ما بين الرمال والسماء، يقف صف من العمال بجوار السكك الحديدية التي تم وضعها كخطين متوازيين يخترقان السهول والجبال والصحاري؛ على جسور معلقة وأنفاق شكلت حتى يومنا هذا تحفة معمارية شاهدة على الجهد الذي تم بذله في سبيل تحقيق هذا المشروع الضخم، مشروع امتد لسنوات طوال حتى اكتمل وربط شعوبًا ومناطق ببعضها البعض. لكن، من هنا يُطرح التساؤل:
لماذا بذلت الأمبروطورية العثمانية كل هذا الجهد، هل كان ذلك من أجل اللحمة الوطنية بين الشعوب العثمانية المختلفة أم كنوع من بسط السيادة على أطراف الأمبروطورية الشاسعة؟
تُظهر إحدى الصور بالأبيض والأسود القاطرات وهي تعبر جسرًا منخفضًا مقوسًا في وسط الصحراء. هذه الصور الغامضة هي جزء من ألبوم فريد من نوعه موجود في أرشيفات المكتبة الوطنية الإسرائيلية. يحتوي الألبوم على ثمانية وستين صورة فوتوغرافية التقطت في عام 1904 من قبل كارل لورينز أولير لسكة حديد الحجاز الشهيرة. والتي تمتد بين دمشق ومنطقة الحجاز في شبه الجزيرة العربية، خاصة لمكة المكرمة والمدينة المنورة، ومع خط فرعي يصل مدينة حيفا.
لقد تم بناء السكة الحديدية من قبل الإمبراطورية العثمانية بين عامي 1900 و 1908 لربط هذه المناطق النائية من عالمها. وتشكل صور”أولير” دليلًا مهمًا على مجريات البناء في المشروع.
ولكن ما الذي كان يقوم به أولير، الجنرال العسكري البروسي المخضرم، في فحص خط سكة حديد الحجاز للسلطان العثماني؟ وكيف وصل الألبوم إلى المكتبة الوطنية الإسرائيلية؟
يعتبر الحج رحلة روحية وسامية يلتزم بها كل مسلم، قادر من ناحية الجسد والإمكانية المادية، لأداءها مرة واحدة على الأقل خلال حياته. عندما قام النبي محمد (عليه الصلاة والسلام) بفريضة الحج للمرة الأولى والوحيدة، قبيل وفاته، سافر بالقافلة وسار عبر الصحراء من العاصمة الإسلامية الأولى في المدينة المنورة، على بعد أكثر من 400 كيلومتر. ولكن مع توسع الإمبراطورية الإسلامية بسرعة خلال القرن الهجري الأول، أصبحت مثل هذه الرحلات أطول وأكثر خطورة. آنذاك، كان المرض والإرهاق شائعين وكان قطّاع الطرق يهاجمون بانتظام الحجاج لكونهم يشقون طريقهم عبر الصحراء وصولًا للأراضي الحجازية.
اقرأ/ي أيضًا: كعبة القلب: الحج في التصوّف الإسلامي
من أجل تقليل هذه المخاطر ، انضم معظم الحجاج خلال الفترات الإسلامية الوسيطة والمتأخرة إلى قوافل الجمال المنظمة والتي سافرت على طرق تم تحديدها مسبقًا. كانت القوافل تنطلق من مدينة الكوفة جنوب العراق، من القاهرة ومن دمشق (كانت تعتبر من أهم القوافل). أدى إدخال الباخرة في منتصف القرن التاسع عشر إلى تخفيف قسوة رحلة الحج، خاصة بالنسبة للحجاج القادمين من الهند، التي كانت ترزح تحت الحكم الاستعماري البريطاني. لكن هذا التطور في وسائل النقل ساهم بشكل مباشر في ظهور جائحة عالمية وهي الكوليرا، إذ تم نقل الكوليرا، الموجودة في الهند، إلى مكة المكرمة من قبل الحجاج عام 1863، ومن هناك انتشر إلى جميع أنحاء العالم. وهذا أدى إلى نشوء في حالة من القلق، مما حدا بالقوى الاستعمارية الأوروبية إلى فرض أنظمة الحجر الصحي الصارمة على أولئك الذين يصلون من مكة ومحيطها.
الدولة العثمانية وتصديها للأطماع الأجنبية
كان تجاوز إجراءات الحجر الصحي ومواجهة الاستعمار الأوروبي قد شكل دافعًا رئيسيًا وراء بناء سكة حديد الحجازـ إذ أنه في العقود التي سبقت إعلان السلطان عبد الحميد الثاني عن بناء سكة حديد الحجاز، في الأول من أيار 1900، فقد العثمانيون أراضيهم الواسعة تقريبًا في جنوب أوروبا. فكانت المصالح الفرنسية والبريطانية والروسية تتنافس لتفتيت الإمبراطورية أكثر فأكثر، ولم تكن الدولة العثمانية تستطيع المجابهة سياسيًا أو حتى اقتصاديًا، فهي كانت مدينة بشكل كبير للممولين الأوروبيين، واضطرت إلى الاعتماد على الدائنين الأوروبيين لتمويل البنية التحتية وجهود التحديث والتطوير، بما في ذلك بناء خطوط سكك حديدية أخرى لربط الإمبراطورية الشاسعة.
السكة الحجازية؛ صورة لانعكاس استقلالية السلطان عبد الحميد الثاني أم وسيلة لتثبيت حكمه؟
لقد كانت سكة حديد الحجاز مختلفة عن الخطوط الأخرى، حيث أن الخط لم يكن له فائدة اقتصادية تذكر – بل كان يعمل بشكل منتظم فقط خلال موسم الحج – إلا أن له العديد من الأهداف السياسية والدينية. فقد تم تمويل المشروع بالكامل من قبل المسلمين، وتم جمع التبرعات من أجل “الخط المقدس” في جميع أنحاء العالم. هذه الحقيقة التي تم نشرها على نطاق واسع، بالإضافة إلى مشروع الإنشاء نفسه، قد صقلت قوة عبد الحميد الثاني وصورته الإسلامية كحاكم مسلم مستقل وحيد يواجه المصالح الأوروبية. ولا ننسى قدرة السكة الحجازية على تخفيف قسوة ظروف الحج نفسه، كذلك سيضمن الخط أيضًا أن الجيش العثماني يمكنه نشر القوات والإمدادات بسرعة لحماية الشحن في البحر الأحمر والدفاع ضد التوسع الاستعماري والتحركات نحو التمرد من قبل الزعماء المحليين، خاصة في مكة.
لقد كان للمهندسين والمستشارين الألمان دورًا حاسمًا في تخطيط وبناء السكك الحديدية. وكان يعكس هذا الدور العلاقة المتينة بين العثمانيين والألمان والتي استمرت لعقود من التعاون العسكري والاقتصادي؛ ولعدة أسباب، رأى عبد الحميد ألمانيا كشريك أوروبي مفضل للإمبراطورية.
في هذا السياق، أصبح كارل أولير مرتبطًا بالمشروع. ولد أولير عام 1854، وكان قد خدم جنرالًا للمشاة ببروسيا ومن ثم أصبح (مثل العديد من الضباط الآخرين) مستشارًا عسكريًا للعثمانيين بين عامي 1901 و 1908. تم تعيينه في رتبة لواء من قبل عبد الحميد، وأصبح معروفًا بلقب “أولير باشا”. عام 1904 تم إرساله لتفقد التقدم الذي تم تحقيقه في مشروع السكك الحديدية، ودراسة الجغرافيا المحلية والإثنوغرافيا.
ركز أولير على خطين من السكك الحديدية: الخط بين دمشق ومعان في جنوب الأردن، بما في ذلك خط الفرع إلى حيفا، ومن معان إلى العلا في شبه الجزيرة العربية (تقع محافظة العلا على بعد 300 كيلومتر شمال المدينة المنورة). تعد التقارير التي كتبها أولير من بين أهم المصادر الأولية حول سكة حديد الحجاز، والتي تمتاز بدقتها وشمولها لأدق التفاصيل كتضاريس الطريق، النباتات والحيوانات، بما في ذلك النمل الأبيض الذين ينخر في العوارض الخشبية لسكة الحديد؛ كذلك شمول التفاصيل حول التحديات في توفير ما يكفي من الماء والوقود؛ وردود الفعل (ربما النمطية) للسكان المحليين على بناء السكك الحديدية (ترجمة بيتر كريستيانسن):
“ستظل الحيوية التي عبروا عن فرحتهم بها لا تُنسى. كما كرر الرجال باستمرار التحية في جوقة بالإجماع، “فلينتصر السلطان ثلاث مرات!”
تقارير أولير، التي نُشرت في أعوام 1906 و 1908 في المجلة المؤثرة “Petermanns Geographische Mitteilungen” تم توضيحها بصور التقطها هو بنفسه على طول الطريق. يبدو أن الألبوم في مجموعة المكتبة الوطنية يحتوي على المطبوعات الإضافية من تلك الرحلة التي اعتبرها، لسبب من الأسباب، غير مناسبة للنشر. بينما تتداخل مواضيع مجموعتي الصور إلى حد كبير ، يتضمن الألبوم المزيد من الصور الشخصية – للبدو والسكان المحليين والعمال والمسؤولين وغيرهم – مما يوفر لمحات رائعة للأفراد والحياة اليومية.
كيف وصلت الصور إلى المكتبة الوطنية الإسرائيلية ؟
في حين أننا لا نعلم ماذا فعل أولير بالصور بعد عودته إلى ألمانيا عام 1908، لكن من المعلوم بأنه خدم في الحرب العالمية الأولى ثم تقاعد في مدينة أولم، بينما- بطريقة ما- شقت مجموعة الصور طريقها نحو طريقهم إلى إلياكيم غوتهولد ويل (1882-1960)، الذي كان ألمانيًا يهوديًا باحثًا في الإسلام، خاصة في الثقافة التركية والعربية، ومدير سابق للمكتبة الوطنية في إسرائيل. درس ويل في برلين وفرانكفورت قبل الهجرة إلى فلسطين عام 1934، وعلى الرغم من عدم ذكر أوريل في أرشيف ويل الشخصي، الموجود الآن في المكتبة، لكنه من الممكن أن يكون هذا الألبوم الفريد من نوعه قد تم تقديمه من أولير لويل كهدية شخصية والذي بعد ذلك تبرع بها لمجموعة المكتبة عام 1936.
يمكنكم استعراض بقية الصور من ألبوم الصور التاريخي هنا.
يعد هذا المقال جزءًا من مشروع مكتوب للمخطوطات الإسلامية الرقمية في المكتبة الوطنية الإسرائيلية، بدعم من صندوق أركاديا، سيوفر مكتوب وصولًا مجانيًا وعالميًا لأكثر من 2500 مخطوطة وكتب عربية وفارسية وتركية نادرة محفوظة في المكتبة، كذلك القصص الكامنة وراء إنشائها.