لجنة اليتيم العربي بحيفا أساليب خلاقة لتمويل نشاطاتها

"لجنة اليتيم العربي بحيفا"، تعد من المشروعات المميّزة والمُختلفة في أهدافها والتي تأسّست عام 1940؛ إذ خُصّصت مشاريعها لبناء معهد صناعيّ في حيفا للأيتام.

 

انطلقت العديد من المشروعات الاقتصادية الفلسطينية في فترة الانتداب البريطانيّ على فلسطين وستحمل العديد من الشعارات والطرق لبناء مشروعاتها كصندوق الأمّة، أو شركات تجارية كسلطي ليمتد وقرمان.

من بين هذه المشروعات المميّزة والمُختلفة في أهدافها وطريقة نشرها وعملها هي “لجنة اليتيم العربي بحيفا”، والتي تأسّست عام 1940، فاتّخذت نشاطًا مُختلفًا لتمويل مشاريعها، فنظّمت مشروع “يانصيب اليتيم العربيّ” والذي شهد أوجه عام 1947 في مشروعٍ كبيرٍ حيث خُصِّصَ لبناء وإنشاء معهد صناعيّ في حيفا لأيتام العرب.

استمرّت حملات الجمعيّة لأشهر، بيعت خلالها تذاكر اليانصيب في فلسطين وشرق الأردن، ورُصِدَ ريعها لدعم المشروع وبناء المعهد، فخُصِّصَت مساحات خاصّة في الصحف والمجلّات التي صُدِرَت آنذاك من أجل دعم الحملة وحثّ الناس على المُشاركة فيها وشراء التذاكر لدعم الحملة وإقامة المعهد.

أختتمت الحملة يوم 27.04.1947، في حفل مهيب في دار السينما في عمّان، فعجّت القاعة بالوافدين من مُختلف الأوساط، يتقدّمهم الوزراء ووجهاء عمّان وكبار رجالها، وامتلأت الشرفات بعدد من السيدات والأوانس، هذا ما تشير إليه صحيفة الدفاع، في عددها الصادر في اليوم التالي، مُشيرة أيضًا إلى أنّ أعضاء لجنة اليتيم العبيّ بحيفا وعلى رأسهم السيّد محمد البرادعي العباسيّ والسيّد وصفي بسيسو استقبلوا المدعوين.

توفّر لنا الصحف الفلسطينيّة تفاصيل الاحتفالات ومجرياته، حيث كان حدثًا هامًا، أثار الصحف الفلسطينيّة والتي غطّته كاملًا كالدفاع وفلسطين والوحدة وغيرها، وهو ما يمكن تلمّسه من خلال الأخبار الكثيرة التي وردت في هذه الصحف وفي غيرها.

                                                            مجلة الوحدة – 28.04.1947


التغطية الصحفيّة في صحيفة “فلسطين” حول حفل جائزة اليتيم العربي – 29.04.1947

​إنّ النجاح الباهر الذي حقّقته الجمعيّة كان ثمرة تحشيد الرأي العام من أجل دعم الحملة، من خلال حملة إعلاميّة مُكثّفة يمكن تتبّعها في الصحف والمجلّات الفلسطينيّة في تلك الفترة، والتي تزخر بالإعلانات والإشارات التي تحثّ على دعم الحملة، والتي لا تعطينا فكرة فقط عن نشاط الجمعيّة بقدر ما توفّر لنا امكانيّة فهم الخطاب الاشهاريّ والذي يمكّننا بطبيعة الحالة من فهم أدوات الاقناع والقضايا التي كانت تحفّز الجمهور الفلسطينيّ حينها.

 

اعتمدت الاعلانات أحيانًا على اثارة الأمل لدى المتلقي بمستقبل أفضل:
                                                                 الذخيرة، 11 تشرين ثاني 1946

وأحيانًا من خلال إثارة مشاعره اتّجاه شرائح اجتماعية بعينها، كإثارة العمّال، أو اثارة مشاعر الأمومة، أو اثارة مشاعر المسؤوليّة الاجتماعيّة

                                                  إعلان المشروع في جريدة “فلسطين” – 18.02.1947

                                                     إعلان المشروع في جريدة “فلسطين” – 08.04.1947

                                                إعلان المشروع في جريدة “فلسطين” – 10.04.1947
                                               إعلان المشروع في جريدة “فلسطين” – 20.04.1947

بعد عام 1948 انتقلت الجمعيّة لعمّان حيث أعيد تأسيسها عام 1949، ونظرًا لتزايد عدد الأيتام والمُحتاجين، قامت اللجنة بفتح فرع خاصّ في القدس عام 1965. وما تزال الجمعيّة تمارس عملها ما بين القدس وعمّان حتى يومنا هذا.

خير الدين أبو الجبين شاهدًا

سيكون خير الدين هذا أحد أبرز وجوه الرياضة الفلسطينيّة؛ إذ بذل جهدًا لزيادة الوعي بالرياضة في القرى والمدن الفلسطينيّة.

خيرالدين أبو الجبين شاهدًا “زاوية الدفاع الرياضة”

خلال أشهر طويلة كانت جريدة “الدفاع” تنشر زاويتها الرياضيّة تحت عنوان “زاوية الدفاع الرياضية”، ولكنّها ستظهر بدءً من العام 1944 بتوقيع خير الدين.

سيكون خير الدين هذا أحد أبرز وجوه الرياضة الفلسطينيّة، حيث سنلاحظ في قراءتنا لجريدة “الدفاع” وخلال أربعة سنوات كم الجهد الذي يبذله في محاولة لزيادة وعي الفلسطينيين بالرياضة وتغطيته المتفانية في كل ما يدور في القرى والمدن الفلسطينيّة من نشاطات رياضيّة.

​منذ الصغر يعشق الكرة – خير الدين طفلًا

ولد خير الدين أبو الجبين في يافا عام 1924 وخلال سنين قصيرة سيصير أحد الوجوه الشبابيّة المهمّة في المدينة، ترعرع شابًا مثقّفًا وناشطًا مندفعًا نحو الحياة، حيث سيتقلّد عرافات الكثير من المهرجانات السياسيّة وسيشارك في المئات من الأنشطة المحليّة والقطريّة في يافا ومحيطها.

تقلّد أبو الجبين عام 1944 منصب سكرتير اللجنة الرياضيّة في النادي الرياضيّ الاسلاميّ ثم عُيّن سكرتيرًا للجنة الرياضة في الاتّحاد الرياضيّ الفلسطينيّ بعد إعادة تأسيسه في نفس العام (1944)، انضمّ بعدها ليكون محرّرًا لزاوية “الدفاع الرياضيّة” حيث ستُصبح القفزة النوعيّة التي أحدثها في الرياضة، اذ سيكون عمله في الجريدة دفعة مذهلة في الرياضة ستنعكس على الخطاب الرياضيّ الفلسطينيّ، وسينعكس أيضًا على مستوى العمل الممارس، بدءً بملخّصات شاملة حول كل ما يجري من نشاطات رياضة في القرى والمدن الفلسطينيّة مرورًا بتغطية اللقاءات والبطولات الرياضيّة، وأخبار النشاطات الرياضيّة المختلفة، مثل الملاكمة وكرة السلّة وألعاب القوى ورفع الأثقال والمصارعة وكرة الطاولة وغيرها وصولاً إلى تحفيز وحث الفلسطينييّن على الانتباه لقضايا ملحّة أو طرح قضايا معيّنة تستحقّ المناقشة.

 

التطوير الذي قاده أبو الجبين في الجانب الرياضيّ من خلال رؤيته النقديّة ومحاولته الدائمة لفتح القضايا المنسيّة أو التنبيه بقضايا أخرى ساهم وبشكل واضح في خلق تفاعل رياضيّ مُدهش على الساحة الفلسطينيّة وفي خلق جمهور رياضيّ متميّز، والذي يمكن الرجوع إلى ذلك في كتابات الباحث عصام الخالدي.

بطاقة صحفيّة لخير لدين أبو الجبين لتسهيل عمله
الدفاع 24 كانون ثاني 1945

في تشجيعه الأندية لم يتوانَ أبو الجبين عن طرح نقده ورأيه ودعوته الملحّة للأندية لتطوير ذاتها وخاصة من خلال كسب خبرات وتجارب مميّزة عبر ربط التزاور وتشجيع الرحلات للاطّلاع والتعرف على أندية أخرى خاصّة مع الدول العربيّة كالعراق وسوريا ومصر وغيرها:

الدفاع 22 تموز 1945

كما نراه يشير لدور المدرسة في التنشئة الرياضية وأمية ما يمكن فعله من أجل بناء مجتمع صحيّ وسليم

الدفاع، 7 تموز 1947

كما سينبه دومًا ويسلّط الضوء على الرياضات المختلفة والتي قد لا تهتم بها الصحف الأخرى

الدفاع، 8 تموز 1947

وفي كثير من الأحيان سيأخذ الزاوية الرياضيّة نحو مستوى اداريّ وليس فقط نحو التغطية، كما يظهر في صحيفة الدفاع أدناه كنوع من التذكير للأندية بضرورة التسجيل لمهرجان الرياضة السنوي العام لأندية الاتحاد.

الدفاع، 8 تموز 1945

لا يمكن فصل الرياضة في الواقع الفلسطيني قبل عام 1948 عن الأحداث السياسية فقد كانت الرياضة دومًا مثقلة بالمواقف والتيّارات السياسيّة، ولذلك نراه لا يتوانَ عن توجيه الرياضة نحو أهدافها السياسيّة والانسانيّة في آن

​كتب خير الدين أبو الجبين عن هذه الفترة في مذكّراته التي خرجت للنور عام 2002 وفيها سجلت العديد من المواقف واللحظات التي عاشها في يافا قبل رحيله للكويت ليستقر فيها هناك، يقول في مذكراته أنه بعد أن كان محررًا للزاوية الرياضة لم يكتف بذلك وأراد أن يملك مساحة أكبر، فانتقل ليعمل في دائرة مراقبة الصحف هناك سيترقى في المناصب حتى عام 1948 حيث سيغيب عن يافا.

انتقل أبو الجبين إلى الكويت وهناك سيساهم في تأسيس الاتحاد الرياضيّ وسيكون سكرتير الاتحاد بدء من العام 1952 كما سيصير لاحقاً من أوائل من يمثلون منظمة التحرير الفلسطينية في الكويت عام 1964.

لا يزال خير الدين أبو الجبين حياً يرزق، شارف على التسعين ورغم السنين الطويلة، إلا أن الصحف الفلسطينية لا تزال شاهدة على نشاطاته وأعماله التي تستحق التوثيق وتستحق من الباحثين قراءة مستجدّة خاصّة أنّ رؤية أبو الجبين للرياضة قد تُشكّل بحدّ ذاتها مدخلًا لفهم الوعي الرياضيّ المُتشكل في البلاد قبل عام 1948.

القافلة تستجوب…

تابعت مجلّة القافلة، التي صدرت في القدس عام 1947، أخبار الشخصيّات الفلسطينيّة الاعتباريّة عرّفت القرّاء على النُخبة في زاوية "القافلة تستجوب".

الكاتب: خالد وليد أبو أحمد

 

تابعت مجلّة القافلة، التي صدرت في القدس عام 1947، أخبار الشخصيّات الفلسطينيّة الاعتباريّة، اتّبعتهم خطوة بخطوة، ونشرت أدقّ تفاصيلهم الشخصيّة، فقد سعت من خلال أعدادها على مُتابعتهم وتعريف القرّاء على النُخبة من أبناء الشعب الفلسطينيّ، من خلال زاوية كانت تدأب على نشرها دوريًّا بعنوان: “القافلة تستجوب”.

ضمن هذه الزاوية، استضافت المجلّة في كلّ مرّة، عددًا من الأطبّاء، المحامين، الأساتذة وغيرهم، فطرحت عليهم أسئلة مُشتركة لجمعيهم، ناشرة إجاباتهم على صفحاتها.

يوفر لنا العدد الصادر في الثلاثين من أيَّار 1947، إمكانيّة للتعرّف على ثلاثة أطبّاء فلسطينيّين وهم الدكتور توفيق كنعان، الدكتور محمود الدجاني والدكتور برهان عبد الهادي. حيث قابلتهم المجلة، فوجّهت خمسة أسئلة لهم، في هذه الأسئلة حاولت المجلّة التعرّف على الأطبّاء المعروفين من زاوية أخرى، فحرصت على التعرّف عليهم مهنيًّا وإنسانيًّا، فسألتهم حول الظروف التي ساقتهم إلى مهنة الطب، وعن رضاهم عنها، وما الذي يحفّز الأطبّاء على فتح عيادات لهم في القرى العربيّة؟ متسائلة إيّاهم عن المهنة التي كانوا سيختارونها لو عاد الزمن بهم؟ إضافة للموضوع الذي يميلون إلى القراءة في قراءته في أوقات فراغهم.

القافلة تستجوب أطبّاء ثلاثة – 30 أيّار 1947
القافلة تستجوب أطبّاء ثلاثة – 30 أيّار 1947

 

القافلة تستجوب مُحامين ثلاثة – 04 تمّوز 1947
القافلة تستجوب مُحامين ثلاثة – 04 تمّوز 1947

أما العدد الصادر بتاريخ الرابع من تمّوز 1947، فيوفّر لنا إمكانيّة التعرف على ثلاث محاميين وهم  المحامي أنور نسيبة، المحامي أنطون عطاالله والمُحامي أمين عقل. في هذا الاستجواب أيضًا حرصت المجلّة على توجيه أسئلة للتعرّف على فريق من المحامين، مستفسرة حول أسباب اختيارهم المُحاماة كمهنة لهم؟ وإذا ما كانوا يشعرون بانّ العقليّة “القانونيّة” تُسيطر عليهم في معاملاتهم مع الناس، وإذا كانوا يرون أنّه من الضروري تثقيف الشعب ثقافة قانونيّة؟ وكيف يكون ذلك؟ وحول رأيهم إذا كان من المُمكن أن يكون المحامي مشرّعًا أم لا، أم أنّ التشريع خاص بعلماء القانون؟ وآخر الأسئلة التي وُجّهت لهم كانت حول مطالعاتهم، وإلى أي مدى يتّسع وقتهم للمُطالعة؟ وماذا يُطالعون في أغلب الأحيان.

لم يكن عدد الثلاثين من أيّار ، هو الوحيد الذي استجوبت فيه “القافلة” الأطبّاء، ففي عددها الذي صُدِرَ في 22 آب 1947، وجّهت مجلّة “القافلة” لطائفة من أطبّاء فلسطين حول الموقف الأكثر إحراجًا الذي صادفهم إثناء قيامهم بمهنتهم؟ في هذا العدد استضافت المجلّة الدكتور حسام وفا الدجاني الدكتور مُصطفى بوشناق، وعلى هذا السؤال أجابوا ونشرته المجلّة على صفحتها الثامنة.

                                                   القافلة تستجوب الأطبّاء مرّة أخرى – 22 آب 1947

القافلة تستجوب الأساتذة – 29آب 1947
القافلة تستجوب الأساتذة – 29آب 1947

​أمّا في عددها الصادر في 29 آب 1947، فقد استجوبت المجلّة أساتذة عاملين في سلك التعليم، فاستجوبت فيه الاستاذ نهاد أبو غريبة والآنسة مقبولة مخلص، وفي هذا الاستجواب سألت حول الظروف التي ساقتهم إلى مهنة التعليم؟ وكيف ينال المعلّم المركز الاجتماعيّ اللائق به؟ وما هي الطرق الفعّالة التي ترونها صالحة لمحو الأميّة؟ وما الاتّجاه الحديث في التعليم؟ وحول إذا ما أثّرت المهنة في العلاقات مع الناس وكيف يكون ذلك؟

لا بُدَّ وأنّ المجلّة من خلال هذه الاستجوابات ارتأت أن تُساهم في تغيير الانطباع الجماهيري السائد حول الشخصيّات الاعتباريّة من أبناء البلاد، وأنّها سعت لتوعية الجمهور، وبالتالي لابدُّ وأنّ المجلّة حرصت على بناء وعي جماهيريّ، بالإضافة لتعريف الناس بنخب محليّة لتعزيز الشعور الوطنيّ والانتماء لبلد مليء بالشخصيّات المثقّفة، إضافة لتقريب هذه النخب من الناس، واستمالة هذه النخب عبر اعطاءها مساحة على صفحاتها للتعريف عن أنفسهم وعن مجالاتهم.

 

في ذكرى وفاة دارون؛ كيف قرأ العرب والمسلمون نظريّة التّطور؟

نقدّم لكم في هذه المقالة بمناسبة ذكرى رحيل تشارلز داروين مقتطفات من بعض الكتب العربيّة الّتي اهتمّت بنظريّة التّطوّر في الفكر العربيّ.

الصورة من منصة BBC

لا شكّ أن نظريّة التطوّر الغنيّة عن التعريف أثارت جدلًا حسّاسًا ما زال حاضرًا إلى اليوم. يضع المعتقدات الدينيّة على اختلافها في كفّة واحدة في مواجهة مع العلم في كفّة أخرى. أو على الأقل، هذا ما رآه كثيرون خلال العقود الّتي تلت خروج النّظريّة إلى النّور. والنّظر إلى قراءة الثقافات والحضارات المختلفة لها، والمتغيّرة على الدوام، يشكّل نافذة هامّة لقراءة التّعدديّة الكامنة في الثقافة الواحدة، وكيفيّة تعاملها الفكري مع محدثات العصر. وكما تقول مروة الشاكري، لقد طافت أفكار داروين الأرض أكثر مما طافها هو بنفسه. نقدّم لكم في هذه المقالة بمناسبة ذكرى رحيل تشارلز داروين مقتطفات من بعض الكتب العربيّة الّتي اهتمّت بنظريّة التّطوّر في الفكر العربيّ.

تعدّدت التوجهات الفكريّة تجاه نظريّة التطوّر والأدبيّات العلميّة المحيطة بها. والّتي وجدت طريقها إلى اللّغة العربيّة عبر ترجمات متعدّدة، كانت مجلّة “المقتطف” العلميّة الصّادرة في بيروت ومن ثم بالقاهرة منذ سبعينيّات القرن التّاسع عشر أبرزها. إذ اهتمّ كتّابها بالعلوم الحديثة ورغبوا بتقديمها لجمهور القرّاء العرب. وأظهروا اطّلاعًا مبكّرا على التّفسيرات والأدبيّات العالميّة اللاحقة لنظريّة التّطوّر والمفسّرة لها.

غلاف عدد حزيران 1876 من مجلة المقتطف، أرشيف الشّارخ الرّقمي.
غلاف عدد حزيران 1876 من مجلة المقتطف، أرشيف الشّارخ الرّقمي.

في كتابها “قراءة داروين في الفكر العربي”، تقوم د.مروة الشّاكري، الباحثة المصريّة وأستاذة التّاريخ المساعدة في جامعة كولمبيا، بتتبّع القراءات العربيّة المتنوّعة حول نظريّة التّطوّر في دراسة ضخمة ما بين منتصف القرن التّاسع عشر ومنتصف القرن العشرين. ضمن إظهار سياقاتها السّياسيّة والاجتماعيّة والثّقافيّة المؤثّرة والمتباينة.

لا يقدّم الكتاب على كلّ حال تحليلًا للأفكار والجدليّات المذكورة بقدر ما يؤرّخ لها ويضعها في سياقها التّاريخيّ. وهي خطوة هامّة لمن يريد مساءلة دوافع وظروف الأفكار قبل الخوض بها. وهي رحلة تستطيعون من خلالها تتبّع وفهم مراحل هامّة ساهمت في تشكيل الثّقافة العربيّة المعاصرة، لا سيما فيما يخصّ قضايا جدليّة التّراث والحداثة، والعلم والنّصوص المقدّسة، الإصلاح والتّقدّم، الإسلام والاستشراق وغيرها من الجدليّات الّتي طبعت اهتمام الكثير من المفكّرين العرب في تلك المرحلة المفصليّة من عمر الدّولة العثمانيّة وما زالت حاضرة في المساعي الفكريّة العربيّة إلى اليوم. تقوم الشّاكري بذلك دون اقتطاع السّياق العربي والعثمانيّ من ذلك العالميّ كما يفعل بعض المؤرّخون بالنّظر إلى تاريخ الفكر العربيّ. ولا تفسّر نشوء تلك التّوجهات من منظور تلك الثّنائيّات بعينها، كأن تعتبرها تأثّرًا من الغرب أو العكس بشكلٍ تلقائي، إنّما بردّها إلى السياقات المتداخلة بطبيعة الحال.

أمّا الرّاحل د. محفوظ علي عزّام، أستاذ الفلسفة الإسلاميّة في كليّة الدّراسات الإسلامية والعربيّة في جامعة المنيا، فيشكّل كتابه “نظريّة التّطور عند مفكّري الإسلام – دراسة مقارنة” محاولة للإجابة والفصل في رأيٍ شاع لدى العديد من المفكّرين الإسلاميين في العصر الحديث، ويقول: بأن مفكّري الإسلام القدامى قالوا بنظريّة التّطور بالفعل، أو أن القرآن الكريم يوحي في عددٍ من آياته لتلك النّظريّة. مستدلّين بكتاب “الحيوان” للجاحظ على سبيل المثال وببعض التّفسيرات القرآنيّة. من هؤلاء المفكّرين كان إسماعيل مظهر في مقدّمته لترجمة “أصل الأنواع” والشّيخ طنطاوي جوهري في كتابه “الجواهر في تفسير القرآن” وغيرهم. وهو ما دفع عزّام لإصدار هذا الكتاب لحل “اللّبس” كما رآه.


يتألف الكتاب من أربعة أبواب يفصل بها بين مفهوم التّطوّر الداروينيّ والخلق الإسلاميّ وكيف نظر له المفكّرون والفلاسفة المسلمون. يستخلص عزّام في نهاية دراسته أن رفض نظريّة التّطور أو قبولها بدوافع نصوصيّة كانت أو فكريّة إسلاميّة أمرٌ غير ممكن، وأن القول بهذا ينطوي على مغالطات عديدة، إمّا في اعتماد تفسيرات محدودة لتلك الآيات أو لعدم فهم هؤلاء المفكّرين المسلمين، أو لخطأ في فهم نظريّة التّطوّر نفسها.

ولمن يبحث منكم عن كتابٍ بالعربيّة يشرح له النّظريّة وما تلاها من تفسيرات علميّة مؤيّدة أو معارضة، فستجدون كتاب “داروين والتّطور بمنظار العلماء المؤيّدين والمعارضين” لمدرّس العلوم الحمصيّ الأستاذ دعّاس ناصيف، الّذي لم يجد تعارضًا بين الإعجاب الشديد بالنّظرية والاتّفاق العقليّ معها وبين الإيمان الرّوحانيّ بالإله الخالق.

إذ يقول دعّاس: “لم يقصد داروين أبدًا إحداث شرخ بين العلم والدّين كان يحاول فقط وصف الطّبيعة كما رآها. وكثيرون هم الآن الذين يؤمنون بأن تكون متديّنًا وتقبل الحقائق العلميّة في الوقت نفسه يعتقدون أن الله خلق الحياة الأولى على الأرض وأن جميع القوانين المدهشة، بما في ذلك التّطور، نتج عن ذلك. إن تقبل بفكرة التّطوّر لا يعني أن تتخلّى عن مشاعرك الدّينيّة الخيّرة ومبادئك الرّوحيّة السّامية”. أو بكلمات “أندرو نكسون وايت” الدبلوماسيّ الأمريكيّ الّذي اتفق معه كما تحدّثنا شاكري “فارس نمر”، أحد ملّاك دار النّشر الّتي صدرت منها مجلّة المقتطف في القاهرة، فإن “لهذا الكون إلهًا يتمتّع بالحكمة التّي تجعل سائر مساعي البحث عن الحقيقة أمرًا آمنًا، ويتمتّع بالخير الّذي يجعل كافّة مساعي قول الحقيقة أمرًا مفيدًا”.