أفلام رام الله: “السّيدة من رام الله”، جولة في خيال حاييم حيفير

هو محامٍ عسكريّ في الجيش الإسرائيلي، هي أرملة من رام الله، يلتقيان في سنوات الحرب في العام 1967، ويقعان بالحبّ. تعرّفوا معنا على قصّة الفيلم.

 

 ملصق الفيلم، المصدر ويكيبيديا
ملصق الفيلم، المصدر ويكيبيديا

 

وجدنا في أرشيف المكتبة الوطنيّة مذكّرة زرقاء تحمل صفحتين، وقد كُتب فيهما مختصر لسيناريو فيلم على يد الشاعر والمؤلّف الاسرائيلي حاييم حيفير كتبها عام 1970، أي بعد ثلاثة أعوام على انقضاء الحرب. الفنّان المعروف والحائز على جائزة إسرائيل للأغنية العبريّة ويُعتبر أحد الأعمدة للذاكرة الفنّية لدى الإسرائيليين. بالإضافة إلى ذلك، فهو أحد مؤسّسي الكتيبة العسكريّة الخاصّة بالبلماح، وكاتب أشهر أغانيها، كما كانت له إسهامات في مجالات فنّية عديدة.

فرقة "تشزباترون" العسكرية الخاصّة بالبلماح في وادي عربة عام 1949، أرشيف المكتبة الوطنيّة
فرقة “تشزباترون” العسكرية الخاصّة بالبلماح في وادي عربة عام 1949، أرشيف المكتبة الوطنيّة

 

ولد حيفير لعائلة في بولندا وهاجر إلى البلاد عام 1936 في سنّ الحادية عشر، في الثّامنة عشر من عمره انضمّ للبلماح وكانت مهمّته المساعدة في إسناد الهجرة غير الشرعيّة لليهود من الحدود الشّماليّة. وخلال عام 1948 قام بتأسيس فرقة الغناء والترفيه الخاصّة بالبلماح والّتي سمّيت “تشزباترون” مستوحية من جهة كلمة تأترون (مسرح بالعبريّة) ومن جهة كلمة “تشذبات” الفلسطينيّة (كذبات) الّتي تصف القصص الخياليّة، فكان المقصد فرقة فنّية تؤدّي حكايات غير واقعيّة. ورغم نجاحه الكبير في مجال الموسيقى والغناء حيث كان يلحّن ويكتب الأغاني، امتلك حيفير كذلك شغفًا في مجالي السينما والمسرح فكتب المسرحيات وسيناريوهات الأفلام.

حيفير مع الرئيس يتسحاك نافون عام 1981، أرشيف المكتبة الوطنيّة
حيفير مع الرئيس يتسحاك نافون عام 1981، أرشيف المكتبة الوطنيّة

 

إليكم ترجمة لمختصر سيناريو الفيلم الّذي كُتب عام 1970 كما وجدناه في أرشيف حيفير الشّخصي المحفوظ في المكتبة الوطنيّة، والّذي تحوّل إلى فيلم لاحقًا باسم “جسر ضيّق جدًا” عام 1985:

“مدينة رام الله ذات البيوت الحجريّة المسقوفة بالأحمر على تلال يهوذا، كانت منتجعًا جبليًا فاخرًا لأمراء السّعوديّة وشيوخ الكويت وكبار رجال الأعمال في عمّان قبل حرب الأيام السّتة. حين اندلعت الحرب هُجرت المطاعم وتعاملت المتاجر بالمساومات، أمّا الطّبقة العليا وبقيّة سكّان المدينة، ممّن لم يعتادو بالطبع على الديمقراطيّة الإسرائيليّة، فقد اتّبعوا قوانين وأنظمة الحكّام العسكرييّن في الضّفة الغربيّة.

الصّفحة الأولى من الكرّاسة، أرشيف حاييم حيفير، المكتبة الوطنيّة.
الصّفحة الأولى من الكرّاسة، أرشيف حاييم حيفير، المكتبة الوطنيّة.

 

بينيامين يتعرّف على ليلى. وبسرعة يبدأ بزيارتها في منزلها، يشرب القهوة في شرفتها المغلقة بالزّجاج. وحيدان في جبال يهوذا، وربّما الوحيدان من حاملي الشهادات من بين مجموعات العرب واليهود الّذين تعاملوا مع بعضهم البعض، ينسجمان فكريًا ويقعان في الحبّ. جميع أصدقائهم، العرب واليهود، لديهم نفس ردة الفعل. أصدقاء ليلى يبدأون بتجاهلها. تقول لهم أنّها تجادل بنيامين في السياسة الإسرائيليّة وتشرح القضيّة العربيّة له. ولا تشعر بأية طريقة أنها تخون شعبها. لكنّ السياسة لا يمكن كذلك أن تؤثّر في مشاعرها نحوه.

أصدقاء بنيامين يعاملونه بحدّة أكبر، مرّة بعد مرّة تُعقد اللقاءات والمؤتمرات بدونه، خوفًا من التّسبب بثغرة أمنيّة. وكي يخفّفوا عن أنفسهم، يسخرون من العلاقة ويصفونها بالنّزوة العابرة.

إلّا أنّ التّعامل الجدّي والمحترم بين المحبّين في تناقض دائم.

لليلى أخ، سليمان، طالب في الجامعة الأردنيّة في عمّان. تصله الأخبار من رام الله بسرعة. ولضعفه يتجاهل مضايقات أصدقائه، ولكن بعد مناوشات مهينة، يعزم على الذّهاب إلى رام الله للدّفاع عن شرف أخته.

الحالة العسكريّة تمنعه من دخول إسرائيل بصورة غير شرعيّة، فينضمّ إلى وحدة إرهابيّة لفتح. يعبرون نهر الأردن ليلًا، لكنّهم يُكتشفون الفجر على يد سلاح المظلّات الإسرائيلي. تنتهي المعركة الجبليّة بجانب البحر الميّت بهزيمة وحدة فتح بينما يحاول سليمان الّذي جُرح في بداية المعركة الهروب ليختبئ في كهف، ينتظر أن يستسلم.

تصل الأخبار لليلى. تحاول زيارة سليمان في المشفى لكنّ السلطات لا تمنحها التّصريح اللازم، خوفًا من أن تنقل رسالة عنه للمجموعات الإرهابيّة في الضّفة الغربيّة. بنيامين كمدّعي عام عسكري هو الشّخص الوحيد المسموح له رؤية سليمان. كلّ منهما يسبّب التّوتر للآخر، والعداء يزداد بقوة أكبر وأكبر. وحين يعلم سليمان أن بنيامين هو عشيق أخته، أي الرجل الّذي لوّث شرف العائلة، تصير كراهيّته فتّاكة.

تمرّ أيام قليلة، وعلى بنيامين الآن أن يقدّم قضيّته. في ذلك الحين كان قد رتّب التّصريح اللازم لليلى كي تزور سليمان. وحين يجلس الأخ والأخت ويتحدّثان، يظهر جليًا أن سليمان اتّخذ مسارًا للعمل. يتفاخر بأعماله البطوليّة في فتح، وينجح في اقناع ليلى بأنه المقاتل المثالي من أجل القضيّة العربيّة، ويريها جروحه بفخر كدليل.

في جلسة المحكمة، بنيامين، المدعي العام، بمهارة يحاول مساعدة سليمان عبر الإيضاح بأن العربيّ الذي عبر الحدود كإرهابي كان يفعل هذا فقط كغطاء كي يتمكّن من الدخول وينتقم لشرف أخته. يحثّ سليمان على الاعتراف “قل الحقيقةّ ألم تأت هنا كي تقتلني؟” سليمان بحيلة ورغبة مكبوتة بالانتقام يرفض الاعتراف بأسبابه الشّخصيّة ويرغب بمجد الشّهادة.

ينجح سليمان. حين تنتهي المحاكمة، يُقاد سليمان مقيّد اليدين بعيدًا لقضاء عشرين عام من عقوبة السّجن. ويتمّ استقبال بنيامين على درجات المحكمة بلافتات تقول “تسقط إسرائيل” و “الاحتلال الإسرائيلي هو احتلال نازي”، “يعيش عبدالناصر” إلخ. يلمح بنيامين ليلى بين الحشود تبكي وتحمل لافتة كُتب عليها “بنيامين فيلدمان يساوي أدولف أيخمان”.

جرت تعديلات كثيرة على هذه المسودة حيث تمّ كتابة السّيناريو النهائي بالتّشارك بين حاييم حيفير ونيسيم ديان، الممثّل الرئيسي في الفيلم. أمّا دور ليلى فقامت بأدائه الممثّلة سلوى نقارة وحصلت على جائزة “ممثّلة العام” لمسرح اسرائيل عام 1985.

من دار المعلمين في القدس إلى الكلية العربية: محطة في التربية والتعليم

رغبات السكاكيني اصطدمت بأجندة السلطات الانتدابية ما جعله يستقيل ويخلي المنصب للمؤرخ خليل طوطح، وهو ما أدى إلى نشوب خلاف بينهما حول ذلك ولكن طوطح نفسه استقال بسبب ضغط الطلبة

الأستاذ محمد عبد السلام البرغوثي أثناء درس الهندسة. مجلة هنا القدس، 6 كانون الأول 1942

شفي بدايات عام 1920 تأسست أولى المجلات الفلسطينية المميزة تحت عنوان مجلة “دار المعلمين” والتي كانت كجزء من نشاطات دار المعلمين، وهي الكلية التي تأسست برعاية الانتداب لإعداد معلمين ذوي كفاءة يكونون قادرين على النهوض بالمجتمع الفلسطيني بحيث كانت عبارة عن مدرسة ثانوية وفي نفس الوقت كلية للمعلمين. هذا التوجه النهضوي هو الذي قاده وسعى إليه المربي الفلسطيني الكبير خليل السكاكيني، والذي وضع نصب عينيه بناء مستقبل أفضل للفلسطينيين، ولذلك فقد استقطب نخبة المثقفين الفلسطينيين والعرب، وأنشأ مجلة تربوية توعوية وحاول تطبيق أفكاره التربوية عبرها وعبر دار المعلمين.

مجلة دار المعلمين في القدس، عدد كانون الثاني 1922
مجلة دار المعلمين في القدس، عدد كانون الثاني 1922

لكن رغبات السكاكيني اصطدمت بأجندة السلطات الانتدابية التي كانت تسعى لتمرير سياسات، خاصة حالت دون تطبيق أفكاره ما جعله يستقيل ويخلي المنصب للمؤرخ خليل طوطح، وهو ما أدى إلى نشوب خلاف بينهما حول ذلك، حيث لم يرق للسكاكيني أن يقبل طوطح بهذا المنصب لكن طوطح نفسه سيضطر للاستقالة بعدها بثلاث سنوات فقط بسبب ضغط الطلبة، ففي آذار من عام 1925 زار اللورد بلفور القدس مما حذا بطلبة دار المعلمين إلى الاضراب رافضين الدوام، كما أرسلوا إلى أساتذتهم يحثونهم على الاضراب، الأمر الذي حذا بالسلطات إلى فصل المعلمين والأساتذة الذين شاركوا في الاضراب، فجلّ الطلاب والمعلمين المفصولين جام غضبهم على مدير المدرسة خليل طوطح الذي لم ينصارهم مما حول الأمر إلى قضية رأي عام اضطر على إثرها إلى الاستقالة.

 

جريدة مرآة الشرق. 29 آذار 1925. لقراءة الخبر كاملاً:
جريدة مرآة الشرق. 29 آذار 1925. لقراءة الخبر كاملاً

 

أحمد سامح الخالدي: إدارة جديدة، اسم جديد ومبنى جديد

كان أحد سامح الخالدي (1896-1951) أحد أشهر المربين الفلسطينيين في عشرينيات القرن الماضي، وكان حينها مفتشاً عاماً للمعارف وكان يحمل ماجستيرًا تربية. مع وصوله لمنصب مدير دار المعلمين كان أول ما فعله هو تغيير الاسم من دار المعلمين إلى “الكلية العربية” وذلك عام 1926 وهكذا توقفت مجلة “دار المعلمين” عن الصدور تحت هذا العنوان لتصدر بعدها تحت اسم “الكلية العربية”.

الأستاذ أحمد سامح الخالدي، مدير الكلية العربية. مجلة هنا القدس، 6 كانون الأول 1942
الأستاذ أحمد سامح الخالدي، مدير الكلية العربية. مجلة هنا القدس، 6 كانون الأول 1942

ستقفز الكلية في عهد الخالدي قفزات نوعية، ستستقطب مزيداً من النخب الفلسطينية، كما سيقوم الخالدي بالاستفادة من خبرات من سبقوه كالسكاكيني وكوع عبر المؤتمرات والنقاشات التربوية المميزة التي دعا إليها والتي وثقتها المجلة، كما ستفتح المجلة أبوابها لنقاش فكري تربوي عميق ولافت حول أساليب التربية والأنظمة التعليمية والفوارق بين الواقع التعليمي في فلسطين الانتدابية وفي دول وعواصم أخرى حول العالم.

من أعداد مجلة "الكلية العربية" بحلتها الجديدة، شباط 1938. لقراءة أعداد المجلة
 من أعداد مجلة “الكلية العربية” بحلتها الجديدة، شباط 1938. لقراءة أعداد المجلة

من بين أساتذة الكلية سيكون اسحاق موسى الحسيني، سليم كاتول، مصطفى مراد الدباغ، معروف الرصافي، نقولا زيادة، وصفي عنبتاوي وغيرهم. كما سيكون من التلاميذ المميزين: الروائي جبرا إبراهيم جبرا، المؤرخ عبد اللطيف الطيباوي، المؤرخ عرفان قعوار- شهيد، المؤرخ ناصر الدين الأسد وغيرهم.

 

 

الأستاذ الحاج مير أستاذ التاريخ في مكتبة الكلية العربية. مجلة هنا القدس، 6 كانون الاول 1942. لقراءة العدد
الأستاذ الحاج مير أستاذ التاريخ في مكتبة الكلية العربية. مجلة هنا القدس، 6 كانون الاول 1942.

 

عام 1936 سينتقل مبنى الكلية من شارع السلطان سليمان حيث سيصير المبنى القديم مبنىً لمدرسة الرشيدية، في حين ستنتقل الكلية إلى جبل المكبر، لتكمل من هناك رسالتها. تمدنا مجلة هنا القدس بمعلومات وصور جميلة ومميزة حول هذه تاريخ الكلية وصور لنخبة أستاذتها مثل: سليم كاتول واسحق موسى الحسيني وغيرهم.

 

الأستاذ سليم كاتول في المختبر مع صف الكيمياء. مجلة هنا القدس، 6 كانون الأول 1942. لقراءة العدد
الأستاذ سليم كاتول في المختبر مع صف الكيمياء. مجلة هنا القدس، 6 كانون الأول 1942. لقراءة العدد

 

مع نهاية الأربعينيات كان في الكلية العديد من المختبرات العلمية، الورشات البحثية، مكتبة يزيد عدد كتبها عن 5000 كتاب من أمهات كتب العلوم في مختلف اللغات، حدائق عامة، بساتين وملاعب، والعديد من المرافق التعليمية الحيوية لتكون في هذه المرحلة في ذروة عطائها، ولا يزال حتى اليوم أثر ذلك في الكثير من النخب الفلسطينية والعربية سواء تعلموا بشكل مباشر في الكلية أو تعلموا على يد خريجيها وهو ما يشير إلى أثرها حتى اليوم في المجتمع والثقافة الفلسطينيين.

صورة المقال الرئيسية تعود للأستاذ محمد عبد السلام البرغوثي أثناء درس الهندسة.مجلة هنا القدس، 6 كانون الأول 1942، لقراءة كامل العدد.

رحلة مدرسة روضة المعارف: أكثر من أربعين عاماً في نشر المعرفة

الشيخ محمد الصالح وتأسيس مدرسة وطنية (عام 1906) خطوة ملفتة ترتكز على اللغة العربية كمادة للتدريس، وتبث التوّجهات الوطنية في قلوب الطلبة المنتسبين إليها، إليكم مدرسة روضة المعارف

مع ازدياد حالات التتريك التي شهدتها البلاد في نهاية الحقبة العثمانية، اتخذ الشيخ محمد الصالح خطوة ملفتة؛ حيث ذهب إلى تأسيس مدرسة وطنية (عام 1906) ترتكز على اللغة العربية كمادة للتدريس، وتبث التوّجهات الوطنية في قلوب الطلبة المنتسبين إليها. بدت الخطوة متواضعة وبمساعدة مجموعة من زملاء الشيخ منهم: الشيخ حسن أبو السعود، إسحق درويش، عبد اللطيف الحسيني، والتي اعتبرت خطوة جريئة ومميزة في فترة مضطربة من تاريخ فلسطين العثماني.

الشيخ محمد الصالح والأستاذ عبد اللطيف الحسيني، مجلة روضة المعارف. العدد الأول، كانون الثاني 1932
الشيخ محمد الصالح والأستاذ عبد اللطيف الحسيني، مجلة روضة المعارف. العدد الأول، كانون الثاني 1932

 

الشيخ محمد الصالح والأستاذ عبد اللطيف الحسيني، مجلة روضة المعارف. العدد الأول، كانون الثاني 1932
الشيخ محمد الصالح والأستاذ عبد اللطيف الحسيني، مجلة روضة المعارف. العدد الأول، كانون الثاني 1932

ولى في طريق الآلام بحسب المعتقد المسيحي، وبدأت ببث الحسّ العروبي لدى الطلبة، حيث كانت تعلّم باللغة العربية وإلى جوارها اللغتين التركية والفرنسية. كما تم إنشاء قسم للتعليم الليلي لاستغلال الوقت في تدريس الوقت حيث درس في المدرسة حوالي 360 تلميذاً، كما تذكر مجلة المنادي في 16 تموز 1912. لكن الواقع لن يستمر؛ فمع اندلاع الحرب العالمية الأولى ستسقط الدولة العثمانية وتنسحب من القدس، وستفرض بريطانيا نظاماً جديداً يتبدل فيه الشعور الفلسطيني بالخطر، فإذا كان في الفترة العثمانية الخوف على اللغة العربية، فهذه المرة الخوف هو على المكان نفسه؛ جراء الصراع بين الفلسطينيين وبين الحركة الصهيونية.

مع تأسيس المجلس الإسلامي الأعلى، باتت المدرسة إحدى المشروعات المهمة التي يمولها، وبالتالي توّفر الاستقرار المادي من المجلس ساهم في انطلاقة وتطور نشاطات المدرسة فأصدرت بدءًا من تلك الفترة مجلة مميزة.

مجلة روضة المعارف، العدد الثالث والرابع، سنة 1922
مجلة روضة المعارف، العدد الثالث والرابع، سنة 1922

 

روضة المعارف التي سرعان ما تحوّلت إلى كلية، استطاعت استقطاب نخبة من المثقفين الفلسطينيين، فأنشأت اللجنة العلمية لتطوير موضوعات العلوم والبحث والكتابة فيها، كما طوّرت لجان أخرى في مختلف المجالات كاللجان الرياضية، لجنة الكشافة، لجنة اللغة الانجليزية، اللجان الصناعية، لكن الكلية لم تستقطب المثقفين فقط لأغراض التدريس، بل استعانت بهم لتتحول إلى مساحة فنية وثقافية حيث شهدت عشرات النشاطات السياسية، الثقافية والفنية المميزة.

جريدة الجامعة العربية، 15 تموز 1929. لقراءة أخبار عن روضة المعارف الصحف الفلسطينية
جريدة الجامعة العربية، 15 تموز 1929. لقراءة أخبار عن روضة المعارف الصحف الفلسطينية

في عام 1938 أخلت القوات البريطانية المبنى وسيطرت عليه من أجل استخدامه كنقطة شرطية للسيطرة على الحالة الأمنية داخل المدينة في ظل اشتداد الثورة الفلسطينية، وهو ما اضطر الكلية إلى ترك مبناها التاريخي والذي عملت فيه لأكثر من ثلاثين عام والبحث عن مكان بديل.

اللجنة العلمية، مجلة روضة المعارف. العدد الثاني، آذار 1932
اللجنة العلمية، مجلة روضة المعارف. العدد الثاني، آذار 1932

 

كان المكان البديل الذي استأجرته الكلية هو في باب الساهرة، والذي ظلت فيه أكثر من عشر سنوات حتى أعلنت الحكومة عن نيتها ترك المبنى وإعادته إلى ملكية روضة المعارف.

 

جريدة فلسطين، 13 آب 1947
جريدة فلسطين، 13 آب 1947

 

ستكون العودة إلى المبنى القديم عودة مؤقتة، ستندلع المعارك في عام 1948، وسينتهي الانتداب البريطاني عن البلاد، وستخضع القدس الشرقية للسيطرة الأردنية.

فمع اندلاع المعارك سنة 1948 ستقفل المدرسة أبوابها، ولن تعاود الافتتاح، ومع انتهاء مرحلة الانتداب وإعلان السلطات الأردنية ضمها لمنطقة القدس الشرقية ستكون روضة المعارف شيئاً من الماضي، وفي مبناها التاريخي ستنطلق مدرسة جديدة في مسيرتها هي المدرسة العمرية والتي ستعمل في نفس المبنى، لكنها ستتوقف أيضاً عن العمل عام 1967، لتظل مدرسة روضة المعارف كالمدرسة العمرية كالمدرسة الجاولية وغيرها من المدارس التي عملت في نفس المبنى، مادة تاريخية ومساحات ساهمت في تعليم وتثقيف الفلسطينيين على مدار سنين طويلة من التاريخ.

 

 

الكتابة حول بيت المقدس من باعث النفوس إلى الأنس الجليل

شكلت مدينة القدس مركزاً لأدب الفضائل وحازت على مساحة كبيرة ضمن الكتب المنشورة حولها، ومن هذه الكتب كتاب باعث النفوس في زيارة القدس المحروس.

باعث النفوس في زيارة القدس المحروس

في مطلع القرن الرابع عشر، نشر الفقيه أبو اسحق إبراهيم بن عبد الرحمن ابن الفركاح الفرازي (1262-1329) كتابه الذي ترون تحت عنوان “باعث النفوس في زيارة القدس المحروس” والذي يعدّ أحد الكتب المهمة حول القدس ومكانتها في الفكر التراث الإسلامي، وهو من الكتب التي سعت إلى حثّ المسلمين على زيارة ولذلك حمل عنوان “باعث النفوس”، فالهدف أن يبعث في نفس القارئ رغبة الزيارة.

جاء هذا النوع من الكتابة مرافقاً ومواكباً للحملات الصليبية واحتلالها للمدن الإسلامية، فنشأ هذا النوع الأدبي تحت عنوان “أدب فضائل القدس”. وأدب الفضائل هو الأدب الذي يركز على فضائل المدينة المقدسة، والذي يهتم بإدراج الأحاديث النبوية والقيمة المميزة للمدينة كما ورد في الفقه الإسلامي، كما يهتم أدب الفضائل بتفصيل قدسية الأماكن والمواقع، بما فيها المساجد والمواقع والمقامات والمزارات، كما يهتم بالحثّ على زيارة المدينة وعلى مقدار الخير في ذلك وفي فضل وقيمة كل خير يتم فيها. وبالتالي فالهدف العام لأدب الفضائل كما يتجلى هو تعزيز العلاقة بين المسلمين وبين القدس لاجل التواجد فيها وحمايتها.

شكلت مدينة القدس مركزاً لأدب الفضائل وستكون هناك مدنٌ أخرى ستحظى بذلك أيضاً كمكة والمدينة والخليل وغيرهم، ولكن الكتب حول القدس كانت أكثر عدداً وأكثر زخماً على خلاف المدن الأخرى، ربما لمكانة القدس ولكونها أيضاً محطّ أمل الصليبيين ومركزاً للصراع بينهم وبين المسلمين؛ حيثُ دارت الحروب حولها لأكثر من ثلاثة قرون ورضخت المدينة خلالها لسيطرة الحكم الصليبي لمدة سبعة عقود، وبالتالي تطوّرت خلال هذه السنين أدبيات مميزة وملفتة أنتجها كبار علماء المسلمين مثل ابن عساكر (1106-1176) في كتابه “المستقصى في فضائل المسجد الأقصى” أو كتاب أمين الدين بن هبة الله الشافعي “كتاب الأنس في فضائل القدس” وابن الجوزي (1116-1201) “فضائل القدس”.

هدفت هذه المؤلفات إلى تثبيت مركزية القدس في الوعي الإسلامي وإلى خلق إجماع إسلامي حول أهميتها وتعزيز العلاقة بين المسلمين وبين المدينة، في مسعى لتوطيد العلاقة وحثهم على الدفاع عنها وحمايتها، وهو ما حدث في حقبة القائد صلاح الدين الأيوبي وفي حقبة الظاهر بيبرس، وفي حقب مختلفة على مر التاريخ.

باعث النفوس في زيارة القدس المحروس
 باعث النفوس في زيارة القدس المحروس

موضوعات الكتاب كما وردت في المخطوطة

إنّ كمية الكتب والمؤلفات الذي كتبت في هذا الإطار، تعكس كم الجهد المبذول، سحرت هذه الكتب أجيالاً من المسلمين والعرب ليس للدفاع عن المدينة فحسب، بل إلى زيارتها والكتابة عنها وهو ما يُدرج اليوم تحت عنوان “أدب الرحلات” حيث كتب في هذا النوع الأدبي حول القدس الكثير من الرحالة المسلمين المهمين من بينهم المؤرخ ناصر خسرو (1004-1088)، الجغرافي الإدريسي (1100-1165)، الرحالة ابن جبير (1145-1217)، الشيخ الأكبر ابن عربي (1165-1240)، والرحالة ابن بطوطة (1304-1377)، والفقيه عبد الغني النابلسي (1641-1731) وغيرهم.

سيكون أضخم عمل كتب في هذا الباب هو مؤلف قاضي القضاة عبد الرحمن بن محمد العليمي المقدسي والذي عاش في أواسط القرن الخامس عشر (ولد غلم 860 هجري، 1455 ميلادي) وقد لخّص تقريباً كل ما كتب عن القدس خلال مئات السنين، من كتابات الرحّالة والمؤرخين وحتى كتابات العلماء والفقهاء، حيث لخّص كل ذلك في عمله الموسوعي “الأنس الجليل، في تاريخ القدس والخليل” واعتبر، لسنين طويلة، خلاصة ما كتب في تاريخ القدس على مر التاريخ قاطبة.

مخطوطة الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل
مخطوطة الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل

يقول العليمي في مطلع كتابه: “فإن بعض العلماء كتب شيئاً يتعلق بالفضاء فقط، وبعضهم تعرّض لذكر الفتح العمري وعمارة بني أمية، وبعضهم ذكر الفتح الصلاحي، واقتصر عليه ولم يذكر ما وقع بعده، وبعضهم كتب تاريخاً تعرض فيه لذكر بعض جماعة من أعيان بيت المقدس مما ليس فيه فائدة كبيرة، فأحببت أن أجمع بين ذكر البناء والفضائل والفتوحات وتراجم الأعيان، وذكر بعض الحوادث المشهورة ليكون تاريخاً كاملاً والله سبحانه وتعال المسؤول، وهو المأمول أن يمنّ عليّ بتيسير إتمام”

مخطوطة الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل
مخطوطة الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل

 

منّ الله على العليمي والمعروف باسم مجير الدين الحنبلي بإتمام كتابه والذي ظهر إلى النور حوالي عام 900 هجري (1495 ميلادي) بأكثر من 1000 صفحة تقريباً من القطع المتوسط ليكون بذلك من أحد الأعمال الجامعة والضخمة حول القدس والخليل، والذي يظل حتى اليوم شاهداً على تطوّر أدب الفضائل وعلى التطورات التي شهدها حقل الكتابة في فضائل بيت المقدس والتي من الصعب دراستها دون العودة إلى الكتابين: باعث النفوس في زيارة القدس المحروس، والأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل.