المؤتمر النّسائي للسيّدات العربيّات في فلسطين، الصفحة الرئيسيّة لجريدة الدّفاع، 17 تمّوز 1947، أرشيف جرايد.
في يوم المرأة العالميّ، حيث يحتفي العالم بمسيرة نضال النّساء حول العالم ومساعيهن إلى تحقيق ذواتهنّ ومساواتهنّ اقتصاديّا واجتماعيًا وثقافيًا، يكثر التذكير كذلك بأن تلك المساعي لم تكتمل بعد. وبأن المسيرة ما زالت طويلة وما زالت تستدعي التضحيات والجهود النسائية الحثيثة من أجل فهم سياقاتهنّ الآخذة بالتغيّر والوضوح مع مرور العقود، ومن أجل إعادة تشكيل وبلورة أساليب النضّال وصنع التغييّر في مختلف المجتمعات الانسانيّة والثّقافيّة.
ومع ذلك، لا بدّ من أخذ بعض الوقت للتأمل بما تغيّر من حولنا فيما يخصّ مكانة النّساء وفاعليّتهنّ في المجتمع، وأن نتذكّر سويّة بعض الرائدات من النساء العربيّات اللواتي قمن بأدوارٍ لا تنسى في إنارة العقول وإثراء الثّقافة العربيّة عامّة والفلسطينيّة خاصّة. وهو ما قمنا به في يوم المرأة العالميّ من العام الماضي. (للاطلاع عليها الرجاء الضغط هنا).
ارتأينا اليوم أن نتذكّر سويّة جهودًا جماعيّة نسائية، اذ تظهر لنا الصّحف الفلسطينيّة احتفاءً امتدّ لعقود بدور النساء العربيّات والفلسطينيّات بالشّراكة والقيادة في مختلف مجالات الحياة. إذ حملن الهمّ الوطنيّ والإنسانيّ الجامع كبوصلة لعملهنّ النسويّ المبكّر. وتشهد كذلك على وجود امتدادٍ عريق للعمل النّسويّ الجماهيريّ في فلسطين.
ثروت وملك ونعيمة واميلي؛ في الميدان كان عيدهن
في يوم الثامن من آذار، نرى العديد من الأمسيات والمعايدات التي تمطر المرأة بعيدها الخاطف، وهذا لا يعني البتة بأن كل النساء كذلك، فخيرة من النساء العربيات في الأقطار العربية كان خيارهن خيار الميدان لتحصيل حقوقهن وكذلك حقوق غيرهن وكما أيضًا حقوق بلدهن، فهن دومًا كانوا عرين العروبة الذي واجه الاستعمار وكذلك المجتمع أحيانًا.
فجمعيّة السيّدات العربيّات الفلسطينيّة التّي تأسست في القدس عام 1929 لخدمة الأيتام والمحتاجين من أبناء الشّعب الفلسطينيّ بالبداية، لم تكتف يومًا بالعمل الخيريّ الذي استمرّت بتقديمه لعقود، بل كانت شريكة في المناصرة من اجل فلسطين منذ سنوات عملها الأولى، فلم تتردّد بالمشاركة في الإضراب التاريخيّ الذي خاضه الفلسطينيّون عام 1936، وقامت بتمثيل قضيّة فلسطين في المؤتمرات النسائية العربيّة لاحقًا في لبنان عام 1937 وفي القاهرة عام 1944 وعيًا بضرورة إشراك التكتلات النسوية العربيّة خارج فلسطين بقضيّتهن الوطنيّة أيضًا.

في عام 1945، كما أفادت جريدة الدّفاع، خرجت سيّدات دمشق في مظاهرة نسائية بالكامل، يرفعن الأعلام العربيّة واللافتات، يندّدن ويرفضن عقد معاهدة مع “فرنسا” التي كانت لا تزال قواتها في سوريا في ذلك الحين.
أمّا في القدس، فحضرت أكثر من ألف وخمسمائة سيّدة فلسطينية إلى مؤتمر السّيدات العربيّات الجامع في السادس عشر من تمّوز عام 1947. تفيد مقررّات المؤتمر بأن الغاية من عقده حملت وعيًا واضحًا بامكانية تجنيد النّساء لخدمة مساعي الشعب الفلسطينيّ حينها، من موقعها كعامود للاقتصاد الفلسطينيّ – اقتصاد العائلة. أدرك منظّمو المؤتمر كما يظهر في مقررّاته وفي خطاب حرم رئيس الهيئة العربيّة العليا، أن نجاح مقاطعة البضائع الأجنبيّة أو اليهوديّة والاكتفاء الذّاتي للفلسطينيين مرهونٌ بشراكة النّساء الفلسطينيّات وتدابيرهنّ. فقد جاء في قرارات المؤتمر إقامة لجنة اقتصاديّة مثلًا، تبحث في أسعار السّلع والمنتوجات الفلسطينيّة كيلا يعلو سعرها على المنتوجات الأخرى وتبقى خيار السيدات الأوّل في التبضّع. كما جاء أيضًا إقامة معارضٍ صناعيّة سنويّا للمنسوجات العربيّة عالية الجودة وحثّ النّساء على المقاطعة من جهة، وعلى ضمّ نساء أخريات ليلتزمن بالمزيد من التعليمات التي شدّد المؤتمر عليها، ومنها أيضًا حظر بيع الأراضي.
وفي شباط 1948، قدّمت صحيفتيّ الدّفاع وفلسطين التهنئة، وأثنت على عمل “الجمعيات النسوية بيافا”، إذ قامت الأخيرة بقيادة حملة للصليب الأحمر في يوم المرأة العربيّة بهدف جمع التبرّعات والأدوات اللازمة لتجهيز المستشفى الإنكليزيّ. فطفن بأرجاء المدينة ليطرقن الأبواب والدكاكين والمصالح لتحريك الناس وتهيئة المرافق اللازمة لخدمتهم من خير بلادهم. واشتمل ذلك على الأموال والحليّ وأنواعٍ أخرى من التبرّعات كالمعدّات المطبخيّة والصحون وحتى الكبريت والسّلال.

لم تكتف الجمعيّات النسوية بالتوجه إلى أفراد المجتمع من القاطنين والتجار وأصحاب المصالح بل توجّهت أيضًا لجمعيّات أهليّة أخرى كجمعيّة الإحسان مثلًا، للتعاون سويّة على استكمال نواقص المشفى من أسرّة ومعدّات طبّية. نرى هنا مسؤوليّة مجتمعيّة حملتها النساء لإعانة مجتمع بأكمله بل وتحريكه من أجل خدمة نفسه، بتدابير و”شطارة”، ليست غريبة على المرأة العربيّة. وهو ما أدركته الصحيفتان، ووصفته بالتفصيل لتذكر أسماء النّساء وكلّ ما قدّمت كلّ منهنّ للحملة في ذلك اليوم؛ثروت وملك ونعيمة واميلي وغيرهن..
بالتأكيد لا يخلو الأمر من الحساسيّات الخاصّة بكل مرحلة من تشكّل حركة نسويّة ما. فكما هو الحال حول العالم، تعاملت النساء الفلسطينيّات مع محاولات من قبل جهات مختلفة لقمع أعمالهنّ أو للتأثير على حياتهنّ وحركتهن والحد من إمكانيّاتهنّ، وهو ما تشهد تلك الصحف كذلك بعناد تلك التآلفات النسائية في العودة الى مواجهة تلك الجهات ومواصلة العمل.
ففي نابلس عام 1974، اعتصمت النساء وأعلنّ الاضراب احتجاجًا على “الاعتقالات والتعذيب والمس بالإنسان” ومساندة للإضراب الذي كان قد انطلق بالفعل في رام الله واستجابة للاتحاد العام لنقابات العمّال. إذ ذكرت صحيفة الاتّحاد في الرّابع عشر من أيّار “وتحوّلت قاعة بلديّة نابلس أمس الاول (الاحد) مسرحًا لنضال النساء ضد الاحتلال، حيث تجمّع عشرات النساء من امّهات وزوجات وأخوات وبنات المعتقلين، فأعلن اضراب جلوس استمرّ حتى ساعات الظّهر” وهو ما حدث في ساحة بلديّة رام الله قبل ذلك بأسبوع أيضًا.

أمّا جمعيّة السيّدات العربيّات الفلسطينيّة الّتي فقدت مقرّها عام 1948، فعادت إلى نشاطها عام 1951 برئاسة زهيّة النّشاشيبي بافتتاح مدرسة لمحو الأميّة ومشاغل للخياطة وغيرها من المشاريع الّتي استمرّت الجمعية بالقيام بها حتى استقرّت من جديد في وادي الجوز عام 1980.

شواهد بسيطة ومحطّات صعبة، قد يراها البعض كحوادث عينيّة لا تقول الكثير بالضرورة. لكنّها شكّلت في حينها بذور للعمل النسوي المستقل والمشتبك مع كافة قضايا المجتمع الذي هو فيه. عملٌ ما زال قيد المحاولة والعناد والمواصلة في يومنا. تقدنه نساء أخريات، قد نعرف بعضهنّ، ومعظمهنّ جنديّات مخفيّات يقمن بما قمن به ثروت وملك ونعيمة وأكثر..