كثيرٌ منّا يظنّ أنّ انطلاقة السّينما الفلسطينيّة جاءت متأخّرة كثيرًا عن انطلاقتها في العالم الغربيّ، فيقول كثيرون أنّ السينما قد نشأت بعد انطلاقة حركة المقاومة الفلسطينيّة خارج حدود فلسطين لمعايشة حياة الشعب الفلسطينيّ هُناك وبدأت في عرض كفاحه المسلّح في المخيّمات وقواعد الفدائيّين، إلّا أنّ الفيلم الأوّل من سينما المقاومة كان في الأردن في بداية سنوات السبعينات[1]، ولكن يعود بنا التاريخ إلّا أن يرجع بنا إلى عام 1935، عندما زار الملك سعود فلسطين، فلحقه من مكان إلى مكان: من اللدّ إلى يافا ومن يافا إلى تل أبيب، شاب يافاويّ هاوٍ للتصوير يُدعى “ابراهيم حسن سرحان”، ليصوّره في اللحظات المهمّة فقد كان الحاج أمين الحسينيّ يؤشّر له إلى تلك اللحظات كاستضافته على وجبات الطعام، تجوّله هُنا وهناك ولقاءه مع الناس.
صورة لإبراهيم سرحان أثناء تصوير الفيلم الأوّل له عام 1935
في مُقابلة أجراها المُخرج السينمائيّ والكاتب الصحفيّ قاسم حول معه، أشار سرحان إلى أنّ الفيلم عُرِضَ بعد إنجازه في مصيف روبين، وسينما أمبير في تل أبيب، ويُشير سرحان إلى أنّ الفيلم كان صامتًا، ولكنّه وضع في مكان العرض اسطوانة تُعطي مؤثّرات موسيقيّة، بحيث لم ينتبه أحد إلى أنّ الفيلم كان صامتًا.[2]
لم يكن الفيلم التوثيقيّ لزيارة الملك سعود إلى فلسطين هو الأخير، فقد وثّق أيضًا زيارة أحمد حلمي باشا عضو الهيئة العربية العليا، صوّرها وعرضها بعد أقل من ثلاث ساعات أمام الموفد، ممّا أثار إعجابه فأعطاه مبلغ 300 جنيه فلسطينيّ.
وقد كان الباحث عدنان مدانات قد ذكر في الموسوعة الفلسطينيّة أنّ سرحان قد اشترى كاميرا تُدار باليد، وقرأ كتبًا عن فنّ التصوير والعدسات والطبع والتحميض، وكان وحده يقوم بتطبيق ما يقرا، ويصنع الأجهزة بنفسه، بما فيها حتّى طاولة المونتاج.
المقابلة الأولى مع السينمائيّ الأوّل سرحان، كان قد أجراها قاسم حول في آذار عام 1974، بعد عرضٍ لأفلام سينمائيّة في مخيّم شاتيلا، وهناك أخبره أحد الحاضرين عن رجل يُدعى إبراهيم حسن سرحان، يعمل سمكريًّا الآن، إلّا أنّ كان مصوّرًا ومُخرجًا في “الزمنات”، فذهب إليه فورًا.
خلال المقابلة وكما يروي حول أنّ سرحان لم يكتفِ بهذا، إنّما عمل فيلمًا في 45 دقيقًا بعنوان أحلام تحقّقت، وهو عن حرم القدس كدعاية للأيتام، كان ذلك ليُثبت للناس أنّه يُمكن عمل شيء أسمه سينما بما يملك هو.
وترجع بنا المقابلة إلى الأربعينات من القرن الماضي، حين لم يكن يملكُ سرحان من المال سوى 15 جنيهًا فلسطينيًّا، إلّا أنّه يُريد أن يُسارع في تحقيق حلمه، فنشر في الصحف الفلسطينيّة إعلانًا عن افتتاح استديو فلسطين، ويطلب فيه وجوهًا للسينما، ووردته حوالي 12 ألف رسالة، ومع كُل رسالة مبلغ الاشتراك، فتجمّع عنده ما بين 1800-200 جنيه، ومن هناك انطلق في تأسيس استديو فلسطين، وهناك صنع بيديه طاولة بدائية للمونتاج والموفيولا.
إعلان عن الفيلم السينمائيّ الفلسطينيّ الأوّل – صحيفة “الدفاع” 19.10.1944
عن صحيفة “الدفاع” في جرايد، اضغطوا هنا
وبالشّراكة مع أردنيّ قام بتسجيل شركة الأفلام العربيّة بالقدس، وهناك قام بإنتاج الفيلم الأوّل ولمدّة ساعتين بعنوان “في ليلة العيد”، ويحكي لنا سرحان أنّ الفيلم كان قائمًا على الحيل السينمائيّة وأحداث العصابات والكوميديا في الوقت نفسه، وكان حلمه أن ينتج فيلمًا روائيًّا بعنوان “عاصفة في بيت”، وبسبب التكلفة الباهظة لانتاج فيلم روائيّ طويل إنضمّ إليه شريك آخر، ولكن حالت دون إنهاء الفيلم، ولكنّنا نرى إعلانات شبه يوميّة في الصحافة الفلسطينيّة حول الفيلم، فنرى من إعلان نُشِرَ في صحيفة فلسطين يوم الرابع من كانون الثاني 1945 عن أنّ الفيلم من بطولة احمد سمحان وحياة فوزي، وبالاشتراك مع: أحمد اليمنى، خميس شبلاق، ابراهيم البسطامي، خميس مراد، والكوميديّ المحبوب صلاح سرحان.
دعوة لمُنتسبي إدارة ستوديو فلسطين لزيارة موقع تصوير أحد الأفلام – إعلان في صحيفة “فلسطين” يوم 04.02.1945
عن صحيفة “فلسطين” في جرايد، اضغطوا هنا
بعد ذلك انطلق سرحان لتأسيس شركة للإعلانات عن البضائع والمحلّات التجاريّة، بالشّراكة مع الصحفيّ البارز الأستاذ زهير السقا – مالك مجلّة الحريّة الصادرة في يافا – وهناك قاموا بإنتاج أفلام قصيرة جدًا قبل عرض الأفلام في دور السينما في فلسطين، قسم كبير قد أنُجز بينما القسم الآخر بقي على النصف، وواحدة من هذه الأفلام يذكرُ سرحان كانت صورة أمين الحسيني مع العلم الفلسطينيّ،
قريبًا جدًا.. أوّل فيلم سينمائيّ في فلسطين (إعلان من صحيفة “فلسطين” في 04.01.1945)
في عام 1948، هُجِّرَ سرحان إلى الأردن، وهناك عمل فيلمًا بعنوان “صراع في جرش”… بعدها توقّف سرحان عن العمل في السينما، وانتقل بعدها إلى لبنان للعمل كسمكريّ، لينتقل إلى جوار ربّه عام 1987 في مخيم شاتيلا للاجئين الفلسطينيّين.
ملاحظة على الهامش:
من الجدير بالذكر أنّ الناقد والموثّق والمُساهم الكبير في أرشفة إنتاجات السينما الفلسطينيّة بشّار إبراهيم ذكر في كتابه السينما الفلسطينيّة في القرن العشرين أنّ فلسطين قد عرفت التصوير السينمائيّ منذ الأخوين اوغست ولويس لوميير، اللذان يُنسب إليهما اختراع السينما، ففي العام 1896 قام عملاء للأخوين لوميير بتصوير لقطات سينمائيّة في القدس، وقام توماس أديسون بتصوير فيلم الرقص في القدس عام 1902. [3]
[1] السينما الفلسطينية – قاسم حول (صفحة 17)
[2] السينما الفلسطينية – قاسم حول (صفحة 10)
[3] السينما الفلسطينيّة في القرن العشرين – بشار ابراهيم (صفحة 18)