من كان/كانت/كنّ شيكسبير؟ الكشف عن الهوية السرية لعلامة الإبداع المسرحي

لسنوات طويلة كانت هويّة ويليام شكسبير محل غموض كبير. ماذا لو كان كاتب المسرحيات اللامع في الحقيقة امرأة او أكثر من امرأة؟ دعونا ننظر إلى الأدلة المطروحة في هذا المقال.

تُرجِم عن: ميا امران

إذا سؤلتم عن اشهر كاتب للمسرحيات في التاريخ فانكم في الغالب ستقولون شكسبير. حتى وإن لم تحبوه أو تستمتعوا بقرائته، وحتى لو أكرهتم على قراءة جزء من أعماله في درس الإنجليزيّة حين كنتم طلاب يافعين في المدرسة، فإنكم على الأقل تعرفون هذا الاسم. وغالبا تستطيعون أن تسمّوا بعضًا من أعماله الشهيرة.

إلا أن عالم شيكسبير الخاص ليس بالبساطة التي يبدو عليها، فهو بالتأكيد ليس رجلًا إنجليزيًا عاديًا في إنجلترا القرن السادس عشر. فالعديد من الكتّاب المعاصرين طرحوا نظريّة تقول بأن شيكسبير لم يكن رجلًا واحدًا، بل عدّة أشخاص كتبوا تحت اسم فني مشترك “شيكسبير”.

ظهرت الكثير من الأدلة حول هذه النظرية في العقود الخمسة الاخيرة، ومن السهل ان نلاحظ لماذا تكتسب هذه النظرية كل هل هذا الاهتمام عاما بعد عام. فبداية، إن الطريقة التي يصف بها شيكسبير الحياة الملكية والحياة العبودية معًا بتفاصيل مذهلة تشير إلى أن كاتبها كان بإمكانه دخول كلا العالمين ومعايشتهما، وهو أمر غير مألوف على الإطلاق في إنجلترا في مطلع القرن السادس عشر. ربما نرى اليوم أنه من السهل أن يتمكن المرء من الكتابة عن بحّار مرة وعن خادم مرة ثانية، أو عن أمير وعن فقير في الوقت نفسه، ولكن إذا أخذنا بعين الاعتبار أن بالفترة التاريخية التي عاش بها شيكسبير كانت حقبة لا يخرج بها معظم الناس من قراهم وبلداتهم الصغيرة ناهيك عن أوطانهم، سنفهم الغرابة التي عكستها قدرة شيكسبير لهذا الفهم الحميمي للعديد من أنماط الحياة حينها. فالحديث هنا عن شخص لم يمتلك مركبة، أوهاتف أو شبكة إنترنت كما نعيش نحن، بل اعتمد على البريد البطيء جدًا من أجل التحدث مع شخص من خارج قريته.

إذًا يمكننا أن نسأل، كيف تمكن شيكسبير في مسرحياته من وصف كل هذه الحياوات التي بلا شكّ لم يراها بنفسه؟ إنّه يصوّر العديد من البلاد بتفاصيل كثيرة، على الرغم من أنه بالتأكيد لم يمتلك الوقت الكافي أو الموارد الكافية ليجوب كل هذه الأماكن. بالإضافة الى ذلك، شيكسبير يصف مذاق البرتقال في مسرحية “جعجعة بلا طحن”، وهي فاكهة لم تدخل وطنه إنجلترا إلا بعد عقود من وفاته. من الصعب أن نصدق أن شخصًا واحدًا تمكن من خوض هذا الكم من التجارب ليستلهم منها ويكتب عنها قبل أكثر من 500 عام، بدون إنترنت أو حتى مكتبة من النمط الحديث.

كيف لنا أن نصدق أن رجلًا من الطبقة الوسطى مولود في بلدة ستاتفورد في ذلك الوقت كتب مسرحيات بالعمق والتنوع الذي نراه في إرث شيكسبير؟ نرى في هذه الأعمال معرفة قريبة وحميمة من حاشية الملكة إليزابيث، وقدرة على الكتابة بلغات متعددة، ومعرفة في مجالات القانون والفلك والموسقى والجيش والقارّات الأخرى وبلدات عديدة على امتداد أوروبا. إنّ هذا الأمر محيّر جدًا، خاصة لأنه إلى اليوم لم يظهر أي دليل على خروج شيكسبير من وطنه إنجلترا قط! عدا عن أن اللغة والمصطلحات والقدرة التعبيرية التي بثها في مسرحياته لا يمكن أن تلائم شخصًا أنهى تعليمه الرسمي في سنّ الثالثة عشر!

 

أفيمرا- هاملت، 1948-2006، أرشيف روني تورين، مشروع إتاحة بالتعاون بين وزارة القدس والتراث وجامعة حيفا والمكتبة الوطنية الإسرائيليّة
أفيمرا- هاملت، 1948-2006، أرشيف روني تورين، مشروع إتاحة بالتعاون بين وزارة القدس والتراث وجامعة حيفا والمكتبة الوطنية الإسرائيليّة

 

أفميرا – هاملت، 1948-2006، أرشيف روني تورين، مشروع إتاحة بالتعاون بين وزارة القدس والتراث وجامعة حيفا والمكتبة الوطنية الإسرائيليّة
أفميرا – هاملت، 1948-2006، أرشيف روني تورين، مشروع إتاحة بالتعاون بين وزارة القدس والتراث وجامعة حيفا والمكتبة الوطنية الإسرائيليّة

 

إذا لم تنجح الأدلة السابقة بإثارة فضولكم فربما تفعل هذه المعلومة: بعد وفاة شيكسبير لم توجد أي كتابة خطية أو مسودة أصلية لأي من أعماله في بيته، ولا أي دليل على أنه كتب يومًا ما بالقلم على ورقة، ولا أي كتاب او آلة موسيقية مع أنه من المفترض أنه أتقن العزف على أكثر من عشرين آلة، كما لم يترك في وصيته أي شيء لابنته، بالرغم من الشخصية النسوية التي يظهرها في العديد من أعماله (نقطة سنعود للحديث عنها لاحقًا).

أن ما يرجّح كون شكسبير عدة أشخاص وليس إنسان واحد هو أن توقيع شيكسبير يظهر في المخطوطات المتنوعة بسبعة تهجئات مختلفة. وهي مخطوطات جميعها وجدت في أماكن غير متوقعة بعد سنوات من وفاته، ولم تكن هناك من طريقة لتتبع رحلة خروجها من بلدته التي عاش فيها. رأى العديد من العلماء المختصين بعد الاطلاع على الكثير من هذه المخطوطات التي تحمل توقيع شيكسبير أنّه من الممكن جدًا أن لا تكون هذه التوقيعات مكتوبة بيد شخص واحد.

 

توقيع شيكسبير على غلاف أول نسخة من كتاب هاينريش كورنيليوس، 1640، المكتبة الوطنية الإسرائيلية
توقيع شيكسبير على غلاف أول نسخة من كتاب هاينريش كورنيليوس، 1640، المكتبة الوطنية الإسرائيلية

 

تمكنت النساء في القرن السادش عشر من التعبير عن حقيقتها في فرص نادرة وشبه معدومة، ناهيك عن الكتابة للملأ! ولذلك فإذا افترضنا وجود مجموعة من الكاتبات يسعين إلى تمكين بعضهن، فإن اسم فني جماعي سيكون رمزًا أدبيًا رائعًا لهنّ، ليرمز لمن هم على معرفة بالسّر، بأن هذا العمل أيضًا كتبته امرأة. شيكسبير!

إن كنتم ما زلتم في حالة شك من هذه الأمر، دعونا نتحدّث عن الجانب الأنثوي والنسوي المميز في أعمال شيكسبير. ربما اليوم هنالك رجال قادرين على الكتابة بشكل لائق من منظور امرأة، فهم بالتأكيد محاطون بنساء يشاركنهم بتفاصيل حياتهن الحميمية كنساء، وهي تفاصيل ليس لرجل أن يعرفها بمفرده.

 

هاملت، تصوير ايسيا فينبرغ، من مسرح بيت ليسن
هاملت، تصوير ايسيا فينبرغ، من مسرح بيت ليسن

 

هاملت، تصوير ايسيا فينبرغ، من مسرح بيت ليسن
هاملت، تصوير ايسيا فينبرغ، من مسرح بيت ليسن

 

هاملت، تصوير ايسيا فينبرغ، من مسرح بيت ليسن
هاملت، تصوير ايسيا فينبرغ، من مسرح بيت ليسن

 

هاملت، تصوير ايسيا فينبرغ، من مسرح بيت ليسن
هاملت، تصوير ايسيا فينبرغ، من مسرح بيت ليسن

السيدة مكبث وأختها في مسرحية مكبث تصفان أنوثتهما بدقة، وهي مسرحية من المفترض أن من كتبها رجل. وبياتريس في مسرحية جعجعة بلا طحن شخصية تصطدم بأسلوب فريد مع محدودية أن يكون الإنسان امرأة. وروزاليند في كما تشاء تتصنّع سلوكًا غير طبيعي لتبدو أكثر “ذكوريةً” وبالتالي تتقدم أكثر في حياتها، وهو تصرّف من النادر أن يتفهمه او يلاحظه إنسان ليس بنفسه امرأة مضطهدة. ايزابيلا في مسرحية الصاع بالصاع تفهم، كما تفهم النساء بأسف دائمًا، إن كلمتها لا تُسمع أو تؤخذ على محمل الجد كما هل كلمة الرجل، ولذلك تخاف من أن لا يسمع أحد شكواها. وإيميليا في مسرحية عطيل تجادل بشغف للمطالبة بالمساواة للنساء. هذه الأمثلة كلها تدل على معرفة كبيرة للصراعات الداخلية للنساء في ذلك الوقت، ومن الصعب أن نصدق أن رجلًا تمكن من الإحساس والتعبير عن كل هذه النماذج الحقيقية في فترة مبكرة كهذه.

تسأل تينا بيكر في كتابها “نساء ذوات إرادة” : “لماذا تمكّن شيكسبير من رؤية موقع النساء كما لو كان امرأة بنفسه، وبطريقة لم يتمكّن من اظهارها أي من أقرانه من كتّاب المسرحيات في زمانه؟”. هناك سبب واضح ووحيد ليدفع شخص او مجموعة من الاشخاص للكتابة باسم مستعار في زمان الملكة اليزابيث في انكلترا، ان يكون هذا الشخص او هؤلاء الاشخاص إناث. تقول الفيلسوفة وكاتبة المسرحية وليدة القرن السابع عشر في انكلترا ليدي مارجريت كافينديش “قد يظن الشخص ان شيكسبير قد تحوّل من رجل إلى امرأة”!.

قد يبدو ضرب من الطيش ان نفترض ان شيكسبير ما كان الا اسم سرّي استخدمته مجموعة سريّة من النساء المتخفيّات الجامحات ليقلن كلمتهنّ في القرن السادس عشر. لكن هذه النظرية في الحقيقة تكتسب المزيد والمزيد من القبول كل عام. في الواقع لقد تمّت مناقشتها بالتفصيل في مؤتمر شيكسبير الدولي في العام الماضي من قبل أشهر العلماء المختصين في اعمال شيكسبير حول العالم.

يلفت النظر بذكاء الكاتب جون روسكين إلى نقطة مهمّة”لم يكن لشكسبير ابطال رجال قط في اعماله بل بطلات نساء فقط”. والكثير من بطلات شكسبير كنّ نسويات للغاية: على الاقل عشرة من بطلات شيكسبير تحدّين آبائهن، ثمانية منهنّ تنكّرن بهيئة رجال، ستّة قدن جيوش – هذا كله كان بعيد كل البعد عما هو مألوف في المسرحيات التي كتبها رجال قبل منتصف القرن العشرين!

واذا احتجنا للمزيد من الأدلة، فإن قصة صغيرة مثيرة للاهتمام موجودة في أعمال غابرييل هارفي وهو ناقد أدبي هام في الأدب الإليزابيثي. في العام 1593 يذكر بغموض امرأة نبيلة ممتازة كتبت ثلاثة سونيتات (أغاني قصيرة) ومسرحية كوميديّة. يقول: “لا أجرؤ على وصفها”. في العام 1593، كان لشيكسبير بالفعل ثلاثة سونيتات ومسرحية كوميديّة.

كاندوس بورتريه (1564-1616)، أشهر بورتريه اعتمد عليه الفنانون لرسم شيكسبير لاحقًا، من ويكيميديا.
كاندوس بورتريه (1564-1616)، أشهر بورتريه اعتمد عليه الفنانون لرسم شيكسبير لاحقًا، من ويكيميديا.

 

على الأقل واحدة من النساء اللتي يفترض انها كانت جزء من هذه الجماعة النسائية، ايميليا باسانو، كانت يهودية. وهو سبب اضافي نظرًا لمعاداة السامية في القرن السادس عشر لاخفاء هويتها الحقيقية. رالف والدو امرسون الفيلسوف والشاعر الامريكي، والت ويتمان (شاعر امريكي)، مارك توين الروائي الامريكي، هنري جيمس المؤلف البريطاني ومؤسس المدرسة الواقعية في الادب الخيالي، سيغموند فرويد اب التحليل النفسي، هيلين كيلر الاديبة والناشطة الامريكية وتشارلي تشابلن الممثل الكوميدي الانجليزي الشهير، كل هؤلاء يقترحون أسماء لنساء عديدات يعتقدون بأنهن كتبن تحت اسم شيكسبير الجماعي. جزء كبير من نظريتهم يعتمد على ان شيكسبير، بالرغم من التوثيق المعروف عن حياته كممثل ومالك مسرح، لم يترك اي وثيقة عن دفع مبلغ من المال للاعمال المسرحية، ولا دفتر مذكرات واحد يدل على انه امسك القلم. مثال على ذلك، فإن زوجته التي كتبت الكثير من المذكرات، لم تذكر مرة واحدة ان زوجها كان كاتب للمسرحيات.

فهل كان شيكسبير مجموعة من النساء من حول العالم؟ تكتبن تحت اسم مستعار واحد وبالتالي تستعرضن عبقريّتهنّ الأدبية قبل سماح المجتمع لهنّ بذلك بقرون؟ قد لا نعرف الإجابة على هذا السؤال ابدًا. ولكن يمكننا ان نختار تصديق ما نشاء.

تعد المكتبة الوطنية واحدة من المؤسسات القليلة حول العالم التي تمتلك نسخة أصلية عن “المطوية الأولى” وهو الاسم الذي اطلقه الباحثين على مجموعة من أعمال شيكسبير المسرحية التي نُشرت عام 1623. هذه المادة الفريدة، بالإضافة إلى مخطوطات متعلقة بشيكسبير تمّ إيداعها في المكتبة الوطنية دون الافصاح عن هوية المتبرّع في خريف عام 2022.

صعود وأفول جريدة “الشرق – همزراح” الصهيونية في دمشق

تعرفوا على الجريدة التي أسسها يوسف ريفلين والد رئيس دولة اسرائيل والذي راهن على أن يكون جسراً بين العرب واليهود في الجمهورية السورية.

حين وصلوا لاجئو البلاد اليهود دمشق خلال فترة الحرب العالمية الأولى، زرعوا بذور الفكرة الصهيونية في أوساط يهود المدينة. حين غادرها اللاجئون أنفسهم، وعلى رأسهم دافيد يلين، طلبوا منهم الحفاظ على إنجازات التربية العبرية الصهيونية في أوساط المجموعة اليهودية الأكثر قرباً من فلسطين، كما عملوا على التأثير على اللجنة التربوية المحلية من أجل التعامل مع الجالية اليهودية في دمشق تماماً كأنها محلية على جميع المستويات. في هذا الاطار أرسل للمدينة “يهودا بورلي” لكي يدير مدرسة للصبيان، ويوسف يوئيل ريفلين (والد رئيس الدولة رئوفين ريفلين) من أجل ادارة مدرسة البنات. رافقهم مجموعة مربيات، معلمين ومعلمات من البلاد والذين استعالنو بشباب وفتيات يهود من مواليد دمشق.

 

السُلّم الثّابت في كنيسة القيامة وتقاليد حفظ السّلم الطائفي

التظاهر ضد الخلاف الطائفي حول إدارة شؤون كنيسة القيامة والذي اعتبره سخيفًا ومسيء للمسيحيّة، سلم كنيسة القيامة الثابت.

كنيسة القيامة، 2019، أرشيف المصور غابي لارون

كنيسة القيامة، 2019، أرشيف المصور غابي لارون

إن كنيسة القيامة معلم شديد الأهمية من معالم القدس وكذلك أحد أقدس الأماكن المسيحيّة حول العالم. تشترك كلّ من كنيسة القيامة في القدس وكنيسة المهد في بيت لحم بما يعرف ب”الوضع القائم” وهي انظمة وضُعت على يد الدولة العثمانيّة من خلال عدة فرامانات بين عام 1757 وعام 1852 تقوم بتقسيم مهام هذه الأماكن وخدمتها ورعايتها ما بين الطوائف المسيحيّة المختلفة، وهو وضع ما زال قائمًا إلى اليوم.

اطلعوا على أماكن ومقدسات مسيحية

 

منشور بريطاني لشكل كنيسة القيامة من أواخر القرن الثّامن عشر، مجموعة خرائط عيران لَؤور
منشور بريطاني لشكل كنيسة القيامة من أواخر القرن الثّامن عشر، مجموعة خرائط عيران لَؤور

 

عُرف “السّلم الثّابت” الموضوع على شرفة النّافذة اليمنى لواجهة كنيسة القيامة في القدس كرمز للوضع الراهن. إذ بسبب الاتفاق على الوضع الراهن بقي السلم الخشبي البسيط مكانه ولم يتحرك الّا في حالات خاصّة، وذلك خوفًا من اندلاع النّزاع بين الطوائف المسيحيّة إذا ما قام أحد بتحريكه واعتبرته الطوائف الأخرى تعديًا على الوضع الراهن. ومع مرور أكثر من مائتي عام، يمكننا القوم بأن السّلم أصبح جزئًا من الكنيسة، إذ يظهر في جميع المواد البصرية المتاحة في هذه السنوات كأحد معالمها، انظر على سبيل المثال إلى هذا الملصق المرسوم من مطلع القرن العشرين.

هناك من يرى أنّ هذه التّقاليد بقيت كعنوان للاتفاق والتفاهم بين الطّوائف، وهناك من اعتبرها أثرًا مذمومًا للانقسام المسيحي، من هؤلاء بابا الكنيسة الكاثوليكية بولس السادس (1897-1978) الذي حجّ إلى القدس في ستينات القرن العشرين واعتبر ان السلم الثابت رمزًا مرئيًا للانقسام المسيحي، وأكّد على ضرورة عدم تحريكه من مكانه إلى أن تصل الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكيّة إلى توافق فيما بينها.

دعونا نطّلع على تفاصيل قصّة الوضع الرّاهن والسّلم الشّهير الّذي أصبح معلمًا من المعالم هذه المدينة التاريخيّة المليئة بالقصص.


المعالم المسيحيّة المقدّسة في الشّرق وقصّة الوضع الرّاهن

بدأ التنافس أو الاختلاف على من يكون الاحق برعاية المعالم المسيحيّة المقدسة في الشرق (بالأساس كنيسة القيامة وكنيسة المهد في بيت لحم) عقود قليلة بعد وقوع الانشقاق العظيم بين الكنائس الشرقيّة الإغريقيّة التي باتت تعرف بالأرثوذكسية والكنائس الغربيّة اللاتينيّة التي باتت تُعرف بالكاثوليكيّة.

حين خرجت الحملة الصّليبيّة الأولى من الغرب وقعت هذه المواقع تحت سيطرة الكنيسة الكاثوليكيّة وبقيت كذلك حتى نهاية الحكم الصّليبي. خلال العهد العثماني كان هناك حالة من عدم الاستقرار بكيفيّة تقسيم الوصاية على هذه الاماكن بين الكنيسة الارثوذكسية والكنيسة الكاثوليكيّة، ممّا أسفر عن عدّة خلافات من أبرزها أحداث أسبوع الآلام عام 1757، في ذلك العام وضع السلطان العثماني أول فرامان للوضع القائم.

 

رسم مقطع فوقي لكنيسة القيامة، 1683، مجموعة خرائط عيران لَؤور
رسم مقطع فوقي لكنيسة القيامة، 1683، مجموعة خرائط عيران لَؤور

 

كان من الاسباب المعلنة لحرب القرم هو تغيير الوضع الراهن على يد السلطان العثماني لصالح فرنسا مما يعني منح الصلاحية الكاملة للكنيسة الكاثوليكيّة، فكان أحد أسباب شنّ الحرب من قبل روسيا هو أن تكون صلاحية رعاية هذه الاماكن تحت يد الكنيسة الارثوذكسيّة. وخلال الحرب التي دامت لثلاث سنوات بين 1853-1856 قام السلطان العثماني بالتأكيد على الوضع الراهن السابق في فرمانات جديدة في عام 1852 و 1853 كمحاولة لتهدئة الحرب. وتم التأكيد على ان الوضع الراهن في الاماكن المقدسة في القدس سيبقى على ما هو عليه إلى الأبد. أي ان الاماكن المشتركة للطوائف، أو المملوكة لأحدها حصرًا، ستبقى كذلك بدون تغيير.

ولأن كنيسة القيامة مشتركة بين الطوائف المتعددة، فإنّ تفاصيل إدارتها اليوميّة وكيفيّة تقاسم المساحات والمواقيت بها أمر غاية للاهمية ويمارس بدقة شديدة إلى اليوم. وذلك تمسّكًا بالوضع الراهن الّذي سمح لهذه الطوائف المتعددة بممارسة شعائرها وحقوقها بالتواجد في هذا المعلم الديني الأساسي لجميعهم.


السّلم الثّابت

صورة حديثة للسلم الثابت من تصوير غابي لارون، 2014، أرشيف غابي لارون
صورة حديثة للسلم الثابت من تصوير غابي لارون، 2014، أرشيف غابي لارون

 

السلم الخشبي الموضوع على شرفة النافذة اليمينية لواجهة الكنيسة أحد رموز الوضع الراهن ولكنه ليس الوحيد. في الحقيقة، هناك العديد من التقاليد المميزة في حياة هذه الكنيسة اليوميّة تؤدي دورها بحفظ السلم والاتفاق بين الطوائف المسيحيّة في الكنيسة بل وبينها وبين الطائفة المسلمة في المدينة أيضًا. من أشهر هذه التقاليد هو فتح أبواب الكنيسة وإغلاقها على يد أبناء من عائلة مسلمة من القدس تقوم بهذا الدور منذ مئات السنين.

مع ذلك، فإن السلم محط جدل من جهة واحترام من جهة أخرى، اذ ليس هناك أي اجراء يخصّه، كل ما في الأمر هو انه يُمنع تحريكه فقط، مما جعله رمز يوحي بحالة من الجمود من جهة والقداسة من جهة إخرى بالرغم من انه لا يحمل أي قداسة دينيّة لدى أي من الطوائف، بل يعتقد أنه هناك لأنّه كان يُستخدم على يد أحد العمال الّذي تركه، وبقي هناك خوفًا من انتهاك الوضع القائم.

من القصص المثيرة للجدل هي قيام سائح مسيحي عام 1997 برفع السّلم من مكانه وإخفائه خلف أحد أبواب الكنيسة الداخليّة كنوع من الاعتراض على الامر، وحين تم التعرف عليه والتحقيق معه حول هذه الجناية اقرّ بانه قام بذلك كنوع من التظاهر ضد الخلاف الطائفي حول إدارة شؤون كنيسة القيامة والذي اعتبره سخيفًا ومسيء للمسيحيّة.

في النهاية تبقى كلمات البابا بولس السادس تثير التفكير، اذ اعتبره بحزن رمزًا مرئيًا للانقسام المسيحي، ومع ذلك أكّد على ضرورة احترامه وعدم المساس به إلى أن يأت الوقت المناسب.

السّلطان المحب: ديوان “محبّي” في المكتبة

السّلطان سليمان القانوني خلّف بصمة جميلة في صفات تبدو متناقضة في شخصيّة تاريخيّة ذات أثر هام على التاريخ. فلنقرأ إحدى قصائده ونلقي نظرة على عالمه العاطفي.

من مخطوطة لديوان محبي في المكتبة الوطنيّة،1552، مجموعة يهودا، المكتبة الوطنيّة. 

من مخطوطة لديوان محبي في المكتبة الوطنيّة،1552، مجموعة يهودا، المكتبة الوطنيّة. 

 السلطان سليمان القانوني الشّهير، أو سليمان العظيم كما يلقّب بالإنجليزيّة، شخصيّة مثيرة جدًا للاهتمام. فقد كان يتمتع بشخصيّة قياديّة وسياسيّة فذّة، وتشهد له إنجازاته وبصماته الكثيرة على تشكّل الإمبراطوريّة العثمانيّة بذلك، ومن جهة أخرى هو شاعر مرهف الحس وعاشق ولهان. وخلّف أشعار عالية الحساسيّة والبلاغة في الغزل والعاطفة وكان غزير الإنتاج الأدبي، حتّى وصفه بعض الباحثين بأحد أهم المبدعين في التّاريخ العثماني، وهذا ليس لأنّه سلطانًا، ولكن لكونه شاعر فذّ أيضًا. يبدو أنّ لهذه الشّخصية التاريخيّة حياة حافلة على الصّعيد الخاص والعام، وهي تتطلّب المزيد من البحث الدؤوب حتّى يتم الكشف عنها بشكل كافي.

ولكن الشعر الذي خلفه شباك جميل يطل على عالمه الخاص والعاطفي، وللسلطان الكبير ديوان شعر بديع يدعى “محبي”، فيه آلاف من أبيات الشعر التي يظهر بها مكنونات قلبه بانكشاف ولغة جميلة. كتب السلطان أشعارًا بالفارسيّة كذلك. وفي المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة نسخ مزوّقة لهذا الدّيوان يمكنكم الاطلاع عليها هنا.

طالع/ي أيضًا: السلطان العظيم سليمان القانوني

السلطان المحب للذوق والجمال

أمضى السلطان أوقاتًا كثيرة من طفولته في قصر جده بيازيد الثّاني حيث تلقّى العلوم والدروس من علماء كبار، ولطالما كان محبّا للشعر والشّعراء وكان يتقن الكتابة بخطّ جميل، كما كان يعتني بمظهره وبهندامه ويمتلك ذوقًا خاصًّا، اذ اشتهر بالبناطيل المختلفة والثّوب الطويل والمزركش ومظاهر الفخامة، كما كان محبًا للأحجار الكريمة. كان مهتمًا بالعمارة الجميلة التي ازدهرت في عهده، كما قام بترميم الكعبة المشرّفة في مكّة وقبّة الصّخرة في القدس، كما بنيت اسوار القدس في عهده أيضًا. كان يعلي من مكانة الصّاغة مثلًا ويقيم لهم محافل، كما استقبل الشّعراء والعلماء في بلاطه وأكرمهم بل وكان يصطحبهم أحيانًا في سفراته ورحلاته. وفي عهده ترجم العمل الكبير “كليلة ودمنة” من روائع الأدب الهندي، بالإضافة الى المزيد من الاعمال الكلاسيكيّة الفارسية التي نقلت إلى التركية في عهده. ولذلك فليس بغريب ان يكون مطلعًا على الشعر والأدب إلى هذا الحد وأن لا يكون شغوفًا بالشعر بنفسه.

أسوار القدس التي بنيت في عهد السّلطان سليمان من أعلى متحف روكفلر، مجموعة موشيه بن دافيد، ارشيف بن تسفي.  
أسوار القدس التي بنيت في عهد السّلطان سليمان من أعلى متحف روكفلر، مجموعة موشيه بن دافيد، ارشيف بن تسفي.

 

بعض الأبيات من ديوان محبي

يشتهر ديوان محبي أي ديوان “المحب” كما سمّى نفسه، بالنّظم على بحر الغزل باللّغة التركية. يقال أن السلطان سليمان كان يسهر الليل بطوله ملوّعًا، يكتب كلمة ويترك الورقة ويعود إليها وهكذا دواليك، ويبقى على هذه الحالة إلى أن تنطلق منه قصيدة كاملة.

من مخطوطة لديوان محبي في المكتبة الوطنيّة،1552، مجموعة يهودا، المكتبة الوطنيّة. 
من مخطوطة لديوان محبي في المكتبة الوطنيّة،1552، مجموعة يهودا، المكتبة الوطنيّة.

لم ينفرد السّلطان سليمان من بين السّلاطين العثمانيّين في شعره، فالسّلطان محمّد الفاتح كان شاعرًا أيضًا، وكذلك السّلطان عثمان الثّاني، وكان كلّ منهم يختار اسمًا له ليوقّع به أشعاره، وفي حالة السّلطان سليمان استخدم الكلمة العربيّة الاصل حُب، وسمّى نفسه بالمحبّ.

إليكم إحدى هذه القصائد الشهيرة:

يا عرشي محرابي الوحيد، يا ثروتي، يا حبّي، يا ضياء قمري

يا أكثر الأصدقاء إخلاصًا، وصاحبة سرّي، يا وجودي، سلطانتي، وحبّي الواحد والوحيد

يا أجمل الجميلات

يا ربيعي وحبّي ووجهي المَرح، يا نهاري وقلبي الحلو وأوراق الأشجار الضاحكة

يا نباتاتي، يا حلوتي، يا زهرتي، أيتها الوحيدة الّتي لا تثقل حياتي في هذه الغرفة

يا إسطنبولي، يا قرماني، يا أرض أناضولي

يا بادخشاني، يا بغدادي، يا خراساني

يا امرأتي ذات الشعر البديع، يا حبّي للحاجب المائل

يا حبّي للعيون المليئة بالأسى

سأسبّح لك دومًا فإنني المحب ذو القلب المحزون

إنّ محبّي ذو العيون المليئة بالدّموع حقًا سعيد

كتب السّلطان سليمان هذه القصيدة إلى زوجته المعروفة باسم روكسالانا، والذي جمعته بها علاقة عاطفية جياشة تعبّر عنها هذه القصيدة. نرى في القصيدة أنها أكثر من مجرد تعبير عن الحبّ والتعلق، إنّما دلالة على المكانة العاليّة التي اتخذتها حرم السلطان في حياته. وأن إشارته إلى مواقع من الدولة العثمانيّة الواسعة والّتي اتّسعت أكثر وأكثر في عهده مثيرة للاهتمام، إذ يصفها بالوطن الأناضول، إلا أنّه أيضًا يصفها بالمدن البعيدة التي من خلال الإشارة لها يرسم خارطة تدلّ على مدى اتّساع رقعة حكمه الجغرافيّة من الشّرق الى الغرب، فكأنه يقول لها: يا قوّتي.

ولدت روكسلانا في شرق أوروبا وتم اختطافها وبيعها في سوق للعبيد في القسطنطينيّة، وهكذا وجدت طريقها الى البلاط ومن ثمّ إلى قلب السّلطان الأعظم. ليس من الممكن معرفة الكثير عن شخصيّة هذه المرأة الّتي عشقها السّلطان وتأثر بها الى هذا الحدّ، فإن حياة حريم السّلطان بقيت غامضة الى حدّ بعيد. ولكن بقيت أبيات “محبي” تشير إليها، وإلى خفايا جميلة في التّاريخ العثماني ولا سيّما في التاريخ الإنساني كله.