البوشناق في فلسطين العثمانية: بين التكيّف والمرايا المتكسّرة

لم تتخذ الهجرة البوسنية إلى فلسطين العثمانية والتي بدأت في أواخر القرن التاسع عشر،  شكلا منظما بقدر ما كانت دفعة من العائلات تبحث عن استقرار بعيد عن الحروب والاضطرابات في البلقان. وصل المهاجرون إلى ميناء حيفا، وسكنوا قرى مثل قيسارية ويافا والشيخ جراح. رحبت  الدولة العثمانية آنذاك بالمسلمين العائدين من أراضي ضاعت، ففتحت لهم أبواب القرى الزراعية ومنحتهم بعض التسهيلات، لكن ذلك الترحيب الرسمي لم يقابل دائماً بترحيب شعبي مماثل.

832 629

لم تتخذ الهجرة البوسنية إلى فلسطين العثمانية والتي بدأت في أواخر القرن التاسع عشر،  شكلا منظما بقدر ما كانت دفعة من العائلات تبحث عن استقرار بعيد عن الحروب والاضطرابات في البلقان. وصل المهاجرون إلى ميناء حيفا، وسكنوا قرى مثل قيسارية ويافا والشيخ جراح. رحبت  الدولة العثمانية آنذاك بالمسلمين العائدين من أراضي ضاعت، ففتحت لهم أبواب القرى الزراعية ومنحتهم بعض التسهيلات، لكن ذلك الترحيب الرسمي لم يقابل دائماً بترحيب شعبي مماثل.

⁨⁨الصراط⁩, 28 أيّار 1931⁩
⁨⁨الصراط⁩, 28 أيّار 1931⁩

منذ البداية، كان هناك شيء غريب في الهواء. لغة مختلفة، أسماء صعبة، ملابس غير مألوفة، وحتى الطقوس الدينية التي يُفترض أنها متشابهة، بدت مختلفة. لم يكن الأمر صراعاً، لكنه أيضاً لم يكن اندماجاً سريعاً.وجد البوشناق، الذين جاءوا بثقافتهم الأوروبية الإسلامية، أنفسهم في مجتمع ريفي، عربي، محافظ، يراقبهم بنوع من الحذر. النساء اللواتي كنّ يمشين بملابس “مفتوحة” قوبلن أحياناً بنظرات استغراب. كما تعرض الشباب الذين لا يتقنون العربية  لسوء فهم أحيانا ، وأدى الاختلاف في العادات إلى  العزلة، خصوصاً في السنوات الأولى.

⁨⁨الدفاع⁩, 24 تشرين الأوّل 1939⁩
⁨⁨الدفاع⁩, 24 تشرين الأوّل 1939⁩

لكن مع الوقت، بدأت المرايا المتكسّرة تعكس شيئاً جديداً. الأطفال هم أول من انكسر حاجز اللغة أمامهم، اذ بدأو باكتساب لهجات فلسطينية محلية. دخلوا مدارس عربية، وشاركوا في أعياد محلية، وتعلموا أسماء النباتات من الفلاحين. كانت الأمهات ما زلن يُعدن الفطائر البوسنية، لكنهنّ تعلمن تحضير المجدرة والمسخن. في السوق، ربما كان التاجر البوسني يساوم بلكنته المكسّرة، ويضحك عندما يُمازحه أحد الجيران: “صرت منا وفينا، بس بدك تتعلم اسم الكوسا صح!”

لكن التغيرات لم تكن دائما سهلة.اذ رفضت بعض العائلات الاندماج الكامل، وحرصت على تزويج أولادها من أبناء الجالية البوسنية فقط. حتى إن بعضهم سافر إلى الأناضول للبحث عن زوجة “تشبهه”. لكن هذا التمسّك بالتقاليد بدأ يتلاشى بحذر، مع تزايد التداخل في المناسبات، والحياة اليومية، والانتماء العاطفي للمكان. المآذن التي اعتادوا على شكلها في سراييفو أصبحت اليوم موجودة

في نابلس. الحدائق التي كانوا يزرعون فيها البقدونس في قيسارية أصبحت جزءاً من ذكريات الطفولة.

اليوم، لا شيء يميز احفاد البوشناق عن سائر سكان البلاد. لكن من يفتش جيداً قد يلاحظ اختلافا خفيفاً في اللهجات، أو طبقاً غير مألوف في العزائم، أو حتى اسم عائلة ينتهي بـ”بشناق” يُذكّر بتاريخ طويل من الانخراط وتبادل الثقافات.

 ينتشر أحفاد البوشناق بين جنين، وكفر مندا، وطولكرم، والقدس، ومناطق أخرى، وبعضهم في الشتات في الأردن ولبنان وسوريا. من بينهم من تابع مسيرة التأثير الثقافي، كالفنانة سوزان بشناق، أو الموسيقية العالمية سعاد بشناق، التي صنعت لنفسها اسماً على خشبات المسرح في كندا والعالم العربي.