عين على العرب؛ اليمن السعيد

تتناول سلسلة رسائل العرب مقالات من الصحافة العربية والتي هدفت إلى التعريف بالمدن والأقطار العربية، تهدف هذه الجزئية إلى التعريف بتاريخ وحضارة اليمن.

قامت الصحف الفلسطينية بتغطية أخبار اليمن بشكل كبير، إما لتوجهات عامة من أجل التعريف باليمن لكونه قطر عربي وله دوره العروبي أو من أجل التركيز على المكان الذي احتله اليمن في بناء وتطوير الحضارة العربية ومن ثم الدور القومي الذي كان اليمن جزءًا أساسيًا فيه. هنالك العديد من الأخبار الموجود حول اليمن وأدواره ضمن الوطن العربي وارتأينا في هذا المقال التركيز على جزء من صورة المشهد اليمني ودوره الحضاري في عيون الصحافة الفلسطينية خلال الفترة الانتدابية.

دولة اليمن (العربية الكبرى)

صحيفة الاتحاد العربي، 1 أيار 1926، أرشيف جرايد

تسلط صحيفة الاتحاد العربي تركيز قرّاءها على منطقة اليمن، فقامت هيئة التحرير بنشر مقال مفصل حول ذلك في عددها الصادر بتاريخ 1 أيار 1926، وتذكر فيها حول اليمن التالي:

“تعد بلاد اليمن من أخصب البلاد العربية تربةً وأجودها مناخاً وأحسنها نباتاً، ويقال أن سكانها يزيد عن عشرة ملايين. ومنذ تولى صاحب الجلالة الإمام  يحيى حميد الدين زعامة القسم الأعظم منها وهو يسعى ويجد بكل قوة لإنالة جميع البلاد اليمانية استقلالها التام تحت رعايته فبعد أن حازب الدولة العثمانية سنيناً طويلة انتهت بفوزه ونواله جل مطاليبه وقف على أثر إعلان الحرب العامة على الحياد وأصبحت القوات العثمانية من جنود وضباط ومدفعية وأسلحة ومعدات حربية مما كان في اليمن إبان الحرب العامة رهن إشارة الإمام يحيى حميد الدين الذي استفاد منها فوائد كبرى إذ تمكن أن يحفظ بلاده من اعتداء أي عدو ونظم أهل اليمن جيشاً عربياً كامل العدة والعتاد ومرّن أبناء قومه على الجندية النظامية بسنه قانون الخدمة العسكرية الاجبارية وجهّز جنوداً أحسن تجهيز وبقي كل مدة الحرب العامة ينظم أموره ويزيد قواه حتى أصبح في إمكانه أن يجهز جيشاً عرمرماً يؤلف من مائتي ألف مقاتل كاملي العدة والسلاح عدا عن قوى العشائر والبدو غير النظامية وعلى إثر انتهاء الحرب العامة، برز اليمن بجيش يمكنه القضاء على الامارات والسلطنات التي كان يلعب النفوذ الأجنبي دوره فيها فجهز حملات عسكرية لم تتمكن تلك الإمارات والسلطنات السخيفة من الوقوف أمامها بضعة أيام بحسن إدارة جلالة يحيى حميد الدين ومقدرته وقواه العسكرية تمكن من الاستيلاء على جميع البلاد اليمانية التي كانت تلاقفها الدسائس الأجنبية إلا عدن الصغيرة الواقعة على شاطئ البحر والتي الإنكليز من عهد بعيد وبعد أن استتب للإمام يحيى حميد الدين بسط حكمه ونفوذه على سائر البلاد اليمنية بما فيها سواحلها (عدا عدن) بدأ بتنظيم إدارة اليمن وتعميم المعارف والتعليم وأباح الحرية التامة للسكان في قضية المذاهب ولم يقتصر على ما عنده من مدافع ورشاشات وضباط وجنود منظمة بل هي باحضار الطيارات والسيارات المصفحة وسائر المعدات الحربية الحديثة ووسع معامل الخرطوش والسلاح الموجودة عنده من زمن طويل، ولا يزال جلالة الإمام يسعى لتقوية بلاده والسير بها نحو الحضارة لتتمكن من حفظ استقلالها التام والبعد عن النفوذ الأجنبي لأن الإمام ورجاله من أكثر ملوك العرب وأمرائهم حذراً من الأجانب فقد حاول الإنكليز مراراً أن يقيّدوه بمعاهدات سياسية كثيرة فكان بعد أن يدرسها الدرس العميق يرفضها رفضاً باتاً. وأخيراً عقد معاهدة تجارية مع دولة إيطاليا لاعتقاده بنفعها من الوجهة الاقتصادية وعدم مساسها باستقلال بلاده ومملكته.
ويعد الإمام يحيى من أكبر أغنياء ملوك العرب الحاليين إذ تقدر كمية النقود التي عنده والتي ادخّرها لأيام الشدائد بعشرين مليون جنيه ذهباً والإمام يحيى من كبار الرجال العظام في العصر الحاضر وهو يطمح بعد أن استتب له الحال في بلاد اليمن أن يقوم بخدمات كبرى لسائر البلاد العربية ويسعى الآن عطوفة المؤرخ الكبير أحمد زكي باشا مع الوفد الذي ذهب تحت رئاسته لعقد محالفة بين الإمام يحيى حميد الدين وجلالة عبد العزيز بن السعود ملك الحجاز وسلطان نجد ويكاد الوفد المشار إليه أن ينجح في مهمته فإذا نجح تصبح جزيرة العرب كتلة واحدة يديرها الملكان العربيان العظيمان يحيى حميد الدين وعبد العزيز بن السعود فتحفظ جزيرة العرب حريتها واستقلالها من طمع الطامعين وجشع المستعمرين وإنا لنعتقد ان جلالة الإمام لم يقدم على إمضاء المعاهدة التجارية مع دولة إيطاليا إلا بعد أن قتلها بحثاً وتدقيقاً بعد أن أمت عدم مساسها باستقلاله وحريته لا كما يظن البعض إن في هذه المعاهدة التجارية بسط نفوذ إيطاليا على اليمن، كلا وألف مرة كلا؛ فأهل اليمن وفي مقدمتهم صاحب الجلالة الإمام يحيى أحرص الناس على استقلال وطنهم وحريتهم من سائر أهل الأرض وغاية ما ترجوه من جلالة الإمام أن يبادر حالاً لإرسال سفرائه ووكلائه إلى سائر عواصم أوروبا بعد أن يقوم بتشكيل وزاراته الخارجية والداخلية وغيرهما على نسق الدول الحديثة ليتم له بذلك اعتراف الدول باستقلال مملكته وأن يسير بأمته وبلاده إلى المدنية الصحيحة والرقي الحقيقي فيعيد للعرب مجدهم وعزهم الغابر وما ذلك على همته بعزيز”.

النهضة العربية واليمن

صحيفة الجزيرة، 26 شباط 1925، أرشيف جرايد

اختارت صحيفة العرب أن تركز على موضوع النهضة العربية في اليمن من أجل التذكير بالدور اليمني في نهضة العرب وقد تم نشر المقال في عددها الصادر بتاريخ 24 أيلول 1932:

“لعل قليلاً من رجال العرب يعرفون الشيء الكافي عن سير القضية العربية بالنسبة إلى اليمن، بل ربما ظن الكثيرون أن النهضة العربية تكاد تكون منحصرة في الجزء الشمالي من بلاد العرب، على حين أنها في الجزء الجنوبي أقدم عهداً في رفع الصوت، وأسبق في حمل لواء الجهاد وامتشاق الحسام في سبيل الاستقلال.
فبينما كانت الأقطار العربية الأخرى في أواخر القرن الماضي حتى أوائل الحاضر تغط في نومها تحت حكم العثمانيين الترك، راضية بما قسم لها من عيش هنيء وحياة هادئة، فإذا هي تنهض على صوت الأبواق والطبول وجمع الجنود وتسييرها إلى أين إلى اليمن، ولماذا؟ لأن اليمن أعلنت العصيان على حكومة الترك، والإمام يحارب الترك، أنه يطلب جلائهم عن البلاد. هذا الذي كان يتردد على الألسنة بين آونة وأخرى وكل بضع سنوات. ولقد كان موضع الدهشة والاستغراب في تلك الأحايين أن يرفع قطر من الأقطار العربية صوته عالياً وأن يناضل ويقارع في طلب الاستقلال والتحرر من حكم العثمانيين. أليس هذا هو الواقع؟ أظن أكثر القراء شاهد هذا بأم عينيه ولا يزال يذكر ما أريق من دماء وأزهق من أرواح. أليس هذا هو بدء النهضة العربية الحديثة؟ أليست من اليمن ورجال اليمن هم من أول من حمل لواءها وخاض غمارها. إنه لا يسع الكاتب المنصف والقارئ المدقق إلا أن يعترف لليمن ورجال اليمن بفضل السبق والتقدم في هذا المضمار. وعلى رأسهم، جلالة الإمام يحيى. ليست قضية استقلال اليمن بالأمر السهل أو الحركة البسيطة فلقد ظلت اليمن عشرات السنين في عهد الإمام المنصور، وعهد نجله وخلفه الإمام يحيى بن محمد حميد الدين إمام اليمن الحالي أيّده الله، في عراك دائم وحرب طاحنة مع الترك كلّفت كثيراً من مال ودماء، بينما السكون كان شاملاً الأقطار العربية الأخرى. حتى وصلت اليمن في أواخر الحرب العالمية إلى استقلالها وتحررها من حكم الترك.
ومما هو جدير بالإعجاب أنه عندما اشتعلت نيران الحرب العالمية انقطعت الموالات بين مراكز الحكومة التركية وجيوشها الرابطة في اليمن بسبب دخولها الحرب، لقيت هذه الجيوش من جلالة الإمام كل عناية ورعاية، وأمدها بكل ما كانت تحتاج إليه من معاونة زمن الحرب، فضُرب بذلك المثل الأعلى للغيرة الإسلامية والشهامة العربية. وقد كان بإمكان جلالته والفرصة سائحة أن ينجز الحساب مع خصمه القديم وبرغم الجهود الجبارة التي يبذلها خصوم الترك لحمل كل من كان تحت سلطانهم على مناوءتهم، فإن الدسائس الأجنبية لم تجد جواً صالحاً لها في بلاد اليمن بفضل بعد نظر جلالته وحنكته، وهكذا انال بلاده استقلالها من أشرف الطرف وأصبحت صنعاء اليمن في نهاية الحرب العالمية عاصمة العربية السعيدة السعيدة المستقلة، ومليكها جلالة الإمام يحيى حميد الدين أيده الله إمام اليمن الحالي، وسيكون حديثنا إلى القراء في الرسالة الآتية عن اليمن منذ انتهاء الحرب العامة حتى يومنا هذا بإيجاز إن شاء الله ثم ننتقل إلى تناول شؤون أخرى عديدة.”

هنالك العديد من المقالات، الأخبار والمراسالات التي تختص بالشأن اليمني خلال النصف الأول من القرن العشرين، لتصفح المزيد من أخبار اليمن يمكن الولوج إلى موقع جرايد والإبحار فيه حول كيف قامت الصحف الفلسطينية بتغطية أخبار اليمن. ومن يريد أن يقرأ بعض المعلومات الطريفة عن اليمين السعيد يمكنه الضغط هنا.

يرجى التدخين: عبد الغني النابلسي وجدل التبغ العثماني

الدفاع المستميت لمفكّري القرن السابع عشر المسلمين عن التدخين يسلّط الضوء على ارتباط العادة بالحداثة وبمفهوم الترفيه.

رجل يدخّن نارجيلة من القدس، 1875، التقطت بعدسة المصوّر الإنجليزي فرانك ميسون غود (1839-1928)، من مجموعة المكتبة الوطنية الإسرائيلية

رجل يدخّن نارجيلة من القدس، 1875، التقطت بعدسة المصوّر الإنجليزي فرانك ميسون غود (1839-1928)، من مجموعة المكتبة الوطنية الإسرائيلية

الشرق الأوسط عاشق للسجائر. حتى مع انخفاض استهلاك التبغ عالميًا، لا يزال التدخين رائجًا في بيروت والقاهرة، والرياض- وفي تل أبيب أيضًا، بل وتشهد بعض البلدان ارتفاعًا في معدّلات التدخين. يشير تقرير صدر مؤخّرًا  إلى أنّ الأردن هي من البلدان الأكثر استهلاكًا للتبغ في العالم: أكثر من %80 من الرجال الأردنيين هم مدخنون منتظمون، بمعدّل 23 سيجارة في اليوم.

في مديح التدخين وذم والمُدخنين

مع أنّ التبغ يبدو جزءًا من النسيج الحياتي اليومي للمنطقة في عصرنا الحالي، إلّا أنّه لم يكن دومًا كذلك. عندما أدخل التبغ، القادم من الشعوب الأصلانية في العالم الجديد، لأول مرة إلى الإمبراطورية العثمانية في منتصف القرن السادس عشر، أثار الأمر جدلًا حادًا. هل التبغ مفيد أم مضر؟ هل التدخين مباح في الإسلام، أم يجب تحريمه؟

العديد من الواعظين، القادة الدينيين والمسؤوليين الحكوميين خاضوا هذا الجدل. ولكن أحد أبرز الأصوات في حينه كان عبد الغني النابلسي، شخصية فريدة، ومفكّر وفقيه صوفي ذو نفوذ قوي. كتب النابلسي أطروحة في مديح التدخين، الصلح بين الإخوان في حكم إباحة الدخان، والمخطوطة المأخوذة عن النسخة المدوّنة بخط يد المؤلّف نفسه، والتي تعود إلى العام 1774، هي واحدة من أعمال النابلسي العديدة الموجودة في المكتبة الوطنية الإسرائيلية. كيف أمكن لهذا الصوفي المتنسّك أن يكون أحد أبرز المدافعين عن التبغ؟

الصفحة الافتتاحية لأطروحة عبد الغني النابلسي، 1682، في مديح التدخين، الصلح بين الإخوان في حكم إباحة الدخان، من مجموعات المكتبة الوطنية الإسرائيلية.

اقرأ/ي أيضًا: مؤلفات وكتب الشيخ عبد الغني النابلسي، فتاوى وقصائد، وعلم الأنساب

عندما أُحضر التبغ إلى الشرق الأوسط لأول مرة عن طريق أوروبا، اعتبر في حينه علاجًا طبيًا مبتكرًا لجميع العلل، ابتداءً من الحروق وحتى التسمّم. ولكن بحلول العقد الأول من القرن السابع عشر، مع ازدياد استهلاك النساء والرجال للتدخين الترفيهي، ازداد الاعتراض على هذه العادة.  إحدى المعضلات بخصوص التبغ، من منظور ديني، كانت عدم وروده في القرآن، في الأحاديث النبوية الشريفة وفي قوانين الشريعة الإسلامية، لكونه منتجًا جديدًا.

أمام هذا الصمت، تعالت أصوات عديدة معارضة لاستهلاك التبغ. بإسناد حججهم إلى القياس، وهي طريقة شائعة في أصول الفقه الإسلامي، ادعى هؤلاء أنّه يمكن مقارنة التبغ بمادة محرّمة أخرى، وهي الخمور. ادّعى النقاد أنّ للتبغ آثار “مُسكرة” مماثلة، كالدَوار الذي يصيب المدخنين الجدد مثلًا.

الاستراحة والتدخين عند كشك على قارعة الطريق بجوار القدس، التقطت الصورة بعدسة المصوّر الإنجليزي فرانك ميسون غود (1839-1928)، من مجموعات المكتبة الوطنية الإسرائيلية

بالإضافة إلى الحجج الدينية، ادّعى النقاد أنّ التبغ مضرّ بالصحة: إذ أنّه يُضعف الجسم، يسبب رائحة كريهة ويؤدي إلى تبلّد الحواس. كان المدخّنون أيضًا قذرين، وتغطت ملابسهم بالرماد والبقع.  بالإضافة إلى ذلك، فإنّ هذا التلوّث الجسدي، كما سماه البعض، كان مصحوبًا بنجاسة أخلاقية أشدّ وطأة. بالنسبة لهؤلاء، كان التدخين يسبّب الخمول، واعتُبر بمثابة بدعة محفوفة بالمخاطر بطبيعتها.

 

كتب جيمس غريهان في مقالة له عن الموضوع: في التصوّرات الأكثر ترهيبًا، فإنّ الدخان والنار المرافقين لإشعال الغليون، يستحضران في أذهاننا نار الجحيم واللعنة الأبدية. حذّر النقاد من أنّ المدخنين سيظهرون في يوم القيامة بوجوه مسوّدة، ونراجيل تحيط بأعناقهم، حتى ذلك الحين، سيحترقون في قبورهم، تمامًا مثل التبغ الذي يدّخنونه.”

الاعتراض على استهلاك التبغ لم يقتصر على أوساط المفكرين والمثقّفين. فقد حاولت السلطات العثمانية مرارًا وتكرارًا حظر ومصادرة التبغ. ومع أنّ محاولاتها تلك باءت بالفشل، إلّا أنّ هذه الإجراءات الصارمة كانت مصحوبة بمحاولات وحشية ودامية لإنفاذ القوانين.

 

النابلسي، انتاج غزير وعشقٌ للسيجارة

لم يكن النابلسي في بداية الأمر شغوفًا بالتدخين. ولدَ النابلسي في دمشق في عام 1641 لعائلة من أصول مقدسية، وكان فقيهًا صوفيًا متنسكًا وكاتبًا غزير الإنتاج، فقد ألّف أكثر من 250 عملًا. لكثرة اهتماماته ومجالاته المعرفية، كتب النابلسي شروحًا لكتب علماء صوفيين سابقين، خاصة ابن عربي الذي عاش في القرن الثالث عشر، بالإضافة إلى شروح الشعر، قصص الرحلات، كتب الفن المعماري والزراعة وكتب القانون. خلال حياته، ولمدّة تزيد عن قرن بعد وفاته، بقي النابلسي شخصية مؤثّرة ومهمّة، من خلال كتاباته والحلقات الواسعة التي جمعت العديد من تلامذته. لا عجب إذًا أن تضم المكتبة الوطنية مخطوطات لستة وعشرين عملًا من أعماله، بالإضافة إلى العديد من الأعمال الأخرى التي نسخها بنفسه أو امتلكها.

مخطوطة لكتاب عبد الغني النابلسي من أواخر القرن التاسع عشر ” الملاحة في علم الفلاحة “، مجموعات المكتبة الوطنية الإسرائيلية

دافع النابلسي عن التدخين ضد مهاجميه على عدة جبهات، ومع أنّه لم يبدأ بالتدخين إلّا خلال سفراته إلى مكة بعد نحو عقد من الزمن، إلّا أنّ حججه كانت قوية ومتينة عندما ألّف الكتاب في عام 1682.

فيما يخص الصحة، أنكر النابلسي وجود علاقة بين التدخين والمرض، وادّعى أنّ الأطباء الذين وصفوا التبغ كعلاج يعرفون عملهم أكثر من النقاد عديمي الخبرة في الطب.

في الواقع، يفتتح النابلسي كتابه هذا بمثل هذه الحجج الطبية. في السطور الأولى، يحمد النابلسي الله على أنّ التبغ مفيد للجسم: “الحمد لله الذي جعل استعمال الدخان التتن نافعا لتجفيفه للرطوبات الزائدة في الأجسام، ومحللا لما تكاثف في الصدر من لزوجة البلغم ومهضما من المعدة ثقل الطعام…”. “بالإضافة إلى ذلك، فإنّ فاعليته ضد السموم أثبتت في الأدبيات الطبية”، يضيف في كتابه، “خصوصا سم العقرب”.

ما وراء الدخان يظهر سؤال الحداثة

ولكن حججه المثيرة للاهتمام تتناول مكانة التبغ في الشريعة الإسلامية. فاحتج على مزاعم القائلين إنّ التبغ هو “بدعة”، معلّلًا أنّهم مضلّلين بالأحكام المسبقة، الجهل والتعصب الأعمى.  كتب النابلسي أنّ قراره بكتابة الأطروحة لم يكن نابعًا من حبّه للتدخين أو من رغبته المجرّدة في المشاركة في الجدل الدائر حول التبغ، بل لاكتشاف الحقيقة حول هذا الموضوع. يرفض استخدام القياس من قبل معارضي استهلاك التبغ، وقال إنّه بغياب نص دينيّ يحظر استهلاك هذه المادة، فإنّها يجب أن تكون مباحة. مع أنّ السياق هنا يُعنى فقط بإباحة التدخين، إلّا أنّ التمييز بين الحقيقة والقانون، وبين العلماء الصوفيين الأجلّاء الذي يولون اهتمامًا للحقيقة وعلماء القانون الذين يولون اهتمامهم للقانون، هو موضوع مركزي ومتكرر في فكر النابلسي.

إذا نظرنا إلى جوهر الأمور، يمكننا القول إنّ حجج النابلسي توازي الدفاع عن قيمة مألوفة لنا جميعًا، ولكنها كانت في حينه فكرة جديدة وراديكالية: المتعة. بإتاحة المجال للتدخين، اقترح النابلسي وجوب منح حيز أكبر للحياة الشخصية وللمتعة الشخصية، طالما لم تتجاوز بوضوح قيود الشريعة الإسلامية.

إلى حد كبير، كان النابلسي يتتبّع أعقاب التغييرات الاجتماعية الحاصلة في حينه. لاقى التبغ، كالقهوة من قبله، رواجًا واسعًا لأنّه كان مرتبطًا بالأنس والمخالطة، وشجّع على تبادل الأحاديث وطمس الحدود الاجتماعية، خاصةً في المقاهي التي شكلّت ملتقى لأبناء الطبقات الاجتماعية المختلفة، حيث أمكنهم الاسترخاء وتبادل الأحاديث، وكان التبغ والمشروبات بمثابة وقود تبعث الحياة في هذه اللقاءات. في تأليفه لكتابه هذا عند منعطف الحداثة، فإنّ النابلسي لم يدافع عن التدخين فحسب، بل عن مفهوم ممارسة الحداثة نفسها.

تاريخ تحت جُنح الظلام وسياسة على ضوء الشموع

هل تعلمون كيف كانت عملية الإضاءة قبل عصر الإضاءة الصناعيّة، وما هي المراحل التي مررنا بها حتى وصلنا إلى الضوء الكهربائي، هذه المقالة توضح بعض التساؤلات التي من الممكن أن تثيرالاهتمام.

 

فيما يلي ترجمة بتصرف خاصة بموقع مدونة “أمناء المكتبة” لمقال الكاتب أفنير فيشنيتسر- ورشة التاريخ الاجتماعي . للاطلاع على المقالة باللغة العبرية الرجاء الضغط هنا. 

حظي النصف المظلم من تاريخ البشريّة باهتمام أقلّ بكثير ممّا حظي به ضوء النهار. ومع ذلك، يبيّن تاريخ الليل أنّ الظلام قد أثّر في السيرورات التاريخيّة بطرق مختلفة، وأحيانًا غير متوقّعة.

ندخل الغرفة ونضغط على الزرّ، فيسطع الضوء. لقد أصبحنا منذ فترة طويلة مكفوفين في الليل ونعتمد تمامًا على الضوء الاصطناعيّ الذي يأتي إلينا وكأنّه يأتي من تلقاء نفسه، من دون الحاجة إلى إشغال أنفسنا بطريقة إنتاجه أو الثمن البيئيّ الذي يجبيه منّا. تكون مصادر الإضاءة إمّا غائرة أو مبعثرة ويتمّ إخفاء الكوابل داخل الجدران. كذلك علاقات القوّة التي تنظّم إنتاج الطاقة، بدءًا من القرارات المتعلّقة بمواقع محطّات توليد الطاقة، مرورًا بأنواع الوقود وانتهاءً بنشر خطوط الكهرباء للإنارة، تبقى مخفيّة عن الأنظار. هذه تظهر في الوعي فقط في سياقات معيّنة، كما هو الحال في النضال الجماهيريّ ضدّ انبعاثات الملوّثات من محطّات توليد الطاقة، أو عندما يتصدّر “الظلام” في قطاع غزّة العناوين الرئيسيّة.

يسهم الضوء الناتج عن هذه الشبكات أيضًا في التقليل من حجم الأبعاد السياسيّة للإضاءة. ينبعث إلى الخارج. وفيرًا رخيصًا، فاقدًا للتمّيز، شفّافًا وموحّدًا. يُستخدَم الضوء الكهربائيّ لإنارة مناطق ممتدّة حتى نتمكّن من الخروج من المنزل المضاء والوصول إلى الجانب الآخر من المدينة من دون التعرّض لأيّ ظلام حقيقيّ. في معظم المراكز المدينيّة حول العالم، دفع الإفراط في الإضاءة إلى ظهور الظلام وإلى الانقراض تقريبًا (وليس الجميع يرحبّون بهذا).

قبل عصر الإضاءة الصناعيّة كان الوضع عكس ذلك: إذ ظلّ الظلام سائدًا من دون عوائق وكان الضوء الصناعيّ قليلًا وذا قيمة عالية. ومع ذلك، فإنّ الفرق لم يتلخّص في هذا فحسب. فعندما نفكّر في الليالي ما قبل عصر الحداثة، علينا ألّا نعكس إلى الوراء الضوء القياسيّ للكهرباء. لم يكن الضوء في مطلع العصر الحديث بمثابة “القليل من الشيء نفسه”. لم يكن مقدار الضوء مختلفًا فحسب، بل أيضًا خصائصه وعالم المعاني المرتبطة به. الاختلافات بين “أنواع الضوء” والفجوات في مناليّة الضوء بين المجموعات المختلفة هي التي جعلت الضوء مؤشّرًا واضحًا على القوّة الاقتصاديّة والسياسيّة.

مجسم لفانوس إضاءة. كان على كل شخص أن يحمل فانوسًا عند تحركه في الظلام بعد صلاة العشاء. صورة تعود إلى ألبرت سميث، 1850.

تجسّد السطور التي كتبها الشاعر سيّد وهبي هذا الأمر بشكل جيّد، حيث إنّها تتضمّن القيمة الماديّة والعاطفيّة وحتى السياسيّة لضوء الشموع. على المستوى العاطفيّ، يتلاعب الشاعر بالتعبير السائد بالتركيّة “الدعوة مع شمعة” (mumla okumak)  بمعنى أنّ في الدعوة نيّة خالصة، مع الرغبة في مقابلة الشخص (الأشخاص) المدعوّين.

يعود أصل التعبير إلى العادة العثمانيّة المتمثّلة في دعوة الضيوف لحضور الأحداث الليليّة (حفلات في دوائر النخبة أو حفلات الزفاف) عن طريق إرسال الشموع إليهم. قبل تركيب إنارة الشوارع في مدن الشرق الأوسط (الذي بدأ في منتصف القرن التاسع عشر)، كان أيّ شخص يتجوّل في الشوارع بعد صلاة العشاء مجبرًا بموجب القانون بحمل مصباح يدويّ. وعادة ما كان مؤلَّفًا من إطار صلب ما، وُضعت فيه شمعة، محميّة بواسطة ورقة أو زجاج. على المستوى المادّيّ، إذًا، أخذ المضيف على عاتقه نفقات الإضاءة المرتبطة بالوصول إلى منزله. لكنّ اللفتة الرمزيّة لم تكن أقلّ أهمّيّة. من خلال إرسال الشمعة، وسّع المضيف ضيافته لتصل عتبات أبواب الضيوف وأظهر رغبته في إحضارهم إلى منزله.

لفهم كيفيّة ارتباط هذه الشمعة المجازيّة بسياسة السلطان أحمد الثالث (1730-1703) الذي خُصِّصت له هذه القصيدة، يجب أوّلًا أن نقول بضع كلمات عن الجانب المادّيّ لإنتاج الضوء في الإمبراطوريّة العثمانيّة في القرن الثامن عشر. كانت الشموع المصنوعة من الدهون الحيوانيّة أكثر وسائل الإضاءة انتشارًا في إسطنبول والمناطق الشماليّة من الإمبراطوريّة. تمّ إنتاجها من الدهون الحيوانيّة، وبالتالي كانت الورش تقع بالقرب من المسالخ. قام قادة نقابة صنّاع الشموع بتوزيع الموادّ الخام بين أعضاء النقابة والإشراف على إنتاج الشموع وجودتها. غالبًا ما تسبّبت الأوبئة الحيوانية والفيضانات والتمرّدات في إلحاق أضرار بالقطعان أو القدرة على نقلها إلى العاصمة، ولهذه الأسباب حدث نقص في الشموع أحيانًا.

نظرًا لأنّ الشموع كانت تٌعتبَر منتجًا أساسيًّا يجب أن يكون متاحًا لجميع فئات السكان، فقد شغلت مشاكل توفيرها أعلى المستويات في الإمبراطوريّة. يحتفظ الأرشيف العثمانيّ في إسطنبول بتعليمات من بعض السلاطين من النصف الثاني من القرن الماضي للإسراع في توصيل الشموع والدهون الحيوانيّة من الولايات، لضمان التوزيع العادل للشموع لمختلف الأحياء وتطبيق الحظر المفروض على تصدير مواد الإضاءة، كلّ هذا “من أجل الرعايا”، حسب نصّ الأوامر. في حالات النقص الحادّ (على سبيل المثال في 1817-1818) تمّ تحديد حصص.

مآدبة الإفطار تمت إضاءتها بشمع العسل في أحد القصور نهاية القرن الثامن عشر. من أرشيف Coşkun Yilmaz Archive.

إلّا إنّ حقيقة أنّ جميع الرعايا تمتّعوا بتوفّر الشموع لا تعني أنّ الجميع تمتّعوا بالضوء بكمّيّة أو جودة متساوية. أنتجَت شموع الدهون الحيوانيّة ضوءًا ضعيفًا جدًّا، وبالتأكيد مقارنة بالكهرباء، ولكن حتّى مقارنة بشموع البارافين التي نعرفها اليوم: 48 شمعة عاديّة مصنوعة من الدهون الحيوانيّة، وفّرت ضوءًا أضعف من ضوء مصباح واحد بقدرة 60 واط. في مطلع القرن التاسع عشر، كان على عامل البناء البسيط تكريس يومَيّ عمل تقريبًا لشراء هذه الكمّيّة. انبعثت من الشموع المصنوعة من الدهون الحيوانيّة رائحة كريهة، كما أنّها كانت بحاجة وتحتاج إلى معالجة مستمرّة. يجب قطع الفتيل المحترق مرّة واحدة على الأقل كلّ 15 دقيقة، وإلا فإنّ الشمعة ستحترق بشكل غير متجانس، ممّا يتسبّب في انبعاث دخان منها، فقدانها لشدّة الضوء المنبعث منها والتسبّب في سيلان الكثير من الدهون إلى أسفل الشمعة وبذلك يذهب هباءً. لذلك فإنّ الشمعة التي لم تتمّ صيانتها بطريقة سليمة، ستنفق نصف ساعة بدلًا من أربع ساعات وتهدر ما يقارب 95 ٪ من الدهون. احتاجت إضاءة الغرفة التي تطلّبت عددًا كبيرًا من الشموع صيانة مستمرّة، الأمر الذي فاق قدرة الناس العاديّين.

تمكّنت العائلات المقتدِرة ماديًا في الإمبراطوريّة العثمانيّة من شراء كمّيّات كبيرة من الشموع، وشغّلت خدمًا خاصّين تتمثّل مهمّتهم الأساسيّة في صيانة الشموع. وعلاوة على ذلك، لم يكتفوا بالضوء الخافت للشموع المصنوعة من الدهون الحيوانيّة، بل إنّهم اشتروا من أجل إنارة غرف الضيافة في قصورهم شموعًا مصنوعة من شمع النحل التي أنتجت ضوءًا أقوى وأكثر وضوحًا، لم تُطلق رائحة كريهة وتحتاج إلى صيانة أقلّ بكثير. كان سعرها في أوائل القرن التاسع عشر ثلاثة أضعاف سعر شموع الدهون الحيوانيّة. وعليه، لم يكن لبسطاء الرعايا سوى أن يحلموا الشموع المصنوعة من شمع النحل وهم يجلسون في غرفهم المضاءة بضوء خافت.

عرض للألعاب النارية في مهرجان أقيم على شرف ختان أبناء السلطان أحمد الثالث 1720. النور والقوة والنور كقوة الصورة: من كتاب مهرجانات الوهبي ، الشهرة وهبي ، رسم عبد الجليل ليفني ، 1720

في ظلّ هذه الظروف، عندما كانت الإضاءة الداخليّة تمثّل أيضًا تحدّيًا ماديًّا، كانت إضاءة الشوارع أشبه بالمستحيل. اقتصرت الإضاءة الخارجيّة على مواقع محدّدة، خاصّة حول قصور الشخصيّات البارزة في الإمبراطوريّة (التي حولها) والمساجد. اقتصرت الإضاءة على أوقات معيّنة، وخاصة الأعياد الدينيّة والأعياد المرتبطة بسلالة السلطنة، مثل ميلاد أمير أو أميرة أو نصر عسكريّ هامّ. على خلفيّة الروتين المظلم، من السهل تخيّل الأثر الاحتفاليّ لآلاف الشموع والمصابيح، في رمضان على سبيل المثال. بالنسبة إلى الناس العاديّين، كان ذلك أحد المظاهر الخالصة لـ “أجواء العيد”، لكن في الوقت نفسه، كان دليلًا على التزام الحكومة بدعم هذه الأجواء وبالتالي، أداة لترسيخ شرعيّة الحكم.

في هذا السياق يمكننا فهم “حفلات المصابيح” التي نظّمها كبار الإمبراطوريّة خاصّة في عشرينيّات القرن الـ 18، وهي الفترة التي أُطلق عليها لقب “حقبة التوليب” بسبب مركزيّة هذه الأزهار في ثقافة تلك الفترة. مع قدوم الربيع، حيث تُزهر أزهار التوليب في إسطنبول، استضاف كبار الإمبراطوريّة السلطان في حدائقهم في ساعات المساء. آلاف الشموع، الشمعدانات والمرايا وُضعت بين أحواض التوليب، وأكملت الموسيقى والبخور هذه المتعة الحسّيّة الشاملة.

الوزير الأكبر ابراهيم داماد باشا. لوحة رسمها جان بابتيست فان مور، حوالي 1730-1727 ميلادي.

 

مع ذلك، من الواضح أنّ هذه الحفلات كانت أكثر من مجرّد طريقة نخبويّة للترفيه الليليّ. مثل عروض الأضواء التي نُظّمت في البلاط في عدد من الأماكن الأوروبيّة في ذلك الوقت، تمّ استخدام الإضاءة الباهظة لاستعراض قوّة الحكم على المستوى الأكثر حرفيًّا. لم يكن الضوء كيانًا عامًّا و “شفّافًا” بل كان محور الحدث. تمّ تنظيمه لجذب الانتباه إلى نفسه، وفي النهاية إلى القوّة التي سمحت بتركيزه وتنظيمه. ومع ذلك، كان في نهاية المطاف استعراضًا محدودًا من حيث الزمان والمكان، وبالتالي محدودًا في نجاعته كتجسيد لقوّة الحكم. لقد عمل شعراء البلاط هنا كذراع لـ “الدعاية” التي كان هدفها في هذا السياق تضخيم الضوء ونشره بين أولئك الذين لم يشاهدوه، ومَنح الاستعراض حياةً أطول. كتب الوالي عزّت علي باشا، الذي كان شاعرًا مشهورًا أيضًا، “التوليب يزيّن فناء الفوانيس بنسيج ملوّن/ ويزين هذا الحفل الملكيّ، الليلة/ عندما تضيء كلّ شمعة مثل ضوء النهار/ من ينظر أبدًا إلى وجه القمر المضيء؟”

انعكست الفجوات في التطرّق إلى الضوء الاصطناعيّ في نهاية المطاف على هوامش التمرّد الذي اندلع في عام 1730 ضدّ القصر، وأسفر إلى الإطاحة بالسلطان أحمد الثالث، وهو السلطان نفسه الذي كتب على شرفه سيّد وهبي وعزّت باشا. كانت للتمرّد أسباب كثيرة، لكن لا شكّ أنّ حياة البذخ في القصر كانت عاملًا رئيسيًّا في الغضب الذي احتقن في الشوارع. حاصر المتمرّدون الذين كان معظمهم من الطبقات الدنيا في المجتمع المدنيّ، القصر وطالبوا بإعدام الوزير الأكبر واثنين آخرَين من كبار المسؤولين الذين ارتبطت أسماؤهم بعدد من الإخفاقات وبحفلات الشموع التي ورد ذكرها هنا. عندما استلم المتمرّدون جثّة الوزير الأكبر، كدليل على أنّ السلطان استجاب لمطالبهم، غرسوا شموعًا في عينيه وهتفوا – وفقًا لشهادة أحد المؤرّخين – “إذا كنتَ تريد حفلة شموع، فافعلها هكذا!” من خلال هذه اللفتة الوحشيّة، أظهر المتمرّدون أنّهم يفهمون جيّدًا لغة “الضوء كقوّة” التي استخدمتها الحكومة، إلّا أنّ استخدامهم لها قلب منطقها على رأس الوزير الأكبر.

على الرغم من النجاح المبدئيّ، لم يغيّر التمرّد بشكل جوهريّ البنية الاجتماعيّة، ولا الفجوات في الوصول إلى الضوء الاصطناعيّ. هذه الفجوات، وكذلك المظاهر الباهظة للضوء التي جعلت هذه الفجوات سياسيّة بشكل واضح، كانت مشتركة للعثمانيّين وجيرانهم في الغرب. ومع ذلك، فإنّ الواقع الليليّ خارج بلاط الحكم في أوروبا بدأ يتغيّر في العقود الأخيرة من القرن السابع عشر. كان أحد الأسباب الرئيسيّة لذلك هو بداية تركيب شبكات الإضاءة المدينيّة التي كانت تغذّيها دهون الحيتان. زوّدت هذه الدهون، التي كانت المنتج الرئيسيّ لصيد الحيتان الواسع الانتشار في تلك الحقبة، أوروبا بموادّ إنارة عالية الجودة نسبيًّا وبكمّيّات ضخمة وبتكلفة منخفضة. وصلت الإضاءة العموميّة إلى الشرق الأوسط فقط في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، عندما خفض الغاز والنفط تكاليف الإضاءة بشكل كبير. بالطبع لم يمحُ الوقود الرخيص الاختلافات الاجتماعيّة، لكنّ جعْل الضوء متوفّرًا بشكل أكبر، أدّى إلى تقليص فعّاليّته كرمز للقوّة.

 

صوتٌ نسويٌ في يوم الثامن من آذار

اليوم، لن نكتب عن حقوق المرأة، ولن نطالب بحقوقها ولا بإنصافها ولا حتى بدفعكم للخروج لأجلها. بل سنكتب حول كيف قامت المرأة نفسها بذلك

الصورة مقتبسة من كتاب كريمة عبود : رائدة التصوير النسوي في فلسطين

الثامن من آذار.  في مثل هذا اليوم من السنة، يحتفل العالم بيوم المرأة العالمي وفيه تخرج العديد من المظاهرات المطالبة بإنصاف المرأة، كما يكتب الكثيرون حوله، وكل ذلك في سبيل دعم المرأة وتعزيز فرص تمثيلها بسائر القطاعات بالمجتمع وإيصالها لمركزه بعيدًا عن الهامش الذي هو مكان الملايين من النساء حتى يومنا هذا.

اليوم، لن نكتب عن ذلك، ولن نطالب بحقوق المرأة ولا بإنصافها ولا حتى بدفعكم للخروج لأجلها. بل سنكتب حول كيف قامت المرأة نفسها بذلك؛ لن نكون بهذه المقالة سوى أداة لها، أداة من خلالها ستقوم هي بإيصال الرسالة التي تريد من المجتمع أن يقرأها -وبتمعن- قبل أن يقمعها، يقصيها، يستهزئ بقواها الذاتية والكامنة أو حتى يتجه لمحو صوتها فيه بالتهميش والعنف.

أنا كريمة عبود؛ أول مصورة في المجتمع العربي

ولدتُ بمدينة بيت لحم خريف عام 1893 لعائلة تنحدر من أصول لبنانية نزحت للناصرة. وأنا التي تعلمت بمدارس الناصرة والقدس وبيت لحم. بدأ حلمي بامتهان مهنة التصوير بالتحقق عندما بدأت بتعلم هذه المهنة لدى أحد المصورين الأرمن القاطنين في القدس (يُعرف الأرمن بامتهان الكثير منهم لمهنة التصوير خاصة في بداية القرن العشرين). كانت أول كاميرا وهي الأقرب إلي هدية والدي، والتي لم ألبث إلا وقصدت الكثير من الأماكن لأقوم بتوثيقها بكاميرتي الجديدة.

النساء كن دومًا هدفًا لي لتصويرهن وهذا ما دفعني لافتتاح أول استيديو للنساء في مدينة بيت لحم، فكن يأتين إلي لتصويرهن وهن يشعرن ببالغ السعادة لأنني كسرت حكر الرجال لهذه المهنة وبالتالي أتحت لهن الفرصة التي لم تكن متاحة لهن من قبل، إذ لم تكن تسمح التقاليد السائدة آن ذاك بأن يصور الرجال النساء وخاصةً المحجبات منهن.

أعلان للمصورة كريمة عبود في صحيفة الكرمل، صحيفة الكرمل بتاريخ 26 آذار 1924

أنا مي زيادة؛ خطيبة في الشعر والأدب

حياتي لم تكن سهلة ولا معبدة بالورود، وددت البدء بذلك حتى أقول لكن أيتها النساء، حتى لا تستلمن لمن هم حولكن. أنا مي زيادة، فلسطينية- لبنانية، ولدتُ في مدينة الناصرة لأب لبناني وأم فلسطينية. اسمي الحقيقي ماري إلياس زيادة ولكن اتخذت لنفسي اسم مي.

في هذه الحياة، تعلمت الكثير، فأتقنت تسع لغات: العربية، والفرنسية والإنجليزية والألمانية والإيطالية والإسبانية واللاتينية واليونانية والسريانية، كما تعمقت بالأدب خاصة الأدب العربي والتاريخ الإسلامي والفلسفة في جامعة القاهرة. نشرتُ الكثير من المقالات بمعظم المجلات الأدبية المصرية. أما كتبي، فقد كان الأول عام 1911 ديوان شعر نشرته باللغة الفرنسية وأول أعمالي بالفرنسية كان بعنوان “أزاهير حلم”. وفيما بعد صدر لي “باحثة البادية” عام 1920، و”كلمات وإشارات” عام 1922، و”المساواة” عام 1923، و”ظلمات وأشعة” عام 1923، و”بين الجزر والمد” عام 1924، و”الصحائف” عام 1924.

مي زيادة، الصورة مقتبسة من ويكيبيديا

اسمي ساذج؛ كاتبة ومحررة صحيفة الكرمل

أنا لست كما تظنون، فحتى صوتي التحرري لا يزال مسموعًا اليوم كما كان في الصحافة المكتوبة. ولدتُ في مدينة حيفا وأنا إيرانية الأصل عروبية الهوى. تزوجتُ من الأستاذ نجيب نصار وكنت قبل ذلك أكتب المقالات وبعد زواجي أيضًا، لم أعتني بالمنزل فقط،  بل كتبت وشاركت في تحرير صحيفة الكرمل وإدارتها إلى جانب نجيب.

قبل ذلك حرضت وها أنا أحرض الأمهات مرة أخرى، أحرضهن على تربية أولادهن على أساس المساواة بين الولد والبنت، أن تعليم المرأة الفلسطينية وتوفير فرص العمل أمامها هدفًا وليس خيارًا، ودخول معترك الحياة السياسية هو واجب وليس خيار.

صحيفة الكرمل التي عملت بها ساذج نصار

نازك الملائكة؛ متمردة الشعر العربي

لعلكن تتساءلن، ماذا فعلت للمرأة العربية وماذا قدمت. إذا كنت سأجيبكن فستكون إجابتي طويلة ولذلك سأقول فقط كلمتين: الشعر الحر. هاتان الكلمتان هما اللتان أوصلنني إلى ما وصلت عليه ولم أصل صوت فقط بل صوتكن أنتن أيضًا. لقد كسرت الجمود كما أن بنية التجديد بالشعر لم تعد مقتصرة على الرجال؛ فأنا نازك الملائكة قد كسرتها بالرغم من السخرية التي تعرضت لها بالبداية إلا أن تلك السخرية جعلتني رائدة شعر الحر باللغة العربية. لقد ساهمتُ في أن يكون للمرأة الدور في رسم الشعر والأدب العربي. فلا تقبلن بما هو أقل من ذلك.

نازك الملائكة، مقتبس من موقع صحيفة القدس العربي

فقط أنتن مسؤولات

لو عادت كل تلك الشخصيات النسوية إلى الحياة، ماذا برأيكن ستكون رسالتهن إليكن؟ هل سيقلن لكن احتفلن بالعيد وخذن عطلة في المنزل، أم سيقمن بحثكن على المقاومة وأخذ زمام المبادرة من أيدي المجتمع والعالم لتقررن أنتن مصيركن وتكن فقط أنتن مسؤولات؟

لتعرفن الإجابة، في المكتبة الوطنية، تجدن العديد من الكتب والمصادر حول الشخصيات النسائية والتي يمكنكن البحث والإبحار بها