لا يخلو تاريخُ الدين والفلسفة من الشخصيات المؤثرة الذين نجحوا في فتح آفاق تفكير مغايرة للسائد وأسرت خيالَ الكثيرين. ومن بينِ هؤلاءِ الأفراد الاستثنائيين، شخصية برزت في العالم الإسلامي في العصور الوسطى: شهاب الدين السهروردي، المعروف أيضًا باسم شيخ الإشراق أو سيّد التنوير. أنشأَ السهروردي مدرسة فلسفية جديدة والتي أصبحت تُعرف باسم المدرسة الإشراقية وكان لها تأثير كبير على التقاليد الفكرية الإسلامية الشرقية، إذ جَمَعَ فكرهُ بينَ تَعاليمِ الإسلام، وأفلاطون، والهرمسية، والزرادشتية، وغيرها الكثير لخلق شكل فريد وشاعري من الفلسفة الصوفية.
في أوائلِ العشرينيات من عمره دخل السهروردي إلى مسرح التاريخ عندما وصل إلى حلب السورية، إيذاناً ببدء رحلة بحثه عن المعرفة. خطى بقدم في عالم الفلسفة والأخرى في عالم التصوف، وتميّزت حياته بخيارات مثيرة للاهتمام. إذ يُحكى أنه أتى حلب بملابس رثة حتى ظنّوا أنه سائق حمار، وسرعان ما أدرك مدير المدرسة المحلية، وهي مدرسة للتعليم الإسلامي، أن السهروردي رجل مثقف وأرسلَ لهُ ملابس مع ابنه الصغير طالباً منه بلباقةٍ أن يُحَسّنَ مَظهَره ليَرقى لمستواه الفكري، لم يُبدِ السهروردي انزعاجه من هذه الإيماءة، لكنه أَخرجَ جَوهَرَةً كَبيرة وأمرَ الصّبي بأخذِها إلى السّوق لتّسعيرِها. عند عودته، أخبر الصبي السهروردي أن الأمير الحاكم، وهو الابن المراهق لصلاح الدين الأيوبي، عرض مبلغًا مذهلاً قدره 30 ألف دِرهم مقابل الجوهرة.
لإظهار مدى قلة تقديره للممتلكات المادية، حَطَّمَ السهروردي الجوهرة الثمينة على حجر، قائلاً إنه كانَ بإِمكانه بسهولة شِراءَ مَلابسَ أَفضل إذا أراد ذلك.
لم تكن تصرفات سهروردي مجرَّدَ إظهارٍ للامبالاة؛ بل عَكَسَت التزامهُ العَميق بأسلوبِ حياةِ الزهد. لقد تجنب بوعي أي شكل من أشكالِ التعلق. إذ تُروى قصصٌ عن ارتدائهِ لملابسَ بائسة في يوم وملابس مَلَكية في يومٍ آخر، وذلك لتجنبِ رَبطه بصور نمطية معينة عن الفلاسفة الزُّهاد.
أكدَّ رفض السهروردي الامتثال للتوقعات واحتضانه للمفارقة فهمه العميق للطبيعة البشرية والطريق الروحي. لقد كان صوفياً حقيقيًا، فيلسوفًا عاش تعاليمه إلى جانب التنظيرِ بها.
مع مرور الوقت، اجتذب السهروردي مجموعة من التلاميذ، وشاركهم ممارساته الصوفية ورؤاه الفلسفية. وكان للسهروردي علاقة وثيقة مع ابن صلاح الدين الأيوبي الملك الظاهر. ومع ذلك، فإن هذه الشعبية المتزايدة، إلى جانب علاقاته بالسلطة السياسية، جعلت علماء الدين قلقين من أفكاره المخالفة للدين برأيهم.
ومع نمو أفكاره وتأثيره، راوَدَ صلاحُ الدين الشعور بعدمِ الرّاحة بشكلٍ متزايدٍ من علاقة السهروردي الوثيقة بابنه، وبتحريضٍ من رجال الدين آنذاك أمرَ صلاحُ الدين بتنفيذِ حُكم الإعدام الذي أودى بحياة السهروردي ومثّل نهاية فصل فكري رائع في التاريخ الإسلامي. ولكن ما هي أفكار سيّد التنوير التي كلفته حياته؟
نورُ الأنوار
لم يُطلَق على السهروردي لقَب سيّدِ الإشراقِ منَ العَدَم، فقد آمن الفيلسوفُ الصوفيّ بأنَّ كلَّ شيءٍ في العالم مصدرهُ الضوءُ والظّلام. والضوء لدى السهروردي ليس ضوءًا ماديًا نراه، بل هو جوهرُ الكون غير المادي. ترسمُ فلسفة السهروردي صورة ساحرة للكون على أنه نسيج مترابط من الضوء، حيث ينبعث كل مستوى من المستوى السابق، مما يشكل رقصة كونية من الخلق والتجلي. إنها رؤية تدعونا إلى إدراك الكون ليس كمجموعة من الأجسام المنفصلة ولكن ككل موحد، مضاء بالجوهر المتألق للوجود نفسه.
تَخيل شلالًا كونيًا من الضوء، يتساقط من مصدرٍ متألقٍ أعلى الكون، هكذا صوّر لنا السهروردي خَلق الله للكون. كان يعتقد أن الله، في جوهره الأنقى، نورٌ يُبعثُ باستمرار ويَلِد أشكالًا أقل من الضوء، تمامًا مثلَ أشعة الشمس التي تضيءُ كلَّ ما تلمسه.
وللضوءِ دَرجات وأنواع تبدأُ بالضّوء المطلق، أو “نورُ الأَنوار”، الذي يمثلُ الله -سبحانه وتعالى-، الذي يتجلى دائمًا ويخلق أضواءً أخرى تنبثق منه – أي كل المخلوقات – وهذه الأضواء متمايزة ومترابطة كالبشر، كما يختلف جوهر الشمس عن أشعتها. فالأشعة المنبثقة تحتاج للشمس لوجودها ودونها يَعُمُّ الظّلام، وهكذا هي علاقة المخلوق بالخالق سبحانه، والعَكسُ غير صحيح، فالنورُ دائمُ الاشعاع، وكذلك الله في وجوده وخلوده دون الحاجة للبشر، لكنهم خُلقو والدنيا ليعكسوا قدرة الله اللامتناهية.
هذا الضوءُ غير المادي، هو شريانُ الحياةِ والوجود؛ إنها الشرارة التي تُشعل الوعي، وتمكننا من التعرف على أنفسنا وما يحيط بنا. كُلُّ ما ينبِضُ بالحياة في العالم المادي يستفيد من هذه القوة المضيئة، كالأرواح التي تُحيي البشر.
تدعونا فلسفةُ السهروردي إلى إدراك الواقع من خلال عدسة الضوء، والاعتراف بالترابط بين الوعي أو الله والإمكانات الكامنة للتنوير داخل جميع الكائنات. تقدم تعاليمه استكشافًا عميقًا لطبيعة الوجود، وتوجهنا نحو فهم أعمق لمكاننا في السيمفونية الكونية.
تظل فلسفة السهروردي مهمة ومؤثرة حتى اليوم، إذ يعد واحدًا من أكثر الفلاسفة تفردًا وإثارة في التاريخ، وقد ترك بصمة عميقة على الفلسفة الإسلامية وعلى الصوفيين والمفكرين حتى الآن. قد يطلق عليه لقب “الشيخ المقتول”، إلا أن أفكار السهروردي المثيرة ما زالت حية ومؤثرة حتى يومنا هذا.