صوت المرأة العربية في يوم المرأة العالمي

بمناسبة يوم المرأة، تلفت هذه المقالة الأنظار للجهود الجماعيّة النسائية؛ حيثُ حملن الهمّ الوطنيّ والإنسانيّ في المجتمع الفلسطيني.

المؤتمر النّسائي للسيّدات العربيّات في فلسطين، الصفحة الرئيسيّة لجريدة الدّفاع، 17 تمّوز 1947، أرشيف جرايد.

 

في يوم المرأة العالميّ، حيث يحتفي العالم بمسيرة نضال النّساء حول العالم ومساعيهن إلى تحقيق ذواتهنّ ومساواتهنّ اقتصاديّا واجتماعيًا وثقافيًا، يكثر التذكير كذلك بأن تلك المساعي لم تكتمل بعد. وبأن المسيرة ما زالت طويلة وما زالت تستدعي التضحيات والجهود النسائية الحثيثة من أجل فهم سياقاتهنّ الآخذة بالتغيّر والوضوح مع مرور العقود، ومن أجل إعادة تشكيل وبلورة أساليب النضّال وصنع التغييّر في مختلف المجتمعات الانسانيّة والثّقافيّة.

ومع ذلك، لا بدّ من أخذ بعض الوقت للتأمل بما تغيّر من حولنا فيما يخصّ مكانة النّساء وفاعليّتهنّ في المجتمع، وأن نتذكّر سويّة بعض الرائدات من النساء العربيّات اللواتي قمن بأدوارٍ لا تنسى في إنارة العقول وإثراء الثّقافة العربيّة عامّة والفلسطينيّة خاصّة. وهو ما قمنا به في يوم المرأة العالميّ من العام الماضي. (للاطلاع عليها الرجاء الضغط هنا).

ارتأينا اليوم أن نتذكّر سويّة جهودًا جماعيّة نسائية، اذ تظهر لنا الصّحف الفلسطينيّة احتفاءً امتدّ لعقود بدور النساء العربيّات والفلسطينيّات بالشّراكة والقيادة في مختلف مجالات الحياة. إذ حملن الهمّ الوطنيّ والإنسانيّ الجامع كبوصلة لعملهنّ النسويّ المبكّر. وتشهد كذلك على وجود امتدادٍ عريق للعمل النّسويّ الجماهيريّ في فلسطين.

ثروت وملك ونعيمة واميلي؛ في الميدان كان عيدهن  

في يوم الثامن من آذار، نرى العديد من الأمسيات والمعايدات التي تمطر المرأة بعيدها الخاطف، وهذا لا يعني البتة بأن كل النساء كذلك، فخيرة من النساء العربيات في الأقطار العربية كان خيارهن خيار الميدان لتحصيل حقوقهن وكذلك حقوق غيرهن وكما أيضًا حقوق بلدهن، فهن دومًا كانوا عرين العروبة الذي واجه الاستعمار وكذلك المجتمع أحيانًا.

فجمعيّة السيّدات العربيّات الفلسطينيّة التّي تأسست في القدس عام 1929 لخدمة الأيتام والمحتاجين من أبناء الشّعب الفلسطينيّ بالبداية، لم تكتف يومًا بالعمل الخيريّ الذي استمرّت بتقديمه لعقود، بل كانت شريكة في المناصرة من اجل فلسطين منذ سنوات عملها الأولى، فلم تتردّد بالمشاركة في الإضراب التاريخيّ الذي خاضه الفلسطينيّون عام 1936، وقامت بتمثيل قضيّة فلسطين في المؤتمرات النسائية العربيّة لاحقًا في لبنان عام 1937 وفي القاهرة عام 1944 وعيًا بضرورة إشراك التكتلات النسوية العربيّة خارج فلسطين بقضيّتهن الوطنيّة أيضًا.

عضوات جمعيّة السيّدات العربيّات الفلسطينيّة برفقة هدى شعراوي، 1944 فندق                    الملك داود في القدس. من كتاب “جمعيّة السّيدات العربيّات”، 1985.

 

في عام 1945، كما أفادت جريدة الدّفاع، خرجت سيّدات دمشق في مظاهرة نسائية بالكامل، يرفعن الأعلام العربيّة واللافتات، يندّدن ويرفضن عقد معاهدة مع “فرنسا” التي كانت لا تزال قواتها في سوريا في ذلك الحين.

أمّا في القدس، فحضرت أكثر من ألف وخمسمائة سيّدة فلسطينية إلى مؤتمر السّيدات العربيّات الجامع في السادس عشر من تمّوز عام 1947. تفيد مقررّات المؤتمر بأن الغاية من عقده حملت وعيًا واضحًا بامكانية تجنيد النّساء لخدمة مساعي الشعب الفلسطينيّ حينها، من موقعها كعامود للاقتصاد الفلسطينيّ – اقتصاد العائلة. أدرك منظّمو المؤتمر كما يظهر في مقررّاته وفي خطاب حرم رئيس الهيئة العربيّة العليا، أن نجاح مقاطعة البضائع الأجنبيّة أو اليهوديّة والاكتفاء الذّاتي للفلسطينيين مرهونٌ بشراكة النّساء الفلسطينيّات وتدابيرهنّ. فقد جاء في قرارات المؤتمر إقامة لجنة اقتصاديّة مثلًا، تبحث في أسعار السّلع والمنتوجات الفلسطينيّة كيلا يعلو سعرها على المنتوجات الأخرى وتبقى خيار السيدات الأوّل في التبضّع. كما جاء أيضًا إقامة معارضٍ صناعيّة سنويّا للمنسوجات العربيّة عالية الجودة وحثّ النّساء على المقاطعة من جهة، وعلى ضمّ نساء أخريات ليلتزمن بالمزيد من التعليمات التي شدّد المؤتمر عليها، ومنها أيضًا حظر بيع الأراضي.

وفي شباط 1948، قدّمت صحيفتيّ الدّفاع وفلسطين التهنئة، وأثنت على عمل “الجمعيات النسوية بيافا”، إذ قامت الأخيرة بقيادة حملة للصليب الأحمر في يوم المرأة العربيّة بهدف جمع التبرّعات والأدوات اللازمة لتجهيز المستشفى الإنكليزيّ. فطفن بأرجاء المدينة ليطرقن الأبواب والدكاكين والمصالح لتحريك الناس وتهيئة المرافق اللازمة لخدمتهم من خير بلادهم. واشتمل ذلك على الأموال والحليّ وأنواعٍ أخرى من التبرّعات كالمعدّات المطبخيّة والصحون وحتى الكبريت والسّلال.

جريدة فلسطين، 24 شباط 1948، أرشيف جرايد.
جريدة فلسطين، 24 شباط 1948، أرشيف جرايد.

لم تكتف الجمعيّات النسوية بالتوجه إلى أفراد المجتمع من القاطنين والتجار وأصحاب المصالح بل توجّهت أيضًا لجمعيّات أهليّة أخرى كجمعيّة الإحسان مثلًا، للتعاون سويّة على استكمال نواقص المشفى من أسرّة ومعدّات طبّية. نرى هنا مسؤوليّة مجتمعيّة حملتها النساء لإعانة مجتمع بأكمله بل وتحريكه من أجل خدمة نفسه، بتدابير و”شطارة”، ليست غريبة على المرأة العربيّة. وهو ما أدركته الصحيفتان، ووصفته بالتفصيل لتذكر أسماء النّساء وكلّ ما قدّمت كلّ منهنّ للحملة في ذلك اليوم؛ثروت وملك ونعيمة واميلي وغيرهن..

بالتأكيد لا يخلو الأمر من الحساسيّات الخاصّة بكل مرحلة من تشكّل حركة نسويّة ما. فكما هو الحال حول العالم، تعاملت النساء الفلسطينيّات مع محاولات من قبل جهات مختلفة لقمع أعمالهنّ أو للتأثير على حياتهنّ وحركتهن والحد من إمكانيّاتهنّ، وهو ما تشهد تلك الصحف كذلك بعناد تلك التآلفات النسائية في العودة الى مواجهة تلك الجهات ومواصلة العمل.

ففي نابلس عام 1974، اعتصمت النساء وأعلنّ الاضراب احتجاجًا على “الاعتقالات والتعذيب والمس بالإنسان” ومساندة للإضراب الذي كان قد انطلق بالفعل في رام الله واستجابة للاتحاد العام لنقابات العمّال. إذ ذكرت صحيفة الاتّحاد في الرّابع عشر من أيّار “وتحوّلت قاعة بلديّة نابلس أمس الاول (الاحد) مسرحًا لنضال النساء ضد الاحتلال، حيث تجمّع عشرات النساء من امّهات وزوجات وأخوات وبنات المعتقلين، فأعلن اضراب جلوس استمرّ حتى ساعات الظّهر” وهو ما حدث في ساحة بلديّة رام الله قبل ذلك بأسبوع أيضًا.

اعتصام نسوي ضد الاعتقالات والتعذيب، جريدة الاتحاد، 4 أيار 1974، أرشيف جرايد

 

أمّا جمعيّة السيّدات العربيّات الفلسطينيّة الّتي فقدت مقرّها عام 1948، فعادت إلى نشاطها عام 1951 برئاسة زهيّة النّشاشيبي بافتتاح مدرسة لمحو الأميّة ومشاغل للخياطة وغيرها من المشاريع الّتي استمرّت الجمعية بالقيام بها حتى استقرّت من جديد في وادي الجوز عام 1980.

من رسائل زوّار مقرّ جمعيّة السيدات العربيّات في حي المصرارة. من كتاب “جمعيّة                                             السّيدات العربيّات”، 1985

شواهد بسيطة ومحطّات صعبة، قد يراها البعض كحوادث عينيّة لا تقول الكثير بالضرورة. لكنّها شكّلت في حينها بذور للعمل النسوي المستقل والمشتبك مع كافة قضايا المجتمع الذي هو فيه. عملٌ ما زال قيد المحاولة والعناد والمواصلة في يومنا. تقدنه نساء أخريات، قد نعرف بعضهنّ، ومعظمهنّ جنديّات مخفيّات يقمن بما قمن به ثروت وملك ونعيمة وأكثر..

عين على العرب في صحيفة العرب- البحرين

تتناول سلسلة رسائل العرب مقالات من الصحافة العربية والتي هدفت إلى التعريف بالمدن والأقطار العربية، وفي هذه الجزئية نتناول مقال صحيفة العرب، التي كان على رأس تحريرها الأستاذ عجاج نويهض، والتي عملت على التعريف بالبحرين؛ من ناحية السكان والثقافة والاقتصاد

صورة مقتبسة من التقرير الإداري لحكومة البحرين عن السنوات 1942-1943، المكتبة البريطانية

الشيخ محمد بن عيسى الخليفة برفقة وفد يرأسه مستشار الحكومة البريطانية دوق ديلريمبل بيلغراف، صورة مقتبسة من التقرير الإداري لحكومة البحرين عن السنوات 1942-1943، المكتبة البريطانية

في افتتاحية عددها الثالث الصادر بتاريخ 10 أيلول 1932، تقف صحيفة العرب ورئيس تحريرها الأستاذ عجاج نويهض عند الأحداث التي تعصف في العالمين؛ العربي والإسلامي، فتُسلّط الضوء على ما يجري لعلها تعمل على إيقاظ الشعوب المستعمَرة لما يجري من حولها من أحداث ترسم حاضر المنطقة ومستقبلها. فنرى تحية الصحيفة للزعيم السوري إبراهيم هنانو وأمانيها له بالشفاء العاجل، بعدما تعرّض لمحاولة اغتيال آثمة كادت أن تلقيه حتفه، قد غطّت ترويسة الصحيفة وأخبارها. أما الأمر الآخر الذي تتميز فيه الصحيفة، فهو تعريف القارئ والمطالع العربي بأقطار العالم العربي من خلال التعرّف على البقاع الجغرافية العربية وأهم صفاتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية لمحاولة فهم طبيعة الشعوب فيها، فهذه الزاوية الحيوية التي تميّزت فيها الصحيفة تعكس رغبتها الحقيقية في تغطية الشؤون الإقليمية المحيطة بالقُطر الفلسطيني. ولأهمية هذه الفقرة التي نشرتها الصحيفة قبل ما يقارب التسعين عامًا. وضعنا هدفنا في نشر سلسلة أطلقنا عليها اسم سلسلة رسائل بلاد العرب، وذلك باقتباس اسم الزاوية الصحفية التي نشرتها صحيفة العرب والتي قام فيها مراسل صحيفة العرب بزيارة المكان والكتابة حوله.  في هذه المرة اخترنا النشر حول البحرين، فما الذي قيل حولها يا ترى؟

العدد الثالث من صحيفة العرب، 10 أيلول 1932

 

البحرين جزيرة أم جزيرتان؟

“البحرين جزيرتان، الأولى وهي الكبرى عدد سكانها مع قراها لا يتجاوز مئة وثلاثين ألف نسمة، والأخرى سكانها من 90-100 ألف وموقعها من الخريطة معروف. أما سكان الاثنتين، فيكادون ينقسمون إلى قسمين اثنين في المدينتين (مدينة المنامة ومدينة المحرق)، إحداهما ترجع إلى أصل عربي في العادات واللغة مع وجود كلمات أعجمية وهندية وإنكليزية غير قليلة والثانية ترجع إلى أصل فارسي. وأما القرى في كلتا الجزيرتين، فسكانها من الشيعة، وهم البحرينيون الأصليون، حتى إنهم يعدّون كل من عداهم حتى شيوخ آل خليفة –حكام البحرين- دخلاء، لا يرضون عن أحد منهم مطلقًا، ولغتهم هي العربية، وعيشتهم قريبة من عيشة أهل البادية”.

رسالة البحرين، صحيفة العرب، العدد الثالث بتاريخ 10 أيلول 1932

الزراعة عند البحرينيين؛ زراعة تقليدية وزراعة دخيلة
“البحرينيون الأصليون هم المزارعون في كلتا الجزيرتين، والزراعة عندهم مقتصرة على النخيل، والقت الذي هو (القصفصة) غذاء الدواب ولا غذاء غيره، إلا ما يؤتى به من الخارج من حبوب على اختلافها. وفي السنوات الأخيرة، تشوق بعض الغرباء الأعيان أصحاب الأراضي لزراعة الخضار ولا تزال أنواع عديدة من الخضار مجهولة عند البحرينيين”.

مدن البحرين- المنامة والمحرق

أما سكان المدينتين، “المنامة والمحرق، فلا يعملون إلا في الغوص، ويترفعون عما سواه من زراعة وتجارة، والغوص في العامين الأخيرين أصبح تجارة بائرة (لا نفع منها) وقد أفلس كثيرون ممن كانوا من أصحاب الثروات الطائلة. والذين يملكون معاشهم بسبب نقد أقل من السبع أو الثُمن من مجموع السكان، وإذا كانت الزراعة بأيدي البحرينيين الشيعة فإن التجارة في أيدي الأعاجم من فرس وهنود، والصناعة كذلك ما دام أخونا العربي يعدّ نفسه فوق أن يصنع وأعلى من أن يتاجر”.

مشاكل البحرين؛ الأمية والترفع عن الصناعة والتجارة

بناءً على كلام المراسل آنذاك “الأمية عامة شاملة والقراءة والكتابة منحصرتان في اثنين أو ثلاثة بالمئة من مجموع السكان، وربما كانتا في الألف، على أنهما في حكم المعدوم ولا أراني مبالغًا إذا قلت أنه لا يوجد في سكان البحرين إلا قليل من الرجال الذين يعتادون المطالعة، وأحد شيوخ آل خليفة هو الأديب الأوحد في البحرين وعمره قريب من الثمانين واسمه الشيخ إبراهيم بن محمد وولداه، وهؤلاء الثلاثة هم الذين يقرأون الصحف وقد سمعتُ أن صحفًا كثيرة ترد لآخرين من الشيوخ لكنهم لا يقرأونها إلا قليلًا، اللهم إلا أخا الحاكم الشيخ محمد ابن عيسى ولم أسمع بواحد من غير هؤلاء يدمن المطالعة”.

قارب لصيد اللؤلؤ، صورة مقتبسة من التقرير الإداري لحكومة البحرين عن السنوات 1926-1937، المكتبة البريطانية.

للبحرين تاريخ طويل وباع طويل في الصيد وخاصة صيد اللؤلو، وهذا جعلها مطمع للكثير من المناطق المجاورة والبعيدة؛ من الفرس وحتى الإنكليز، وهذا ما جعلها مسرح للعديد من اتفاقيات الحماية والاستعمار. في جرايد– أرشيف الصحف العربية من فلسطين العثمانية والانتدابية، هنالك العديد من الأخبار والعناوين التي تشرح الكثير حول البحرين وكيف كانت النظرة حولها؛ سواء نظرة الصحافة العربية أو تحليل الصحافة العربية لنظرة الاستعمار حول هذه البقعة من العالم العربي. لتصفح أخبار البحرين التاريخية بالصحافة الفلسطينية، اضغطوا هنا

يرجى التدخين: عبد الغني النابلسي وجدل التبغ العثماني

الدفاع المستميت لمفكّري القرن السابع عشر المسلمين عن التدخين يسلّط الضوء على ارتباط العادة بالحداثة وبمفهوم الترفيه.

رجل يدخّن نارجيلة من القدس، 1875، التقطت بعدسة المصوّر الإنجليزي فرانك ميسون غود (1839-1928)، من مجموعة المكتبة الوطنية الإسرائيلية

رجل يدخّن نارجيلة من القدس، 1875، التقطت بعدسة المصوّر الإنجليزي فرانك ميسون غود (1839-1928)، من مجموعة المكتبة الوطنية الإسرائيلية

الشرق الأوسط عاشق للسجائر. حتى مع انخفاض استهلاك التبغ عالميًا، لا يزال التدخين رائجًا في بيروت والقاهرة، والرياض- وفي تل أبيب أيضًا، بل وتشهد بعض البلدان ارتفاعًا في معدّلات التدخين. يشير تقرير صدر مؤخّرًا  إلى أنّ الأردن هي من البلدان الأكثر استهلاكًا للتبغ في العالم: أكثر من %80 من الرجال الأردنيين هم مدخنون منتظمون، بمعدّل 23 سيجارة في اليوم.

في مديح التدخين وذم والمُدخنين

مع أنّ التبغ يبدو جزءًا من النسيج الحياتي اليومي للمنطقة في عصرنا الحالي، إلّا أنّه لم يكن دومًا كذلك. عندما أدخل التبغ، القادم من الشعوب الأصلانية في العالم الجديد، لأول مرة إلى الإمبراطورية العثمانية في منتصف القرن السادس عشر، أثار الأمر جدلًا حادًا. هل التبغ مفيد أم مضر؟ هل التدخين مباح في الإسلام، أم يجب تحريمه؟

العديد من الواعظين، القادة الدينيين والمسؤوليين الحكوميين خاضوا هذا الجدل. ولكن أحد أبرز الأصوات في حينه كان عبد الغني النابلسي، شخصية فريدة، ومفكّر وفقيه صوفي ذو نفوذ قوي. كتب النابلسي أطروحة في مديح التدخين، الصلح بين الإخوان في حكم إباحة الدخان، والمخطوطة المأخوذة عن النسخة المدوّنة بخط يد المؤلّف نفسه، والتي تعود إلى العام 1774، هي واحدة من أعمال النابلسي العديدة الموجودة في المكتبة الوطنية الإسرائيلية. كيف أمكن لهذا الصوفي المتنسّك أن يكون أحد أبرز المدافعين عن التبغ؟

الصفحة الافتتاحية لأطروحة عبد الغني النابلسي، 1682، في مديح التدخين، الصلح بين الإخوان في حكم إباحة الدخان، من مجموعات المكتبة الوطنية الإسرائيلية.

اقرأ/ي أيضًا: مؤلفات وكتب الشيخ عبد الغني النابلسي، فتاوى وقصائد، وعلم الأنساب

عندما أُحضر التبغ إلى الشرق الأوسط لأول مرة عن طريق أوروبا، اعتبر في حينه علاجًا طبيًا مبتكرًا لجميع العلل، ابتداءً من الحروق وحتى التسمّم. ولكن بحلول العقد الأول من القرن السابع عشر، مع ازدياد استهلاك النساء والرجال للتدخين الترفيهي، ازداد الاعتراض على هذه العادة.  إحدى المعضلات بخصوص التبغ، من منظور ديني، كانت عدم وروده في القرآن، في الأحاديث النبوية الشريفة وفي قوانين الشريعة الإسلامية، لكونه منتجًا جديدًا.

أمام هذا الصمت، تعالت أصوات عديدة معارضة لاستهلاك التبغ. بإسناد حججهم إلى القياس، وهي طريقة شائعة في أصول الفقه الإسلامي، ادعى هؤلاء أنّه يمكن مقارنة التبغ بمادة محرّمة أخرى، وهي الخمور. ادّعى النقاد أنّ للتبغ آثار “مُسكرة” مماثلة، كالدَوار الذي يصيب المدخنين الجدد مثلًا.

الاستراحة والتدخين عند كشك على قارعة الطريق بجوار القدس، التقطت الصورة بعدسة المصوّر الإنجليزي فرانك ميسون غود (1839-1928)، من مجموعات المكتبة الوطنية الإسرائيلية

بالإضافة إلى الحجج الدينية، ادّعى النقاد أنّ التبغ مضرّ بالصحة: إذ أنّه يُضعف الجسم، يسبب رائحة كريهة ويؤدي إلى تبلّد الحواس. كان المدخّنون أيضًا قذرين، وتغطت ملابسهم بالرماد والبقع.  بالإضافة إلى ذلك، فإنّ هذا التلوّث الجسدي، كما سماه البعض، كان مصحوبًا بنجاسة أخلاقية أشدّ وطأة. بالنسبة لهؤلاء، كان التدخين يسبّب الخمول، واعتُبر بمثابة بدعة محفوفة بالمخاطر بطبيعتها.

 

كتب جيمس غريهان في مقالة له عن الموضوع: في التصوّرات الأكثر ترهيبًا، فإنّ الدخان والنار المرافقين لإشعال الغليون، يستحضران في أذهاننا نار الجحيم واللعنة الأبدية. حذّر النقاد من أنّ المدخنين سيظهرون في يوم القيامة بوجوه مسوّدة، ونراجيل تحيط بأعناقهم، حتى ذلك الحين، سيحترقون في قبورهم، تمامًا مثل التبغ الذي يدّخنونه.”

الاعتراض على استهلاك التبغ لم يقتصر على أوساط المفكرين والمثقّفين. فقد حاولت السلطات العثمانية مرارًا وتكرارًا حظر ومصادرة التبغ. ومع أنّ محاولاتها تلك باءت بالفشل، إلّا أنّ هذه الإجراءات الصارمة كانت مصحوبة بمحاولات وحشية ودامية لإنفاذ القوانين.

 

النابلسي، انتاج غزير وعشقٌ للسيجارة

لم يكن النابلسي في بداية الأمر شغوفًا بالتدخين. ولدَ النابلسي في دمشق في عام 1641 لعائلة من أصول مقدسية، وكان فقيهًا صوفيًا متنسكًا وكاتبًا غزير الإنتاج، فقد ألّف أكثر من 250 عملًا. لكثرة اهتماماته ومجالاته المعرفية، كتب النابلسي شروحًا لكتب علماء صوفيين سابقين، خاصة ابن عربي الذي عاش في القرن الثالث عشر، بالإضافة إلى شروح الشعر، قصص الرحلات، كتب الفن المعماري والزراعة وكتب القانون. خلال حياته، ولمدّة تزيد عن قرن بعد وفاته، بقي النابلسي شخصية مؤثّرة ومهمّة، من خلال كتاباته والحلقات الواسعة التي جمعت العديد من تلامذته. لا عجب إذًا أن تضم المكتبة الوطنية مخطوطات لستة وعشرين عملًا من أعماله، بالإضافة إلى العديد من الأعمال الأخرى التي نسخها بنفسه أو امتلكها.

مخطوطة لكتاب عبد الغني النابلسي من أواخر القرن التاسع عشر ” الملاحة في علم الفلاحة “، مجموعات المكتبة الوطنية الإسرائيلية

دافع النابلسي عن التدخين ضد مهاجميه على عدة جبهات، ومع أنّه لم يبدأ بالتدخين إلّا خلال سفراته إلى مكة بعد نحو عقد من الزمن، إلّا أنّ حججه كانت قوية ومتينة عندما ألّف الكتاب في عام 1682.

فيما يخص الصحة، أنكر النابلسي وجود علاقة بين التدخين والمرض، وادّعى أنّ الأطباء الذين وصفوا التبغ كعلاج يعرفون عملهم أكثر من النقاد عديمي الخبرة في الطب.

في الواقع، يفتتح النابلسي كتابه هذا بمثل هذه الحجج الطبية. في السطور الأولى، يحمد النابلسي الله على أنّ التبغ مفيد للجسم: “الحمد لله الذي جعل استعمال الدخان التتن نافعا لتجفيفه للرطوبات الزائدة في الأجسام، ومحللا لما تكاثف في الصدر من لزوجة البلغم ومهضما من المعدة ثقل الطعام…”. “بالإضافة إلى ذلك، فإنّ فاعليته ضد السموم أثبتت في الأدبيات الطبية”، يضيف في كتابه، “خصوصا سم العقرب”.

ما وراء الدخان يظهر سؤال الحداثة

ولكن حججه المثيرة للاهتمام تتناول مكانة التبغ في الشريعة الإسلامية. فاحتج على مزاعم القائلين إنّ التبغ هو “بدعة”، معلّلًا أنّهم مضلّلين بالأحكام المسبقة، الجهل والتعصب الأعمى.  كتب النابلسي أنّ قراره بكتابة الأطروحة لم يكن نابعًا من حبّه للتدخين أو من رغبته المجرّدة في المشاركة في الجدل الدائر حول التبغ، بل لاكتشاف الحقيقة حول هذا الموضوع. يرفض استخدام القياس من قبل معارضي استهلاك التبغ، وقال إنّه بغياب نص دينيّ يحظر استهلاك هذه المادة، فإنّها يجب أن تكون مباحة. مع أنّ السياق هنا يُعنى فقط بإباحة التدخين، إلّا أنّ التمييز بين الحقيقة والقانون، وبين العلماء الصوفيين الأجلّاء الذي يولون اهتمامًا للحقيقة وعلماء القانون الذين يولون اهتمامهم للقانون، هو موضوع مركزي ومتكرر في فكر النابلسي.

إذا نظرنا إلى جوهر الأمور، يمكننا القول إنّ حجج النابلسي توازي الدفاع عن قيمة مألوفة لنا جميعًا، ولكنها كانت في حينه فكرة جديدة وراديكالية: المتعة. بإتاحة المجال للتدخين، اقترح النابلسي وجوب منح حيز أكبر للحياة الشخصية وللمتعة الشخصية، طالما لم تتجاوز بوضوح قيود الشريعة الإسلامية.

إلى حد كبير، كان النابلسي يتتبّع أعقاب التغييرات الاجتماعية الحاصلة في حينه. لاقى التبغ، كالقهوة من قبله، رواجًا واسعًا لأنّه كان مرتبطًا بالأنس والمخالطة، وشجّع على تبادل الأحاديث وطمس الحدود الاجتماعية، خاصةً في المقاهي التي شكلّت ملتقى لأبناء الطبقات الاجتماعية المختلفة، حيث أمكنهم الاسترخاء وتبادل الأحاديث، وكان التبغ والمشروبات بمثابة وقود تبعث الحياة في هذه اللقاءات. في تأليفه لكتابه هذا عند منعطف الحداثة، فإنّ النابلسي لم يدافع عن التدخين فحسب، بل عن مفهوم ممارسة الحداثة نفسها.

تاريخ تحت جُنح الظلام وسياسة على ضوء الشموع

هل تعلمون كيف كانت عملية الإضاءة قبل عصر الإضاءة الصناعيّة، وما هي المراحل التي مررنا بها حتى وصلنا إلى الضوء الكهربائي، هذه المقالة توضح بعض التساؤلات التي من الممكن أن تثيرالاهتمام.

 

فيما يلي ترجمة بتصرف خاصة بموقع مدونة “أمناء المكتبة” لمقال الكاتب أفنير فيشنيتسر- ورشة التاريخ الاجتماعي . للاطلاع على المقالة باللغة العبرية الرجاء الضغط هنا. 

حظي النصف المظلم من تاريخ البشريّة باهتمام أقلّ بكثير ممّا حظي به ضوء النهار. ومع ذلك، يبيّن تاريخ الليل أنّ الظلام قد أثّر في السيرورات التاريخيّة بطرق مختلفة، وأحيانًا غير متوقّعة.

ندخل الغرفة ونضغط على الزرّ، فيسطع الضوء. لقد أصبحنا منذ فترة طويلة مكفوفين في الليل ونعتمد تمامًا على الضوء الاصطناعيّ الذي يأتي إلينا وكأنّه يأتي من تلقاء نفسه، من دون الحاجة إلى إشغال أنفسنا بطريقة إنتاجه أو الثمن البيئيّ الذي يجبيه منّا. تكون مصادر الإضاءة إمّا غائرة أو مبعثرة ويتمّ إخفاء الكوابل داخل الجدران. كذلك علاقات القوّة التي تنظّم إنتاج الطاقة، بدءًا من القرارات المتعلّقة بمواقع محطّات توليد الطاقة، مرورًا بأنواع الوقود وانتهاءً بنشر خطوط الكهرباء للإنارة، تبقى مخفيّة عن الأنظار. هذه تظهر في الوعي فقط في سياقات معيّنة، كما هو الحال في النضال الجماهيريّ ضدّ انبعاثات الملوّثات من محطّات توليد الطاقة، أو عندما يتصدّر “الظلام” في قطاع غزّة العناوين الرئيسيّة.

يسهم الضوء الناتج عن هذه الشبكات أيضًا في التقليل من حجم الأبعاد السياسيّة للإضاءة. ينبعث إلى الخارج. وفيرًا رخيصًا، فاقدًا للتمّيز، شفّافًا وموحّدًا. يُستخدَم الضوء الكهربائيّ لإنارة مناطق ممتدّة حتى نتمكّن من الخروج من المنزل المضاء والوصول إلى الجانب الآخر من المدينة من دون التعرّض لأيّ ظلام حقيقيّ. في معظم المراكز المدينيّة حول العالم، دفع الإفراط في الإضاءة إلى ظهور الظلام وإلى الانقراض تقريبًا (وليس الجميع يرحبّون بهذا).

قبل عصر الإضاءة الصناعيّة كان الوضع عكس ذلك: إذ ظلّ الظلام سائدًا من دون عوائق وكان الضوء الصناعيّ قليلًا وذا قيمة عالية. ومع ذلك، فإنّ الفرق لم يتلخّص في هذا فحسب. فعندما نفكّر في الليالي ما قبل عصر الحداثة، علينا ألّا نعكس إلى الوراء الضوء القياسيّ للكهرباء. لم يكن الضوء في مطلع العصر الحديث بمثابة “القليل من الشيء نفسه”. لم يكن مقدار الضوء مختلفًا فحسب، بل أيضًا خصائصه وعالم المعاني المرتبطة به. الاختلافات بين “أنواع الضوء” والفجوات في مناليّة الضوء بين المجموعات المختلفة هي التي جعلت الضوء مؤشّرًا واضحًا على القوّة الاقتصاديّة والسياسيّة.

مجسم لفانوس إضاءة. كان على كل شخص أن يحمل فانوسًا عند تحركه في الظلام بعد صلاة العشاء. صورة تعود إلى ألبرت سميث، 1850.

تجسّد السطور التي كتبها الشاعر سيّد وهبي هذا الأمر بشكل جيّد، حيث إنّها تتضمّن القيمة الماديّة والعاطفيّة وحتى السياسيّة لضوء الشموع. على المستوى العاطفيّ، يتلاعب الشاعر بالتعبير السائد بالتركيّة “الدعوة مع شمعة” (mumla okumak)  بمعنى أنّ في الدعوة نيّة خالصة، مع الرغبة في مقابلة الشخص (الأشخاص) المدعوّين.

يعود أصل التعبير إلى العادة العثمانيّة المتمثّلة في دعوة الضيوف لحضور الأحداث الليليّة (حفلات في دوائر النخبة أو حفلات الزفاف) عن طريق إرسال الشموع إليهم. قبل تركيب إنارة الشوارع في مدن الشرق الأوسط (الذي بدأ في منتصف القرن التاسع عشر)، كان أيّ شخص يتجوّل في الشوارع بعد صلاة العشاء مجبرًا بموجب القانون بحمل مصباح يدويّ. وعادة ما كان مؤلَّفًا من إطار صلب ما، وُضعت فيه شمعة، محميّة بواسطة ورقة أو زجاج. على المستوى المادّيّ، إذًا، أخذ المضيف على عاتقه نفقات الإضاءة المرتبطة بالوصول إلى منزله. لكنّ اللفتة الرمزيّة لم تكن أقلّ أهمّيّة. من خلال إرسال الشمعة، وسّع المضيف ضيافته لتصل عتبات أبواب الضيوف وأظهر رغبته في إحضارهم إلى منزله.

لفهم كيفيّة ارتباط هذه الشمعة المجازيّة بسياسة السلطان أحمد الثالث (1730-1703) الذي خُصِّصت له هذه القصيدة، يجب أوّلًا أن نقول بضع كلمات عن الجانب المادّيّ لإنتاج الضوء في الإمبراطوريّة العثمانيّة في القرن الثامن عشر. كانت الشموع المصنوعة من الدهون الحيوانيّة أكثر وسائل الإضاءة انتشارًا في إسطنبول والمناطق الشماليّة من الإمبراطوريّة. تمّ إنتاجها من الدهون الحيوانيّة، وبالتالي كانت الورش تقع بالقرب من المسالخ. قام قادة نقابة صنّاع الشموع بتوزيع الموادّ الخام بين أعضاء النقابة والإشراف على إنتاج الشموع وجودتها. غالبًا ما تسبّبت الأوبئة الحيوانية والفيضانات والتمرّدات في إلحاق أضرار بالقطعان أو القدرة على نقلها إلى العاصمة، ولهذه الأسباب حدث نقص في الشموع أحيانًا.

نظرًا لأنّ الشموع كانت تٌعتبَر منتجًا أساسيًّا يجب أن يكون متاحًا لجميع فئات السكان، فقد شغلت مشاكل توفيرها أعلى المستويات في الإمبراطوريّة. يحتفظ الأرشيف العثمانيّ في إسطنبول بتعليمات من بعض السلاطين من النصف الثاني من القرن الماضي للإسراع في توصيل الشموع والدهون الحيوانيّة من الولايات، لضمان التوزيع العادل للشموع لمختلف الأحياء وتطبيق الحظر المفروض على تصدير مواد الإضاءة، كلّ هذا “من أجل الرعايا”، حسب نصّ الأوامر. في حالات النقص الحادّ (على سبيل المثال في 1817-1818) تمّ تحديد حصص.

مآدبة الإفطار تمت إضاءتها بشمع العسل في أحد القصور نهاية القرن الثامن عشر. من أرشيف Coşkun Yilmaz Archive.

إلّا إنّ حقيقة أنّ جميع الرعايا تمتّعوا بتوفّر الشموع لا تعني أنّ الجميع تمتّعوا بالضوء بكمّيّة أو جودة متساوية. أنتجَت شموع الدهون الحيوانيّة ضوءًا ضعيفًا جدًّا، وبالتأكيد مقارنة بالكهرباء، ولكن حتّى مقارنة بشموع البارافين التي نعرفها اليوم: 48 شمعة عاديّة مصنوعة من الدهون الحيوانيّة، وفّرت ضوءًا أضعف من ضوء مصباح واحد بقدرة 60 واط. في مطلع القرن التاسع عشر، كان على عامل البناء البسيط تكريس يومَيّ عمل تقريبًا لشراء هذه الكمّيّة. انبعثت من الشموع المصنوعة من الدهون الحيوانيّة رائحة كريهة، كما أنّها كانت بحاجة وتحتاج إلى معالجة مستمرّة. يجب قطع الفتيل المحترق مرّة واحدة على الأقل كلّ 15 دقيقة، وإلا فإنّ الشمعة ستحترق بشكل غير متجانس، ممّا يتسبّب في انبعاث دخان منها، فقدانها لشدّة الضوء المنبعث منها والتسبّب في سيلان الكثير من الدهون إلى أسفل الشمعة وبذلك يذهب هباءً. لذلك فإنّ الشمعة التي لم تتمّ صيانتها بطريقة سليمة، ستنفق نصف ساعة بدلًا من أربع ساعات وتهدر ما يقارب 95 ٪ من الدهون. احتاجت إضاءة الغرفة التي تطلّبت عددًا كبيرًا من الشموع صيانة مستمرّة، الأمر الذي فاق قدرة الناس العاديّين.

تمكّنت العائلات المقتدِرة ماديًا في الإمبراطوريّة العثمانيّة من شراء كمّيّات كبيرة من الشموع، وشغّلت خدمًا خاصّين تتمثّل مهمّتهم الأساسيّة في صيانة الشموع. وعلاوة على ذلك، لم يكتفوا بالضوء الخافت للشموع المصنوعة من الدهون الحيوانيّة، بل إنّهم اشتروا من أجل إنارة غرف الضيافة في قصورهم شموعًا مصنوعة من شمع النحل التي أنتجت ضوءًا أقوى وأكثر وضوحًا، لم تُطلق رائحة كريهة وتحتاج إلى صيانة أقلّ بكثير. كان سعرها في أوائل القرن التاسع عشر ثلاثة أضعاف سعر شموع الدهون الحيوانيّة. وعليه، لم يكن لبسطاء الرعايا سوى أن يحلموا الشموع المصنوعة من شمع النحل وهم يجلسون في غرفهم المضاءة بضوء خافت.

عرض للألعاب النارية في مهرجان أقيم على شرف ختان أبناء السلطان أحمد الثالث 1720. النور والقوة والنور كقوة الصورة: من كتاب مهرجانات الوهبي ، الشهرة وهبي ، رسم عبد الجليل ليفني ، 1720

في ظلّ هذه الظروف، عندما كانت الإضاءة الداخليّة تمثّل أيضًا تحدّيًا ماديًّا، كانت إضاءة الشوارع أشبه بالمستحيل. اقتصرت الإضاءة الخارجيّة على مواقع محدّدة، خاصّة حول قصور الشخصيّات البارزة في الإمبراطوريّة (التي حولها) والمساجد. اقتصرت الإضاءة على أوقات معيّنة، وخاصة الأعياد الدينيّة والأعياد المرتبطة بسلالة السلطنة، مثل ميلاد أمير أو أميرة أو نصر عسكريّ هامّ. على خلفيّة الروتين المظلم، من السهل تخيّل الأثر الاحتفاليّ لآلاف الشموع والمصابيح، في رمضان على سبيل المثال. بالنسبة إلى الناس العاديّين، كان ذلك أحد المظاهر الخالصة لـ “أجواء العيد”، لكن في الوقت نفسه، كان دليلًا على التزام الحكومة بدعم هذه الأجواء وبالتالي، أداة لترسيخ شرعيّة الحكم.

في هذا السياق يمكننا فهم “حفلات المصابيح” التي نظّمها كبار الإمبراطوريّة خاصّة في عشرينيّات القرن الـ 18، وهي الفترة التي أُطلق عليها لقب “حقبة التوليب” بسبب مركزيّة هذه الأزهار في ثقافة تلك الفترة. مع قدوم الربيع، حيث تُزهر أزهار التوليب في إسطنبول، استضاف كبار الإمبراطوريّة السلطان في حدائقهم في ساعات المساء. آلاف الشموع، الشمعدانات والمرايا وُضعت بين أحواض التوليب، وأكملت الموسيقى والبخور هذه المتعة الحسّيّة الشاملة.

الوزير الأكبر ابراهيم داماد باشا. لوحة رسمها جان بابتيست فان مور، حوالي 1730-1727 ميلادي.

 

مع ذلك، من الواضح أنّ هذه الحفلات كانت أكثر من مجرّد طريقة نخبويّة للترفيه الليليّ. مثل عروض الأضواء التي نُظّمت في البلاط في عدد من الأماكن الأوروبيّة في ذلك الوقت، تمّ استخدام الإضاءة الباهظة لاستعراض قوّة الحكم على المستوى الأكثر حرفيًّا. لم يكن الضوء كيانًا عامًّا و “شفّافًا” بل كان محور الحدث. تمّ تنظيمه لجذب الانتباه إلى نفسه، وفي النهاية إلى القوّة التي سمحت بتركيزه وتنظيمه. ومع ذلك، كان في نهاية المطاف استعراضًا محدودًا من حيث الزمان والمكان، وبالتالي محدودًا في نجاعته كتجسيد لقوّة الحكم. لقد عمل شعراء البلاط هنا كذراع لـ “الدعاية” التي كان هدفها في هذا السياق تضخيم الضوء ونشره بين أولئك الذين لم يشاهدوه، ومَنح الاستعراض حياةً أطول. كتب الوالي عزّت علي باشا، الذي كان شاعرًا مشهورًا أيضًا، “التوليب يزيّن فناء الفوانيس بنسيج ملوّن/ ويزين هذا الحفل الملكيّ، الليلة/ عندما تضيء كلّ شمعة مثل ضوء النهار/ من ينظر أبدًا إلى وجه القمر المضيء؟”

انعكست الفجوات في التطرّق إلى الضوء الاصطناعيّ في نهاية المطاف على هوامش التمرّد الذي اندلع في عام 1730 ضدّ القصر، وأسفر إلى الإطاحة بالسلطان أحمد الثالث، وهو السلطان نفسه الذي كتب على شرفه سيّد وهبي وعزّت باشا. كانت للتمرّد أسباب كثيرة، لكن لا شكّ أنّ حياة البذخ في القصر كانت عاملًا رئيسيًّا في الغضب الذي احتقن في الشوارع. حاصر المتمرّدون الذين كان معظمهم من الطبقات الدنيا في المجتمع المدنيّ، القصر وطالبوا بإعدام الوزير الأكبر واثنين آخرَين من كبار المسؤولين الذين ارتبطت أسماؤهم بعدد من الإخفاقات وبحفلات الشموع التي ورد ذكرها هنا. عندما استلم المتمرّدون جثّة الوزير الأكبر، كدليل على أنّ السلطان استجاب لمطالبهم، غرسوا شموعًا في عينيه وهتفوا – وفقًا لشهادة أحد المؤرّخين – “إذا كنتَ تريد حفلة شموع، فافعلها هكذا!” من خلال هذه اللفتة الوحشيّة، أظهر المتمرّدون أنّهم يفهمون جيّدًا لغة “الضوء كقوّة” التي استخدمتها الحكومة، إلّا أنّ استخدامهم لها قلب منطقها على رأس الوزير الأكبر.

على الرغم من النجاح المبدئيّ، لم يغيّر التمرّد بشكل جوهريّ البنية الاجتماعيّة، ولا الفجوات في الوصول إلى الضوء الاصطناعيّ. هذه الفجوات، وكذلك المظاهر الباهظة للضوء التي جعلت هذه الفجوات سياسيّة بشكل واضح، كانت مشتركة للعثمانيّين وجيرانهم في الغرب. ومع ذلك، فإنّ الواقع الليليّ خارج بلاط الحكم في أوروبا بدأ يتغيّر في العقود الأخيرة من القرن السابع عشر. كان أحد الأسباب الرئيسيّة لذلك هو بداية تركيب شبكات الإضاءة المدينيّة التي كانت تغذّيها دهون الحيتان. زوّدت هذه الدهون، التي كانت المنتج الرئيسيّ لصيد الحيتان الواسع الانتشار في تلك الحقبة، أوروبا بموادّ إنارة عالية الجودة نسبيًّا وبكمّيّات ضخمة وبتكلفة منخفضة. وصلت الإضاءة العموميّة إلى الشرق الأوسط فقط في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، عندما خفض الغاز والنفط تكاليف الإضاءة بشكل كبير. بالطبع لم يمحُ الوقود الرخيص الاختلافات الاجتماعيّة، لكنّ جعْل الضوء متوفّرًا بشكل أكبر، أدّى إلى تقليص فعّاليّته كرمز للقوّة.