منذ العصور الأولى للإسلام، ظهر الاهتمام بأثر النّبي ومقتنياته وأمتعته، من لباسه وأدواته وبردته وحذائه إلخ. وكثرت الأدبيّات الّتي تحدّثت عن تلك الممتلكات الّتي انتقلت بحسب الرّواية الإسلاميّة بين أصقاع العالم الإسلاميّ، وأشهرها اليوم تلك المعروضة في متحف توبكابي في إسطنبول. كما نجد في البلاد مثلًا شعرة يظّن أنّها من شعر الرّسول محفوظة في مسجد الجزّار في عكّا.
بغضّ النّظر إن كانت هذه الأغراض تعود للنّبي الكريم بالفعل أم لا، فإنّ هذه الظّاهرة مثيرة للاهتمام، فالعديد من دور الإفتاء أصدرت فتاوى شروع التّبرّك بمآثر النّبي محمّد سواء بالتّقبيل أو الّلمس وعلى ما يبدو فإنّ هذه العادة تبدو قديمة بالفعل ومقبولة، بل وتحمل شيء من القداسة إلى حدّ بعيد. إذ نجد أنّ العديد من الأدبيّات عُنيت بجمع الرّوايات الّتي تصفّ مآثر النّبيّ المادّية، كشكله ولباسه، سيفه وخاتمه ومكحلته وأدواته من كتب السّيرة الّتي أتت على ذكرها ك “الشّمائل النّبويّة” للتّرمذي و”صفة النّبيّ” للأسدي وتلك الأحاديث النبوية الّتي وردت في الصّحاح. بل إنّ بعض المؤلّفات وُضعت بالكامل لوصف شيء واحد اعتقد أنّه يعود للنّبي.
نجد في المكتبة الوطنيّة واحد من هذه المؤلّفات: مخطوطة صغيرة ومزوّقة كُتبت في المدينة المنوّرة عام 1628 تحت عنوان “صفة تمثال نعل النّبي صلّى الّله عليه وسلّم لمحمّد بن أبي بكر الفارقي القادري” تصف إحدى نعال النّبي بجمع الأحاديث المتعلّقة بها بالإضافة إلى الحديث عن فضلها وتقدّم رسمًا ملوّنًا منقولًا عن رسومات سابقة وتنقل لنا بعض أبيات الشّعر المأثورة في نعل النّبي.
بإمكاننا من خلال تتبّع هذه المخطوطة أن نفهم كيف تناقلت هذه الصّورة عن نعل النبيّ وكيف تتناقل الرّوايات عمومًا؟ وما كانت طبيعة الاهتمام بهذه المقتنيات حينها؟ فلنبدأ!
تبدأ الصّفحة الأولى بالتّعريف بالرّاوي القادري ونسبه، ثمّ شيخه الّذي قام بجمع هذه الأحاديث والأدبيّات وهو الحافظ ابن عساكر واضع مؤلّف في فضل النّعال النّبويّة والّذي يبدأ الإسناد منه وصولًا إلى أنس بن مالك خادم النّبي. في متن الحديث يوصف نعل الرّسول بأنّه “ذو قبالان” ومعنى القبال هو الجزء الّذي يكون بين الأصابع ليزيد من ثبات القدم داخل الحذاء عند السّير.
ثمّ يعدّد لنا الرّاوي كلّ من انتقل الحذاء إليهم بدءًا من بيت عائشة بنت أبو بكر زوجة الرّسول وكيف انتقل تمثاله أو وصفه (أي رسمه) من رواية إلى رواية. ثمّ يذهب للحديث عن فضل التّبرّك بنعل النّبي وشفاء البعض من أوجاعهم به وبعض ما ورد فيه من الشّعر. ثمّ ينتقل للحديث عن فضل الرّسم نفسه ويبشّر من يمتلك رسمًا للنّعل برؤية النّبي في المنام وفي خيرات كثيرة، بل يجيز التّوجه للّنبي بطلب ما من خلال التّبرّك بصورة النّعل، أي أنّ فعل التّبرّك هنا ليس بالنّعل نفسه بل بصورته أيضًا!
فيقول “ما كان في دارٍ فحُرقت، ولا في سفينة فغرقت، ولا في قافلة فنُهبت، ولا في متاعٍ فسُرق ولا توسّل بصاحبها عليه الصّلاة والسّلام في حاجة إلّا قضيت ولا في ضيقٍ إلّا فرج ومن لازم على حملها كان له القبول التّام من الخلق ولا بدّ أن يرى يزور النّبي صلّى الله عليه وسلّم أو يراه في منامه ومن رآه في منامه رآه حقًا”
ثمّ يورد في الصّفحة الأخيرة قبل عرض الرّسم الأبيات التّالية:
يا طالبًا تمثال نعل نبيّه ها قد وجدت إلى اللّقاء سبيلا
فاجعله فوق الرّاس واخضع واعتقد وتغال فيه وأوله التّقبيلا
من يدّعي الحبّ الصّحيح فإنّه يبدي على ما يدّعيه دليلا
ينتهي هذا الجزء من المخطوط ليبدأ جزءًا ثانيًا يبدو كأنه نسخة ثانية عن الأوّل إلّا أنه ببساطة يضع رواية أخرى عن “أبي الخير محمّد بن محمّد الجزري”، هذه الرّواية لا تختلف عن الرّواية السّابقة لها إلّا أنّ الرّسم يبدو مختلفًا بعض الشّيء.
يعطينا هذا المخطوط مثالًا بسيطًا على اتّساع وظائف الكتب والمخطوطات في العصور الغابرة، ففي هذه الحالة نجد أنّ المخطوطة نفسها كانت تحمل طابع القداسة مع أنّها لا تحتوي على آيات قرآنيّة، بل فقط على رسم النّعل الّذي ربّما سافر وارتحل الكثيرون فقط لرؤيته والتّبرّك به، ولربّما هي صغيرة ولا تحتوي على أيّ وصف آخر لأحد مآثر النّبي لكي تُحمل في كلّ وقت لتوفّر الحفظ والحماية وتكون بركة دائمة لا تفارق حاملها.