من دار المعلمين في القدس إلى الكلية العربية: محطة في التربية والتعليم

رغبات السكاكيني اصطدمت بأجندة السلطات الانتدابية ما جعله يستقيل ويخلي المنصب للمؤرخ خليل طوطح، وهو ما أدى إلى نشوب خلاف بينهما حول ذلك ولكن طوطح نفسه استقال بسبب ضغط الطلبة

الأستاذ محمد عبد السلام البرغوثي أثناء درس الهندسة. مجلة هنا القدس، 6 كانون الأول 1942

شفي بدايات عام 1920 تأسست أولى المجلات الفلسطينية المميزة تحت عنوان مجلة “دار المعلمين” والتي كانت كجزء من نشاطات دار المعلمين، وهي الكلية التي تأسست برعاية الانتداب لإعداد معلمين ذوي كفاءة يكونون قادرين على النهوض بالمجتمع الفلسطيني بحيث كانت عبارة عن مدرسة ثانوية وفي نفس الوقت كلية للمعلمين. هذا التوجه النهضوي هو الذي قاده وسعى إليه المربي الفلسطيني الكبير خليل السكاكيني، والذي وضع نصب عينيه بناء مستقبل أفضل للفلسطينيين، ولذلك فقد استقطب نخبة المثقفين الفلسطينيين والعرب، وأنشأ مجلة تربوية توعوية وحاول تطبيق أفكاره التربوية عبرها وعبر دار المعلمين.

مجلة دار المعلمين في القدس، عدد كانون الثاني 1922
مجلة دار المعلمين في القدس، عدد كانون الثاني 1922

لكن رغبات السكاكيني اصطدمت بأجندة السلطات الانتدابية التي كانت تسعى لتمرير سياسات، خاصة حالت دون تطبيق أفكاره ما جعله يستقيل ويخلي المنصب للمؤرخ خليل طوطح، وهو ما أدى إلى نشوب خلاف بينهما حول ذلك، حيث لم يرق للسكاكيني أن يقبل طوطح بهذا المنصب لكن طوطح نفسه سيضطر للاستقالة بعدها بثلاث سنوات فقط بسبب ضغط الطلبة، ففي آذار من عام 1925 زار اللورد بلفور القدس مما حذا بطلبة دار المعلمين إلى الاضراب رافضين الدوام، كما أرسلوا إلى أساتذتهم يحثونهم على الاضراب، الأمر الذي حذا بالسلطات إلى فصل المعلمين والأساتذة الذين شاركوا في الاضراب، فجلّ الطلاب والمعلمين المفصولين جام غضبهم على مدير المدرسة خليل طوطح الذي لم ينصارهم مما حول الأمر إلى قضية رأي عام اضطر على إثرها إلى الاستقالة.

 

جريدة مرآة الشرق. 29 آذار 1925. لقراءة الخبر كاملاً:
جريدة مرآة الشرق. 29 آذار 1925. لقراءة الخبر كاملاً

 

أحمد سامح الخالدي: إدارة جديدة، اسم جديد ومبنى جديد

كان أحد سامح الخالدي (1896-1951) أحد أشهر المربين الفلسطينيين في عشرينيات القرن الماضي، وكان حينها مفتشاً عاماً للمعارف وكان يحمل ماجستيرًا تربية. مع وصوله لمنصب مدير دار المعلمين كان أول ما فعله هو تغيير الاسم من دار المعلمين إلى “الكلية العربية” وذلك عام 1926 وهكذا توقفت مجلة “دار المعلمين” عن الصدور تحت هذا العنوان لتصدر بعدها تحت اسم “الكلية العربية”.

الأستاذ أحمد سامح الخالدي، مدير الكلية العربية. مجلة هنا القدس، 6 كانون الأول 1942
الأستاذ أحمد سامح الخالدي، مدير الكلية العربية. مجلة هنا القدس، 6 كانون الأول 1942

ستقفز الكلية في عهد الخالدي قفزات نوعية، ستستقطب مزيداً من النخب الفلسطينية، كما سيقوم الخالدي بالاستفادة من خبرات من سبقوه كالسكاكيني وكوع عبر المؤتمرات والنقاشات التربوية المميزة التي دعا إليها والتي وثقتها المجلة، كما ستفتح المجلة أبوابها لنقاش فكري تربوي عميق ولافت حول أساليب التربية والأنظمة التعليمية والفوارق بين الواقع التعليمي في فلسطين الانتدابية وفي دول وعواصم أخرى حول العالم.

من أعداد مجلة "الكلية العربية" بحلتها الجديدة، شباط 1938. لقراءة أعداد المجلة
 من أعداد مجلة “الكلية العربية” بحلتها الجديدة، شباط 1938. لقراءة أعداد المجلة

من بين أساتذة الكلية سيكون اسحاق موسى الحسيني، سليم كاتول، مصطفى مراد الدباغ، معروف الرصافي، نقولا زيادة، وصفي عنبتاوي وغيرهم. كما سيكون من التلاميذ المميزين: الروائي جبرا إبراهيم جبرا، المؤرخ عبد اللطيف الطيباوي، المؤرخ عرفان قعوار- شهيد، المؤرخ ناصر الدين الأسد وغيرهم.

 

 

الأستاذ الحاج مير أستاذ التاريخ في مكتبة الكلية العربية. مجلة هنا القدس، 6 كانون الاول 1942. لقراءة العدد
الأستاذ الحاج مير أستاذ التاريخ في مكتبة الكلية العربية. مجلة هنا القدس، 6 كانون الاول 1942.

 

عام 1936 سينتقل مبنى الكلية من شارع السلطان سليمان حيث سيصير المبنى القديم مبنىً لمدرسة الرشيدية، في حين ستنتقل الكلية إلى جبل المكبر، لتكمل من هناك رسالتها. تمدنا مجلة هنا القدس بمعلومات وصور جميلة ومميزة حول هذه تاريخ الكلية وصور لنخبة أستاذتها مثل: سليم كاتول واسحق موسى الحسيني وغيرهم.

 

الأستاذ سليم كاتول في المختبر مع صف الكيمياء. مجلة هنا القدس، 6 كانون الأول 1942. لقراءة العدد
الأستاذ سليم كاتول في المختبر مع صف الكيمياء. مجلة هنا القدس، 6 كانون الأول 1942. لقراءة العدد

 

مع نهاية الأربعينيات كان في الكلية العديد من المختبرات العلمية، الورشات البحثية، مكتبة يزيد عدد كتبها عن 5000 كتاب من أمهات كتب العلوم في مختلف اللغات، حدائق عامة، بساتين وملاعب، والعديد من المرافق التعليمية الحيوية لتكون في هذه المرحلة في ذروة عطائها، ولا يزال حتى اليوم أثر ذلك في الكثير من النخب الفلسطينية والعربية سواء تعلموا بشكل مباشر في الكلية أو تعلموا على يد خريجيها وهو ما يشير إلى أثرها حتى اليوم في المجتمع والثقافة الفلسطينيين.

صورة المقال الرئيسية تعود للأستاذ محمد عبد السلام البرغوثي أثناء درس الهندسة.مجلة هنا القدس، 6 كانون الأول 1942، لقراءة كامل العدد.

الكتابة حول بيت المقدس من باعث النفوس إلى الأنس الجليل

شكلت مدينة القدس مركزاً لأدب الفضائل وحازت على مساحة كبيرة ضمن الكتب المنشورة حولها، ومن هذه الكتب كتاب باعث النفوس في زيارة القدس المحروس.

باعث النفوس في زيارة القدس المحروس

في مطلع القرن الرابع عشر، نشر الفقيه أبو اسحق إبراهيم بن عبد الرحمن ابن الفركاح الفرازي (1262-1329) كتابه الذي ترون تحت عنوان “باعث النفوس في زيارة القدس المحروس” والذي يعدّ أحد الكتب المهمة حول القدس ومكانتها في الفكر التراث الإسلامي، وهو من الكتب التي سعت إلى حثّ المسلمين على زيارة ولذلك حمل عنوان “باعث النفوس”، فالهدف أن يبعث في نفس القارئ رغبة الزيارة.

جاء هذا النوع من الكتابة مرافقاً ومواكباً للحملات الصليبية واحتلالها للمدن الإسلامية، فنشأ هذا النوع الأدبي تحت عنوان “أدب فضائل القدس”. وأدب الفضائل هو الأدب الذي يركز على فضائل المدينة المقدسة، والذي يهتم بإدراج الأحاديث النبوية والقيمة المميزة للمدينة كما ورد في الفقه الإسلامي، كما يهتم أدب الفضائل بتفصيل قدسية الأماكن والمواقع، بما فيها المساجد والمواقع والمقامات والمزارات، كما يهتم بالحثّ على زيارة المدينة وعلى مقدار الخير في ذلك وفي فضل وقيمة كل خير يتم فيها. وبالتالي فالهدف العام لأدب الفضائل كما يتجلى هو تعزيز العلاقة بين المسلمين وبين القدس لاجل التواجد فيها وحمايتها.

شكلت مدينة القدس مركزاً لأدب الفضائل وستكون هناك مدنٌ أخرى ستحظى بذلك أيضاً كمكة والمدينة والخليل وغيرهم، ولكن الكتب حول القدس كانت أكثر عدداً وأكثر زخماً على خلاف المدن الأخرى، ربما لمكانة القدس ولكونها أيضاً محطّ أمل الصليبيين ومركزاً للصراع بينهم وبين المسلمين؛ حيثُ دارت الحروب حولها لأكثر من ثلاثة قرون ورضخت المدينة خلالها لسيطرة الحكم الصليبي لمدة سبعة عقود، وبالتالي تطوّرت خلال هذه السنين أدبيات مميزة وملفتة أنتجها كبار علماء المسلمين مثل ابن عساكر (1106-1176) في كتابه “المستقصى في فضائل المسجد الأقصى” أو كتاب أمين الدين بن هبة الله الشافعي “كتاب الأنس في فضائل القدس” وابن الجوزي (1116-1201) “فضائل القدس”.

هدفت هذه المؤلفات إلى تثبيت مركزية القدس في الوعي الإسلامي وإلى خلق إجماع إسلامي حول أهميتها وتعزيز العلاقة بين المسلمين وبين المدينة، في مسعى لتوطيد العلاقة وحثهم على الدفاع عنها وحمايتها، وهو ما حدث في حقبة القائد صلاح الدين الأيوبي وفي حقبة الظاهر بيبرس، وفي حقب مختلفة على مر التاريخ.

باعث النفوس في زيارة القدس المحروس
 باعث النفوس في زيارة القدس المحروس

موضوعات الكتاب كما وردت في المخطوطة

إنّ كمية الكتب والمؤلفات الذي كتبت في هذا الإطار، تعكس كم الجهد المبذول، سحرت هذه الكتب أجيالاً من المسلمين والعرب ليس للدفاع عن المدينة فحسب، بل إلى زيارتها والكتابة عنها وهو ما يُدرج اليوم تحت عنوان “أدب الرحلات” حيث كتب في هذا النوع الأدبي حول القدس الكثير من الرحالة المسلمين المهمين من بينهم المؤرخ ناصر خسرو (1004-1088)، الجغرافي الإدريسي (1100-1165)، الرحالة ابن جبير (1145-1217)، الشيخ الأكبر ابن عربي (1165-1240)، والرحالة ابن بطوطة (1304-1377)، والفقيه عبد الغني النابلسي (1641-1731) وغيرهم.

سيكون أضخم عمل كتب في هذا الباب هو مؤلف قاضي القضاة عبد الرحمن بن محمد العليمي المقدسي والذي عاش في أواسط القرن الخامس عشر (ولد غلم 860 هجري، 1455 ميلادي) وقد لخّص تقريباً كل ما كتب عن القدس خلال مئات السنين، من كتابات الرحّالة والمؤرخين وحتى كتابات العلماء والفقهاء، حيث لخّص كل ذلك في عمله الموسوعي “الأنس الجليل، في تاريخ القدس والخليل” واعتبر، لسنين طويلة، خلاصة ما كتب في تاريخ القدس على مر التاريخ قاطبة.

مخطوطة الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل
مخطوطة الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل

يقول العليمي في مطلع كتابه: “فإن بعض العلماء كتب شيئاً يتعلق بالفضاء فقط، وبعضهم تعرّض لذكر الفتح العمري وعمارة بني أمية، وبعضهم ذكر الفتح الصلاحي، واقتصر عليه ولم يذكر ما وقع بعده، وبعضهم كتب تاريخاً تعرض فيه لذكر بعض جماعة من أعيان بيت المقدس مما ليس فيه فائدة كبيرة، فأحببت أن أجمع بين ذكر البناء والفضائل والفتوحات وتراجم الأعيان، وذكر بعض الحوادث المشهورة ليكون تاريخاً كاملاً والله سبحانه وتعال المسؤول، وهو المأمول أن يمنّ عليّ بتيسير إتمام”

مخطوطة الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل
مخطوطة الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل

 

منّ الله على العليمي والمعروف باسم مجير الدين الحنبلي بإتمام كتابه والذي ظهر إلى النور حوالي عام 900 هجري (1495 ميلادي) بأكثر من 1000 صفحة تقريباً من القطع المتوسط ليكون بذلك من أحد الأعمال الجامعة والضخمة حول القدس والخليل، والذي يظل حتى اليوم شاهداً على تطوّر أدب الفضائل وعلى التطورات التي شهدها حقل الكتابة في فضائل بيت المقدس والتي من الصعب دراستها دون العودة إلى الكتابين: باعث النفوس في زيارة القدس المحروس، والأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل.

 

لفتا – ذكريات مصوّرة

"إذا دخلتم القدس عبر لفتا- روميما أو عبر محانيه يهودا أو عبر الملك جورج أو مئاه شعاريم فإنكم لن تجدوا غريبًا واحدًا" هكذا بدأ دافيد بن غوريون حديثه حول قرية لفتا.

كلارا ورفيقتها في نقطة الحراسة

في مطلع شباط من العام 1948، قال دافيد بن غوريون رئيس الوكالة اليهوديّة حينها ورئيس حكومة إسرائيل فيما بعد “إذا دخلتم القدس عبر لفتا- روميما أو عبر محانيه يهودا أو عبر الملك جورج أو مئاه شعاريم فإنكم لن تجدوا غريبًا واحدًا”. وكان كلامه هذا احتفائًا بانتصارات الجماعات اليهوديّة المسلّحة ونجاحها بإحكام قبضتها على تلك المناطق في الشهر السابق وخلوها من غير اليهود.

لفتا، البوابة الغربيّة للقدس، الّتي امتدّت على مساحات شاسعة، تختلف حدودها بحسب الشهادات المختلفة. إلّا أن جمالها لا يختلف عليه أحد. شملت القرية بيوتًا جميلة ذات طابع معماري مميّز، بالإضافة إلى عين الماء الّتي ما زالت موجودة إلى اليوم، معصرة زيتون، أراضي زراعيّة ودور عبادة، مدرسة ومقبرة. كما أن تاريخها العريق يمتدّ بعيدًا. حيث وُجدت في أراضي لفتا آثار للعصر الحديديّ، كما يربط بعض المؤرّخين اليهود لفتا بقرية “مي نفتواح” المذكورة في التوراة، ومن أسمائها الأخرى “نيفثو” و “كليبستا”، نيفثو كان اسمها إبّان الحكم البيزنطيّ والرومانيّ، وكلبستا أثناء الحكم الصّليبي. أما في فترة الحكم العثماني فكانت تابعة للواء القدس.

تصوير جوي لقرية لفتا عام 1947، من ملف مسح القرى العربيّة للهجاناه، أرشيف ياد يتسحاك بن تسفي، المكتبة الوطنية.
تصوير جوي لقرية لفتا عام 1947، من ملف مسح القرى العربيّة للهجاناه، أرشيف ياد يتسحاك بن تسفي، المكتبة الوطنية.

ومن المصادر الّتي توضح  شيئًا من تفاصيل الحياة الجميلة في لفتا نهاية الفترة العثمانية هي مقالة كتبها المؤرّخ الألمانيّ جوستاف روشتاين بعنوان “عادات العرس الإسلامي في قرية لفتا قرب القدس”، فقد زار القرية عام 1907 ملبيَا دعوة مدرّسه للّغة العربيّة وابن القرية إلياس نصرالله وفُتن بعادات الأعراس الّتي كانت تستمرّ لياليها لأكثر من أسبوع يحفل بالرقص والغناء والطعام المميّز والعادات الخاصّة بالأعراس كرسم الحنّاء والأزياء.

عند الانتداب البريطاني، كان تعداد سكّان لفتا يقارب ال 1500 ساكن، كلّهم من المسلمين، وقد شارك أهالي القرية بما عُرف بثورة البراق عام 1929 وهاجموا الأحياء اليهوديّة القريبة منهم.

بدأ القتال في لفتا نهاية عام 1947 حين هاجم عناصر من الهاجاناه محطة وقود يملكها أحد سكّان لفتا ظنًّا بأنه ينقل معلومات للمقاتلين العرب حول حركة المجموعات اليهوديّة بين القدس وتل أبيب، بحسب المؤرّخ الإسرائيلي بيني موريس، أما وفقًا لشهادات فلسطينيّة وثّقها عارف العارف فإنّ الشّرارة الأولى كانت هجومًا شُنّ على أحد مقاهي القرية، والذي أسفر عن مقتل ستة رجال كانوا يجلسون بها ومن ثمّ الهجوم بالنيران على حافلة كانت على مداخل القرية، وقد أدت هذه الحوادث إلى خروج أهالي لفتا منها، بالإضافة إلى تفجير البيوت، كما ذكر مقاتل الليحي عيزرا يخين في مذكّراته، حيث شارك في عمليات الليحي في القرية حين بلغ 19 عامًا والّتي شملت تفجير ثلاثة بيوت، كما كان مشاركًا في معركة دير ياسين كذلك ومعارك أخرى.

 

غلاف كتاب "الناكام : قصّة محارب لحريّة إسرائيل"، عزرا يخين، مجموعة المكتبة الوطنيّة.
غلاف كتاب “الناكام : قصّة محارب لحريّة إسرائيل”، عزرا يخين، مجموعة المكتبة الوطنيّة.

 

بين مجموعات المكتبة الوطنيّة وُجدت بعض الصّور من معسكر الهجاناه في القرية أثناء الحرب وهي من مجموعة كلارا دي هرتوخ (من أرشيف ياد يتسحاك بن تسفي) وقد كانت مجنّدة في الهاجاناه حينها، وأصبحت فيما بعد في درجة ضابط ورقيب في الجيش. توثّق هذه الصّور نقاط الحراسة الخاصّة بالهجاناه والتي كان دورها إيجاد المقاتلين العرب وترقّب اقترابهم.

كلارا دي هيرتوخ وإليعزر غرايبر، لفتا، أرشيف ياد يتسحاك، المكتبة الوطنيّة
كلارا دي هيرتوخ وإليعزر غرايبر، لفتا، أرشيف ياد يتسحاك، المكتبة الوطنيّة

 

كلارا في نقطة الحراسة وتظهر مع السلاح وبعض القنابل والمنظار، لفتا، أرشيف ياد يتسحاك، المكتبة الوطنيّة.
كلارا في نقطة الحراسة وتظهر مع السلاح وبعض القنابل والمنظار، لفتا، أرشيف ياد يتسحاك، المكتبة الوطنيّة.

 

أثناء الحرب، كانت قرية لفتا خالية بالكامل وحينها تم توطين أكثر من مائتي عائلة يهوديّة يمنيّة بهدف منع العائلات العربيّة من العودة كما تمّ توطين عائلات يهوديّة كرديّة كذلك والتي سكنت القرية لعشرات السّنين.

باتيا مازور، الّتي عاشت طفولتها في القرية قامت بإنتاج فيلم قصير يحكي ذكريات ساكنيها من اليمنييّن والأكراد اليهود قبل نقلهم منذ بداية السّبعينات إلى وحدات سكنيّة خارج القرية، ومعارضة أبنائهم فيما بعد لمشاريع حكوميّة كان من المخطّط إقامتها على أراضي لفتا.

لمشاهدة الفيلم (بالعبريّة)

“إذا أتى أباك من مصر أو العراق أو سوريا، فستسكن الفقر لا إسرائيل”: عن حركة الفهود السّود

في العام 1971، تأسست حركة "الفهود السّود" لمناهضة اضطّهاد اليهود الشّرقيين في إسرائيل والتي أصبحت ضمن حلقات ماضي التمرّد لليهود الشّرقيين في إسرائيل

من مظاهرة للفهود السّود عام 1974، أرشيف دان هداني، المكتبة الوطنيّة.

في العام 1971 اجتمع شباب من اليهود الشّرقيين في جادة “مصرارة” في القدس من أجل تأسيس حركة “الفهود السّود” لمناهضة اضطّهاد اليهود الشّرقيين في إسرائيل. وقد اختاروا هذا الاسم تيمّنًا بالحراك السّياسيّ للأفارقة الأمريكيّين تحت ذات المسمّى في الولايات المتّحدة الأمريكيّة سنوات السّتينيّات. “الفهود السّود”. اسمٌ يدلّ على البشرة الغامقة، والقوّة والعنفوان.

من مظاهرة للفهود السّود عام 1973، أرشيف دان هداني، المكتبة الوطنيّة.
من مظاهرة للفهود السّود عام 1973، أرشيف دان هداني، المكتبة الوطنيّة.

في أيار من ذات العام، أي قبل أربعين سنة من اليوم، خرج الفهود السّود في مظاهرة اندلعت عنها اشتباكات عنيفة مع الشّرطة الإسرائيليّة في شوارع القدس. ونُعتوا بالمخرّبين والمتطرّفين، كما لوحق وتمّ  اعتقال الكثير منهم. فما الّذي حدث في ذلك الوقت؟ وأين ذهبت “جهود الفهود السّود” اليوم؟

ماضي لتمرّد اليهود الشّرقيين

لم تكن حركة الفهود السّود الشّرارة الأولى التي تنبعث عن المجتمعات اليهوديّة الشّرقية الوافدة إلى البلاد، فالأدبيات الخاصّة بتلك الحراكات تفيض بإشارات تعود لسنوات قدومهم الأولى، إذ منذ البداية شعر اليهود القادمون من بلدان عربيّة أنهم مضطّهدون “عرقيّا”. كما تشير إحدى منشورات الفهود السّود عام  1977 “إن وصلت أنت أو والدك من شمال إفريقيا أو سوريا أو مصر أو اليمن أو العراق إلى إسرائيل، فاحتمال وصولك إلى شيء ما في هذا البلد يقترب إلى المستحيل، وإن هاجرتم إلى هنا بعد عام 1951، فاحتمال هلاككم كبير جدًا”.

من تلك الإشارات والحراكات السّابقة  “صغار الشّرق” في تل أبيب عام 1913، الّتي ضمّت يهود يمنيين وهدفت للاعتناء بحالتهم الماديّة والرّوحيّة وتعزيز مكانتهم الإجتماعيّة، بالإضافة إلى “علم صهيون”، “إسرائيل الفتاة” و”الحزب السفارادي الوطني” وغيرها من الجهات الّتي نادت بالمساواة. ولعلّ الحدث الأبرز في تلك الذّاكرة “احداث وادي صليب” في حيفا عام 1951 حين اندلعت اشتباكات عنيفة بين يهود شرقيين وعناصر للشرطة على أثر إطلاقها النار على رجلٍ مغربيّ. أدّت هذه الاشتباكات لجرح واعتقال العشرات من اليهود الشرقيين وإصابة بعض عناصر الشّرطة.

ولذلك لم تكن نشأة حركة الفهود السّود أمر مفاجئ للمجتمع الإسرائيليّ، إلّا أن تنظّمهم وسعيهم عبر التّظاهر والحشد الجماهيري إلى المطالبة اللحوحة بحقوقهم بدت كتحذير من صعود قوّة يهوديّة شرقيّة ذات شعبيّة كبيرة، وأظهرت بوادر للعمل الجماهيري السياسي المختلف لتلك الأوساط الّتي عانت من الفقر والإهمال في كلّ من مجالات التنمية والتعليم وتمكّنت من جهة أخرى من خلق حركة احتجاجيّة ذات شعبيّة واسعة.

من مظاهرة للفهود السّود عام 1971، أرشيف دان هداني، المكتبة الوطنيّة.
من مظاهرة للفهود السّود عام 1971، أرشيف دان هداني، المكتبة الوطنيّة.

كان جميع مؤسسّي الحركة الأوائل من أبناء المغاربة، وتتراوح أعمارهم بين الثّامنة عشر والعشرين، حتّى أن لبعضهم كانت ملفّات جنائيّة لدى الشّرطة، وقد مُنعت مظاهراتهم الأولى من ترخيص السّلطات وأحيانًا تمّ اعتقالهم قبل بدايتها.

تشير بعض المصادر إلى أن بعض عناصر الفهود السّود أعلنوا إضرابهم عن الطّعام إلى أن وافقت رئيسة الوزراء آنذاك جولدا مئير على لقاء بعض قاداتهم في الثّالث عشر من نيسان من ذات العام بهدف الاستماع إلى مطالبهم. إلا أن اللقاء لم يسر على ما يرام، كما يصف أحد أعضاء الحركة آنذاك: استخفّت السيّدة بهم، ووصفتهم بمرتكبي الجرائم والمعربدين ولم تعترف بهم كحركة حقوقيّة.

المواجهات والجدل الجماهيريّ

فيما بعد بدأ الفهود السّود بتنظيم مظاهرات كبيرة بدون طلب ترخيص من الشّرطة. كانت أكبرها في الثّامن عشر من أيار وهي اللّيلة الّتي سمّيت لاحقًا ب”ليلة الفهود السّود” بسبب الجدل الّذي أثارته في المجتمع الإسرائيلي لاحقَا.

في ذلك اليوم حشد الفهود السّود أكثر من خمسة آلاف متظاهر وانطلقوا للسير سويًا من دوّار “دافيدكا” بالقدس باتجاه دوار “صهيون”، مطالبين بالمساواة العرقيّة وإنهاء الفقر والتمييز.  تخلّلت المسيرة ساعات من الاشباكات العنيفة بين المتظاهرين والشرطة وأدت إلى اعتقال مئة من المتظاهرين وإصابة العشرات، كما قام بعض المتاظرين برمي الزجاجات الحارقة (المولوتوف) باتّجاه الشّرطة الّتي قامت بدورها برشّهم عبر مدفعيّات خاصّة بمياه مصنّعة ومصبوغة باللون الأخضر.

استمرّت المواجهات والاعتقالات طوال الليل حتى صباح اليوم التّالي. وفي الأيام التي تلت “ليلة الفهود السّود”، ظهر فرقٌ كبير بتغطية الحدث إعلاميًا بين الصّحف العبريّة والعربيّة في البلاد، وتراوحت الآراء في الشّارع الإسرائيليّ، فحتّى تلك الأصوات الّتي عبّرت عن تضامنها مع اليهود الشّرقيين وما يعانونه من ظروف لا تُحتمل، أكدّت على استنكارها للمظاهرات “العنيفة”. بينما قامت صحيفة الاتّحاد باستنكار “عنف الشّرطة” من جهة أخرى، واستنكرت اعتقالاتهم. كما قامت الكتلة الشّيوعيّة في الكنيست بالمطالبة بتحقيق حول عنف الشّرطة واعتقالات الفهود السّود وطالبت بالإفراج عنهم، مظهرة تضامنًا تحوّل بعد سنوات قليلة إلى تعاون رسميّ بين الحزب الشّيوعي الإسرائيليّ والفهود السّود ليؤسسّوا سوية “الجبهة الديمقراطيّة للسلام والمساواة” ويترشّح أعضاؤها لانتخابات الكنيست التّاسعة لأوّل مرّة جنبًا إلى جنب.

من منشور الجبهة الديمقراطيّة للسلام والمساواة للكنيست التاسعة عام 1977، المكتبة الوطنيّة.
من منشور الجبهة الديمقراطيّة للسلام والمساواة للكنيست التاسعة عام 1977، المكتبة الوطنيّة.

                                        لقراءة اتّفاقيّة الفهود السّود مع الحزب الشّيوعي في جريدة الاتّحاد


أثرُ الفهود السّود

 ليس هناك “فهود سود” اليوم في السّياسة أو الشّارع الإسرائيليّ. فالحركة الّتي بدأت كحراكٍ شعبويّ من الشّارع اتّخذت خيارًا بالتّحرك نحو السّياسة والانتخابات، وكان لمجموعة ذات خلفيّة مستضعفة مثلها أن تكون دائمة البحث عن تحالفات كبرى تسند وجودها في الكنيست. بدأت تحالفاتهم من الحزب الشّيوعيّ وترشّحوا  فيما بعد كحزب مستقلّ عام 1990 ولكن لأسباب داخليّة تفكّك الحزب وتنقّل أعضاؤه فرادى بين أحزابٍ شتّى بين اليمين واليسار ولم يعد هناك أثرٌ مرئيٌ لهم كمجموعة واحدة في مشهد السّياسة الإسرائيليّة.

يشير ميناحم هوفنونج في كتابه “أثر تظاهرات الفهود السّود على ميزانيّات المجتمع والرّفاه” إلى أنّ تعامل الدّولة القمعي مع الفهود السّود كحركة في بداياتها كان خوفًا من تعاظم شعبيّتهم في الشّارع، مما كان ليجلب الكثير من الفوضى لأجهزة الدّولة. إلّا أنّها من جهة أخرى، وبسبب تلك التّظاهرات الضّخمة، أضحت تدرك جيّدًا ما قد يواجهها من غضب إن لم تصنع أثرًا فارقًا في ترتيب ميزانيّاتها وتأهيل أجهزتها للعناية بمجتمعات اليهود الشّرقيين بشكلٍ أفضل. بكلمات أخرى، لم تعترف الدّولة ولم تأخذ بمطالبات ومشاكل الفهود السّود كما قاموا هم بصياغتها، إلّا أنها رأت من خلال حركتهم مؤشّرًا لضرورة العمل بشكلٍ مختلف مع هذه الشّريحة في مؤسساتها.