وصف لنعل النّبي في المكتبة الوطنيّة

في المكتبة الوطنيّة، واحدة من المخطوطات النصغيرة والنادرة الّتي نقلت رسمًا عن أثر للنبي محمد تبركّت به الناس لقرون. للمزيد، اقرأوا المقال.

منذ العصور الأولى للإسلام، ظهر الاهتمام بأثر النّبي ومقتنياته وأمتعته، من لباسه وأدواته وبردته وحذائه إلخ. وكثرت الأدبيّات الّتي تحدّثت عن تلك الممتلكات الّتي انتقلت بحسب الرّواية الإسلاميّة بين أصقاع العالم الإسلاميّ، وأشهرها اليوم تلك المعروضة في متحف توبكابي في إسطنبول. كما نجد في البلاد مثلًا شعرة يظّن أنّها من شعر الرّسول محفوظة في مسجد الجزّار في عكّا.

بغضّ النّظر إن كانت هذه الأغراض تعود للنّبي الكريم بالفعل أم لا، فإنّ هذه الظّاهرة مثيرة للاهتمام، فالعديد من دور الإفتاء أصدرت فتاوى شروع التّبرّك بمآثر النّبي محمّد سواء بالتّقبيل أو الّلمس وعلى ما يبدو فإنّ هذه العادة تبدو قديمة بالفعل ومقبولة، بل وتحمل شيء من القداسة إلى حدّ بعيد. إذ نجد أنّ العديد من الأدبيّات عُنيت بجمع الرّوايات الّتي تصفّ مآثر النّبيّ المادّية، كشكله ولباسه، سيفه وخاتمه ومكحلته وأدواته من كتب السّيرة الّتي أتت على ذكرها ك “الشّمائل النّبويّة” للتّرمذي و”صفة النّبيّ” للأسدي وتلك الأحاديث النبوية الّتي وردت في الصّحاح. بل إنّ بعض المؤلّفات وُضعت بالكامل لوصف شيء واحد اعتقد أنّه يعود للنّبي.

نجد في المكتبة الوطنيّة واحد من هذه المؤلّفات: مخطوطة صغيرة ومزوّقة كُتبت في المدينة المنوّرة عام  1628 تحت عنوان “صفة تمثال نعل النّبي صلّى الّله عليه وسلّم لمحمّد بن أبي بكر الفارقي القادري” تصف إحدى نعال النّبي بجمع الأحاديث المتعلّقة بها بالإضافة إلى الحديث عن فضلها وتقدّم رسمًا ملوّنًا منقولًا عن رسومات سابقة وتنقل لنا بعض أبيات الشّعر المأثورة في نعل النّبي.

بإمكاننا من خلال تتبّع هذه المخطوطة أن نفهم كيف تناقلت هذه الصّورة عن نعل النبيّ وكيف تتناقل الرّوايات عمومًا؟ وما كانت طبيعة الاهتمام بهذه المقتنيات حينها؟ فلنبدأ!

لعرض المخطوطة

تبدأ الصّفحة الأولى بالتّعريف بالرّاوي القادري ونسبه، ثمّ شيخه الّذي قام بجمع هذه الأحاديث والأدبيّات وهو الحافظ ابن عساكر واضع مؤلّف في فضل النّعال النّبويّة والّذي يبدأ الإسناد منه وصولًا إلى أنس بن مالك خادم النّبي. في متن الحديث يوصف نعل الرّسول بأنّه “ذو قبالان” ومعنى القبال هو الجزء الّذي يكون بين الأصابع ليزيد من ثبات القدم داخل الحذاء عند السّير.

ثمّ يعدّد لنا الرّاوي كلّ من انتقل الحذاء إليهم بدءًا من بيت عائشة بنت أبو بكر زوجة الرّسول وكيف انتقل تمثاله أو وصفه (أي رسمه) من رواية إلى رواية. ثمّ يذهب للحديث عن فضل التّبرّك بنعل النّبي وشفاء البعض من أوجاعهم به وبعض ما ورد فيه من الشّعر. ثمّ ينتقل للحديث عن فضل الرّسم نفسه ويبشّر من يمتلك رسمًا للنّعل برؤية النّبي في المنام وفي خيرات كثيرة، بل يجيز التّوجه للّنبي بطلب ما من خلال التّبرّك بصورة النّعل، أي أنّ فعل التّبرّك هنا ليس بالنّعل نفسه بل بصورته أيضًا!

 

رسم نعل النّبي في المخطوط

فيقول “ما كان في دارٍ فحُرقت، ولا في سفينة فغرقت، ولا في قافلة فنُهبت، ولا في متاعٍ فسُرق ولا توسّل بصاحبها عليه الصّلاة والسّلام في حاجة إلّا قضيت ولا في ضيقٍ إلّا فرج ومن لازم على حملها كان له القبول التّام من الخلق ولا بدّ أن يرى يزور النّبي صلّى الله عليه وسلّم أو يراه في منامه ومن رآه في منامه رآه حقًا”

ثمّ يورد في الصّفحة الأخيرة قبل عرض الرّسم الأبيات التّالية:

يا طالبًا تمثال نعل نبيّه  ها قد وجدت إلى اللّقاء سبيلا

فاجعله فوق الرّاس واخضع واعتقد  وتغال فيه وأوله التّقبيلا

من يدّعي الحبّ الصّحيح فإنّه  يبدي على ما يدّعيه دليلا

ينتهي هذا الجزء من المخطوط ليبدأ جزءًا ثانيًا يبدو كأنه نسخة ثانية عن الأوّل إلّا أنه ببساطة يضع رواية أخرى عن “أبي الخير محمّد بن محمّد الجزري”، هذه الرّواية لا تختلف عن الرّواية السّابقة لها إلّا أنّ الرّسم يبدو مختلفًا بعض الشّيء.

الرّسم الثّاني بحسب رواية الجزري

 

يعطينا هذا المخطوط مثالًا بسيطًا على اتّساع وظائف الكتب والمخطوطات في العصور الغابرة، ففي هذه الحالة نجد أنّ المخطوطة نفسها كانت تحمل طابع القداسة مع أنّها لا تحتوي على آيات قرآنيّة، بل فقط على رسم النّعل الّذي ربّما سافر وارتحل الكثيرون فقط لرؤيته والتّبرّك به، ولربّما هي صغيرة ولا تحتوي على أيّ وصف آخر لأحد مآثر النّبي لكي تُحمل في كلّ وقت لتوفّر الحفظ والحماية وتكون بركة دائمة لا تفارق حاملها.

 

بمناسبة ذكرى المولد النبوي: بُردة البوصيري في المكتبة الوطنيّة

في ذكرى المولد النّبوي، نقدّم إليكم مخطوطة نفيسة لبردة البوصيريّ الشّهيرة في مدح النّبي محمد من مجموعة المخطوطات في المكتبة الوطنيّة.

بردة البوصيري، 1361

في ذكرى المولد النّبوي، نقدّم إليكم مخطوطة نفيسة لبردة البوصيريّ الشّهيرة في مدح النّبي محمد من مجموعة المخطوطات في المكتبة الوطنيّة.

تعدّ هذه المخطوطة فاخرة لتزويقها وخطّها على يد “العبد الفقير إلى رحمة الملك الهادي محمّد الفيروز ابادى” وتعود لعام 1361 م. وهي صغيرة الحجم تحمل بين طيّاتها تخميس لبردة البصيريّ الّتي أسماها صاحبها “الكواكب الدّرية في مدح خير البريّة”. والتّخميس في الشّعر معناه أن يقوم شاعر بأخذ بيت لشاعرٍ آخر، يبدأ بصدر البيت ويدفع عجزه إلى أبيات لاحقة يقوم بنظمها على وزن البيت الأوّل، أو يضيف أبياتًا موزونة بين البيت الأصلي والثّاني. فهو نوع من الاستلهام لنصّ شعريّ موجود ومعروف، فلا يكون سرقة أو تقليد، بل نوعٌ معروف من الإبداع الشّعري، ويسمّى بالتّخميس لأن فيه البيت الواحد يصبح خمسة أشطر. ولا عجب أن يجاري الكثيرون قصيدة البوصيريّ الّتي لاقت رواجًا واسعًا حتى يومنا هذا، وقد نظم الشّاعر أحمد شوقي قصيدته الشّهيرة في مدح الرّسول على نهجها أيضًا.

للاطلاع على بوابة المولد النبوي المعرفية الرقمية حيث المخطوطات والأخبار الصحفية القديمة وملصقات التهنئة.

وتخميس قصيدة البوصيري وخطّها من جديد في نسخة فاخرة كهذه بعد وفاته بقرابة مائة عام دليل على رواج بردته وحبّ النّاس لها. فإلى جانب الجمال الشّعري والبلاغي في قصيدة البوصيريّ، تحكي لنا المخطوطة في صفحاتها الأولى سبب نظمها وقصّتها، إذ كانت لهذه القصيدة مكانة خاصّة للبوصيريّ، أشفت مرضه وجادت عليه بالكرامات كما استخدمها آخرون لطلب الشّفاعة والاستشفاء من المرض، ممّا يفسّر سبب نسخ المخطوطة.

فتقول الصّفحة الأولى من المخطوطة عن الإمام البوصيري “كان سبب إنشاء هذه القصيدة المباركة أني كنت قد أصابني خلط فالج أبطل نصفي، ولم انتفع بنفسي، ففكرت أن أنظم قصيدة في مدح النّبي صلى الله عليه وسلّم وأستشفع به إلى الله تعالى. فأنتشأت هذه القصيدة المباركة ونمت فرأيت النّبي صلّى الله عليه وسلّم في المنام فمسح بيده الميمونة عليّ فعوفيت لوقتي، فخرجت من بيتي ذلك اليوم أوّل النّهار فلقيني بعض الفقراء فقال لي يا سيّدي أريد أن تعطيني القصيدة الّتي مدحت بها النّبي صلى الله عليه وسلم ولم أكن أعلمت بها أحدًا. فقلت وقد حصل عندي منه شيء وأي قصيدة تريد فإني مدحت النّبي صلّى الله عليه وسلّم بقصايد كثيرة قال التّي أوّلها

أمِنْ تَــذَكِّرِ جيرانٍ بــذي سَــلَم   مَزَجْتَ دَمعــا جرى مِن مُقلَةٍ بِدَمِ

والله لقد سمعتها البارحة وهي تُنشد بين يدي من صُنّفت فيه ورأيته صلّى الله عليه وهو يتمايل كالقضيب فأعطيته القصيدة، فذهب وذكر ما جرى بيني وبينه للنّاس فبلغت الصّاحب بهاء الدّين وزير الملك الظّاهر، فاستنسخ القصيدة ونذر ألّا يسمعها إلّا حافيًا مكشوف الرأس، وكان يحبّ سماعها ويتبرّك بها هو وأهل بيته ورأوا من بركاتها أمورًا عظيمة في دينهم ودنياهم ولقد أصاب سعد الدين الفارقيّ موقع الصاحب بهاء الدّين المذكور رمدٌ (مرض في العينين) أشرف منه على العمى، فرأى في منامه قايلًا يقول: أمّا النّبي صلّى الله عليه وسلّم أو غيره يقول له امض الى الصّاحب بهاء الدين وخذ منه البردة واجعلها على عينيك تفق، قال: فنهض من ساعته وجاء إلى الصّاحب فقال له ما رأى في نومه، فقال الصّاحب: ما عندي شيء يقال له البردة، وإنّما عندي قصيدة مديح النّبي صلى الله عليه وسلّم انشاء البوصيريّ فنحن نستشفي بها ثمّ أخرجها له فوضعها على عينيه وقُرّبت وهو جالس فعوفي من الرّمد لوقته.

وهذه القصيدة بركاتها كثيرة فلتقرأ عند طلب الحاجات وتزول الملمّات. فإنها عظيمة البركات كثيرة الخيرات. نفع الله بها كاتبها وقاريها وسامعها آمين يا رب العالمين”

وفي تصميم المخطوطة وخطّها، يظهر الفارق بين أبيات البوصيريّ ووبين أشطر مخمّسها “عزّ الدّين أبي محمّد بن عبد العزيز بن أحمد بن سعيد الديريني الدميري المتوفى سنة 697 هـ”. فكُتبت أبيات البوصيري بخطّ أكبر وعلى اتّساع الصفحة بين الهامشين المزخرفين، بينها أشطر التّخميس فكتبت بخطّ أصغر بين البيت والآخر، موزونة بنفس القافية ومتّسقة مع نفس موضوع البيت.

 

قصيدة البردة وتخميسها، 1361، مجموعة يهودا للمخطوطات، المكتبة الوطنية
قصيدة البردة وتخميسها، 1361، مجموعة يهودا للمخطوطات، المكتبة الوطنية

 

 

من مرسية إلى دمشق: رحلة ابن عربي

خلال رحلاته العديدة، تتلمذ ابن عربي على يد الكثيرين كما درّس الكثيرين، ومن رسائلة في المكتبة الوطنيّة “روح القدس في مناصحة النّفس”.

روح القدس في مناصحة النفس

لمفهوم السّفر مكانة خاصّة في التّصوّف الإسلامي. يترك الإنسان كل ما هو مألوف وثابت ويمضي بجسده إلى المجهول، ويرجو من خلال هذا التزهّد أن تتكشّف له الحقائق عن الوجود وعن الخلق وعن نفسِه وأن يرتقي بروحه مع الله. كما أنّه اتّباع حرفيّ للعديد من الآيات القرآنيّة الّتي تحثّ على “السير في الأرض” والتأمّل بها، حتّى أن بعض المتصوّفة اعتبروا في ذلك اقتداء لسنّة الرّسول في هجرته واستلهامًا لسنوات شبابه حين كان يسافر في تجارته ويتأمّل وحيدًا. وعبر القرون شاع وصف الكثيرين ممّن سلكوا هذا المسعى بالـ “دراويش”؛ والدرويش من يطوف ويعبر المدن والمجتمعات ولا يمكث بها، لكنّه يترك بها ذكرى تزهّده وبساطته في الحياة.

سيرة ابن عربي رغم تفرّد فلسفته وإرثه الأدبي ليست استثناء أيضًا. فقد أمضى ابن عربي سنوات نضوجه كلّها في السّفر والكتابة. من مرسية الأندلسيّة الّتي وُلد فيها عام 1165م، بدأ ابن عربي مسيرته حين كان يتجوّل بين المدن الأندلسيّة وعلمائها ومن ثم في شمال إفريقيا وفلسطين ومن هناك إلى مكّة والعراق والأناضول إلى أن استقرّ في دمشق الّتي أحبّها بشكلٍ خاص، وتوفّي فيها عام 1240م. وعلى امتداد رحلته هذه، أنتج مئات المؤلّفات الّتي نجي منها الكثير الى اليوم، ونستطيع من خلالها اليوم جمع مشاهد ومحطات في حياته لنتخيّل مسارها بين مرسية ودمشق.

لم تكن نشأة ابن عربي تتنبأ بأن يكون من شيوخ الصّوفيّة، فقد وُلد لعائلة ميسورة في مرسية في الأندلس، حيث كان والده من رجال بلاط الحاكم في مرسية حينها وبقي كذلك حتّى فرّ مع عائلته هربًا من حكم الموحّدين إلى إشبيلية. وخلال تلك السّنين، تلقّى ابن عربي الصّبي تعليمًا متنوّعًا في مختلف علوم الدّين الإسلاميّ ودرس كافّة توجّهات شيوخ الأندلس في حينها. إلّا أنه لم يكن ميالًا في بادئ الأمر للتصّوف والزّهد، بل كان يشغل نفسه بالآداب ورحلات الصّيد الّتي رافقه بها خدم أبيه، كما نال وظيفة كاتب في بلاط حاكم إشبيلية وتزوّج. إلا أنّه في تلك السّنوات كانت دائمًا ما تراوده رؤى وتظهر له إشارات عديدة تدعوه لشيء لم يفهمه، ممّا سبّب له أزمة روحيّة لم يدر كيف يتعامل معها. ويرجّح بعض الباحثين أن وفاة أبيه كانت عاملٌ رئيسيّ بحسم تلك الأزمة واتّجاهه نحو “طريق الكشف”.

كانت قرى الأندلس ومدنها “المسرح الأول لتجوال ابن عربي” بوصف أسين بلاثيوس، أحد المستشرقين الّذين كتبوا سيرة ابن عربي، ففي إشبيلية تعلّم مختلف العلوم والآداب وتزوّج واطّلع على الطّرق الصّوفية، ومنها بدأ تجواله في الأندلس بين القرى والمدن ليتعلّم ويعلّم ويناقش مّما أذاع سيطه في الأندلس. حتّى أنّ ابن عربي يذكر أنّه في إحدى زياراته إلى قرطبة وحين كان لا يزال في أول شبابه، التقى بابن رشد وقد كان قاضي المدينة حينها، وقد استقبله بلهفة لما سمعه عنه وسأله إذا ما كان طريق “الكشف” قد أفضى به إلى ما وصل إليه طريق “النظر” أي طريق ابن رشد في الفلسفة والمنطق.

في ذلك الوقت كان يعلم ابن عربي أنّه سلك طريق “الروح”، وكان يبلغ قرابة الحادية والعشرين عامًا كما أشار في مؤّلفه العظيم “الفتوحات المكّية” لاحقًا. وهذه المكانة والشّهرة وضعته ككلّ رجل علم ذو سيط في ذلك الزّمان أمام تحدّي التّعامل مع السّلطة الّتي لم يرغب بالتّقرب منها. كما أنّه كان دائم الشّعور بأن عليه الابتعاد والسّفر، وهو الأمر الذّي شجّعته عليه الرؤى التّي كانت تشجّعه ليزور مكّة، وتعده بأنّ رفيقًا ينتظره في فاس.

خلال تنقلاته، مكث في مكّة ثلاث سنوات وهناك وصلت حكمته ومعرفته الرّوحيّة لأوجها وباتت رؤاه أكثر وضوحًا، فشرع بتأليف الفتوحات المكّية الّذي استمرّ في كتابته سنين طوال، ودوّن فيه يومياته الرّوحيّة كلّها، بالإضافة إلى قصائد الحب في ديوانه “ترجمان الأشواق”.

خلال رحلاته العديدة، تتلمذ ابن عربي على يد الكثيرين كما درّس الكثيرين، ومن رسائلة في المكتبة الوطنيّة “روح القدس في مناصحة النّفس” وقد أرسلها أثناء مكوثه في مكّة إلى أبي محمّد بن أبي بكر القرشيّ في تونس والّذي وصفه بالصّديق.

"روح القدس في مناصحة النّفس"
“روح القدس في مناصحة النّفس”

 

إلّا أنّه لاقى كذلك العداوة في الطريق، فكان هنالك من كفّره أو أنكر طريقه واتّهمه بالفساد أو حتّى حرّض عليه، أما المكان الّذي وجد به السّكينة واستقرّ فيه فهي مدينة دمشق، حيث كانت حاضرة علميّة هامّة في حينها، كما أنه وجد بها الاحترام والظّروف المناسبة ليقضي سنواته الأخيرة ليختتم كتابه “الفتوحات المكّية” ويضع مئات المؤلّفات الإضافيّة كذلك.

توفّي ابن عربي عام 1240م في دمشق ودُفن في الصّالحيّة حيث مقامه ومسجده إلى اليوم. وقيل على لسانه في السّفر :”المؤمن في سفرٍ دائم، والوجود كلّه سفرٌ في سفر”.

للاطلاع على كامل أعمال ابن عربي، تصفحوا بوابة ابن عربي المعرفية على موقع المكتبة. 

صلة آل التميمي بالصحابي تميم الدّاري: مخطوطة نادرة من الخليل

ومن قرأ هذه النّسخة يرى من العجايب كما رأى تميم الدّاري رضي الله عنه، إمام وخطيب الحرم الإبراهيمي والمتولي على أوقاف جدّه تميم الدّاري. للمزيد في المقال.

مخطوطة نسبة تميم الداري

ومن قرأ هذه النّسخة يرى من العجايب كما رأى تميم الدّاري رضي الله عنه.

هكذا افتتح عمر بن أحمد الحرتاني النّسبة الّتي كتبها إلى عبد المنعم التميمي، “إمام وخطيب الحرم الإبراهيمي في الخليل والمتولي على أوقاف جدّه تميم الدّاري” عام 1861. وهي النّسبة الّتي تُظهر اتّصال الإمام التّميميّ وأولاده وأولاد عمومته وأولادهم بالصّحابيّ تميم الدّاري الّذي أعطاه الرّسول منطقة الخليل وبيت عينون (شمال الخليل) والمرطوم (رامة الخليل) وبيت إبراهيم، وفقًا لروايات إسلاميّة عديدة.

وُجدت هذه المخطوطة في المكتبة الوطنيّة إلى جانب مخطوطات أخرى متّصلة بالخليل ضمن مجموعة المخطوطات النّادرة، ويبدو أنّها كُتبت بخطّين مختلفين؛ أحدهما يعود إلى كاتب المخطوطة الّذي أشار إلى نفسه في المقدّمة “الفقير إلى الله تعالى عمر ابن أحمد المرحوم الحرتاني المغربيّ أصلًا المالكي مذهبًا القادري البكري طريقةً القاطن في غزّة سيدنا هاشم سكنًا“، أما القسم الآخر فقد يكون بيد عبد المنعم التّميمي نفسه، إذ أشار إلى نفسه في موضعٍ آخر من الكتاب.

فيبدأ كاتب النّسبة بعرض هذه المكانة العالية مباشرة قبل المقدّمات والتّمهيدات؛ فيضع بين يدي القارئ وصيّة يخصّ الرّسول بها الصّحابيّ تميم الدّاري بهبة؛ وهي أرض الخليل وبعض البلدات المجاورة له ولأولاده من بعده.

 هبة الرّسول كما تظهر في الصّفحة الأولى من المخطوطة، مجموعة المخطوطات النّادرة، المكتبة الوطنية
هبة الرّسول كما تظهر في الصّفحة الأولى من المخطوطة، مجموعة المخطوطات النّادرة، المكتبة الوطنية

هذا ما أنطى محمّد رسول الله لتميم الدّاري وأصحابه: إنّي أنطيتكم بيت عينون وحبرون والمرطوم وبيت إبراهيم برمتهم وجميع ما فيهم نطيّة بتّ ونفذت وسلمت، ذلك لهم ولأعقابهم من بعدهم أبد الآبدين فمن آذاهم فيه آذاه الله. شهد بذلك أبو بكر ابن أبي قحافة وعمر ابن الخطّاب وعثمان ابن عفّان وعليّ ابن أبي طالب ومعاوية ابن أبي سفيان“.

فيما بعد، يبدأ الكاتب بافتتاحيّة النّسبة الّتي يقوم بكتابتها، وكما يتطلّب أي نوعٌ من الكتابة مقدّمة خاصّة به فالنّسبة كذلك تتطلّب تقديم مناسب يشمل اسم كاتب النّسبة ومكانه وزمانه، واسم الرّجل الّذي يكتبها له، ومبتدأ النّسبة وآخرها، أي من الرّجل الّذي سيبدأ من عنده ومن الرّجل الّذي سينتهي عنده.

بعد افتتاحيّة من صفحتين تبدأ المقدّمة الطّويلة المعهودة في الأدب العربيّ، حيث الصّلاة والسّلام والقصّة القصيرة ذات العبرة والأقوال المأثورة، وهي عوامل قد تبدو لأوّل وهلة غير متّصلة لموضوع الكتاب الّذي نحن بصدد قراءته، إلّا انّنا إذا تمعنّا بتلك القصص والأقوال الّتي يختارها الكاتب لوجدنا أنّه يختارها بعناية للتأكيد على قيمٍ مرتبطة بالموضوع المتناول، أو أنّه يضع فيها نظرته للموضوع المتناول دون أن يصرّح بها بشكلٍ مباشرٍ في متن النّص، وقد يفعل ذلك في خاتمته أيضًا. وكذلك هو الحال في مقدّمة هذه النّسبة الّتي تناول بها الكاتب قصّة اقتتال قابيل وهابيل، حين قتل الأخ أخاه حسدًا.

بعد هذه المقدّمة الأدبيّة ينتقل كاتب النّسبة إلى متن النّص فيكتب “أمّا بعد” بالأحمر مؤشّرًا إلى بداية متن النّسبة. فيبدأ بذكر المصادر الّتي اعتمدها في عمله وهدفه من كتابتها.

بداية متن النّسبة من المخطوطة
بداية متن النّسبة من المخطوطة

 

لتصفّح المخطوطة كاملة

فيقول: “هذه نسبةُ شريفة متّصلة بتميم الداري رضي الله تعالى عنه وأرضاه، نُقلت من كتاب الأنساب الّذي جمعه الفاضل حاوي المزايا والفضائل الأصمعي ومن كتب التّواريخ الواردة عن العيني وابن خلكان كالواقدي والبكري وما جاء من كلام أهل الفصاحة والبلاغة، لأن هذا الكتاب عندي مخلّف عن الآباء والأجداد وفيه جميع النبذات من الصّحابة والتّابعين والملوك والسّلاطين من تبع الحميري إلى الآن“.

وهكذا يبدأ الكاتب بالنّسبة من عند “الملك خزرج” وبحسب المخطوطة فهو الجد الأوّل للسلالة الّتي انحدر منها الصّحابيّ تميم الدّاري، وفي ذكر فضائله وأخباره تروي المخطوطة أن الملك خزرج هو المقصود بذي القرنين الوارد ذكره في سورة الكهف، ومن إحدى التّفسيرات الّتي أوردها كاتب النّسبة أنه “ملك قرنيّ الدّنيا مشرقًا ومغربًا” وأنه عاش في قصرٍ قرب نهرٍ مبارك، يشفى بمائة كلّ عليل وأنه كان كريمًا شجاعًا ومغوارًا، وأنّه آمن بنبوءة إبراهيم.

وانطلاقًا من الملك خزرج إلى أولاده التّسعة عشر، يروي الكاتب ما تيسّر له من أخبار عنهم، فالنّسبة هنا لا تهتمّ بصلة الدّم فحسب، بل تروي قصص هؤلاء الرّجال وأحيانًا مواطن زوجاتهم وما رُوي عنهم من طُرف وعجائب، فتعتبر، هنا، نوعًا أدبيّا من الكتابة بامتياز، يدمج ما بين الواقعيّة والخيال والأسطورة.

فمثلًا، ومع تقدّم القصّة، أجيال عديدة يصل كاتب النّسبة إلى الشّيخ أحمد والد الشّيخ عبد الرّحمن أفندي، وزمانهما غير واضح، فيحكي قصّة زيارة الشّيخ أحمد إلى الحرم الإبراهيميّ حيث قابل “رجلًا من أكابر دولة ذلك الزّمان” ورافقه بدخول الغار حيث يرقد الأنبياء. “فطلب منهم أن يفتحوا باب الغار الشّريف فنزلوا جميعًا حتى وصلوا إلى المحل الّذي فيه أعضاء الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام وإذا بقاطع فيه حضرة سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ملقًا على ظهره ومدرج في ديباج أخضر قد بدا وشيبته الشريفة مفروقة فرقتين من النسيم الذي ريحته كالمسك الأوفر ثم ذهبوا وإذا بقاطع فيه سيدنا إسحاق عليه الصلاة والسلام فوجدوه كذلك ثم ذهبوا كذلك إلى محل آخر وإذا فيه سيدنا يعقوب عليه السلام ثم ذهبوا إلى محل آخر وإذا بصوت قايل الحريم يرحمكم الله تعالى فخرجوا جميعًا وقد رأوا جميع الأكفان وأثره فطلعوا من الغار الشريف بعد الزيارة ورؤيتهم ما قد رأوا وشاهدوا فعند ذلك صنع لهم أكفانًا ووضعهم على أجسادهم كما كانوا موضوعين سابقًا وبنوا عليهم بنيانًا خوفًا لا أحد يجسر عليهم فطوبا لهم“.

قصة دخول الغار عند الحرم الإبراهيمي.
قصة دخول الغار عند الحرم الإبراهيمي.

وفي المراحل المتقدّمة يبدأ التّركيز حول سلالة تميم الدّاري في الخليل ونابلس، ويختتم الكاتب النّسبة ببعض من شيوخ طائفة الخطباء التميميّين في الخليل، أولادهم وأولاد عمومتهم، ويختتم كتابه بآيتين من سورة المؤمنون “فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ – فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ“.

نسخة عن صحيح البخاري كُتبت في الحرم الإبراهيميّ في الخليل، 1739.
نسخة عن صحيح البخاري كُتبت في الحرم الإبراهيميّ في الخليل، 1739.

كتبت مخطوطة صحيح البخاري قبل مخطوطة النّسبة بمائة عام، ويظهر في آخرها اسم ناسخها؛ إمام الحرم الإبراهيمي حينها الشّيخ محمّد بن يوسف التّميمي، وقد ورد ذكره في مخطوطة النّسبة أيضًا.

لتصفح بوابة مدينة الخليل حيث العديد من المخطوطات المتاحة والمواد المنوّعة.