رحلة في عمق سداسية الأيام الستّة

في هذا المقال نستعرض أدب وسياسة إميل حبيبي، ميوله وحياته من خلال تحليل مبسّط لسداسية الأيام الستة، بعد حرب عام 1967.

جائزة إسرائيل للأدب

لحظة تسلّم إميل حبيبي لجائزة إسرائيل للأدب، 1992، من أرشيف دان هداني، المكتبة الوطنية.

يعتبر كاتب المجموعة القصصية “سداسية الأيام الستّة” إميل حبيبي، واحدًا من أكثر الكتّاب الفلسطينيين جدلًا على المستويات الثقافية والسياسية، السياسيّ والمثقف هو من أوائل الكتّاب الّذين وصفوا حياة الفلسطينيين الّذين ظلّوا في أرضهم بعد حرب عام 1948، فكتب عن حياتهم وطريقة تأقلمهم مع الوضع السياسي – الاجتماعي الجديد، وحقيقة انفصالهم عن البقية من شعبهم وامتدادهم العربي.

خلال هذا المقال نستعرض أدب وسياسة إميل حبيبي، ميوله وحياته من خلال تحليل مبسّط لسداسية الأيام الستة، القصص الّتي ولدت بعد هزيمة الجيوش العربية في حرب عام 1967، أو النكسة كما عُرفت عربيًّا.

طالعوا أيضاً: إميل حبيبي: أديب فلسطيني وسياسي في الكنيست

ولد إميل حبيبي في حيفا عام 1921، وهو ابن لعائلة فلسطينية مسيحية أصلها من مدينة شفاعمرو الّتي تبعد عن حيفا 22 كيلومترًا. أتمّ دراسته الثانوية في حيفا وعكا، ونال شهادة الاجتياز في 1939، ثم عمل في مصانع تكرير البترول في حيفا، ودرس في ذات الفترة الهندسة البترولية بالمراسلة مع جامعة لندن لمدة سنتين.

انضم حبيبي إلى الحزب الشيوعي الفلسطينيّ عام 1941، وهو من بين مؤسسي “رابطة التحرير الوطني” عام 1944 وأحد رؤسائها، في عام 1948 انضم إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي وانتخب عضوًا هامًا في الحزب، ومع الانشقاق الّذي حصل في الحزب عام 1965 كان من بين رؤساء القائمة الشيوعية الجديدة وعضو الديوان السياسي التابع للحزب. عمل محررًا لصحيفة الاتحاد في السنوات بين 1971-1989، وفي عام 1989 استقال من مؤسسات القائمة الشيوعية الجديدة.

شغل عضوية الكنيست الثانية والثالثة والخامسة عن الحزب الشيوعي الإسرائيلي، والكنيست السادسة والسابعة عن القائمة الشيوعية الجديدة، وتوفي في 2 أيار 1996 م بعد أن أوصى بأن يُكتب على قبره “باقٍ في حيفا”.

طالعوا أيضًا: انتخابات إسرائيل في الصور والجرائد ومنشورات الدعايات الانتخابية

 

إميل حبيبي الّذي وافق عصبة التحرر الوطني على قرار التقسيم، صار لاحقًا صوت الّذين بقوا في البلاد وعاشوا الحكم العسكري وحرب عام 1967. وقد كان بشكلٍ أو آخر، واحدًا من أهم الأصوات السياسية الّتي لعبت دورًا كبيرًا في مصير الفلسطينيين الّذين عاشوا تحت الحكم الإسرائيلي.

سداسية الأيام الستة

يرتبط الأدب بالواقع، يحاكي تطوّره والتغييرات الّتي تطرأ عليه بمرور الزمن، وتعتبر القصة القصيرة أحد الأجناس الأدبية الّتي تتمكن من نقل الواقع بصورة مبسطة، سلسة ومباشرة. وقد تجذّرت أعمال إميل حبيبي بالواقع المعاش لدى الفلسطينيين في إسرائيل في سنوات ما بعد حرب حزيران بشكلٍ خاص، حيث اعتمد في القصص الستة الّتي نحكي عنها في المقال على مرجعية الواقع العينيّ المدمج بسردية التاريخي، عبر رصده لذاكرة المكان الفلسطيني ببعديه التاريخيّ والجغرافي.

سداسية الأيام الستة هي عبارة عن ست قصص تحت عناوين: حين سعدَ مسعود بابن عمه، وأخيرًا نوّر اللوز، أم الروبابيكا، العودة، الخرزة الزرقاء وعودة جبينة، الحب في قلبي. وتحكي كلّ قصة منهم بُعدًا سياسيًا واجتماعيًا للواقع الفلسطيني المعاش خلال وبعد حرب عام 1967.

امتاز أسلوب إميل حبيبي الأدبي بدمج ما بين الموروث الشعبي الفلسطيني والأدب، ويبدو هذا الهوس في التداخل بين العالمين من خلال كتاباته جليًا في عناوين قصصه، وفي سداسية الأيام الستة تبدو الإشارة إلى الموروث الشعبي الفلسطينيّ والعربي جلية من خلال استحضار قصة “جبينة” و “الخرزة الزرقاء”، كما أنه اعتمد توظيف العديد من الأبيات الشعرية – الغنائية في النصوص. يظهر هذا التوظيف من خلال بدايات بعض القصص، ففي الاستهلال لقصة “حين سعد مسعود بابن عمه تظهر البداية بأغنية فيروزية:

لماذا نحن يا أبتِ
لماذا نحن أغراب
أليس لنا بهذا الكون
أصحاب وأحباب؟

ولم يأتِ اختيار هذا الاستهلال عبثيًا، فمسعود طفل وحيد دون أعمام أو أخوال أو أبنائهم في قريته الّتي تقع داخل أراضي الحكم الإسرائيلي، بينما أبناء عائلته الآخرين شاءت قسمتهم أن يكونوا في الضفة الغربية والأردن، فظل هو وحيدًا بين الأولاد، لتؤثر عليه هزيمة عام 1967 بشكلٍ مباشر. وفي قصة “أخيرًا نوّر اللوز” يستهل الكاتب أيضًا بأغنية فيروزية:

“بلادي أعدني إليها

ولو زهرةً يا ربيع”

ولا يتوقف الأمر عند هاتين القصتين، فقد استخدم حبيبي الأسلوب ذاته في كافة القصص، ليفتتح به زمنًا كان يحاول ربط الفلسطيني ببُعدهِ العربي والوطني، ومحاولًا إيصال الخيبة الّتي حدثت للناس بعد النكسة من خلال ربطه بواحدٍ من الأصوات الموسيقية الأكثر بروزًا عربيًا، فيروز.

رمزية المكان في أدب إميل حبيبي

يهتم حبيبي في تقلّبات المكان في الأدب عبر تسجيل دقيق وتوثيق للتاريخ الفلسطيني من الداخل وليس من الخارج فقط، إذ يحرص على تسجيل الأزمنة والحروب والتواريخ المهمة في تشكيل الشعب الفلسطينيّ اليوم. ولذلك يعتبر بحسب العديد من الناقدين، الكاتب الّذي يهتم بإقامة نصب تذكارية لمعالم المكان من حوله. كما أنه يمتلك عين رحّالة لا يغادر مكانه، فهو دائم التحديق في تقلّبات المكان.

من خلال جلسة للمطالبة بحقوق الكتّاب العرب في إسرائيل، 1990، أرشيف دان هداني.
من خلال جلسة للمطالبة بحقوق الكتّاب العرب في إسرائيل، 1990، أرشيف دان هداني.

 

يظهر المكان ببعديه التاريخي والجغرافي تدريجيًا في أدب حبيبي، فهو ينقل القارئ إلى تصوّر ذهني وعياني للأمكنة من خلال إشارات وتفاصيل تاريخية وجغرافية محددة معروفة لهذه الأمكنة، فهو يضع إطار القصة من خلال المكان، حيث يستطرد في الحديث عن تاريخ المكان وجغرافيته وساكنيه، حيث تبدو كتابته توثيقًا لتاريخ الانسان الفلسطيني المسلوب من حق توثيق أصله وحكاياته.

يبدو المكان في سداسية الأيام الستة واضحًا للقارئ منذ السطور الأولى، ففي قصة “أخيرًا نوّر اللوز” يدور الحوار بين الصديقين القديمين حول طريق القدس ورام الله وحيفا واللبن الشرقية، ويصف فيها إميل حبيبي أشجار اللوز الّتي تتفتح في ربيع البلاد، ولافتًا النظر إلى التقسيم الّذي عانى منه جيلٌ كامل بعد الفصل بين الأراضي الفلسطينية والناس.

وفي قصة “أم الروبابيكا” يذكر الكاتب أسماء الشوارع في حيفا بشكلٍ عينيّ، شارع الوادي وشارع عباس وسوق الشوام ووادي النسناس والوادي في إشارة لوادي الصليب. وفي قصة “العودة” يذكر حبيبي أماكن عينيّة من مدينة القدس، طريق الآلام، المقبرة اليوسيفية، باب السلسلة، درجة الطابوني، خان العطار، سوق الباشورة، خان الزيت، عقبة التكية، وغيرها الكثير من الأسماء للأماكن، كأنه يريدنا أن نحفظها في عقولنا.

يحرص حبيبي من خلال ذكر أسماء الأماكن بأسمائها المجردة من حفظها، ويقدم من خلالها صورة دقيقة للمكان الفلسطيني، القرية والمدينة، الشوارع والأماكن المقدسة، فالوصف لدى حبيبي لا يتعلق بالمدى الجمالي بل بالبعد التاريخي الجغرافي، وذلك كي يتمكن من توثيق الأمكنة وتاريخها، وما جرت فيها أحداث ردًا على الاستلاب والهدم الّذي يتعرض له التاريخ الفلسطيني.

بين الموقف السياسي والأدبي

عُرفت أعمال حبيبي بكونها تُحاكي المكان والانسان الفلسطيني الباقي في أرضه، ولم يتوانى يومًا عن إظهار هذا الموقف من خلال الأدب كما شرحنا في البنود السابقة، ولكن على العكس مما كتب، ومما نادى به من تحرير البلاد وصوت الانسان الفلسطيني المختنق في ظل السياسات الإسرائيلية، فإنّ حبيبي كان أحد أعضاء الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وكان من أوائل النواب العرب في الكنيسيت الإسرائيلية، وأحد أبرز الأصوات الّتي أيّدت حل الدولتين سياسيًا.

يظهر هذا الموقف المتباين بين حبيبي الأديب وحبيبي السياسي، معظم المواقف المبهمة وتداخل الهوية لدى الفلسطينيين في البلاد، فهم من ناحية يحاولون التواصل مع امتداد شعبهم العربي والمحافظة على الأصل الّذي يربطهم بالأرض والشعب، لكنهم في ذات الوقت يبحثون عن “الفتات” السياسية الّتي تمنحهم بعض الحقوق الّتي يمكن للحكومات الإسرائيلية سحبها منهم في أي لحظة.

وقد تعرض إميل حبيبي للكثير من الانتقادات بسبب مواقفه الّتي كانت تتوافق مع مواقف الحزب الشيوعي، حول تقسيم فلسطين واتفاقية أوسلو لاحقًا، وقد كانت هذه المواقف تنبع من فكرة اتحاد شعوب منطقة الشرق الأوسط ضد قوى الاستعمار العالمية، والعيش بسلام بين اليهود والعرب على أرض فلسطين، حيث تنقسم الأرض إلى دولتين إسرائيلية وفلسطينية على حدود عام 1967.

أثبتت هذه المواقف لاحقًا فشلها، خاصةً بعد الانتفاضة الثانية، حيث قال حبيبي في إحدى مقابلاته إن حل أوسلو لم يكن الحل المثالي والمنصف للفلسطينيين، لكنه كان أفضل من الحلول الأخرى. ظل هذا الجدل حول مواقف حبيبي قائمًا حتى بعد وفاته، وشكل هذا السياسي – الأديب نقطة جدلٍ طويلة بين الأدباء الفلسطينيين، فلم يتفق على مواقفه الجميع ولم يتفق على انتقاده أيضًا.

ملك وجنرالان ومصوّر

في مجموعة صور المكتبة الوطنية وجدت صورة مميّزة تعود لعام 1947 في القدس جمعت الملك عبدالله الأول وغلوب باشا القائد البريطاني للجيش العربي الاردني حينها مع جينيرال باركر، المبعد لتوه عن منصب القائد العام للقوات البريطانية في فلسطين وشرق الاردن. وعلى ظهرها سجّلت ملاحظة على ما يبدو أنها "سرية".

غلوب باشا، الملك عبدالله، جينيرال باركر، 1947، مجموعة صور المكتبة الوطنية

غلوب باشا، الملك عبدالله، جينيرال باركر، 1947، مجموعة صور المكتبة الوطنية

ولد الملك عبدالله في مكّة ابنًا للشريف حسين بن علي قائد الثورة العربية الكبرى ضد الحكم العثماني. ترعرع في كنف أبيه وتولّى بنفسه قيادة بعض الهجمات خلال التمرد العربي الذي خرج من الحجاز أملًا ببناء دولة عربيّة شرق أوسطية كبرى تحكمها السلالة الهاشمية.

بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى ووقوع كل من الانتداب البريطاني والفرنسي على الاقاليم العربيّة، جرى الاتفاق على تولية أبناء الشريف حسين على شرقي الاردن والعراق، وتولى بذلك الامير عبدالله إمارة شرقي الأردن إلى أن نال الأردن استقلاله في أيار 1946 وتنصيبه ملكًا عليها.

ضمن معارض بوابات المكتبة الوطنية الرقمية: الملك فيصل الأول بن حسين الشريف

طابع بريدي يحمل صورة الملك عبدالله الأول
طابع بريدي يحمل صورة الملك عبدالله الأول

 

عند مشاركة الجيش الأردني في معارك حرب 1948، تمكّن من إحكام قبضته على القدس القديمة والمناطق التي أصبحت تُعرف لاحقًا بالضّفة الغربيّة وضمّها إلى مناطق حكم الملك. إلّا أنّ هذه النتيجة لم تكن من قبيل الصّدفة الغير مرجوّة، فإذا كانت فلسطين ستنقسم لدولة يهوديّة ودولة عربيّة، فمن الأولى بحكم الدولة العربيّة من أبناء الشريف حسين، الذين بقوا أوفياء لبريطانيا خلال الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثّانية ولم يحصلوا على ما وعدوا به بالكامل؟

علينا تخيّل هذا المنطق؛ حين نسترجع تلك الفترة المشحونة، فالملك عبدالله كان حليفًا موثوقًا لدى الحكومة البريطانيّة، ومع ذلك فهو لم يُمنح أي تأكيد أو وعد على أن تُضمّ الدولة العربيّة الوليدة في فلسطين إلى أراضي حكمه، مع أنه دعم قرار التقسيم وحيدًا في ظلّ رفض عربي قاطع.

في مجموعة صور المكتبة الوطنية، وُجدت صورة مميّزة تعود لعام 1947 في القدس جمعت الملك عبدالله الأول وغلوب باشا القائد البريطاني للجيش العربي الأردني حينها مع الجنرال باركر، المبعد لتوه عن منصب القائد العام للقوات البريطانية في فلسطين وشرق الأردن. يظهر في الصّورة الملك عبدالله في الوسط ممسكًا بيد الجنرال باركر ومبتسمًا وكأن الصورة تحتفل بشيء ما.

 

من اليمين، غلوب باشا قائد الجيش العربي الأردني، الملك عبدالله، جينيرال باركر قائد القوات البريطانية في فلسطين وشرق الأردن، 1947، مجموعة صور المكتبة الوطنية
من اليمين، غلوب باشا قائد الجيش العربي الأردني، الملك عبدالله، جينيرال باركر قائد القوات البريطانية في فلسطين وشرق الأردن، 1947، مجموعة صور المكتبة الوطنية

 

كان الجنرال باركر رجلًا عسكريًا فذًا خدم في الحرب العالميّة الأولى وتولّى قيادة معركة فرنسا في الحرب العالميّة الثّانية، ولكنه تولى منصب قيادة القوات البريطانية في فلسطين وشرق الأردن لعام واحدٍ فقط (1946-1947).

إذ قدمت شكاوى عديده ضده من قبل الوكالة اليهوديّة بخصوص سياسته بالتعامل مع المعتقلين اليهود وطالبت بنقله، ووفقًا لخبر جاء في صحيفة فلسطين فإنّ نقله كان نتيجة لمساومة غير معلنة بين حكومة الانتداب والحركة الصّهيونيّة إلا أن هذا لم يتأكد. ومن المثير للاهتمام أن على ظهر الصّورة سُجّلت ملاحظة بخط اليد بالإنجليزيّة تقول: “جنرال باركر يقول إلى جنرال غلوب: أتساءل ماذا سيقول اليهود حين يرون هذه الصّورة”، مع التّاريخ 10.2.1947.

المثير للاهتمام أن هذه الصّورة، إذا كان التاريخ المسجل عليها هو تاريخ التقاطها، كانت قبل أيام معدودة من مغادرة الجينيرال باركر فلسطين بلا عودة. ووفقًا لمقالة نشرتها جريدة فلسطين بعد قرابة عشرة أيام من رحيله، فإنه في كلمته الأخيرة للجنود البريطانيين، أعرب عن قلقه من اضطرابات مستقبلية ستحدث في البلاد قائلًا “لا يبدو لي أن السلام سيخيّم على هذه البلاد التعسة في المستقبل القريب، وسيجد الجيش مهامه تزداد وتتضاعف”.

"جينيرال باركر يقول إلى جينيرال غولب: أتساءل ماذا سيقول اليهود حين يرون هذه الصّورة"
“جينيرال باركر يقول إلى جينيرال غولب: أتساءل ماذا سيقول اليهود حين يرون هذه الصّورة”

بعد هذه الحادثة بتسعة أشهر صدر قرار تقسيم فلسطين الذي أبدى الملك عبدالله موافقة عليه أملًا بأن تكون أراضي الدولة العربية جزء من الدولة الأردنية حديثة العهد، حتّى أن بعض المصادر تفيد بإجراء لقاءات سرية بين الملك عبدالله وزعامات صهيونيّة للتباحث في هذا الأمر، ومع إبداء الارتياح الضمني للتجاور ما بين الدولة اليهوديّة والمملكة الهاشمية إلا أن للحرب كانت الكلمة الأخيرة، وهذا ما فهمه جميع الأطراف بالتأكيد.

فما الذي دار بين الملك عبدالله والجنرالين غلوب وباركر، وما سرّ هذه الابتسامة والملاحظة المكتوبة على ظهر الصّورة؟ ومن الذي سمع هذا الكلام وسجّل هذه الملاحظة على ظهر الصورة؟

يظهر تحت الملاحظة الختم الخاص بالمصوّر اليهودي تسفي أورون الذي التقط الصورة، عمل تسفي أورون كمصورًا للصحافة وكان المصوّر الرسمي للمندوب السامي البريطاني وللقوات البريطانيّة. وبالتأكيد فإن طبيعة عمل أورون كمصوّر رسمي للقوات البريطانيّة منحته مادة مميزة لعمله مع الصّحافة، وهذه الصّورة بالملاحظة المكتوبة على ظهرها كانت على ما يبدو خبر أراد ان ينقله المصوّر بهذه الطريقة إلى الصّحافة.

سيف الدين الزعبي؛ عضو عربي في الكنيست أثار الجدل

سيف الدين الزعبي في كتابه "شاهد عيان"، كيف بقي بالناصرة بعد الحرب، وكيف وصل للكنيست الأول، وكيف هاجمته صحيفة الاتحاد.

سيف الدين الزعبي في مظاهرة يوم العمال في الناصرة، 1965، مجموعة بيتمونا.

لطالما كان اسم سيف الدين الزعبي (1913 – 1986) اسم مثير للجدل في الأوساط العربية بالبلاد، إذ كان من أوائل النوّاب العرب في الكنيست الإسرائيلي الأول عام 1949 ودعم قرار تقسيم فلسطين. ولكن، الأكثر من ذلك بإنه تعاون مع الهاجاناه قبل تأسيس إسرائيل عام 1948.

لقد كان سيف الدين الزعبي من مواليد قرية نين (إحدى قرى المرج) تعلّم في الكتّاب، وختم القرآن في عمر العاشرة من عمره. (شاهد عيان، 1987). انتقل لمدينة الناصرة لكي يدرس في مدارسها، إلا أنّه ووفقًا لمذكّراته لم يلتزم بالدوام في صفوف الدراسة على الرغم من أنّه كان فصيح اللسان، وملّمًا بالشعر والأدب والسياسة. لقد تقلّد سيف الدين العديد من المناصب حتى تقلّد منصب رئيس بلدية الناصرة.

سيف الدين الزعبي وآرائه الجدلية

عند النظر إلى موقفه من قرار تقسيم فلسطين، كان سيف الدين الزعبي من أوائل الناس الذين نظروا إلى قرار تقسيم فلسطين نظرة مختلفة عن الباقي؛ إذ يورد لنا في مذكراته “شاهد عيان”: “وتقرّر هيئة الأمم المتحدة تقسيم فلسطين سنة 1947 وتثور ثائرة العرب، ويقرر العرب ومعهم دول عربية سبع أن ينتزعوا البلاد بقوة السلاح. أما أنا فقد رأيت آنذاك ما لم يره أولئك الذين انخدعوا وضُّللوا من قبل الزعماء العرب، ورأيت بما حباني الله من بعد نظربأنّ ما يقوله أولئك الزعماء هو غير ما يفعلون. وأنّ التقسيم الذي قُّرر لا بد وأن يكون وأنّه من مصلحة العرب وأن يقبلوا بالأمر الواقع قبل أن تقع الكارثة فيندمون.” ويستطرد الزعبي في مذكراته حول المشاكل والأزمات التي دارت بينه وبين الزعماء العرب وعلى رأسهم المفتي أمين الحسيني، الذي تبيّن لاحقًا أنه قد أرسل ببعض “الزعران” لكي يغتالوا سيف الدين الزعبي (شاهد عيان، 1987).

أما موقفه من الهاجاناه، فقد كان سيف الدين الزعبي نشطًا في صفوف “الهجاناه” وتحديدًا في وحدة الاستخبارات، وقد نال على ذلك “وسام محاربي إسرائيل.” وهذا النشاط مكّنه من مساعدة بعض اللاجئين الفلسطينيين على العودة إلى البلاد بل واستعادة أراضيهم الزراعية، لا سيما بعض وجاهات قرى مرج بن عامر مثل إكسال ودبورية؛ إذ ساهمت علاقته الخاصة مع موشيه شاريت ويغال ألون بمساعدة بعض الناس بالعودة إلى بيوتهم، وتأمين بعض الأشغال لهم بعدما استشرى الجوع  والمرض في مدينة الناصرة.

ولقد اعتبر الزعبي أن دورة الكنيست الإسرائيلي الأولى كان فيها من الديموقراطية الجديدة التي لم يشهدها العرب من قبل، إذ سُمِح لهم باختيار نائب والتصويت له وكان التصويت لأول مرة حقًّا للجميع ذكورًا وإناثًا، أغنياءً وفقراء. عقدت الدورة الأولى للكنيست في كانون الثاني من العام 1949، أي بعد أقل من عام على قيام الدولة، إذ كانت الحاجة تُلّح إلى تشكيل حكومة، وقد تشكّلت الحكومة بقيادة دافيد بن غوريون، فيما كان في هذه الدورة ثلاثة أعضاء عرب وهم: أمين سليم جرجورة وسيف الدين زعبي عن القائمة الديمواقراطية للناصرة، وتوفيق طوبي تحت كتلة الحزب الشيوعي الإسرائيلي. وقد حصدت حينها القائمة الديمواقراطية للناصرة مقعدين، بينما حصل الحزب الشيوعي الإسرائيلي على أربعة مقاعد.

اقرأ/ي أيضًا:  النوّاب العرب في الكنيست: توفيق الطوبي، سيف الدين الزعبي، وأمين جرجورة

 

اقتتال “الأخوة”: سيف الدين الزعبي والأعضاء العرب في الحزب الشيوعي الإسرائيلي

 

لا نشعر بوجود الحكم العسكري

سلسلة اعتداءات على أعضاء الحزب الشيوعي: صحيفة الاتحاد 26 أيار 1951

اتّهَمَت صحيفة الاتحاد التابعة للأعضاء العرب في الحزب الشيوعي الإسرائيلي سيف الدين زعبي بأنّه سياسي مثير للجدل في العديد من المواقف خلال عمله السياسي سواءًا في الكنيست أو بلدية الناصرة. على سبيل المثال، في العام 1951، اتُّهِم بتنظيم سلسلة من الاعتداءات على عدد من أعضاء الحزب الشيوعي الرافضين للحكم العسكري آنذاك مستخدمًا سلطته في الحكومة وعلاقاته. أمّا في العام 1960، خلال ترأسه لبلدية الناصرة، تحدّث باسم سكان الناصرة بأنّ “البلدية والأهالي لا يشعرون بوجود الحكم العسكري”. وفي انتخابات رئاسة بلدية الناصرة للعام 1971، عقّبت صحيفة الاتحاد أنّ الانتخابات تمّت في جلسة غير قانونية. وقد اتهم بتشكيل ائتلافات خاصة به داخل منظومة بلدية الناصرة، مما أدّى إلى الكشف عن فساد في إدارة سيف الدين الزعبي داخل البلدية. وقد توالت الأحداث والاشتباكات السياسية داخل البلدية مما أدّى بنشر خبر صحفي في صحيفة الاتحاد وُثِّق فيه تهديد سيف الدين الزعبي لعضو الحزب الشيوعي الإسرائيلي توفيق طوبي بالطرد من مدينة الناصرة. و لم تتوانى صحيفة الاتحاد باللحاق بالنائب سيف الدين الزعبي والكتابة عنه والكشف عن الفساد والخطابات السياسية، التي وصفتها الصحيفة، بأنها لا تمثّل العرب في البلاد.

 

 

 

 

انتخاب سيف الدين الزعبي في جلسة غير قانونية: صحيفة الاتحاد 30 نيسان 1971

 

ائتلاف سيف الدين في بلدية الناصرة
ائتلاف سيف الدين في بلدية الناصرة: الاتحاد 20 حزيران 1972

 

فساد إدارة سيف الدين الزعبي: الاتحاد 5 كانون الثاني 1973

 

سيف الدين يهدد توفيق الطوبي: الاتحاد 12 تشرين الثاني 1976

سكن سيف الدين الزعبي في البلدة القديمة لمدينة الناصرة في ستينيّات القرن الماضي في بيتٍ قديم بُني من العام 1888، وكان يتبع لجميعة عميدار للإسكان، وقد اشترته ابنته من ذات الجمعية في العام 2011 وحوّلته لمركز سياحيّ وبيت ضيافة وصله العديد من القادة والسياسيين أمثال شمعون بيريز، جولدا مائير، جيمي كارتر وغيرهم.

 

روضة الأطفال التي تحولت إلى مقر لقيادة الموساد في المغرب

في الصباح مربية أطفال، وفي المساء عميلة للموساد- إنّها قصة حقيقية وليست فيلم تجسس.

المربية اليهودية يحزقيلي غليلي (من اليسار) في احتفالات عيد الأنوار في الروضة العبرية الأولى، الدار البيضاء، المغرب.

المربية اليهودية يحزقيلي غليلي (من اليسار) في احتفالات عيد الأنوار في الروضة العبرية الأولى، الدار البيضاء، المغرب.

مُتّرجّم عن: شير أهارون برام

تخيّلوا الموقف التالي: تكلّفون بالسفر إلى دولة أجنبية، يطُلب منكم تأسيس روضة أطفال عبرية لأطفال الجالية اليهودية، وفي صباح أحد الأيام، تكتشفون أنّ الروضة التي أسّستموها- تحولت إلى قاعدة تدريبات للموساد، وأقيم فيها فرع للمنظمة السريّة اليهودية. هل تبدو لكم قصة من فيلم أكشن؟ ربما تكون كذلك، ولكنها قصة حقيقية، وهذا مجرّد غيض من فيض. تحدّثت بطلة القصّة فقط عمّا سمحت الرقابة بنشره: مع اقتراب نهاية عام 2022، نشرت لأول مرة قصة يهوديت يحزقيلي (غليلي)، “بعثة مصيرية”، حيث تحدثت عن التجارب المثيرة التي مرت بها في المغرب.

في عام 1954، كلّفت يهوديت غليلي بالسفر إلى المغرب من قبل قسم الثقافة والتعليم في الوكالة اليهودية.  كانت مهمّتها بسيطة: تأسيس روضة أطفال إسرائيلية-عبرية في المغرب، وتعليم اللغة العبرية. في تلك الفترة، كانت غليلي تعمل كمدرّسة في بلدة هارطوڤ، والتي ساهمت في إقامتها، وفي أحد الأيام، وبينما كانت تنتظر القطار عودةً إلى مدينة القدس، أخبرها أحد أصدقائها بأنّ الوكالة تبحث عن مدرّسين للسفر في إطار بعثة إلى دولة المغرب. مع أنّ يهوديت كانت تجهل موقع الدار البيضاء على الخارطة، إلّا أنّها لم تتردد – وبتشجيع من أصدقائها، قررت قبول المهمّة التي كلّفت بها. بعد أن اجتازت جميع المقابلات ومسار القبول، تقلّدت منصبًا رسميًا في المغرب عام 1954، ولم تكن قد تجاوزت بعد سن 24 عامًا.

ولدت غليلي عام 1930 في طبريا، وترعرعت في نيشر. شاركت في صِباها في فعاليات الشبيبة العاملة والمتعلمة ونشطت أيضًا في كتائب الشباب “غدناع”. قبل سفرها إلى المغرب، شاركت في دورة تأهيل قادة عسكريين في القوات البرية الإسرائيلية التابعة للبلماح، قاتلت في عمليات عسكرية وأصيبت في معركة حيفا. في أيار 1948، انضمت إلى لواء هريئيل حيث عملت في مرافقة وإرشاد القوافل الأمنية.

 

يهوديت غليلي (لاحقًا يحزقيلي) تتدرب على استخدام الأسلحة في تدريبات البلماح
يهوديت غليلي (لاحقًا يحزقيلي) تتدرب على استخدام الأسلحة في تدريبات البلماح

 

تدريبات لأعضاء البلماح وهم يجتازون مستجمعًا مائيًا. يهوديت غليلي يحزقيلي فوق أكتاف أحد الأشخاص
تدريبات لأعضاء البلماح وهم يجتازون مستجمعًا مائيًا. يهوديت غليلي يحزقيلي فوق أكتاف أحد الأشخاص

 

المهمّة: إقامة روضة أطفال في المغرب

كانت مهمّة يهوديت، على الأقل في بداياتها، جوهر النشاط الصهيوني خارج البلاد في تلك الفترة: استقطاب وتقريب يهود المغرب من البلاد، خاصة أبناء الطبقة الوسطى – الثرية، والذين ابتعدوا عن الفكرة الصهيونية وعن دولة إسرائيل. كانت الجالية اليهودية في المغرب أكبر جالية يهودية في البلدان الإسلامية. اعتاد اليهود المثقفون والأثرياء إرسال أبنائهم إلى مؤسسات تعليمية فرنسية بدلًا من الصهيونية، مثل الأليانس ومؤسسات تعليمية أخرى. جزء كبير من هذه الجالية، وقد تمركز العديد من ابنائها في الدار البيضاء ـ (حيث أرسلت يهوديت)، لم يفكروا قط في الهجرة إلى دولة إسرائيل. في تلك الفترة، كانت المغرب لا تزال “دولة واقعة تحت حماية” الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية – وشيكة الزوال. على الرغم من وقوع أحداث عنف معدودة (مثل البوغرومات في وجدة وجرادة والتي وقعت بعد إعلان استقلال دولة إسرائيل)، تمتّع اليهود في المغرب بقدر من الراحة النسبية تحت الحكم الفرنسي، ولكن دولة إسرائيل كانت تعلم أنّ حالة الهدوء لن تدوم طويلًا- ولذلك، أرسلت مبعوثيها لتقريب يهود المغرب من الفكرة الصهيونية، تحسّبًا لأي طارئ.

في السنة الأولى لهذا التكليف، سعت يهوديت لتأسيس روضة أطفال عبرية في الدار البيضاء، وإلى جانبها استوديو لتعليم اللغة العبرية. درّست اللغة العبرية في الروضة، وكانت العبرية اللغة المستخدمة في الروضة التي أدارتها يهوديت والمساعِدة تسيبورا، يهودية محلية تحدثت العبرية. اتبعت الروضة نفس نهج العمل الذي كان متبعًا في رياض الأطفال العبرية في البلاد، ووفقًا لنفس المنهاج. حضر الأطفال إلى الروضة في سفريات خاصة، وكانت معدات ولوازم الروضة عبارة عن تبرّعات قدّمتها جهات صهيونية في إسرائيل ومنظمة الجوينت. أقيمت الروضة في فيلا فخمة في الحي الفرنسي في الدار البيضاء، وخصّص فيها مسكن ليهوديت، والتي طوّرت خلال عملها علاقة وطيدة مع أهالي الأطفال من المجتمع المحلي، والذين كانت لهم لاحقًا مساهمة كبرى. تم لاحقًا تجنيد بعض الأهالي الذين أرسلوا أطفالهم إلى الروضة للانضمام إلى المنظمة السريّة اليهودية في المغرب – “همَسغيرت”. ابتداءً من عام 1954، كان عملاء الجهاز الأمني الإسرائيلي، وعلى رأسهم شلومو حافيليو، يكلفون بالسفر إلى المغرب، لفحص وتقييم وضع اليهود في الدولة. كانت المغرب تسعى لنيل الاستقلال، وكان على اليهود – الذين تحسنت مكانتهم خلال فترة الاستعمار الفرنسي – الاستعداد مجددًا للتغيير الوشيك. في الواقع، فإنّ المهمة الأصلية ليهوديت غليليت كانت مرتبطة بتحقيق هذا الهدف، إذ أنّ التشجيع على الهجرة كان أحد الطرق الرسمية التي اتبعتها إسرائيل للتعامل مع الوضع.

 

صورة جماعية لأطفال الروضة في عيد البوريم، يهوديت غليلي-يحزقيلي (الصف الثاني من اليمين)، نيشر.
صورة جماعية لأطفال الروضة في عيد البوريم، يهوديت غليلي-يحزقيلي (الصف الثاني من اليمين)، نيشر.

بعد مضي عام على بدء العمل، خرجت يهوديت في إجازة قصيرة. عند عودتها، كانت البلاد في حالة سيئة. فقد تم قبل ذلك نفي السلطان محمد الخامس، حدث في مصر انقلاب وفقدت المنطقة بأسرها أمنها واستقرارها. توقعت دولة إسرائيل انضمام المغرب إلى المعسكر المعادي لإسرائيلي، كسائر البلدان العربية، وساد القلق والخوف على حياة نحو 200,000 يهودي في المغرب. سرّع الموساد عملية تأسيس “همسغيرت”، المنظمة السرية اليهودية في المغرب، وبدأت خلايا المنظمة تنتشر سرًا في مختلف أرجاء الدولة. افتتحت إحداها داخل الروضة التي أسّستها يهوديت غليلي. كان يوم 16 تشرين الأول 1955، وهو يوم عودة ملك المغرب إلى بلاده، نقطة تحول بالنسبة ليهوديت. سعت المنظمة السرية في تلك الفترة لإيجاد غطاء تتستر خلفه، الاندماج بين عملاء الوكالة المخولين رسميًا بالتواجد في الدولة، وتم تجنيد سكان محليين في صفوفها. وعليه، وعند عودة يهوديت من إجازتها القصيرة، اكتشفت أنّ الروضة التي أقيمت في الفيلا باتت تستخدم لأغراض أخرى.

 

الملك محمد الخامس ونجله حسن عند عودتهما من المنفى في مدغشقر، داخل مركبة وترافقهما فرقة خيالة، شوارع الدار البيضاء، المغرب. تصوير: يهوديت غليلي.
الملك محمد الخامس ونجله حسن عند عودتهما من المنفى في مدغشقر، داخل مركبة وترافقهما فرقة خيالة، شوارع الدار البيضاء، المغرب. تصوير: يهوديت غليلي.

 

يهوديت غليلي، الاسم المستعار: “نورا”

“عند صعود السلّم باتجاه غرفتي، سمعت أصواتًا غريبة صادرة عن الطابق الثاني (…). هممت بالانصراف بسرعة، ولكنني فوجئت برؤية أشخاص غرباء، وأعتقد أنّهم هم أيضًا ذعروا أكثر مما ذعرت أنا نفسي… كان من المفترض أن يكونوا عملاء “سريين”، تسللوا إلى المغرب كل على حدة، ولم يكن أحد يعلم بوجودهم هنا، وفجأة، يُكتشف مخبأهم أمام إسرائيلية مجهولة….”. هكذا استحضرت يهوديت غليلي لقاءها الأول بنشطاء المنظمة السرية اليهودية في المغرب. كان شلومو يحزقيلي، قائد الخلية ولاحقًا زوج يهوديت، أول من استعاد رباطة جأشه ودعاها للجلوس ومن ثم التحقيق معها بعد أن قدّم نفسه باختصار. “أجبت عن جميع الأسئلة كطفلة مطيعة، وفي النهاية، نفذ صبري. بنبرة غاضبة وواضحة، قلت مندفعة، ما هذه التحقيقات؟ من أنتم؟ بأي حق تدخلون الروضة؟ أنا أسكن هنا وهذه روضتي!”، كتبت يهوديت عن ذاك اللقاء. بعد هذا التعبير الحازم عن موقفها، كُسر الجليد، وفي نهاية المطاف، وجدت يهوديت نفسها مجنّدة للمنظمة السرية اليهودية في المغرب. وافقت على الانضمام مع أنّها لم تكن تعلم ما يدور، وذلك بعد أن اكتشفت أن أعضاء المنظمة يعرفون عنها كل شيء دون أن تنبس ببنت شفة.

 

طفلة تقدّم تبرعًا للصندوق الأزرق الخاص بالصندوق القومي اليهودي، الروضة العبرية، الدار البيضاء، المغرب. في الوسط يهوديت يحزقيلي غليلي. أطفال الروضة متنكرين في عيد البوريم.
طفلة تقدّم تبرعًا للصندوق الأزرق الخاص بالصندوق القومي اليهودي، الروضة العبرية، الدار البيضاء، المغرب. في الوسط يهوديت يحزقيلي غليلي. أطفال الروضة متنكرين في عيد البوريم.

 

في ذاك اللقاء الذي اقتحمته غليليت بدون قصد، قرر أعضاء “همسغيرت” الاستقرار في مبنى الروضة في الدار البيضاء، لتصبح الروضة بذلك مقرًا مؤقتًا للمنظمة السرية اليهودية في المغرب.  تم تجهيز وتهيئة قبو الروضة ليصبح مخبأ الأسلحة الأول للتنظيم اليهودي، ومن ثم مقرًا للتدريبات، مقرًا لتفكيك وتركيب الأسلحة والوسائل القتالية ومقرًا للقاءات السريّة لضم المجندين الجدد. انتحل أعضاء المنظمة شخصية عملاء الوكالة، لتتحول المنظمة بذلك من ذراع صهيوني معترف به إلى جهة متداخلة عميقًا في نشاط الموساد. أصبحت يهوديت “المتعلمة” موردًا ثمينًا بالنسبة للمنظمة السرية. عملها كمربية أطفال أتاح لها المجال للتواصل مع السكان المحليين- ابتداءً من أهالي أطفال الروضة وحتى تلاميذ استوديو تدريس اللغة العبرية، الإصغاء للآخرين وفهم الأجواء السائدة- والأهم من ذلك كلّه- إيجاد عملاء محتملين يمكن تجنيدهم.  تعلّمت يهوديت كيفية الكتابة بحبر سري وتجهيز مخابئ الأسلحة، تدرّبت على مختلف طرق جمع المواد والمعلومات واستخدمت الاسم المستعار- “نورا”. بالإضافة إلى المهارات أعلاه، أدّت يهوديت دور المبعوثة وهمزة وصل بين المجموعات المختلفة، وبدأت أيضًا بتزوير جوازات سفر لليهود الذين أرادوا الهروب من المغرب.

 

مربية الأطفال يهوديت يحزقيلي وأطفال الروضة العبرية الأولى متنكرين في عيد البوريم، الدار البيضاء، المغرب.
مربية الأطفال يهوديت يحزقيلي وأطفال الروضة العبرية الأولى متنكرين في عيد البوريم، الدار البيضاء، المغرب.

 

روضة الأطفال ومقر المنظمة السرية اليهودية

كيف سارت الأمور في الواقع؟ إليكم مثال: حضرت كارميلا، يونا وابنتهما أورلي- عميلا موساد وابنتهما- إلى المغرب كعملاء للوكالة واستقروا في الدار البيضاء. سجّلت الطفلة أورلي في روضة يهوديت، لتسهيل المحادثات بين يهوديت والزوجين. عندما كانت كارميلا تحضر ابنتها إلى الروضة صباحًا، كانت تترك ليهوديت رزمًا ورسائل مصنّفة، لتقوم يهوديت بدورها بتوصيلهما إلى وجهتها. كان يونا نائب شلومو يحزقيلي، قائد المنظمة السرية اليهودية، وكان مسؤولًا عن استلام الأسلحة، تخبئتها والتدريب على استخدامها. كان أيضًا متخصصًا في صنع مغلّفات مزدوجة ذات محتويات سرية.  عندما كان يأتي إلى الروضة، كان يهتم بصنع مخابئ مختلفة داخل الفيلا، على سبيل المثال، داخل أصيص كبير أمام الفيلا حيث حفر تجويفًا لتخبئة المناشير. استُخدمت المخابئ لتشفير الرسائل وتخبئة الأسلحة.  تزامنًا مع ذلك، أصبحت يهوديت هي أيضًا جاسوسة: كل محادثة مع أهالي أطفال الروضة أصبحت مصدر معلومات تم تمريرها لأعضاء المنظمة السرية. من بين طالبات استوديو تدريس اللغة العبرية، كانت هناك فتيات ونساء عاملات في مكاتب حكومية أو لدى مسؤولين قياديين في مؤسسات مختلفة، وتم تجنيدهن هن أيضًا لجمع المعلومات. استخدمت الروضة أيضًا كمقر لإرسال ممتلكات العائلات اليهودية التي لم يتمكنوا من أخذها عند الهجرة، وفيه شبكة لاسلكية بين المغرب وفرنسا. تدربت في الروضة خلايا سرية لا تعرف شيئًا عن بعضها بعضًا، وكانت فيها أيضًا مناطق تُفتح وتُغلق عند سماع كلمة المرور الصحيحة.  تجدر الإشارة إلى أنّ الروضة تابعت نشاطها الاعتيادي إلى جانب هذا النشاط السري.

 

قصة حب. شلومو يحزقيلي، قائد "همسغيرت" وزوجته يهوديت غليلي التي جنّدها للمنظمة السرية، في صف تدريس اللغة العبرية والحساب، الدار البيضاء، المغرب
قصة حب. شلومو يحزقيلي، قائد “همسغيرت” وزوجته يهوديت غليلي التي جنّدها للمنظمة السرية، في صف تدريس اللغة العبرية والحساب، الدار البيضاء، المغرب

 

في بداية حزيران 1956، أصدرت السلطات في المغرب قرارًا بتقليص نطاق النشاط الصهيوني في البلاد. حتى إغلاقها نهائيًا، تابعت روضة غليلي نشاطها مكتملة العدد، إلى جانب كونها مقر المنظّمة السرية “همسغيرت”. بعد إغلاقها، انتقلت المنظمة السرية اليهودية للعمل في مناطق أخرى ومن أماكن مختلفة. لم تغادر يهوديت غليليت المغرب، ولكنها تابعت نشاطها في مخيم المهاجرين “مازاغان” بجوار الدار البيضاء، إلى أن اضطرت لمغادرة البلاد. تابعت لاحقًا نشاطها من مرسيليا من أجل يهود المغرب.

 

غليلي تتابع نشاطها حتى بعد ترحيلها من الدولة. يهوديت غليلي يحزقيلي تكتب على آلة كاتبة قائمة بأسماء المهاجرين غير الشرعيين من المغرب إلى إسرائيل، مرسيليا، فرنسا
غليلي تتابع نشاطها حتى بعد ترحيلها من الدولة. يهوديت غليلي يحزقيلي تكتب على آلة كاتبة قائمة بأسماء المهاجرين غير الشرعيين من المغرب إلى إسرائيل، مرسيليا، فرنسا

 

تزوجت لاحقًا من شلومو يحزقيلي، قائد “همسغيرت” في المغرب، والذي التقت به للمرة الأولى في ذاك اليوم المصيري. تابعا معًا نشاطهما الأمني، الاستخباراتي والجماهيري الإسرائيلي في باريس بين 1960 و 1964. سكنا لاحقًا في أفريقيا في إطار منصب رسمي، ومن ثم عادا إلى البلاد. عملت يهوديت في التربية والتعليم والكتابة، وإلى جانب نشاطها التربوي، عملت في الرسم، النحت، تأليف القصص وإنتاج الأفلام. أصدرت تسعة كتب وعشرات المقالات، نظّمت معارض وأنتجت ثلاثة أفلام. فازت خلال حياتها بعدة جوائز، أنجبت من زوجها شلومو غليلي ثلاثة أبناء وأسّست عائلة في إسرائيل. يسرد كتابها الأخير، “بعثة مصيرية”، قصة بعثتها إلى المغرب، وهو يشكّل مرجعًا لكتابة هذه المقالة. القصة متاحة للقراءة عبر الإنترنت. (باللغة العبرية)

 

كما في فيلم تجسس. يهوديت غليلي يحزقيلي (من اليمين) مع شلومو يحزقيلي في مقهى، الدار البيضاء ـ المغرب
كما في فيلم تجسس. يهوديت غليلي يحزقيلي (من اليمين) مع شلومو يحزقيلي في مقهى، الدار البيضاء ـ المغرب

 

الصور في المقالة هي جزء من مشروع شبكة أرشيفات إسرائيل وهي متاحة في إطار تعاون بين ياد يتسحاق بن تسفي، وزارة شؤون القدس والتراث والمكتبة الوطنية الإسرائيلية.