أرشيف كلينتون بيلي حول الثقافة البدوية وحياة البداوة في المكتبة الوطنية الإسرائيلية

على مدار أكثر من خمسة عقود، أجرى الدكتور كلينتون بيلي أبحاثًا في كلٍّ من صحراء سيناء والنقب، جعلته خبيرًا عالميًا مشهورًا في ثقافة البدو، وهم العرب الرحّل الذين استمرّت ثقافتهم القديمة دون تغيير كبير لآلاف السنوات. توثيق لا يُقدَّر بثمن للثقافة البدوية القديمة تمّ حفظه وإتاحته مجانًا عبر الإنترنت.

على مدار أكثر من خمسة عقود، أجرى الدكتور كلينتون بيلي أبحاثًا في كلٍّ من صحراء سيناء والنقب، جعلته خبيرًا عالميًا مشهورًا في ثقافة البدو، وهم العرب الرحّل الذين استمرّت ثقافتهم القديمة دون تغيير كبير لآلاف السنوات.

رجال من البدو يمتطون الجمال في خليج إيلات (تصوير: كلينتون بيلي)

 يحتوي أرشيف كلينتون بيلي حول الثقافة البدوية وحياة البداوة على كنوز فريدة من نوعها، بما في ذلك حوالي 350 ساعة من المقابلات والتسجيلات من أبحاث الدكتور بيلي، بالإضافة إلى مئات الصور والشرائح ومقاطع الفيديو التي توثق ثقافة القبائل البدوية خلال نصف القرن الماضي.

جمع الدكتور بيلي هذه المواد قبل وقتٍ قصيرٍ من وفاة الأشخاص المسنّين الذين حاورهم من البدو، ولولا ذلك لما تسنّى لذكرياتهم ومعرفتهم أن يُكتَبَ لها النجاة بعدهم. لذلك، يُقدِّم الأرشيف موادَّ أصليّة لا تُقدّر بثمن مصدرها الجيل الأخير من البدو المسنّين الذين عاشوا وبلغوا سن النضج خلال الفترة التي سبقت التغيّرات الحديثة في الثقافة البدويّة. لن يكون بالإمكان العثور على موادٍ مثيلة في المستقبل، إذ تُمثّل هذه المواد كنزًا لثقافةٍ قديمة منقولة شفويًا وغير قابلة للتعويض في الوقت الراهن، فهي غير موجودة بصورتها القديمة بين الأجيال الشابة من البدو، الذين نشأوا تحت تأثير الحداثة.

مخيض اللبن على الطريقة البدوية (تصوير: كلينتون بيلي)

وفقًا للدكتورة راحيل يوكليس، رئيسة قسم المجموعات في المكتبة الوطنية الإسرائيلية: “ستَخْدِم المواد التي لا تُقدَّر بثمن في هذا الأرشيف أفرادَ المجتمع البدوي المهتمين بالتعرف على ماضيهم، بالإضافة إلى الباحثين في البلاد وفي الخارج لأجيالٍ قادمة. يشكل حفظ هذه المواد وإتاحة الوصول إليها جزءًا أساسيًا من مهمة والتزام المكتبة الوطنية الإسرائيلية، حيث نعمل بجدّ من أجل الحفاظ على كنوز جميع المجتمعات في البلاد ومشاركتها مع جماهير متنوعة محليًا ودوليًا”.

تغطي المواد جوانب متنوعة تتعلّق بالثقافات القبلية البدوية القديمة، ما يجعل الحفاظ عليها ذا ضرورة بالغة. تشمل الموضوعات المسجلة: الشعر البدوي، القضاء العشائري، التقاليد الشفوية والأمثال والسير التاريخية، ومعلومات عن الحياة الاقتصادية، والتنظيم الاجتماعي، والقيم والعادات، والقوانين، والممارسات الدينية، والإبداع الفني، والمعرفة بالبيئة، والمزيد.

هيئة قضاة من البدو في محكمة (تصوير: كلينتون بيلي)
نساء بدويات غير متزوجات (تصوير: كلينتون بيلي)

يمثّل هذا الأرشيف إضافة استثنائية تعكس المهمة الفريدة للمكتبة الوطنية، بصفتها مؤسسة مفتوحة وشاملة مكرّسةً لحفظ أشكال التعبير المتنوعة للتراث الثقافي وتشجيع الجمهور المحلّيّ والعالميّ على التفاعل معها.

سيتم إتاحة المواد مجانًا عبر الإنترنت من خلال عملية شاملة تشمل ما يلي:

  • تحويل جميع المواد الصوتية إلى نصوص مكتوبة قابلة للبحث فيها وسهلة الوصول.
  • وصف محتويات الأرشيف وفهرستها بشكل شامل باللغتين العربية والإنجليزية، بما في ذلك شرح المفردات والعادات المحددة المذكورة في التسجيلات، والتي قد تكون غير مألوفة للباحثين المعاصرين.
  • تحويل المواد الصوتية المسجلة على وسائط تناظرية (analog) إلى ملفات رقمية مع تحسين جودة الصوت وتنفيذ إجراءات ضمان الجودة.
  • إتاحة كافة المواد بشكل رقمي من خلال بوابة إلكترونية مخصصة بثلاث لغات (الإنجليزية، العربية، العبريّة)، عبر فهرس المكتبة الوطنية الإسرائيلية.

تمّ حفظ وإتاحة أرشيف كلينتون بيليحول الثقافة البدوية وحياة البداوة بفضل الدعم السخيّ من مؤسسة تشارلز إتش. ريفسون، ومارسي بولير شوارتز/ مؤسسة Grantors، وداعمين آخرين.

عن الدكتور كلينتون بيلي

درس الدكتور كلينتون بيلي الثقافة البدوية عن قرب لأكثر من خمسين عامًا. وُلِدَ في الولايات المتحدة الأمريكية، ويحمل درجة البكالوريوس في تاريخ الشرق الأوسط والإسلام من الجامعة العبرية في القدس، ودرجة الدكتوراه في العلوم السياسية مع تركيز على الشرق الأوسط من جامعة كولومبيا. في عام 1994، حصل على جائزة إميل غرينتسفايغ لحقوق الإنسان تقديرًا لعمله طوال حياته في دراسة وحفظ تاريخ البدو في البلاد وتعزيز حقوقهم المدنية. كما حصل على العديد من المنح البحثية من “الوقف الوطني للعلوم الإنسانية” ومؤسسات خاصة حول العالم.

تتضمن أعماله العديدة حول الثقافة البدوية والشعر والقضاء العشائري أربعة كتب نالت استحسانًا كبيرًا: شعر البدو من سيناء والنقب: مرآة لثقافة” (دار نشر جامعة أكسفورد)،  “ثقافة البقاء في الصحراء: أمثال بدويّة من سيناء والنقب” (دار نشر جامعة ييل)، “قانون البدو في سيناء والنقب: العدالة دون حكومة (دار نشر جامعة ييل)، “الثقافة البدويّة في الكتاب المقدّس” (دار نشر جامعة ييل)، وهو كتابه الذي نُشِرَ حديثًا.
ببالغ الأسف، قبل عدة أيام، لقد فارق الأستاذ كلينتون بيلي الحياة عن عمر يناهز 88 عامًا.

عن المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة

تأسست المكتبة الوطنية الإسرائيلية في القدس عام 1892، وهي تعمل كمؤسسة ديناميكية تمثل الذاكرة الوطنية للشعب اليهودي في جميع أنحاء العالم وللإسرائيليين من مختلف الخلفيات والمعتقدات. وبينما تواصل دورها كمكتبة بحثية رائدة في البلاد، انطلقت المكتبة مؤخرًا في رحلة طموحة من التجديد بهدف إتاحة الوصول إلى كنوزها وتشجيع جمهور متنوع في البلاد وحول العالم على التفاعل معها بطرق جديدة وذات معنى. يتم تحقيق ذلك من خلال مجموعة من المبادرات التعليمية والثقافية والرقمية المبتكرة، بالإضافة إلى مبنى جديد بارز صممه مكتب هيرتسوغ ودي مرون والذي انتقل إليه مقر المكتبة في تشرين الأول 2023.

تضمّ كنوز المكتبة أكبر مجموعة من المؤلفات اليهودية المكتوبة التي جُمِعَت على الإطلاق، ومخطوطات مهمة لشخصيات بارزة مثل موسى بن ميمون والسير إسحاق نيوتن، ومخطوطات إسلامية رائعة تعود إلى القرن التاسع. كما تضمّ المكتبة مجموعات أرشيفية لشخصيات ثقافية وفكرية بارزة، منها مارتن بوبر، وفرانز كافكا، ونعومي شيمر. لدى المكتبة الوطنية أكبر مجموعة من الموسيقى اليهودية والإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من المخطوطات ذات القيمة الاستثنائيّة، وخرائط قديمة، وكتب نادرة، وصور فوتوغرافية، ومواد أرشيفية مجتمعية وشخصية، وغيرها.

الطابو: كيف تحوّل حلم امتلاك الأرض إلى كابوس كافكاوي

رواية المحاكمة ليست مجرد قصة عن الظلم البيروقراطي؛ بل هي صورة عميقة للإنسان الذي يجد نفسه بلا حول ولا قوة أمام أنظمة لا تعترف بإنسانيته. عندما نضع الرواية في سياق المواطنين العرب العثمانيين في العقود الأخيرة من الفترة العثمانية، نجد أوجه تشابه مذهلة بين تجربة جوزيف ك. وتجربة الفلاحين مع نظام الطابو، وكلاهما يمثل صراع الإنسان الدائم مع قوى أكبر منه تحاول أن تسلبه حقوقه.

832 629

يصور فرانز كافكا في رواية المحاكمة، عالمًا تسيطر فيه البيروقراطية على حياة الأفراد، حيث يصبح النظام الإداري قوة غامضة وقاهرة تحكم مصائر الناس دون تفسير أو منطق. يعاني جوزيف ك.، بطل الرواية، من اتهام غامض دون أن يُشرح له طبيعة التهمة أو كيفية الدفاع عن نفسه. طوال الرواية، يُجبر جوزيف ك. على التنقل بين مكاتب ومستويات من البيروقراطية لا يمكن الوصول إليها أو فهمها. كلما حاول جوزيف الاقتراب من حل مشكلته، وجد نفسه عالقًا في نظام يتلاعب به ويبعده أكثر عن الحقيقة. هذه المشاهد المأساوية والعبثية تعكس بشكل لافت التجربة الفلاحين مع نظام الطابو العثماني.

حين فرضت الدولة العثمانية نظام الطابو كجزء من إصلاحات التنظيمات، كان الهدف هو تقنين ملكية الأراضي لتعزيز المركزية وزيادة الإيرادات الضريبية. لكن بالنسبة للسكان المحليين، تحولت هذه الإصلاحات إلى تجربة مريرة، حيث واجهوا نظامًا لا يفسر قواعده ولا يمنحهم أي دعم لفهمه. في الرواية، عندما يُطلب من جوزيف ك. المثول أمام المحكمة، فإنه لا يعرف مكان المحكمة، ولا متى ستُعقد، ولا حتى كيف يمكنه الدفاع عن نفسه. بالمثل، كان المزارعون العثمانيون غالبًا لا يعرفون كيفية التعامل مع متطلبات الطابو. غياب التوعية وقلة الموارد تركت الكثير منهم عرضة لفقدان أراضيهم بسبب الأخطاء أو استغلال الوسطاء.

ورغم أن البعض اليوم ينظر إلى الحقبة العثمانية برومانسية، بوصفها فترة حكم إسلامي وشرقي جامع، إلا أن الحقيقة كانت أكثر تعقيدًا. حتى وإن كانت الدولة العثمانية جزءًا من إرث مشترك، فإن سياساتها لم تكن خالية من أدوات القمع، وكان الفلاحون العرب في البلاد في كثير من الأحيان يواجهونها كسلطة مركزية بعيدة أكثر من كونها حامية لهم أو لمصالحهم.

في مشهد من الرواية، يحاول جوزيف ك. التحدث مع أحد الموظفين لمعرفة طبيعة قضيته. يواجهه الموظف بغموض مبالغ فيه، مما يزيد من إحساسه بالعجز. هذا المشهد يذكرنا بما كان يعيشه المواطنيون العثمانيون عند محاولتهم تسجيل أراضيهم. المسؤولون العثمانيون غالبًا ما كانوا يفتقرون إلى الشفافية أو كانوا بعيدين عن الواقع المحلي، مما جعل العملية أكثر تعقيدًا وأبعد عن متناول الفلاحين. كثيرًا ما لجأ الفلاحون إلى وسطاء أو ملاك أثرياء لتسجيل الأراضي بأسمائهم، ليجدوا أنفسهم في النهاية فاقدين لحقهم الشرعي في الأرض.

الرواية تمتلئ أيضًا بمشاهد تدل على إحساس جوزيف ك. بالاغتراب عن مجتمعه وأسرته، حيث يبدأ في فقدان الثقة بمن حوله. هذا الشعور بالاغتراب يتماشى مع ما عاشه الفلاحون في ظل الإصلاحات العثمانية. بالنسبة لهم، لم يكن النظام البيروقراطي مجرد تحدٍ إداري؛ بل كان رمزًا لفقدان السيطرة على حياتهم وأراضيهم. الأرض بالنسبة لهم كانت أكثر من مصدر رزق؛ كانت هوية وانتماءً وجذوراً، وفقدانها يعني فقدان كل ذلك.

ورغم قسوة هذا النظام، لم يكن الفلاحون بلا رد فعل. في بعض المناطق، رفض الفلاحون التعاون مع المسؤولين العثمانيين، بينما في مناطق أخرى حاولوا التأقلم مع الواقع الجديد عبر توظيف وسطاء أو محامين. لكن، كما في رواية كافكا، كانت النتيجة النهائية دائمًا شعورًا بالعجز أمام قوة أكبر لا يمكن مواجهتها أو فهمها.

رواية المحاكمة ليست مجرد قصة عن الظلم البيروقراطي؛ بل هي صورة عميقة للإنسان الذي يجد نفسه بلا حول ولا قوة أمام أنظمة لا تعترف بإنسانيته. عندما نضع الرواية في سياق فلسطين العثمانية، نجد أوجه تشابه مذهلة بين تجربة جوزيف ك. وتجربة الفلسطينيين العثمانيين مع نظام الطابو، وكلاهما يمثل صراع الإنسان الدائم مع قوى أكبر منه تحاول أن تسلبه حقوقه.

نشرة دائرة الزراعة ومصايد الأسماك: حكاية حماية إرث الصيد

كان الصيد قبل وخلال الفترة الانتدابية، أكثر من مجرد وسيلة لكسب العيش؛ اذ كان شريان الحياة الذي يربط المجتمعات الساحلية والقرى القريبة من البحيرات والأنهار. في يافا، وحيفا، وحول بحيرة طبريا، كان الصيادون ينطلقون في الصباح الباكر على قواربهم الخشبية الصغيرة، مثل الحسكة والسمبوك، حاملين الشباك وخطوط الصيد الطويلة التي علمتهم إياها أجيال سبقتهم.

832 629

كان الصيد قبل وخلال الفترة الانتدابية، أكثر من مجرد وسيلة لكسب العيش؛ اذ كان شريان الحياة الذي يربط المجتمعات الساحلية والقرى القريبة من البحيرات والأنهار. في يافا، وحيفا، وحول بحيرة طبريا، كان الصيادون ينطلقون في الصباح الباكر على قواربهم الخشبية الصغيرة، مثل الحسكة والسمبوك، حاملين الشباك وخطوط الصيد الطويلة التي علمتهم إياها أجيال سبقتهم.

لكن وراء كل رحلة كانت هناك تحديات تنتظر الصيادين. كانت البحار والأنهار تتحكم بمزاجها، تتغير بتغير المواسم، وأحيانًا تجلب قلة الصيد معها أيامًا عصيبة. قد زاد على هذه الصعوبات ظهور ممارسات مدمرة لبعض الصيادين لم تكن جزءًا من إرث الأجداد. بدأ البعض يلجأ إلى استخدام الديناميت والسموم في محاولة لجني مكاسب سريعة. وبينما كانت هذه الأساليب تأتي بربح قليل في البداية، كانت تترك وراءها دمارًا بيئيًا يمتد إلى ما هو أبعد من أفق البحر.

في خضم هذه التحديات، ظهرت نشرة دائرة الزراعة ومصائد الأسماك عن الحكومة الانتدابية آن ذاك. بين عامي 1937 و1939، بدأت النشرة الصادرة عن حكومة الانتداب البريطاني في القدس تشق طريقها إلى أيدي الصيادين والمزارعين. لم تقتصر النشرة على مجموعة من التعليمات، بل كانت بمثابة صوت جامع يهدف لحماية ما تبقى من هذا الإرث العريق.

تحدثت النشرة عن أساليب الصيد غير المستدامة، مثل استخدام المفرقعات التي كانت تقتل الأسماك بلا تمييز وتتركها تتعفن في المياه، مما يخيف بقية الأسماك ويجلب كائنات غير مرغوبة مثل كلاب البحر. أكدت النشرة أن هذه الأساليب تدمر النظم البيئية بأكملها، مما يؤثر على مجموعات الأسماك الكبيرة والصغيرة.

لم تكن دعوات النشرة للتغيير بلا جدوى. مع زيادة الوعي، بدأ العديد من الصيادين بالتعاون مع السلطات والإبلاغ عن من يستخدمون الأساليب المدمرة. وتوالت القصص عن صيادين تم الإمساك بهم ومعهم أسماك ميتة مسممة بالديناميت،و تم تغريمهم خمسة جنيهات فلسطينية مما عزز الوعي بتبعات هذه الممارسات. كان هذا بمثابة تحول كبير في التزام المجتمع بحماية موارده المشتركة.

كما تحدث النشرة عن زيارات المسؤولين  للقرى، تحدثوا مع الصيادين كما الفلاحين، سمعوا قصصهم وأعطوهم توجيهات ملموسة.كما نشروا دورات تدريبية، و ناقشوا ممارسات مستدامة وأفكار جديدة لدعم الصيادين و الفلاحين.

وفي خضم هذا الحراك، تأسس مجلس مكون من 12 عضوًا من الصيادين، اجتمعوا ليضعوا رؤيتهم لحماية مصلحة الصيد، فاقترحوا قوارب أكثر كفاءة، وطالبوا بتوفير الشباك للصيادين الفقراء الذين لا يستطيعون تحمل تكلفتها.

قادت هذه الجهود المشتركة، المدعومة بالنشرة والتعاون بين المجتمع والسلطات، إلى تحسينات ملموسة في البلاد آنذاك.اذ لم تُحسن النشرة ممارسات الصيد فحسب، بل عززت أيضًا شعور المسؤولية داخل المجتمع، مما ساهم في اقتصاد أكثر استدامة ودعمًا لسبل عيش الصيادين، ومهد الطريق لصناعة صيد قادرة على الاستمرار لأجيال قادمة.

دواليب الأمل: يانصيب اليتيم العربي

وُلدت لجنة اليتيم العربي ، وكانت مهمتها توفير الرعاية للأيتام في المجتمع العربي، الأطفال الذين تُركوا ليعولوا أنفسهم في وقت كان الوضع السياسي في البلاد غير واضح المعالم. لكن لم تكن هذه مجرد جهود إغاثة عادية، بل كانت اللجنة مصممة على القيام بشيء فريد، شيء سيصمد أمام اختبار الزمن. ومن هنا خُلِقت فكرة يانصيب اليتيم العربي.

في ربيع عام 1940، اجتمع مجموعة من القادة العرب، منهم القاضي محمد البرادعي ووصيف بسيسو حول طاولة صغيرة في في أحد أحياء تلال حيفا ، متحدين لأجل هدفٍ سامٍ وهو خلق الأمل من العدم للأطفال اليتامى العرب. وُلدت لجنة اليتيم العربي من هذا الاجتماع، وكانت مهمتها توفير الرعاية للأيتام في المجتمع العربي، الأطفال الذين تُركوا ليعولوا أنفسهم في وقت كان الوضع السياسي في البلاد غير واضح المعالم. لكن لم تكن هذه مجرد جهود إغاثة عادية، بل كانت اللجنة مصممة على القيام بشيء فريد، شيء سيصمد أمام اختبار الزمن. ومن هنا خُلِقت فكرة يانصيب اليتيم العربي.

فلسطين 15 أيلول 1946
فلسطين 15 أيلول 1946

لم يكن اليانصيب مجرد حدث لجمع التبرعات، بل كان دعوةً للشعب العربي للاتحاد من أجل قضية مشتركة. احتاج المجتمع، الذي كان يكافح تحت ثقل الحكم البريطاني وتصاعد التوترات في المنطقة آنذاك، إلى شيء يتوحدون من أجله. وبالفعل، ظهرت الملصقات في نوافذ المحلات، ونشرت الصحف أخبار اللجنة واليانصيب، وانتشر الخبر من شوارع حيفا إلى عمّان و سوريا. بدأ الناس يشترون التذاكر ليس فقط من أجل فرصة الفوز، ولكن لدعم الأيتام بالمقام الأول.

الذخيرة، 11 تشرين ثاني 1946
الذخيرة، 11 تشرين ثاني 1946

حرصت اللجنة على أن تكون شفافة وصادقة مع الجمهور، حيث كانت تعقد اجتماعات لتحديث الجميع حول التقدم المحرز. لم يتعلّق الأمر بجمع المال فقط؛ بل كان يتعلق باشراكِ كل مواطنٍ عربي في هذه العملية. كان عدد المتبرعين يزداد مع مرور كل أسبوع، بعضهم قدموا تبرعات من الأراضي، وآخرون بما يمكنهم توفيره من نقود.

أقيمت أولى مراسم سحب اليانصيب في الأردن، حيث كانت الأجواء مليئة بالحماس والترقب. بدأت الأمسية بموسيقى و أناشيد وطنية أردنية، مما أضفى جواً احتفالياً عليها. في اليوم الذي سبق الحدث، كان النساء قد تجولنَ في الأسواق وشوارع العاصمة عمّان، ووضعن ملصقات للجنة الأيتام على أي شخص مستعد للمساهمة مالياً. كانت جهودهن أساسية في جمع الأموال لدعم عمل اللجنة في حيفا.

الوحدة 28 نيسان 1947
الوحدة 28 نيسان 1947

بينما كانت مراسم اليانصيب تجري في سينما البتراء، تجمع عدد كبير من الرجال والنساء لمتابعة الحدث. اصطف جُندٌ من الجيش العربي على أبواب القاعة لاظهار الاحترام للشخصيات المهمة التي حضرت، كرئيس الوزراء وغيره من المسؤولين، بما في ذلك وزير الداخلية ووزير المالية. كما قامت وسائل الإعلام من فلسطين وسوريا ولبنان والأردن بتغطية الحدث، مما يعكس روح الوحدة آنذاك.

خلال المراسم، أعرب الملك عبد الله عن دعمه للمبادرة، وبارك اللجنة وأعضائها. اشترى أيضاً 5,000 تذكرة يانصيب، وتبرع بالعائدات لللّجنة. شهد الحدث خمسة دواليب دوارة محاطة بأعلام الدول العربية. ساعدت فتيات صغيرات في تشغيل الدواليب، مما أضفى جواً من البهجة، كما كانت ألوان الدواليب تعكس أعلام الدول العربية، مما رَمزَ إلى التضامن في هذه المهمة الجماعية. و كانت الفرحة واضحة على الحاضرين في القاعة عندما أُعلِن عن الأرقام الفائزة.

حققت الحملة نجاحاً ملحوظاً، حيث تم بيع 92% من التذاكر، وجمعت حوالي 32 ألف جنيه فلسطيني. استخدمت لجنة اليتيم العربي الأموال التي جُمعت للقيام بأعمال إنسانية كبيرة، حيث افتتحت مدارس ومؤسسات تعليمية للأيتام.

في عام 1948، اضطرت اللجنة إلى الانتقال إلى عمان بعد أحداث النكبة. لكن العمل لم يتوقف وتم افتتاح مدرسة اليتيم في القدس والقائمة حتى يومنا هذا.