بقلم: راحيل جولدبيرغ
منذ نعومة أظفاره، تأهّب إبراهيم وتربّى لأن يملأ مكان أبيه يومًا ما حين يكبر، وكان أبوه رجل الدّين والطّبيب والفيلسوف اليهوديّ الشّهير موسى بن ميمون، المولود في مدينة قرطبة في القرن الثّاني عشر للميلاد.
نشأ إبراهيم ليرث بالفعل دور أبيه كرئيسٍ للطائفة اليهوديّة في مصر. إلّا أنّه من خلال سعيه لحثّ أبناء المجتمع اليهوديّ على التّمسك باليهوديّة كشف بدوره عن تأثّره الكبير بالمسلك الرّوحانيّ في الإسلام إلا وهو التّصوّف. ويظهر هذا الأثر في كتاباته وفي أحكامه الشّرعيّة. فمثلًا، ابتدع وجوب غسل القدمين واليدين قبل الصّلاة، ودعم هذا الادّعاء بمصدر تلموديّ واحد وهو ما لم يتمّ تقبّله، وذلك بالطّبع لأن المصدر الحقيقي لهذا التّجديد كان نابعًا من التّقاليد الإسلاميّة (الوضوء).
واجه إبراهيم بن موسى من اتّهموه بتقليد غير اليهود بطريقتين. أمّا الأولى فمن خلال إيجاد مصادر يهوديّة الأصل لتدعم مختلف أحكامه، وإن كانت هذه المصادر فريدة وغير واسعة الانتشار. أمّا الثّانية، فقد جادل بأنّ الوصيّة التوراتيّة “ولا تتّبعوا قوانينهم” لا تشمل بالضّرورة تقليد المسلمين.
بالطّبع لم يكن إبراهيم بن موسى بن ميمون أوّل من أظهر تأثرًا يهوديًّا بالتّصوّف الإسلامي، فقبله بكثير عُرفت حركة “الحاسيدوت” اليهوديّة، وقد كانت معروفة بتأثّرها بحركة التّصوف الإسلامي.
أوّل كتاب نعرفه من هذه الحركة هو كتاب “فرائض القلوب” لابن فقوده المولود في سرقسطة عام 1080 للميلاد. قسّم ابن فقوده كتابه إلى أبواب تدلّ القارئ على الطّريقة الرّوحانيّة ليصل بالنّهاية إلى الباب العاشر ويرى كما ورد في عنوانه “المحبّة الحقيقيّة لله تعالى”. تتشابه بنية كتاب “فرائض القلوب” مع الطّريقة الصّوفيّة إلى حدٍ كبير، والّتي تعد السّالك بالتّرقي من مرحلة إلى مرحلة ليصل إلى الهدف نفسه. يستخدم الكتاب، الّذي كُتب بالعربيّة اليهوديّة، تعابير إسلاميّة عديدة مثل “الله تعالى” و”الله عزّ وجلّ”. وبالإضافة إلى ذلك، فإن ابن فقوده يستشهد بمصادر إسلاميّة للتأكيد على صحّة كلامه، فنراه يقتبس مثلًا الصّوفي ذو النّون المصري (ت 859م) في مقالته عن إثبات وجود الله: “من يعرف الله حقًا هو من يستحي منه”، ثمّ لاحقًا في ذات المقالة، يتحدّث عن التّفسير العقلي لوجود الله ويقول “من المنطقيّ أن نقول عن خالق كلّ شيء، أنّه ليس كمثله شيء”. وهنا يقتبس ابن فقوده من الآية الحادية عشر من سورة الشّورى في القرآن.
تشير هيئة الكتاب إلى أنّها ليست النّسخة الأولى من نوعها، إلّا أنّها الأقدم من بين النّسخ الّتي حُفظت ووصلت إلينا. يحظى كتاب “فرائض القلوب” بشعبيّة كبيرة إلى اليوم، ويُعتبر من الكتب الأساسيّة في مجالات الإيمان والأخلاق. تمّ نشر نُسخ حديثة للكتاب في السّنوات الأخيرة ، كنُسخ دراسيّة بالإضافة إلى نُسخ مقسّمة لفصول صغيرة مُعدّة للقراءة اليوميّة وبالخصوص لفترة “سليحوت” أي أيّام الاستغفار الّتي تمهّد ليوم الغفران.
لقد كان إبراهيم بن موسى يكتُب لتثقيف المجتمع اليهوديّ الّذي تواجد في مكانه وزمانه، بينما كتب ابن فقوده للجميع ولكلّ يهودي في أي مكان، بغضّ النّظر عن الدّرجة الرّوحانيّة أو المعرفيّة له، ومن هنا ينبع التّباين بين شعبيّة الكاتِبيَن.
ترك التّصوّف الإسلامي وقيمُه بصمته على اليهوديّة وتاريخها بعدّة طرق، بدءًا من ظهور مصطلح “حساب النّفس” الّذي لم يُذكر قبل كتاب “فرائض القلوب”، إلى تطوّر أدبيّات الأخلاق ووجوب تأكيد نيّة القلب قبل أداء الفرائض.