“وحسب فرائضهم لا تسلكوا”؛ ما بين التصوّف اليهودي والإسلامي

هكذا ترك التّصوّف الإسلامي بصمته على العبادة والفكر اليهوديّ من العصور الوسطى إلى اليوم

بقلم: راحيل جولدبيرغ

منذ نعومة أظفاره، تأهّب إبراهيم وتربّى لأن يملأ مكان أبيه يومًا ما حين يكبر، وكان أبوه رجل الدّين والطّبيب والفيلسوف اليهوديّ الشّهير موسى بن ميمون، المولود في مدينة قرطبة في القرن الثّاني عشر للميلاد.

نشأ إبراهيم ليرث بالفعل دور أبيه كرئيسٍ للطائفة اليهوديّة في مصر. إلّا أنّه من خلال سعيه لحثّ أبناء المجتمع اليهوديّ على التّمسك باليهوديّة كشف بدوره عن تأثّره الكبير بالمسلك الرّوحانيّ في الإسلام إلا وهو التّصوّف. ويظهر هذا الأثر في كتاباته وفي أحكامه الشّرعيّة. فمثلًا، ابتدع وجوب غسل القدمين واليدين قبل الصّلاة، ودعم هذا الادّعاء بمصدر تلموديّ واحد وهو ما لم يتمّ تقبّله، وذلك بالطّبع لأن المصدر الحقيقي لهذا التّجديد كان نابعًا من التّقاليد الإسلاميّة (الوضوء).

واجه إبراهيم بن موسى من اتّهموه بتقليد غير اليهود بطريقتين. أمّا الأولى فمن خلال إيجاد مصادر يهوديّة الأصل لتدعم مختلف أحكامه، وإن كانت هذه المصادر فريدة وغير واسعة الانتشار. أمّا الثّانية، فقد جادل بأنّ الوصيّة التوراتيّة “ولا تتّبعوا قوانينهم” لا تشمل بالضّرورة تقليد المسلمين.

بالطّبع لم يكن إبراهيم بن موسى بن ميمون أوّل من أظهر تأثرًا يهوديًّا بالتّصوّف الإسلامي، فقبله بكثير عُرفت حركة “الحاسيدوت” اليهوديّة، وقد كانت معروفة بتأثّرها بحركة التّصوف الإسلامي.

أوّل كتاب نعرفه من هذه الحركة هو كتاب “فرائض القلوب” لابن فقوده المولود في سرقسطة عام 1080 للميلاد. قسّم ابن فقوده كتابه إلى أبواب تدلّ القارئ على الطّريقة الرّوحانيّة ليصل بالنّهاية إلى الباب العاشر ويرى كما ورد في عنوانه “المحبّة الحقيقيّة لله تعالى”. تتشابه بنية كتاب “فرائض القلوب” مع الطّريقة الصّوفيّة إلى حدٍ كبير، والّتي تعد السّالك بالتّرقي من مرحلة إلى مرحلة ليصل إلى الهدف نفسه. يستخدم الكتاب، الّذي كُتب بالعربيّة اليهوديّة، تعابير إسلاميّة عديدة مثل “الله تعالى” و”الله عزّ وجلّ”. وبالإضافة إلى ذلك، فإن ابن فقوده يستشهد بمصادر إسلاميّة للتأكيد على صحّة كلامه، فنراه يقتبس مثلًا الصّوفي ذو النّون المصري (ت 859م) في مقالته عن إثبات وجود الله: “من يعرف الله حقًا هو من يستحي منه”، ثمّ لاحقًا في ذات المقالة، يتحدّث عن التّفسير العقلي لوجود الله ويقول “من المنطقيّ أن نقول عن خالق كلّ شيء، أنّه ليس كمثله شيء”. وهنا يقتبس ابن فقوده من الآية الحادية عشر من سورة الشّورى في القرآن.

من مخطوطة ل"فرائض القلوب"، القرن الرّابع عشر
من مخطوطة ل”فرائض القلوب”، القرن الرّابع عشر

تشير هيئة الكتاب إلى أنّها ليست النّسخة الأولى من نوعها، إلّا أنّها الأقدم من بين النّسخ الّتي حُفظت ووصلت إلينا. يحظى كتاب “فرائض القلوب” بشعبيّة كبيرة إلى اليوم، ويُعتبر من الكتب الأساسيّة في مجالات الإيمان والأخلاق. تمّ نشر نُسخ حديثة للكتاب في السّنوات الأخيرة ، كنُسخ دراسيّة بالإضافة إلى نُسخ مقسّمة لفصول صغيرة مُعدّة للقراءة اليوميّة وبالخصوص لفترة “سليحوت” أي أيّام الاستغفار الّتي تمهّد ليوم الغفران.

لقد كان إبراهيم بن موسى يكتُب لتثقيف المجتمع اليهوديّ الّذي تواجد في مكانه وزمانه، بينما كتب ابن فقوده للجميع ولكلّ يهودي في أي مكان، بغضّ النّظر عن الدّرجة الرّوحانيّة أو المعرفيّة له، ومن هنا ينبع التّباين بين شعبيّة الكاتِبيَن.

ترك التّصوّف الإسلامي وقيمُه بصمته على اليهوديّة وتاريخها بعدّة طرق، بدءًا من ظهور مصطلح “حساب النّفس” الّذي لم يُذكر قبل كتاب “فرائض القلوب”، إلى تطوّر أدبيّات الأخلاق ووجوب تأكيد نيّة القلب قبل أداء الفرائض.

 

عودة إلى الفلسفة: لماذا لا نشعر بالدّهشة؟ وهل أهملنا العافية؟

انشغل الإنسان عبر القرون بالبحث عن معنى وغاية من حياته ووجوده على الأرض. ولربّما تكون بداية جيّدة أن نسأل: ما الّذي دفع الإنسان للفلسفة في الأصل؟

انشغل الإنسان عبر القرون بالبحث عن معنى وغاية من حياته ووجوده على الأرض. من أنا؟ ولماذا أنا موجود؟ وما هذا الكون الذي حولي؟ وتفرّعت عشرات التّوجهات الفلسفيّة انطلاقًا من هذه الأسئلة الأساس.

ومع أنّ تاريخ الفلسفة يمتد لأكثر من ألفيّ عام، فإنّ تعريفها ما زال ضبابيًا ويستعصي على التّفسير. وما زالت محلّ جدلٍ في كثير من المجتمعات، وقد اعتبرها الكثيرون خروجًا عن الدّين وتنكّرًا للحقيقة الّتي يقدّمها للإنسان. أو ربّما مسعى عقيم وثرثرة لا فائدة منها. أو أنّها ممارسة لا يمكن إلّا لنخبة صغيرة من النّاس أن تفهمها وتُسهم فيها.

إلّا أننّا شئنا أم أبينا، نعيش في حضارة بشريّة لطالما أثّرت في الفلسفة وتأثّرت بها، فإسكندر المقدوني الّذي غيّر وجه التّاريخ بتوسّعاته العسكريّة الّتي طالت الشّرق والغرب، كان تلميذًا للفيلسوف أرسطو، ولا يخلو تاريخ العصور الوسطى ولا تاريخنا الحديث، من ظهور تيّارات فكريّة وأيديولوجيّة وسياسيّة، حملت فلسفتها الخاصّة في دوافعها ورؤيتها لما ينبغي على حياة الفرد أو الدّولة أن تكون، وغيّرت بذلك مسار التّاريخ. أمّا ثقافتنا الّتي نعيشها اليوم، والتطوّر التكنولوجيّ والمعرفيّ الّذي يخدمنا ويضيّعنا أحيانًا، فيرى الكثيرون أنّه يعكس افتقارًا للاهتمام بالفلسفة، وأنّ الرّجوع إلى التّفلسف قد يفسح مجالًا أكثر أملًا وذي معنى للكائن البشريّ الحديث.

ولكن بغضّ النّظر عن رأينا في الفلسفة والفلاسفة، ربّما تكون بداية جيّدة أن نسأل: ما الّذي دفع الإنسان للفلسفة عبر العصور؟ وكيف فسّر بعض الفلاسفة الغاية من هذا المسعى؟ فلطالما واجه الفلاسفة عبر العصور استهجانًا من أبناء عصرهم ومحيطهم ووجدوا أنفسهم مضطرّين لتقديم إجابة ما لهذه الأسئلة الّتي ما زالت تُطرح في يومنا هذا: لماذا تتفلسفون؟ وما يمكن أن يجنيه البشر، وسط كلّ هذه الفوضى، من هذه التّأمّلات الّتي تبدو كأنها ضرب من ضروب الهذيان، وتستعصي على فهم الكثيرين؟

فلنرى، ربّما تكون إجابات بعض الفلاسفة على هذه الأسئلة كفيلة بإثارة اهتمامكم للغوص في هذا العالم. وقد اخترنا إجابتين من عصرين مختلفين وبعيدين عنّا اليوم، إلّا أنّهما تحاكيان اهتمامات وأسئلة ما زالت تشغلنا في عصرنا الحالي أيضًا.

 أرسطو: الدّهشة!

آمن أرسطو، فيلسوف القرن الرّابع قبل الميلاد، أنّ الدّهشة هي أوّل ما يبعث المرء على الفلسفة. إذًا فأرسطو ربط الفلسفة الّتي تمتاز بإعمال العقل والحكمة بالشّعور، وتحديدًا بشعور الدّهشة.

ولكنّ أرسطو لم يقصد الدّهشة الّتي نشعر بها حين نقابل أمرًا غريبًا واستثنائيًّا أو خارق الجمال، إنّما قصَد الدّهشة من الأمر الاعتيادي. أن تكون الأشياء المعهودة والمعتادة مثيرة للدّهشة والتّعجّب. أن لا يكون هناك ما هو مفهوم ضمنًا واعتياديًّا وغير جدير بالتّساؤل والتّفكير. حالة تشبه حالة الإنسان في سنينه الأولى حين يكون طفلًا، ولا يكفّ عن طرح الأسئلة الّتي لا يفكّر بها الكبار لأنّها أصبحت مفهومة ضمنًا ولا داعي أن يكون هناك فرصة للتّفكير فيها، وقد يرونها أسئلة تافهة أو بسيطة، إلّا أنّهم في الوقت ذاته لا يملكون الإجابات لها. فالطّفل قد يجلس في حديقة يجدها والداه عاديّة أو جميلة على الأكثر، لكنّ الطّفل يستطيع أن ينظر إلى العشب، الشّجر، الزّهور، الهواء، والحشرات على أنّها عالم مدهش إلى أبعد الحدود، عالمٌ يثير لديه سيل لا ينتهي من الأسئلة عن الوجود والعالم: ما هذه الشّجرة؟ لماذا هي هكذا؟ هل لديها أمّ؟ هل تعرف أنّني أنظر إليها؟ هل هي بيت ذلك العصفور؟ لماذا هو صغير؟ هل أنا محظوظ لأن بيتي أكبر من بيته؟

وفقًا لهذه النّظرة، فإنّ العالم الّذي نعيش فيه أشبه باللّغز الّذي لا مناص منه، تثيرنا الدّهشة والتّعجب، فنبدأ بالتّساؤل وبالبحث عن أدلّة وإجابات. ولذلك، نجد أن جلّ علماء الأحياء والفيزياء والرّياضيات القدامى كانوا أيضًا فلاسفة.


محمّد بن معشر المقدسي وإخوان الصّفا: العافية!

عاش محمّد بن معشر البستي والمعروف بالمقدسي في مدينة البصرة العراقيّة في القرن العاشر للميلاد. وكان منتميًا لجماعة “إخوان الصّفا” السّريّة الّتي اشتغلت في الفلسفة والعقائد الدّينيّة وألّفت ما يزيد عن خمسين رسالة. عُرفت تلك الحقبة التّاريخيّة للحضارة الإسلاميّة بالتّنوع الفكري والنّقاش واسع المدى بين روّاد التّوجّهات المختلفة. وفي هذا المناخ المزدهر فكريًا، توجّه أحد نقّاد الفلسفة إلى محمّد بن معشر المقدسي كمن بدا عليه حبّ الفلسفة بالسؤال التّالي: لماذا نحتاج الفلسفة ولدينا الشّريعة؟ إليكم إجابة المقدسي الذّي يوضّح بها الفارق بين الشّريعة والفلسفة برأيه.

“الشّريعة طبّ المرضى، والفلسفة طبّ الأصحّاء. والأنبياء يطبّبون للمرضى حتّى لا يتزايد مرضهم، وحتى يزول المرض بالعافية فقط. وأمّا الفلاسفة فإنّهم يحفظون الصّحة على أصحابها، حتّى لا يعتريهم مرض أصلًا. فبين مدبّر المريض وبين مدبّر الصّحيح فرقٌ ظاهر وأمرٌ مكشوف، لأنّ غاية تدبير المريض أن يُنتقل به إلى الصّحة، هذا إذا كان الدّواء ناجعًا، والطّبع قابلًا، والطّبيب ناصحًا. وغاية تدبير الصّحيح أن يحفظ الصّحة، وإذا حفظ الصّحة فقد أفاده كسب الفضائل وفرّغه لها وعرّضه لاقتنائها، وصاحب هذه الحال فائزٌ بالسّعادة العظمى”.

نستدلّ من ما ورد عن المقدسيّ إذًا أمرين عن الفلسفة، الأوّل هو أنّه وجد الفلسفة ضروريّة للحفاظ على صحّة الإنسان كي لا يتعرّض للمرض، والأكيد أنّه يقصد مرضًا غير جسدي إنّما عقلي أو نفسي أو روحي. والأمر الثّاني هو أنّه رأى أن غاية الفلسفة هي أن يكون الإنسان سعيدًا. وفي هذا اتّفق معه عددٌ من الفلاسفة السّابقين واللّاحقين.

ومن يدري، قد تأتيكم قراءة الفلسفة بالدّهشة والعافية والسّعادة معًا!

شاعر الفقراء الّذي علّم نفسه بنفسه: تعرّفوا على نايف سليم سويد ابن البقيعة

وُلد الشّاعر نايف سليم سويد عام 1935 في البقيعة لعائلة متواضعة الحال، وكان لولادته في هذا الزّمان والمكان على وجه التّحديد الأثر الأكبر على مسيرته الّتي انعكست في مجموعة الملصقات الّتي تركها لنا.

البقيعة عام 1910، بيتمونا

“ينقط شعره عسلًا أحلى من تين البقيعة” قال إميل حبيبي عن الشّاعر نايف سليم. عضو الحزب الشّيوعي وأحد مؤسّسي لجنة المبادرة الدرزيّة العربيّة، صحافيّ مخضرم، كاتب وفلّاح وحلّاق وسوّاق والمزيد. تبرّع الشّاعر نايف سليم للمكتبة الوطنيّة بمجموعة من الملصقات والمنشورات الهامّة الّتي تعود إلى سنوات السّبعينيّات والثّمانينيّات وحّتى عام 2000. وهي ملصقات هامّة تشهد على الحركة الثّقافيّة والسّياسيّة العربيّة في شمال البلاد وتُظهر مشاركة الشّاعر سويد فيها. في هذه المقالة نتعرّف أكثر إلى قصّة حياة الشّاعر ونشأته وأشعاره، وفي قصّته نموذج نفهم من خلاله حياة جيل كامل. ذكريات نستعيدها من مقالاته وأشعاره ومقابلاته المصوّرة.

                    للاطلاع على مجموعة الملصقات العربية في الأروقة الرقمية للمكتبة الوطنية

وُلد الشّاعر لعائلة درزيّة فقيرة كما يصفها، عام 1935. كان أبو فلّاح وكان من واجبه وأخوته مساعدته دائمًا، إلّا أن والده كان من مقدّسي الكتاب، فإذا رأى أحد أبناءه مأخوذًا بالقراءة تركه ولم يطلب منه المساعدة. التحق نايف الطّفل بالمدرسة الابتدائيّة في قرية الرّامة حيث درس عامين وتوقّفت المدرسة عن العمل في عام 1948. فأكمل تنوّره وقراءته بالاعتماد على مهارة القراءة الّتي تمكّن من اكتسابها بسرعة في الرّامة، وطوّرها حين كان يطيع أبيه في كلّ مرّة يطلب منه أن يقرأ له ولرفاقه السّاهرين “طرفة” أو قصّة من قصص عنترة أو كليلة ودمنة.

للمزيد حول الطائفة الدرزية في المكتبة الوطنية، اضغطوا هنا

في هذه السّنوات توفّيت أمّه عن عمرٍ يناهز 36 عامًا فقط، وكان هو يبلغ من العمر 12 عامًا فقط، وقد كتب في وفاتها قصيدة، قرأها على والده وأصدقائه وأصرّوا على أبيه أن يحثّه على الاستمرار في كتابة الشّعر. لم تكن هذه أوّل قصيدة يكتبها نايف الطّفل، ففي مقابلة في بيته يتحدّث الشّاعر عن قصيدة كتبها أثناء دراسته في الرّامة وقبل وفاة والدته. وقد كتب العديد من القصائد الحزينة في طفولته، تركّز معظمها على الظّروف المعيشيّة القاهرة الّتي عاشها الشّاعر وفقر عائلته الشّديد، وغالبًا ما يذكر ثيابه الممزّقة وخجله منها أمام زملائه أو معلّميه.

“لبست يوم العيد بدلة

لا تسألو من أين

لبستها ورحت باختيال

أسابق الفراشة والظلال

على طريق العين

وعندما تحلق الأولاد

حول بدلتي يقهقهون

أطرقت في سكون

وسرت في الطريق

بكيت يوم العيد

لأن أمي فصّلتها

آه ..من قمباز والدي العتيق

واكتشف الأولاد سرّنا

مشيت في الطريق

أنشج يوم العيد

ويضحك الأولاد”

بقي التعبير عن الفقر وحقّ المظلومين ومواجهة الإستغلالييّن هدف يظهر في أشعار نايف سليم دومًا، حتّى لقّبه البعض بشاعر الفقراء. ولا عجب أنّ الشّاعر الشّاب وجد انتماءًا في نفسه للفكر الشّيوعي الاشتراكي، فانضم للحزب الشيوعي عام 1965 وتبعه بضعة شبّان من البلد. تأثّر الشّاعر الشّاب بشخصيّات عديدة في سنوات طفولته ومراهقته ممن سكنوا البقيعة، وتحدّث عنها في مقالاته وفي طرفه الّتي يحكيها لأهالي البلدة وزوّارها، شخصيّات تركت أثر التّعلّق بالعروبة والتمرّد.

فيحكي مثلًا عن الأب جبران ساكن قرية البقيعة، إذ تورّط الأب في عراك مع أشخاص من القرية، فأتي أحدهم إليه قائلًا “يا أبونا لا يجوز لك أن تصيح بأحدهم، ألم يقل المسيح أعط خدّك الأيسر لمن يضربك على خدّك الأيمن” فأجابه الأب بأن المسيح لا يمكن أن يرضى بهذا، وأنّ هذا كلام الرّومان نسبوه إليه لكي يتحكّموا في النّاس، أمّا أنا فمن يضربني على خدّي الأيمن سأكسر يديه! كان أمثال الأب جبران كُثر ممّن تأثر بهم نايف سليم وزرع حضورهم في حياته رغبة بأن يكون ثوريًا ومختلفًا.

تنقّل نايف سليم بين العديد من المهن بينما استمرّ بتثقيف نفسه وبالاهتمام بالشأن العام. وفي العام 1972 كان من المشاركين بتأسيس لجنة المبادرة الدّرزيّة العربيّة، والّتي أشرف سويد على كتابة وتحرير مئات المناشير لها، وعشرات المجلّات والنّشرات. كما ترأس المجلس المحلّي للقرية كذلك.

في مجموعة الملصقات الّتي أهداها الشّاعر للمكتبة الوطنيّة نجد خطاه في هذه المسيرة بكلّ وضوح، فمن الأمسيات الشّعريّة والأدبيّة مرورًا بنشاطات الشّبيبة الشّيوعيّة ونشاطات الحزب الجماهيريّة عمومًا، إلى دعوات رسميّة من لجنة المبادرة ومؤتمرات عديدة نرى من خلالها عن قرب تطوّر الحركة الثّقافيّة والسياسيّة الّتي عايشها بتفاصيلها. وما زال الشّاعر في بيته إلى اليوم مزارًا ومعلمًا يرحّب بضيوفه ممّن يريدون التّعرف إلى تاريخ القرية، أو طرفها المضحكة، أو عمل الحزب الشّيوعي أو لجنة المبادرة.

للمزيد عن الشاعر نايف سليم سويد في المكتبة الوطنية، تصفحوا بوابتنا الرقمية المعرفية

عاش الأول من أيار؛ عيد العمال الأحرار

تسلط هذه المقالة الضوء على أوضاع وحال يوم العمال في القرن الماضي بالاستعانة بمواد من أرشيف جرايد ومجموعة ملصقات المكتبة.

تحتفل معظم دول العالم في الأول من أيّار بيوم العمال العالمي، وقد شاءت الأقدار أن تكون الأعياد أو بعض الأيام السنوية لأكثر الأفراد أو الجماعات حاجةً للتقدير والاهتمام الدائم، كالأم، المرأة، وذوي الاحتياجات الخاصة، الطفل، الأب (في بعض الدول)، والعمّال، بل وحتى الأرض. ولأن العامل قد يكون جزءًا من كل ما ذُكر سابقًا، لا بد من تسليط الضوء على قضاياه وأهميته في بناء منظومات الدول الاقتصادية على المستويات المحلية والعالمية. ولا بد من التأكيد على أنّ يوم العمّال ليس فقط للتقدير، بل هو كذلك دعوة لكافة العمال للمطالبة بحقوقهم، دعمهم المادي والمعنوي، والتأكيد على نضالهم في النهوض لتحسين الأوضاع والأحوال الاقتصادية بل والاجتماعية والأكاديمية في أحوال أخرى.

في البلاد، كان وربما لا تزال هنالك نكهة خاصة ليوم العمال، ففيه تنطلق الدعوات لمحاربة الرأسمالية المتجذرة في القطاعات الخاصة والعامة والتي تستهدف طاقات وذوات العمال. في ظل الانتداب البريطاني والفترة اللاحقة، رصدت الصحف الفلسطينية دعوات العمال العرب لمناهضة كل القوى التي وقفت أمامهم: ولقد وددنا في هذا المقال تسليط الضوء على بعض الأخبار والأحداث والدعوات الجماهيرية في يوم العمّال.

صحيفة فلسطين: 05 أيّار 1931
صحيفة فلسطين: 05 أيّار 1931

في خبر بسيط في الصفحة السادسة لصحيفة فلسطين بعد أربعة أيّام من عيد العمّال، وكان الخبر أنّ عيد العمّال مرّ على المدن الفلسطينية دون احتجاجات أو صراعات مع السلطات الانتدابية، كذلك أكّد الخبر أن العمّال اليهود لم يفتعلوا المشاكل في هذا اليوم. في ذات الصفحة وتحت هذا الخبر، رصدت الصحيفة عيد العمّال في دول أخرى مثل: بولونيا، إسبانيا، الهند، أستراليا … إلخ.

في المقابل لهذا الخبر، صدر في فلسطين الانتدابية منشورًا عن الهئية المركزية لحزب عمال فلسطين (بوعلي تسيون)، دعوة لكافة العمال بعنوان “يا عمال جميع العالم، اتحدوا” وكانت دعوة واضحة وصارمة للعمال العرب واليهود للاتحاد ضد الرأسماليين العرب واليهود، والمطالبة بإحياء عيد العمّال بالوحدة والعمل والمطالبة بحقوق العمّال، بل أسرف المنشور إلى دعوة العمال إلى محاربة عائلتي الحسيني والنشاشيبي لأنهم إقطاعيّ البلاد، على حد وصفهم.

يا عمّال جميع العالم، اتحدوا
يا عمّال جميع العالم، اتحدوا

في العام 1931، توجهت النقابة العربية لعمال سكة الحديد في مدينة حيفا بدعوة العمّال العرب للتصدّي لدعوات نقابة العمال اليهودية بدعوة العمال العرب للانضمام لها والتمرد على النقابة العربية بحجة أنّ النقابة العربية غير فعّالة ولا تعمل لصالح العامل العربي. وهنا تظهر أحد الحيل والمؤامرات التي تستخدم العامل البسيط لأهداف اقتصادية وسياسية على المدى البعيد.

إلى جميع عمال فلسطين
إلى جميع عمال فلسطين

قامت كذلك صحيفة الاتحاد برصد بعض الأحداث والأخبار في يوم العمّال، فمثلاً في ثمانينيّات القرن الماضي رُصدت بعض الأخبار والأحداث المختلفة في يوم العمّال والتي كان لها أثرًا على المستوى الاجتماعي، الاقتصادي والسياسي، مثل إسقاط الحكومة، توزيع ورود، فصل عمال… إلخ.

 تصفحوا أخبار يوم العمال في أرشيف جرايد

الإتحاد: 30 نيسان 1982
الاتحاد: 30 نيسان 1982

 

الاتحاد: 2 أيّار 1985
الاتحاد: 2 أيّار 1985

 

الاتحاد: 3 أيّار 1983
الاتحاد: 3 أيّار 1983

 

الاتحاد: 5 أيّار 1985
الاتحاد: 5 أيّار 1985

وفي الختام، نستذكر أنّ يوم العمّال هو يوم للتذكير بأهمية كافة العمّال في كافة القطاعات الحكومية والخاصة وفي كافة المجالات بدون استثناء، ولا بد من وقفة فخر لأن ما يُصنع ويُقدّم باسم أي دولة هو الجهد اليومي خلال ثماني ساعات على الأقل لعامل أو عاملة لهم حياة أخرى غير العمل.

وعاش الأول من الأيار، عيد العمال الأحرار