كثيرون من القرى القريبة كانوا يأتون خصيصًا للمشاركة في أجواء القدس، معتبرين المولد لحظة للتبرك وشعورًا بالانتماء. وفي ساعات المساء، تُضاء قبة الصخرة بالأضواء الزيتية الصغيرة، في مشهد كان يوصف بالآسر، حيث يختلط بريق القبة بالأنغام الصوفية التي تتردد في أرجاء الحرم.

في المدن الأخرى مثل نابلس وغزة والخليل، كانت الطرق الصوفية تتصدر الاحتفالات. حلقات الذكر تمتد حتى الليل، وقصائد البردة تُتلى في المساجد والزوايا. أما في القرى، فكان الناس يحتفلون بطرق أبسط: إشعال القناديل، توزيع الطعام، وحكاية قصص السيرة النبوية للأطفال.

وصفت الصحف في تلك الفترة الساحات العامة وهي تغص بالناس، وكتب بعضها الآخر عن أهمية الاحتفاء بهذا اليوم، خاصة في ظل الظروف السياسية التعيسة آنذاك.

سواء في العهد العثماني أو تحت الانتداب البريطاني، ظل المولد النبوي في البلاد تجسيدا لتداخل الروحانية بالفرح الجماعي. كان مناسبة يُجدد فيها الناس حبهم للنبي، ويؤكدون من خلالها على استمرارية تقاليدهم، مهما تبدلت السلطات من فوقهم.