يعتبر كاتب المجموعة القصصية “سداسية الأيام الستّة” إميل حبيبي، واحدًا من أكثر الكتّاب الفلسطينيين جدلًا على المستويات الثقافية والسياسية، السياسيّ والمثقف هو من أوائل الكتّاب الّذين وصفوا حياة الفلسطينيين الّذين ظلّوا في أرضهم بعد حرب عام 1948، فكتب عن حياتهم وطريقة تأقلمهم مع الوضع السياسي – الاجتماعي الجديد، وحقيقة انفصالهم عن البقية من شعبهم وامتدادهم العربي.
خلال هذا المقال نستعرض أدب وسياسة إميل حبيبي، ميوله وحياته من خلال تحليل مبسّط لسداسية الأيام الستة، القصص الّتي ولدت بعد هزيمة الجيوش العربية في حرب عام 1967، أو النكسة كما عُرفت عربيًّا.
طالعوا أيضاً: إميل حبيبي: أديب فلسطيني وسياسي في الكنيست
ولد إميل حبيبي في حيفا عام 1921، وهو ابن لعائلة فلسطينية مسيحية أصلها من مدينة شفاعمرو الّتي تبعد عن حيفا 22 كيلومترًا. أتمّ دراسته الثانوية في حيفا وعكا، ونال شهادة الاجتياز في 1939، ثم عمل في مصانع تكرير البترول في حيفا، ودرس في ذات الفترة الهندسة البترولية بالمراسلة مع جامعة لندن لمدة سنتين.
انضم حبيبي إلى الحزب الشيوعي الفلسطينيّ عام 1941، وهو من بين مؤسسي “رابطة التحرير الوطني” عام 1944 وأحد رؤسائها، في عام 1948 انضم إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي وانتخب عضوًا هامًا في الحزب، ومع الانشقاق الّذي حصل في الحزب عام 1965 كان من بين رؤساء القائمة الشيوعية الجديدة وعضو الديوان السياسي التابع للحزب. عمل محررًا لصحيفة الاتحاد في السنوات بين 1971-1989، وفي عام 1989 استقال من مؤسسات القائمة الشيوعية الجديدة.
شغل عضوية الكنيست الثانية والثالثة والخامسة عن الحزب الشيوعي الإسرائيلي، والكنيست السادسة والسابعة عن القائمة الشيوعية الجديدة، وتوفي في 2 أيار 1996 م بعد أن أوصى بأن يُكتب على قبره “باقٍ في حيفا”.
طالعوا أيضًا: انتخابات إسرائيل في الصور والجرائد ومنشورات الدعايات الانتخابية
إميل حبيبي الّذي وافق عصبة التحرر الوطني على قرار التقسيم، صار لاحقًا صوت الّذين بقوا في البلاد وعاشوا الحكم العسكري وحرب عام 1967. وقد كان بشكلٍ أو آخر، واحدًا من أهم الأصوات السياسية الّتي لعبت دورًا كبيرًا في مصير الفلسطينيين الّذين عاشوا تحت الحكم الإسرائيلي.
سداسية الأيام الستة
يرتبط الأدب بالواقع، يحاكي تطوّره والتغييرات الّتي تطرأ عليه بمرور الزمن، وتعتبر القصة القصيرة أحد الأجناس الأدبية الّتي تتمكن من نقل الواقع بصورة مبسطة، سلسة ومباشرة. وقد تجذّرت أعمال إميل حبيبي بالواقع المعاش لدى الفلسطينيين في إسرائيل في سنوات ما بعد حرب حزيران بشكلٍ خاص، حيث اعتمد في القصص الستة الّتي نحكي عنها في المقال على مرجعية الواقع العينيّ المدمج بسردية التاريخي، عبر رصده لذاكرة المكان الفلسطيني ببعديه التاريخيّ والجغرافي.
سداسية الأيام الستة هي عبارة عن ست قصص تحت عناوين: حين سعدَ مسعود بابن عمه، وأخيرًا نوّر اللوز، أم الروبابيكا، العودة، الخرزة الزرقاء وعودة جبينة، الحب في قلبي. وتحكي كلّ قصة منهم بُعدًا سياسيًا واجتماعيًا للواقع الفلسطيني المعاش خلال وبعد حرب عام 1967.
امتاز أسلوب إميل حبيبي الأدبي بدمج ما بين الموروث الشعبي الفلسطيني والأدب، ويبدو هذا الهوس في التداخل بين العالمين من خلال كتاباته جليًا في عناوين قصصه، وفي سداسية الأيام الستة تبدو الإشارة إلى الموروث الشعبي الفلسطينيّ والعربي جلية من خلال استحضار قصة “جبينة” و “الخرزة الزرقاء”، كما أنه اعتمد توظيف العديد من الأبيات الشعرية – الغنائية في النصوص. يظهر هذا التوظيف من خلال بدايات بعض القصص، ففي الاستهلال لقصة “حين سعد مسعود بابن عمه تظهر البداية بأغنية فيروزية:
لماذا نحن يا أبتِ
لماذا نحن أغراب
أليس لنا بهذا الكون
أصحاب وأحباب؟
ولم يأتِ اختيار هذا الاستهلال عبثيًا، فمسعود طفل وحيد دون أعمام أو أخوال أو أبنائهم في قريته الّتي تقع داخل أراضي الحكم الإسرائيلي، بينما أبناء عائلته الآخرين شاءت قسمتهم أن يكونوا في الضفة الغربية والأردن، فظل هو وحيدًا بين الأولاد، لتؤثر عليه هزيمة عام 1967 بشكلٍ مباشر. وفي قصة “أخيرًا نوّر اللوز” يستهل الكاتب أيضًا بأغنية فيروزية:
“بلادي أعدني إليها
ولو زهرةً يا ربيع”
ولا يتوقف الأمر عند هاتين القصتين، فقد استخدم حبيبي الأسلوب ذاته في كافة القصص، ليفتتح به زمنًا كان يحاول ربط الفلسطيني ببُعدهِ العربي والوطني، ومحاولًا إيصال الخيبة الّتي حدثت للناس بعد النكسة من خلال ربطه بواحدٍ من الأصوات الموسيقية الأكثر بروزًا عربيًا، فيروز.
رمزية المكان في أدب إميل حبيبي
يهتم حبيبي في تقلّبات المكان في الأدب عبر تسجيل دقيق وتوثيق للتاريخ الفلسطيني من الداخل وليس من الخارج فقط، إذ يحرص على تسجيل الأزمنة والحروب والتواريخ المهمة في تشكيل الشعب الفلسطينيّ اليوم. ولذلك يعتبر بحسب العديد من الناقدين، الكاتب الّذي يهتم بإقامة نصب تذكارية لمعالم المكان من حوله. كما أنه يمتلك عين رحّالة لا يغادر مكانه، فهو دائم التحديق في تقلّبات المكان.
يظهر المكان ببعديه التاريخي والجغرافي تدريجيًا في أدب حبيبي، فهو ينقل القارئ إلى تصوّر ذهني وعياني للأمكنة من خلال إشارات وتفاصيل تاريخية وجغرافية محددة معروفة لهذه الأمكنة، فهو يضع إطار القصة من خلال المكان، حيث يستطرد في الحديث عن تاريخ المكان وجغرافيته وساكنيه، حيث تبدو كتابته توثيقًا لتاريخ الانسان الفلسطيني المسلوب من حق توثيق أصله وحكاياته.
يبدو المكان في سداسية الأيام الستة واضحًا للقارئ منذ السطور الأولى، ففي قصة “أخيرًا نوّر اللوز” يدور الحوار بين الصديقين القديمين حول طريق القدس ورام الله وحيفا واللبن الشرقية، ويصف فيها إميل حبيبي أشجار اللوز الّتي تتفتح في ربيع البلاد، ولافتًا النظر إلى التقسيم الّذي عانى منه جيلٌ كامل بعد الفصل بين الأراضي الفلسطينية والناس.
وفي قصة “أم الروبابيكا” يذكر الكاتب أسماء الشوارع في حيفا بشكلٍ عينيّ، شارع الوادي وشارع عباس وسوق الشوام ووادي النسناس والوادي في إشارة لوادي الصليب. وفي قصة “العودة” يذكر حبيبي أماكن عينيّة من مدينة القدس، طريق الآلام، المقبرة اليوسيفية، باب السلسلة، درجة الطابوني، خان العطار، سوق الباشورة، خان الزيت، عقبة التكية، وغيرها الكثير من الأسماء للأماكن، كأنه يريدنا أن نحفظها في عقولنا.
يحرص حبيبي من خلال ذكر أسماء الأماكن بأسمائها المجردة من حفظها، ويقدم من خلالها صورة دقيقة للمكان الفلسطيني، القرية والمدينة، الشوارع والأماكن المقدسة، فالوصف لدى حبيبي لا يتعلق بالمدى الجمالي بل بالبعد التاريخي الجغرافي، وذلك كي يتمكن من توثيق الأمكنة وتاريخها، وما جرت فيها أحداث ردًا على الاستلاب والهدم الّذي يتعرض له التاريخ الفلسطيني.
بين الموقف السياسي والأدبي
عُرفت أعمال حبيبي بكونها تُحاكي المكان والانسان الفلسطيني الباقي في أرضه، ولم يتوانى يومًا عن إظهار هذا الموقف من خلال الأدب كما شرحنا في البنود السابقة، ولكن على العكس مما كتب، ومما نادى به من تحرير البلاد وصوت الانسان الفلسطيني المختنق في ظل السياسات الإسرائيلية، فإنّ حبيبي كان أحد أعضاء الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وكان من أوائل النواب العرب في الكنيسيت الإسرائيلية، وأحد أبرز الأصوات الّتي أيّدت حل الدولتين سياسيًا.
يظهر هذا الموقف المتباين بين حبيبي الأديب وحبيبي السياسي، معظم المواقف المبهمة وتداخل الهوية لدى الفلسطينيين في البلاد، فهم من ناحية يحاولون التواصل مع امتداد شعبهم العربي والمحافظة على الأصل الّذي يربطهم بالأرض والشعب، لكنهم في ذات الوقت يبحثون عن “الفتات” السياسية الّتي تمنحهم بعض الحقوق الّتي يمكن للحكومات الإسرائيلية سحبها منهم في أي لحظة.
وقد تعرض إميل حبيبي للكثير من الانتقادات بسبب مواقفه الّتي كانت تتوافق مع مواقف الحزب الشيوعي، حول تقسيم فلسطين واتفاقية أوسلو لاحقًا، وقد كانت هذه المواقف تنبع من فكرة اتحاد شعوب منطقة الشرق الأوسط ضد قوى الاستعمار العالمية، والعيش بسلام بين اليهود والعرب على أرض فلسطين، حيث تنقسم الأرض إلى دولتين إسرائيلية وفلسطينية على حدود عام 1967.
أثبتت هذه المواقف لاحقًا فشلها، خاصةً بعد الانتفاضة الثانية، حيث قال حبيبي في إحدى مقابلاته إن حل أوسلو لم يكن الحل المثالي والمنصف للفلسطينيين، لكنه كان أفضل من الحلول الأخرى. ظل هذا الجدل حول مواقف حبيبي قائمًا حتى بعد وفاته، وشكل هذا السياسي – الأديب نقطة جدلٍ طويلة بين الأدباء الفلسطينيين، فلم يتفق على مواقفه الجميع ولم يتفق على انتقاده أيضًا.