عندما أطلق عيسى العيسى وشريكه يوسف العيسى أول عدد من جريدة فلسطين في يافا عام 1911، لم تكن الصحافة بعد مهنة مستقرة، ولا حتى مضمون ٌبقاؤها، خاصة حين تكتب ما لا تريد السلطة أن يُقرأ. لكن الجريدة، التي بدأت كمنشور أسبوعي بأربع صفحات، سرعان ما أصبحت واحدة من أقوى الأصوات التي عرفها المشهد العربي في المنطقة.

ولم يكن صعود صحيفة فلسطين سهلًا، بل كان مليئًا بالتوقيفات، الرقابة، المنع، والنفي. أكثر من عشرين مرة أُغلقت الجريدة، بين العهد العثماني والانتداب البريطاني، ومع كل مرة تعود. وكأنها كانت تعرف أن دورها أكبر من ورق الحبر، وأن الخضوع للإسكات، حتى مؤقتًا، هو نوع من الانتحار الثقافي.

للصحيفة باع وتاريخ طويل من التعرض للملاحقة والإغلاق، حيث إنه، في تشرين الثاني 1913، أغلقت السلطات العثمانية الجريدة لأول مرة بعد افتتاحية انتقدت فيها إدارة المتصرفية. ثم جاء الإيقاف الثاني في 1914، عندما دعت الجريدة تركيا للحياد مع اندلاع الحرب العالمية الأولى. لم تكتف السلطة حينها بالإغلاق فقط، بل نُفي عيسى ويوسف إلى الأناضول، ولم تُستأنف الجريدة إلا بعد سبع سنوات، مع عودة عيسى من دمشق بعد انهيار المملكة الفيصلية.
محاكمة النّقد
أما الصراع الأعمق، فقد جاء مع سلطات الانتداب البريطاني. اذ لم تكن السلطة العسكرية تتحمل مقالات الجريدة الواضحة في انتقادها للسياسة البريطانية ودورها خاصة فيما يتعلق بالسياسة تجاه العرب في البلاد. في أحد أعدادها التي “بالغت” الصحيفة في ردها، كتبت الصحيفة أن “الصهيونية تنظيم سياسي يسعى لاحتكار الأرض”، فتم إيقافها. وعندما عادت، كتبت افتتاحية تؤكد وتصر على ما نشرت سابقًا: “ما زال الصهاينة يعتبرون هذه الجريدة حجر عثرة في طريقهم”، وهكذا استمرت العلاقة بين الجريدة والرقابة: شدّ وجذب، مصادرة ورد.

ّ
في واحدة من أبرز الحوادث، وقفت الجريدة أمام المحكمة العثمانية بعد اتهامها بـ”زرع الفتنة”، فأصر عيسى العيسى أن المشكلة ليست في الكلمة بل في مَن لا يتحمّلها. شهد يوسف لصالح ابن عمّه، وامتلأت قاعة المحكمة بالمؤيدين، وانتهت الجلسة بحكم لصالح الجريدة. عند خروجهم، هتف الناس وحملوا المحررين على الأكتاف، بينما خرج الشق الآخر بوجوه غاضبة.
في ربيع عام 1936، بعد تصاعد التوترات إثر مقتل عدد من العرب في حوادث متفرقة، وبدء الإضراب العام الذي استمر لستة أشهر، لم تنتظر صحيفة”فلسطين” لحظة الإعلان الرسمي عن بدء الثورة لتبدأ بتوثيق الأحداث وتسميتها بالثورة حتى قبل أن يُطلق عليها هذا الاسم. كانت الجريدة تنشر عن الاضطرابات في يافا والقدس، وعن اعتداءات متفرقة على العرب، وممارسات يومية من التضييق والتخنيق الممنهج على حياتهم اليومية من قبل سلطات الانتداب البريطاني، سواء في الأرض أو اماكن العمل. سجلت صفحاتها تصاعد العنف، ونقلت رسائل المدن، وشهادات الأهالي، وكأنها تدق ناقوس الخطر قبل أن يلتفت إليه أحد.