تُرجِم عن: ميا امران
إذا سؤلتم عن اشهر كاتب للمسرحيات في التاريخ فانكم في الغالب ستقولون شكسبير. حتى وإن لم تحبوه أو تستمتعوا بقرائته، وحتى لو أكرهتم على قراءة جزء من أعماله في درس الإنجليزيّة حين كنتم طلاب يافعين في المدرسة، فإنكم على الأقل تعرفون هذا الاسم. وغالبا تستطيعون أن تسمّوا بعضًا من أعماله الشهيرة.
إلا أن عالم شيكسبير الخاص ليس بالبساطة التي يبدو عليها، فهو بالتأكيد ليس رجلًا إنجليزيًا عاديًا في إنجلترا القرن السادس عشر. فالعديد من الكتّاب المعاصرين طرحوا نظريّة تقول بأن شيكسبير لم يكن رجلًا واحدًا، بل عدّة أشخاص كتبوا تحت اسم فني مشترك “شيكسبير”.
ظهرت الكثير من الأدلة حول هذه النظرية في العقود الخمسة الاخيرة، ومن السهل ان نلاحظ لماذا تكتسب هذه النظرية كل هل هذا الاهتمام عاما بعد عام. فبداية، إن الطريقة التي يصف بها شيكسبير الحياة الملكية والحياة العبودية معًا بتفاصيل مذهلة تشير إلى أن كاتبها كان بإمكانه دخول كلا العالمين ومعايشتهما، وهو أمر غير مألوف على الإطلاق في إنجلترا في مطلع القرن السادس عشر. ربما نرى اليوم أنه من السهل أن يتمكن المرء من الكتابة عن بحّار مرة وعن خادم مرة ثانية، أو عن أمير وعن فقير في الوقت نفسه، ولكن إذا أخذنا بعين الاعتبار أن بالفترة التاريخية التي عاش بها شيكسبير كانت حقبة لا يخرج بها معظم الناس من قراهم وبلداتهم الصغيرة ناهيك عن أوطانهم، سنفهم الغرابة التي عكستها قدرة شيكسبير لهذا الفهم الحميمي للعديد من أنماط الحياة حينها. فالحديث هنا عن شخص لم يمتلك مركبة، أوهاتف أو شبكة إنترنت كما نعيش نحن، بل اعتمد على البريد البطيء جدًا من أجل التحدث مع شخص من خارج قريته.
إذًا يمكننا أن نسأل، كيف تمكن شيكسبير في مسرحياته من وصف كل هذه الحياوات التي بلا شكّ لم يراها بنفسه؟ إنّه يصوّر العديد من البلاد بتفاصيل كثيرة، على الرغم من أنه بالتأكيد لم يمتلك الوقت الكافي أو الموارد الكافية ليجوب كل هذه الأماكن. بالإضافة الى ذلك، شيكسبير يصف مذاق البرتقال في مسرحية “جعجعة بلا طحن”، وهي فاكهة لم تدخل وطنه إنجلترا إلا بعد عقود من وفاته. من الصعب أن نصدق أن شخصًا واحدًا تمكن من خوض هذا الكم من التجارب ليستلهم منها ويكتب عنها قبل أكثر من 500 عام، بدون إنترنت أو حتى مكتبة من النمط الحديث.
كيف لنا أن نصدق أن رجلًا من الطبقة الوسطى مولود في بلدة ستاتفورد في ذلك الوقت كتب مسرحيات بالعمق والتنوع الذي نراه في إرث شيكسبير؟ نرى في هذه الأعمال معرفة قريبة وحميمة من حاشية الملكة إليزابيث، وقدرة على الكتابة بلغات متعددة، ومعرفة في مجالات القانون والفلك والموسقى والجيش والقارّات الأخرى وبلدات عديدة على امتداد أوروبا. إنّ هذا الأمر محيّر جدًا، خاصة لأنه إلى اليوم لم يظهر أي دليل على خروج شيكسبير من وطنه إنجلترا قط! عدا عن أن اللغة والمصطلحات والقدرة التعبيرية التي بثها في مسرحياته لا يمكن أن تلائم شخصًا أنهى تعليمه الرسمي في سنّ الثالثة عشر!
إذا لم تنجح الأدلة السابقة بإثارة فضولكم فربما تفعل هذه المعلومة: بعد وفاة شيكسبير لم توجد أي كتابة خطية أو مسودة أصلية لأي من أعماله في بيته، ولا أي دليل على أنه كتب يومًا ما بالقلم على ورقة، ولا أي كتاب او آلة موسيقية مع أنه من المفترض أنه أتقن العزف على أكثر من عشرين آلة، كما لم يترك في وصيته أي شيء لابنته، بالرغم من الشخصية النسوية التي يظهرها في العديد من أعماله (نقطة سنعود للحديث عنها لاحقًا).
أن ما يرجّح كون شكسبير عدة أشخاص وليس إنسان واحد هو أن توقيع شيكسبير يظهر في المخطوطات المتنوعة بسبعة تهجئات مختلفة. وهي مخطوطات جميعها وجدت في أماكن غير متوقعة بعد سنوات من وفاته، ولم تكن هناك من طريقة لتتبع رحلة خروجها من بلدته التي عاش فيها. رأى العديد من العلماء المختصين بعد الاطلاع على الكثير من هذه المخطوطات التي تحمل توقيع شيكسبير أنّه من الممكن جدًا أن لا تكون هذه التوقيعات مكتوبة بيد شخص واحد.
تمكنت النساء في القرن السادش عشر من التعبير عن حقيقتها في فرص نادرة وشبه معدومة، ناهيك عن الكتابة للملأ! ولذلك فإذا افترضنا وجود مجموعة من الكاتبات يسعين إلى تمكين بعضهن، فإن اسم فني جماعي سيكون رمزًا أدبيًا رائعًا لهنّ، ليرمز لمن هم على معرفة بالسّر، بأن هذا العمل أيضًا كتبته امرأة. شيكسبير!
إن كنتم ما زلتم في حالة شك من هذه الأمر، دعونا نتحدّث عن الجانب الأنثوي والنسوي المميز في أعمال شيكسبير. ربما اليوم هنالك رجال قادرين على الكتابة بشكل لائق من منظور امرأة، فهم بالتأكيد محاطون بنساء يشاركنهم بتفاصيل حياتهن الحميمية كنساء، وهي تفاصيل ليس لرجل أن يعرفها بمفرده.
السيدة مكبث وأختها في مسرحية مكبث تصفان أنوثتهما بدقة، وهي مسرحية من المفترض أن من كتبها رجل. وبياتريس في مسرحية جعجعة بلا طحن شخصية تصطدم بأسلوب فريد مع محدودية أن يكون الإنسان امرأة. وروزاليند في كما تشاء تتصنّع سلوكًا غير طبيعي لتبدو أكثر “ذكوريةً” وبالتالي تتقدم أكثر في حياتها، وهو تصرّف من النادر أن يتفهمه او يلاحظه إنسان ليس بنفسه امرأة مضطهدة. ايزابيلا في مسرحية الصاع بالصاع تفهم، كما تفهم النساء بأسف دائمًا، إن كلمتها لا تُسمع أو تؤخذ على محمل الجد كما هل كلمة الرجل، ولذلك تخاف من أن لا يسمع أحد شكواها. وإيميليا في مسرحية عطيل تجادل بشغف للمطالبة بالمساواة للنساء. هذه الأمثلة كلها تدل على معرفة كبيرة للصراعات الداخلية للنساء في ذلك الوقت، ومن الصعب أن نصدق أن رجلًا تمكن من الإحساس والتعبير عن كل هذه النماذج الحقيقية في فترة مبكرة كهذه.
تسأل تينا بيكر في كتابها “نساء ذوات إرادة” : “لماذا تمكّن شيكسبير من رؤية موقع النساء كما لو كان امرأة بنفسه، وبطريقة لم يتمكّن من اظهارها أي من أقرانه من كتّاب المسرحيات في زمانه؟”. هناك سبب واضح ووحيد ليدفع شخص او مجموعة من الاشخاص للكتابة باسم مستعار في زمان الملكة اليزابيث في انكلترا، ان يكون هذا الشخص او هؤلاء الاشخاص إناث. تقول الفيلسوفة وكاتبة المسرحية وليدة القرن السابع عشر في انكلترا ليدي مارجريت كافينديش “قد يظن الشخص ان شيكسبير قد تحوّل من رجل إلى امرأة”!.
قد يبدو ضرب من الطيش ان نفترض ان شيكسبير ما كان الا اسم سرّي استخدمته مجموعة سريّة من النساء المتخفيّات الجامحات ليقلن كلمتهنّ في القرن السادس عشر. لكن هذه النظرية في الحقيقة تكتسب المزيد والمزيد من القبول كل عام. في الواقع لقد تمّت مناقشتها بالتفصيل في مؤتمر شيكسبير الدولي في العام الماضي من قبل أشهر العلماء المختصين في اعمال شيكسبير حول العالم.
يلفت النظر بذكاء الكاتب جون روسكين إلى نقطة مهمّة”لم يكن لشكسبير ابطال رجال قط في اعماله بل بطلات نساء فقط”. والكثير من بطلات شكسبير كنّ نسويات للغاية: على الاقل عشرة من بطلات شيكسبير تحدّين آبائهن، ثمانية منهنّ تنكّرن بهيئة رجال، ستّة قدن جيوش – هذا كله كان بعيد كل البعد عما هو مألوف في المسرحيات التي كتبها رجال قبل منتصف القرن العشرين!
واذا احتجنا للمزيد من الأدلة، فإن قصة صغيرة مثيرة للاهتمام موجودة في أعمال غابرييل هارفي وهو ناقد أدبي هام في الأدب الإليزابيثي. في العام 1593 يذكر بغموض امرأة نبيلة ممتازة كتبت ثلاثة سونيتات (أغاني قصيرة) ومسرحية كوميديّة. يقول: “لا أجرؤ على وصفها”. في العام 1593، كان لشيكسبير بالفعل ثلاثة سونيتات ومسرحية كوميديّة.
على الأقل واحدة من النساء اللتي يفترض انها كانت جزء من هذه الجماعة النسائية، ايميليا باسانو، كانت يهودية. وهو سبب اضافي نظرًا لمعاداة السامية في القرن السادس عشر لاخفاء هويتها الحقيقية. رالف والدو امرسون الفيلسوف والشاعر الامريكي، والت ويتمان (شاعر امريكي)، مارك توين الروائي الامريكي، هنري جيمس المؤلف البريطاني ومؤسس المدرسة الواقعية في الادب الخيالي، سيغموند فرويد اب التحليل النفسي، هيلين كيلر الاديبة والناشطة الامريكية وتشارلي تشابلن الممثل الكوميدي الانجليزي الشهير، كل هؤلاء يقترحون أسماء لنساء عديدات يعتقدون بأنهن كتبن تحت اسم شيكسبير الجماعي. جزء كبير من نظريتهم يعتمد على ان شيكسبير، بالرغم من التوثيق المعروف عن حياته كممثل ومالك مسرح، لم يترك اي وثيقة عن دفع مبلغ من المال للاعمال المسرحية، ولا دفتر مذكرات واحد يدل على انه امسك القلم. مثال على ذلك، فإن زوجته التي كتبت الكثير من المذكرات، لم تذكر مرة واحدة ان زوجها كان كاتب للمسرحيات.
فهل كان شيكسبير مجموعة من النساء من حول العالم؟ تكتبن تحت اسم مستعار واحد وبالتالي تستعرضن عبقريّتهنّ الأدبية قبل سماح المجتمع لهنّ بذلك بقرون؟ قد لا نعرف الإجابة على هذا السؤال ابدًا. ولكن يمكننا ان نختار تصديق ما نشاء.
تعد المكتبة الوطنية واحدة من المؤسسات القليلة حول العالم التي تمتلك نسخة أصلية عن “المطوية الأولى” وهو الاسم الذي اطلقه الباحثين على مجموعة من أعمال شيكسبير المسرحية التي نُشرت عام 1623. هذه المادة الفريدة، بالإضافة إلى مخطوطات متعلقة بشيكسبير تمّ إيداعها في المكتبة الوطنية دون الافصاح عن هوية المتبرّع في خريف عام 2022.