جولة في بيت “يهودي ثريّ” في دمشق القرن التاسع عشر

على موقع المكتبة الوطنية الاسرائيليّ بطاقة بريديّة تعود لمطلع القرن العشرين عليها صورة لبيت لنيادو في دمشق، وعلى ظهرها مسجل المكان "بيت عتيق – دمشق حارة الإسرائيليين" (بمعنى حارة اليهود).

بيت لنيادو، 1900-1930، مجموعة على اسم يوسف ومارغريث هوفمان، الجامعة العبرية في القدس، مركز دراسات الفلوكلور، المكتبة الوطنية

بيت لنيادو، 1900-1930، مجموعة على اسم يوسف ومارغريث هوفمان، الجامعة العبرية في القدس، مركز دراسات الفلوكلور، المكتبة الوطنية الاسرائيليّة.

لعل العبارة “حارة اليهود” تتردد كثيرًا في المدن والعواصم العربية الكبرى للشرق الأوسط، منها بلا شك القاهرة والقدس ودمشق. في هذه المدن العريقة بيوت يهودية جميلة وتراثية، حافظت على هويتها اليهودية من جهة وعلى ارتباطها بالثقافة المادية العربية والإسلاميّة. فبدت تلك البيوت مثل أي بيت آخر قد تجده في المدينة، الا انك حين تمعن النظر في الزخرفات الجميلة، تجد كلمة عبرية هنا، ونجمة سداسية هناك. فتعرف ان هذا البيت بني لعائلة يهودية عاشت فيه بأمان وازدهار.


طالعوا على موقع المكتبة: مدن تاريخية مصوّرة

من هذه البيوت بيت كبير وجميل في دمشق يُعرف ببيت لنيادو أو نيادو الأسطنبولي. نحن محظوظون لرؤية هذا البيت، فلحسن الحظ قام عدد من المصورين الأوروبيين الذين جابوا المنطقة خلال أواخر القرن التاسع عشر بتصوير البيت وتوثيقه. مما يتيح لنا الفرصة اليوم لرؤية جمال هذا البيت وفرادته، مع أنه ليس الوحيد من نوعه في حارة اليهود الدمشقية.

على موقع المكتبة الوطنية، يوجد بطاقة بريديّة تعود لمطلع القرن العشرين عليها صورة لبيت لنيادو في دمشق، وعلى ظهرها مسجل المكان “بيت عتيق – دمشق حارة الإسرائيليين” (بمعنى حارة اليهود).جاءت العائلة المالكة لهذا البيت بالاصل “ليفي” من القسطنطينية، وبنت هذا البيت في أواخر القرن الثامن عشر على الطراز الدمشقي الفاخر، وبقي اسم البيت منسوب إلى يومنا هذا للاسم الاسطنبولي كإشارة لعائلة ليفي، رغم أن ملاكه تغيّروا في أواخر القرن التاسع عشر.

 

بيت لنيادو، 1900-1930، مجموعة على اسم يوسف ومارغريث هوفمان، الجامعة العبرية في القدس، مركز دراسات الفلوكلور، المكتبة الوطنية.
بيت لنيادو، 1900-1930، مجموعة على اسم يوسف ومارغريث هوفمان، الجامعة العبرية في القدس، مركز دراسات الفلوكلور، المكتبة الوطنية.

 

يتكوّن البيت من طابقين وتظهر به جميع مميزّات البيت الدمشقي التقليدي والساحر، الصحن المركزي الداخلي المبلّط والذي تتوسطه نافورة للمياه وأشجار مظلّلة، الجدران، واستخدام فنّ الأبلق (تقاطع الرخام الأبيض مع الأسود) بتزيين الجدران السفليّة، كما وللواجهة الداخلية إيوان كبير ومزيّنة واجهته بأشكال النباتات الملوّنة والفسيفساء، واذا اقتربتم من الصورة جيدًا، تجدون النجمة السداسية على يمين ويسار الإيوان.


طالعوا أيضاً:
مصادر رقمية متنوّعة ومتاحة حول مدينة دمشق ضمن مجموعات المكتبة

في وسط الصحن تواجدت نافورة مياه كما هو متبّع في البيوت المبنية بهذا النمط والتي ميّزت مدينة دمشق الغنية معماريًا. إلا أن النافورة لا تظهر في هذه الصّورة لأنها مغطاة بشجرة تحجب عنها العدسة التي التقطتها. (اسم المصوّر غير وارد على البطاقة البريديّة)، إلّا أن هذه المعلومة، أي وجود النافورة، ليست أكيدة لأن هذه هي طبيعة البيوت الدمشقية مثل هذه وحسب، ولكن لأن بيت الأستانبولي كما قلنا سابقًا موثّقًا بشكل جيد بعدسة عدد من المصّورين. من هؤلاء المصوّر بونفيس الذي التقط صورًا عديدة وأكثر قربًا للبيت تجدون بعضها في هذه المقالة على مدونة التراث الدمشقي بالإضافة الى شرح اكثر توسّعًا عن الفنون والأساليب المتبعة ببناء هذا البيت وتزيينه ليظهر بهذا الشكل الساحر.

في مجموعة بن تسفي المتاحة على موقع المكتبة الوطنية كذلك نجد صورة أخرى، ليس عليها ما يدل على انها التقطت في بيت الأستانبولي بالضرورة، إلا أن من التقطها هو بونفيلس نفسه خلال زيارته لدمشق، وقد عنونت كالتالي “غرفة من داخل بيت يهودي ثريّ في دمشق”.

 

 

في الصورة نجد غرفة مبهرة، ومن شدّة العناية بتفاصيلها وبجمالها، يخيّل لنا أنها بُنيت وصُممت لا للاستخدام إنما فقط للمتعة البصريّة وكأنها متحف، إلا أننا سريعاً ما نلاحظ أن المساحات الخشبيّة المزخرفة بحرفيّة عالية على الجدران إنما هي خزائن! وإن هناك مقاعد فاخرة على أطراف الغرفة تشير إلى استخدامها للقاءات جماعيّة.

إن النجم الكبير للصورة هي النافورة الرخامية الفاخرة في وسط الغرفة، والتي تذكّرنا فورًا بـ “بهو الأسود” الشهير في قصر الحمراء في غرناطة، فالنافورة تجلس على رؤوس ستّة أسود منحوتة من الرخام أو الصخر بعناية مبهرة، دلالة ربّما على ثراء ونفوذ صاحب البيت أمام ضيوفه وزوّاره المهمّين من أقرانه الأثرياء.

لسنا متأكدين بالطبع إن كانت الصورة من داخل بيت الأستانبولي بالفعل، فجودة الصورة للأسف متدنية عما هو الحال ببقية الصور المعروفة التي التقطتها عدسة بونفيس في ذلك البيت خلال زيارته، إلا أنه من الوارد أن تكون يد بونفليس قد ارتجفت خلال التقاطها، فما رأيكم؟ هل تعرفون عن صور أخرى لهذا البيت؟

ماذا ألَمَّ بيهود ليبيا أثناء المحرقة النازية؟

أهوال المحرقة النازية كانت من نصيب يهود شمال أفريقيا أيضًا، ولكنّ قصّتهم ما زالت ملفوفة بالضبابية. إنّها قصّة هؤلاء الذين أسماهُم النازيون "شفارتسا يودن"، وأُدرِجوا في أدنى سلّم الجنس البشري، حيث يحلّق ملاك الموت.

زوجان يهوديان من ليبيا، ناجيان من معسكر بيرغن بيلسن، يضعان الشارة الصفراء، من كتاب "صور من الذاكرة"، "أور شالوم".

تُرجِم عن  يوسي سوكاري

 

تعي أعداد متزايدة من الناس أنّ أهوال المحرقة النازية لم تكن فقط من نصيب يهود أوروبا، ولكن الغالبية العظمى من الناس لا يعرفون ما ألمَّ بيهود شمال أفريقيا أثناء المحرقة. يهود شمال أفريقيا ليسوا كيانًا واحدًا. فيهود الجزائر مختلفون عن يهود المغرب، ويهود المغرب مختلفون عن يهود ليبيا، ويهود ليبيا مختلفون عن يهود تونس. ينطبق ذلك أيضًا على تجربة كل من هذه الجاليات تحت أهوال المحرقة النازية. لا شك في أنّ الجالية اليهودية في شمال أفريقيا والتي عانت من أقسى أهوال المحرقة النازية كانت جالية يهود ليبيا. نجح النازيون- بمساعدة الإيطاليين الذين فرضوا سيطرتهم على ليبيا من 1911 حتى 1943- في احتلال ليبيا من أيدي الإنجليز وأقاموا فيها ثلاثة معسكرات اعتقال. أكبرها وأشهرها كان معسكر جادو والمعسكران الأخريان هما غريان وسيدي عزاز. أرسل النازيون إلى هذه المعسكرات جميع اليهود المعتقلين، ومن بينهم نساءً وأطفالًا.

معسكر جادو حيث اعتقل أكثر من 2600 يهودي وتوفي فيه نحو 600 معتقل بسبب الجوع والأوبئة. بلطف من مركز أور شالوم للحفاظ على تراث يهود ليبيا
معسكر جادو حيث اعتقل أكثر من 2600 يهودي وتوفي فيه نحو 600 معتقل بسبب الجوع والأوبئة. بلطف من مركز أور شالوم للحفاظ على تراث يهود ليبيا

 

الجزء الأكبر من يهود ليبيا المعتقلين في معسكرات الاعتقال كانوا من إمارة برقة، وعاصمتها بنغازي الواقعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط. ولكن العديد من يهود طرابلس أيضًا، عاصمة إقليم طرابلس وليبيا نفسها، اعتقلوا في معسكرات الاعتقال التي أقيمت وسط الصحراء الكبرى.

إلاّ أنّ النازيين لم يكتفوا بذلك. اعتقل النازيون مجموعة كبيرة من يهود ليبيا أبناء الطبقة العليا وأرسلتهم إلى معسكرات الاعتقال في أوروبا، لتتم إبادتهم في نهاية المطاف مع أشقائهم الأشكناز. في نهاية رحلة طويلة وشاقة من أفريقيا الحارة، وجد بعض يهود ليبيا أنفسهم معتقلين في البرد الأوروبي القارس في مختلف معسكرات الاعتقال مثل بيرغن بيلسن وماوتهاوزن.

 

إخلاء الجثث ف يبيرغن بيلسن بجوار الجناح 210، حيث أقام معتقلو ليبيا. بلطف من مركز التراث اليهودي في ليبيا
إخلاء الجثث ف يبيرغن بيلسن بجوار الجناح 210، حيث أقام معتقلو ليبيا. بلطف من مركز التراث اليهودي في ليبيا

 

للأسف، كان أبناء أسرتي من اليهود الذين اعتقلوا في هذه المعسكرات، وفي نهاية المطاف، قتلوا أثناء المحرقة النازية. عندما ألفت كتاب “بنغازي- بيرغن بيلسن”، تتبعت سيرة عائلتي وجاليتها أثناء المحرقة، وخلال سنوات تأليف الكتاب الثلاث، أقمت فعليًا في الأماكن المروعة التي مرّوا بها في أفريقيا وأوروبا. تشبّثت بقصة سيلفانا حجيجي، والتي تمكّنت، على الرغم من صغر سنها، قيادة عائلتي والجالية اليهودية-الليبية كلها، وسط بحر من الآلام التي تفوق الوصف.

يمكنني القول إنّ سيلفانا هي جدتي التي نجت من بيرغن بيلسين. أدلت سيلفانا والعديدون من أبناء جالية يهود ليبيا الذين نجوا من معسكرات الموت في أوروبا، بشهادتهم المباشرة على الطريق التي مروا بها. من خلال هؤلاء الأشخاص، تعرفت إلى الآلية الوحشية التي نقلت يهود شمال أفريقيا من قلب الصحراء إلى أوروبا، ولم تكتف بإبادتهم في ليبيا. لقد فعلوا ذلك لأنّ هؤلاء اليهود كانوا يحملون الجواز البريطاني، وقد نقلوهم إلى أوروبا باعتبارهم أسرى حرب. ولكن النازيين لم يعاملوهم معاملة أسرى الحرب. نُقلوا في سفن الشحن إلى إيطاليا، وقطعوا طريقًا شاقة ومرهقة دامت سنتين، إلى أن وصلوا إلى معسكرات الاعتقال في ألمانيا.

عندما قمت بتأليف كتابي “بن غازي- بيرغن بيلسن”، لم أفعل ذلك من أجل عائلتي أو جاليتي فحسب، إنّما من أجل الإنسان عامةً. أردت أن اعيد إلى الحيز العام ما قام التاريخ الإسرائيلي بطمسه، ربما عن دون وعي. لقد أسعدتني مساهمة هذه الرواية التي كتبتها عن عائلتي وعن سيرة حياتها في معسكرات الاعتقال، في مساعدة يهود ليبيا على الدخول إلى الوعي الجماعي الإسرائيلي.

 

على يسار الصورة- راحيل مسيكا، قتلت في معسكر الاعتقال جادو Gado وهي في الخمسين من عمرها. من أرشيف الصور في ياد فاشيم
على يسار الصورة- راحيل مسيكا، قتلت في معسكر الاعتقال جادو Gado وهي في الخمسين من عمرها. من أرشيف الصور في ياد فاشيم

 

ولكنني أعي الآن أنّ هدفًا آخر كان يكمن وراء الهدف الرئيسي لتأليف هذا الكتاب، ألا وهو رغبتي الشخصية في الوصول إلى وضع يكون فيها النسيان أسهل. أردت أن أنسى لفترة ما المحرقة التي مرّت بها عائلتي وأبناء شعبي. لم أرغب في أن تتداخل المحرقة بعد الآن في حياتي اليومية، التأثير على وجهة نظري للحياة، وعلى إيماني بالبشرية.

أردت هدنة مع المحرقة. ظننت أنّني إذا كتبت عن المحرقة، فإنّني سأستوفي الشرط الذي سيمكنني من الحصول على هذه الهدنة. ولكن اتضح لي أنّ هذا الشرط كان حتميًا، ولكنه غير كاف. للاستراحة قليلًا من المحرقة، عليّ أن أتجنّب المجتمع الإسرائيلي المشبع بذكريات المحرقة. فهي حاضرة في جميع أركانه وجوانبه وزواياه، حتى النائية منها. تشكّل المحرقة جزءًا من الخطاب السائد في إسرائيل: لدى القادة، السياسيين، الإعلاميين، والمواطنين العاديين الذين يستخدمونها بدون هدف، يسخّرونها لتلبية احتياجاتهم إلى حد انحنائها، حتى تفقد شكلها السابق.

يهود ليبيون الناجون من بيرغن بيبسن يعودون إلى ليبيا. نرى على عربة القطار جملة Going Home, to Tripoli ورسمًا لعلم بريطانيا
يهود ليبيون الناجون من بيرغن بيبسن يعودون إلى ليبيا. نرى على عربة القطار جملة Going Home, to Tripoli ورسمًا لعلم بريطانيا

 

ولكن حضور المحرقة في مجتمعنا لا يقتصر على المظاهر الجلية. فهي تعمل أيضًا خلف الكواليس، توجّه سلوكيات المجموعات، المجتمعات المحلية والأفراد بشكل خفيّ، بطريقة تصعّب علينا تقفي آثارها. لا يمكننا الاستراحة من المحرقة النازية. ولكن ما الذي سيلم بنا نحن، الأشخاص الذين لا يريدون العيش في مكان آخر، وإسرائيل هي مكانهم الوحيد في العالم، والكيان الإسرائيلي، بجميع عيوبه، هو عاصمتهم الروحانية؟ هل حُكم علينا العيش للأبد تحت سماء المحرقة النازية، هل سنضطر للعيش حتى يومنا الأخير تحت زخات أحد أفظع الأحداث في تاريخ الحضارات؟ ليس حتمًا.

الأمر ليس قَدَريًا. علينا التحدث عن المحرقة النازية بعقلانية، بهمس، معاملتها بلطف ورهبة، وتجاهل كل من يسخّرها لتحقيق أهدافه. عندما يتحقق ذلك، فإنّ طريقة التعامل مع موضوع المحرقة النازية ستتغير أيضًا. سأتمكن أنا أيضًا من أخذ قسط من الراحة، الخروج في إجازة بعيدًا عن نَسَبي النازف.  ولكن إلى أن يتحقق ذلك، فقد حكم علينا العيش طوال الوقت تحت قذائف المتحدثين باسم المحرقة النازية، وأن أنزف أنا أيضًا.

صعود وأفول جريدة “الشرق – همزراح” الصهيونية في دمشق

تعرفوا على الجريدة التي أسسها يوسف ريفلين والد رئيس دولة اسرائيل والذي راهن على أن يكون جسراً بين العرب واليهود في الجمهورية السورية.

حين وصلوا لاجئو البلاد اليهود دمشق خلال فترة الحرب العالمية الأولى، زرعوا بذور الفكرة الصهيونية في أوساط يهود المدينة. حين غادرها اللاجئون أنفسهم، وعلى رأسهم دافيد يلين، طلبوا منهم الحفاظ على إنجازات التربية العبرية الصهيونية في أوساط المجموعة اليهودية الأكثر قرباً من فلسطين، كما عملوا على التأثير على اللجنة التربوية المحلية من أجل التعامل مع الجالية اليهودية في دمشق تماماً كأنها محلية على جميع المستويات. في هذا الاطار أرسل للمدينة “يهودا بورلي” لكي يدير مدرسة للصبيان، ويوسف يوئيل ريفلين (والد رئيس الدولة رئوفين ريفلين) من أجل ادارة مدرسة البنات. رافقهم مجموعة مربيات، معلمين ومعلمات من البلاد والذين استعالنو بشباب وفتيات يهود من مواليد دمشق.

 

السُلّم الثّابت في كنيسة القيامة وتقاليد حفظ السّلم الطائفي

التظاهر ضد الخلاف الطائفي حول إدارة شؤون كنيسة القيامة والذي اعتبره سخيفًا ومسيء للمسيحيّة، سلم كنيسة القيامة الثابت.

كنيسة القيامة، 2019، أرشيف المصور غابي لارون

كنيسة القيامة، 2019، أرشيف المصور غابي لارون

إن كنيسة القيامة معلم شديد الأهمية من معالم القدس وكذلك أحد أقدس الأماكن المسيحيّة حول العالم. تشترك كلّ من كنيسة القيامة في القدس وكنيسة المهد في بيت لحم بما يعرف ب”الوضع القائم” وهي انظمة وضُعت على يد الدولة العثمانيّة من خلال عدة فرامانات بين عام 1757 وعام 1852 تقوم بتقسيم مهام هذه الأماكن وخدمتها ورعايتها ما بين الطوائف المسيحيّة المختلفة، وهو وضع ما زال قائمًا إلى اليوم.

اطلعوا على أماكن ومقدسات مسيحية

 

منشور بريطاني لشكل كنيسة القيامة من أواخر القرن الثّامن عشر، مجموعة خرائط عيران لَؤور
منشور بريطاني لشكل كنيسة القيامة من أواخر القرن الثّامن عشر، مجموعة خرائط عيران لَؤور

 

عُرف “السّلم الثّابت” الموضوع على شرفة النّافذة اليمنى لواجهة كنيسة القيامة في القدس كرمز للوضع الراهن. إذ بسبب الاتفاق على الوضع الراهن بقي السلم الخشبي البسيط مكانه ولم يتحرك الّا في حالات خاصّة، وذلك خوفًا من اندلاع النّزاع بين الطوائف المسيحيّة إذا ما قام أحد بتحريكه واعتبرته الطوائف الأخرى تعديًا على الوضع الراهن. ومع مرور أكثر من مائتي عام، يمكننا القوم بأن السّلم أصبح جزئًا من الكنيسة، إذ يظهر في جميع المواد البصرية المتاحة في هذه السنوات كأحد معالمها، انظر على سبيل المثال إلى هذا الملصق المرسوم من مطلع القرن العشرين.

هناك من يرى أنّ هذه التّقاليد بقيت كعنوان للاتفاق والتفاهم بين الطّوائف، وهناك من اعتبرها أثرًا مذمومًا للانقسام المسيحي، من هؤلاء بابا الكنيسة الكاثوليكية بولس السادس (1897-1978) الذي حجّ إلى القدس في ستينات القرن العشرين واعتبر ان السلم الثابت رمزًا مرئيًا للانقسام المسيحي، وأكّد على ضرورة عدم تحريكه من مكانه إلى أن تصل الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكيّة إلى توافق فيما بينها.

دعونا نطّلع على تفاصيل قصّة الوضع الرّاهن والسّلم الشّهير الّذي أصبح معلمًا من المعالم هذه المدينة التاريخيّة المليئة بالقصص.


المعالم المسيحيّة المقدّسة في الشّرق وقصّة الوضع الرّاهن

بدأ التنافس أو الاختلاف على من يكون الاحق برعاية المعالم المسيحيّة المقدسة في الشرق (بالأساس كنيسة القيامة وكنيسة المهد في بيت لحم) عقود قليلة بعد وقوع الانشقاق العظيم بين الكنائس الشرقيّة الإغريقيّة التي باتت تعرف بالأرثوذكسية والكنائس الغربيّة اللاتينيّة التي باتت تُعرف بالكاثوليكيّة.

حين خرجت الحملة الصّليبيّة الأولى من الغرب وقعت هذه المواقع تحت سيطرة الكنيسة الكاثوليكيّة وبقيت كذلك حتى نهاية الحكم الصّليبي. خلال العهد العثماني كان هناك حالة من عدم الاستقرار بكيفيّة تقسيم الوصاية على هذه الاماكن بين الكنيسة الارثوذكسية والكنيسة الكاثوليكيّة، ممّا أسفر عن عدّة خلافات من أبرزها أحداث أسبوع الآلام عام 1757، في ذلك العام وضع السلطان العثماني أول فرامان للوضع القائم.

 

رسم مقطع فوقي لكنيسة القيامة، 1683، مجموعة خرائط عيران لَؤور
رسم مقطع فوقي لكنيسة القيامة، 1683، مجموعة خرائط عيران لَؤور

 

كان من الاسباب المعلنة لحرب القرم هو تغيير الوضع الراهن على يد السلطان العثماني لصالح فرنسا مما يعني منح الصلاحية الكاملة للكنيسة الكاثوليكيّة، فكان أحد أسباب شنّ الحرب من قبل روسيا هو أن تكون صلاحية رعاية هذه الاماكن تحت يد الكنيسة الارثوذكسيّة. وخلال الحرب التي دامت لثلاث سنوات بين 1853-1856 قام السلطان العثماني بالتأكيد على الوضع الراهن السابق في فرمانات جديدة في عام 1852 و 1853 كمحاولة لتهدئة الحرب. وتم التأكيد على ان الوضع الراهن في الاماكن المقدسة في القدس سيبقى على ما هو عليه إلى الأبد. أي ان الاماكن المشتركة للطوائف، أو المملوكة لأحدها حصرًا، ستبقى كذلك بدون تغيير.

ولأن كنيسة القيامة مشتركة بين الطوائف المتعددة، فإنّ تفاصيل إدارتها اليوميّة وكيفيّة تقاسم المساحات والمواقيت بها أمر غاية للاهمية ويمارس بدقة شديدة إلى اليوم. وذلك تمسّكًا بالوضع الراهن الّذي سمح لهذه الطوائف المتعددة بممارسة شعائرها وحقوقها بالتواجد في هذا المعلم الديني الأساسي لجميعهم.


السّلم الثّابت

صورة حديثة للسلم الثابت من تصوير غابي لارون، 2014، أرشيف غابي لارون
صورة حديثة للسلم الثابت من تصوير غابي لارون، 2014، أرشيف غابي لارون

 

السلم الخشبي الموضوع على شرفة النافذة اليمينية لواجهة الكنيسة أحد رموز الوضع الراهن ولكنه ليس الوحيد. في الحقيقة، هناك العديد من التقاليد المميزة في حياة هذه الكنيسة اليوميّة تؤدي دورها بحفظ السلم والاتفاق بين الطوائف المسيحيّة في الكنيسة بل وبينها وبين الطائفة المسلمة في المدينة أيضًا. من أشهر هذه التقاليد هو فتح أبواب الكنيسة وإغلاقها على يد أبناء من عائلة مسلمة من القدس تقوم بهذا الدور منذ مئات السنين.

مع ذلك، فإن السلم محط جدل من جهة واحترام من جهة أخرى، اذ ليس هناك أي اجراء يخصّه، كل ما في الأمر هو انه يُمنع تحريكه فقط، مما جعله رمز يوحي بحالة من الجمود من جهة والقداسة من جهة إخرى بالرغم من انه لا يحمل أي قداسة دينيّة لدى أي من الطوائف، بل يعتقد أنه هناك لأنّه كان يُستخدم على يد أحد العمال الّذي تركه، وبقي هناك خوفًا من انتهاك الوضع القائم.

من القصص المثيرة للجدل هي قيام سائح مسيحي عام 1997 برفع السّلم من مكانه وإخفائه خلف أحد أبواب الكنيسة الداخليّة كنوع من الاعتراض على الامر، وحين تم التعرف عليه والتحقيق معه حول هذه الجناية اقرّ بانه قام بذلك كنوع من التظاهر ضد الخلاف الطائفي حول إدارة شؤون كنيسة القيامة والذي اعتبره سخيفًا ومسيء للمسيحيّة.

في النهاية تبقى كلمات البابا بولس السادس تثير التفكير، اذ اعتبره بحزن رمزًا مرئيًا للانقسام المسيحي، ومع ذلك أكّد على ضرورة احترامه وعدم المساس به إلى أن يأت الوقت المناسب.