أسّس فيلم عرس الجليل لمخرجه ميشيل خليفي (مواليد الناصرة – 1950) مرحلةً إبداعيّةً جديدةً بالسينما الفلسطينيّة، حيث عرض بكلّ جرأةٍ، وبلغةٍ شاعريّةٍ تبتعد عن الخطابة السياسيّة المباشرة، وبأساليب متنوّعةٍ تمزج ببراعةٍ بين الواقعيّ والوثائقيّ والخياليّ والرمزيّ، تفاصيل الحياة اليوميّة في البلاد بحلوها ومرّها دون تجميل، وجدليّة العلاقة بالحكم العسكريّ الذي تفرضه السياسة، وبالسلطة الأبويّة الذكوريّة المسلّطة من المجتمع. ويتمّ ذلك عن طريق سرد طقوس وتقاليد عرسٍ جليليّ يقيمه المختار لابنه في قريةٍ غير مسمّاةٍ، حيث يتمّ العرس بعد موافقة الحاكم العسكريّ الذي يشترط حضوره. وقد فاز الفيلم بجائزة النقّاد في مهرجان كان عام 1987، وتناولته العديد من الدراسات والكتب والمقالات عربيَّا وعالميًّا، وسنلقي نظرةً على عيّنةٍ من المقالات الصحفيّة حوله محلّيَّا.
في الذاكرة؛ السينمائي الأول في فلسطين
أوّل تغطية تتعلّق بالفيلم كانت في مجلة الجديد في عددها الصادر في كانون الثاني عام 1987، وفيها يقدّم زياد فاهوم، أحد مساعدي خليفي في إخراج الفيلم، حوارًا معه بعد الانتهاء من التصوير وقبل مرحلة المونتاج، يسبقه بعض التوضيحات المتعلّقة بظروف إنتاج الفيلم، فنعلم أنّ السيناريو فاز بالمرتبة الخامسة لأفضل سيناريو في فرنسا، وتلقّى الدعم المالي (600 ألف دولار) من وزارتَي الثقافة البلجيكية والفرنسيّة والتلفزيون الألماني، وكان أقلّ من المطلوب وهو مليون دولار، ما جرّ الفيلم إلى ديون كثيرة. يتحدّث فاهوم أيضًا عن قضيّةٍ مثيرةٍ للاهتمام تتعلّق بالاختلاف أثناء التصوير بين الفريق التقنيّ الأوروبيّ، والفريق العربيّ المساعد، حيث كان الأوّل أكثر مهنيّةً وخبرةً مقارنةً بالثاني، لكنّ الفريق المحلّيّ كان يفوق الأوروبيّ بحماسته للقضيّة الفلسطينيّة المعبّر عنها بالفيلم، فنشأت عن ذلك توتّرات وصراعات أدار خيوطها وإيقاعها بنجاحٍ ميشيل خليفي، وأشبهت هذه التناقضات أخرى كانت بين الممثّلين المحترفين العاملين في المسرح والسينما في البلاد، وبين غير الممثّلين الذين شاركوا بأدوار رئيسيّة بالفيلم. ورغم السلاسة والسهولة التي يستشعرها المشاهد، إلّا أن فاهوم يؤكّد أنّ تجربة التصوير كانت قاسية وعسيرة، وربّما تكمن هنا موهبة الفنّان، ألّا يشعر المشاهد بصعوبة عمله. وفي الحوار مع خليفي، ندرك أنّه حاول أن يحصّل تمويلًا عربيًّا لفيلمه دون نجاح، لذلك لجأ للتمويل الأوروبيّ. يبرّر المخرج اختياره لممثّلين غير محترفين بكونه يلغي المسافة بين السينما والواقع، لكنّه يؤكّد أنّ نقص تجربتهم أدّى إلى تأخيرٍ ومشاكل ناجمةٍ عن عدم الالتزام. كذلك، يوضّح مشاكل إنتاج سينما جادّة في العالم العربيّ، سواءً من حيث تجاوب الناس أو الصراعات مع المجتمع، أو الحصول على تمويلٍ كبيرٍ يصنع سينما وفق متطلبات السوق الذي يستورد أفلامًا استهلاكيّةً أمريكيّة. بعدها، يتحدّث عن العلاقة بين الكلمة والصورة، وعن الجمال، والممنوعات كتصوير جسد المرأة، وعن أهمّيّة السينما كممارسةٍ فلسفيّةٍ جماهيريّة.
غطّت جريدتَي الصنارة والاتحاد خبر فوز الفيلم بجائزة مهرجان كان وجائزة سان سباستيان عام 1987 بخبرين قصيرين، احتويا على وصفٍ عامٍ لقصّة الفيلم دون الخوض في تفاصيل نقديّة.

في مقالها بالاتحاد، تُرجِع الكاتبة فاطمة حسن نجاح الفيلم في توجّهه إلى المشاهد الأوروبيّ (الذي أقبل بحماسٍ عليه، بينما أثار الجدل لدى المشاهد العربيّ)، إلى هدوئه وشفافيّته “الناعسة” والحالمة، التي تلامس الزمن النفسي بعيدًا عن الصخب، وتقديمه الجماليّ للفولكلور الشعبيّ وطقوس العرس. تشير الكاتبة إلى جرأة المخرج في مواجهته للمحرّمات، سواءً العلاقات مع السلطة العسكريّة، أو علاقة المرأة مع جسدها ومجتمعها، أو علاقة الابن مع ضغوطات السلطة الأبويّة ليلة زفافه. وفي نهاية المقال، تعتبر أنّ الفيلم لا يصلح للعروض الجماهيريّة في البلدان العربيّة، لأنّ رموز الفيلم، وتأكيده على طقوس العرس الجسديّة، من العسير على “العربيّ البسيط أن يقبلها أو يهضمها، أو يفهمها أصلًا”.
أفلام رام الله: “السيدة من رام الله”، جولة في خيال حاييم حيفير
لكن، لم تكن جميع المقالات داعمةً للفيلم، حيث يهاجمه الكاتب شفيق حبيب في جريدة الصنارة بعدّة مقالات أثارت ردودًا عديدة. ففي مقاله عام 1988، نستشعر أنّ الفيلم أثار جدلًا كبيرًا لدى المشاهدين العرب، حيث يصفه الكاتب بألفاظٍ قاسيةٍ معتبرًا إياه “مدسوسًا”. يصف قصّة الفيلم بالضحالة وتدني المستوى وعدم صدقها، ذاكرًا أنّه لا يرغب في نقاشها. لكنّه، بعدها، يلخّص مهاجمته للفيلم في نقطتين رئيسيّتَين: الأولى تتقاطع مع ما قد تُعتبَر مشكلةً فنّيّة، وهي عدم الدقّة التاريخيّة، حيث إنّ الحكم العسكريّ انتهى على القرى العربيّة في البلاد منتصف الستّينيّات، بينما يُصوِّر الفيلم قريةً جليليّةً بالثمانينيّات واقعة تحته. وما يدلّ على حداثة الزمن أنّ القرية معبّدة وذات أعمدة كهربائيّة وسيارات فاخرة، وبأنّ صورة رئيس الدولة “الحالي” حاييم هرتسوغ تظهر خلف الحاكم العسكريّ، وبأنّ الحداء يغنّي أغنيةً عن كهانا وخراب بيروت. وتتعلّق الثانيّة بمشكلةٍ “أخلاقيّة” لا فنّيّة، تسبّبها المشاهد التي تناقش العلاقة بالجسد، كالتي تُظهِر ابنة المختار مرتديةً الجينز ومدخّنةً للحشيش، و”مستهترةً” أمام المرآة بكوفيّة والدها التي ترتديها، وكالتي تُصوِّر طقوس حمّام العريسَين، وليلة الزفاف. فيخلص الكاتب إلى أنّ الفيلم “مدسوس” لتشويه “قيمنا الفلسطينيّة”، ولا يصلح لدخول البيوت وتربية الأولاد، منتقدًا من شارك به من “القرويّات”.

بعد المقال السابق بأسبوع، نعثر على ردّين عليه في الصحيفة ذاتها. أحدهما قصير لم يشاهد صاحبه الفيلم، لكنّه يستغرب الرأي السابق، إذ إنّ خليفي، في رأيه، يعرف أهميّة الفيلم الفلسطينيّ التي توازي أهمّ “عملية عسكرية”. والثاني للكاتب طه أشقر، حيث يبيّن أن الموضوع الرئيسيّ للفيلم هو نقد العلاقات الاجتماعيّة غير السليمة بالمجتمع، كالعلاقات اللامتكافئة والمتسلّطة بين الكبار والصغار والذكور والإناث. يتطرّق الكاتب إلى المشاهد التي اعتبرها شفيق حبيب غير أخلاقيّة، فيعتبر، على سبيل المثال، أنّ مشهد الفتاة مرتديةً كوفيّة والدها يسخر من “رمز الأنانيّة الذكريّة والأبويّة في المجتمع”، ويعلّق على عددٍ من المشاهد المنتقدة أخلاقيًّا بأنّها تجسّد “عجز المجتمع الذكري”، في مقابل القوّة البناءة للنساء، وقدرتهنّ على حلّ المشكلات وجلب السلام. وفي النهاية يتمنّى أشقر، عكس حبيب، أن يُعرَض الفيلم بالبلاد ليتسنّى للجمهور العربيّ مشاهدته، وليتّسع الجدل حول مضامينه وبخاصّةٍ قضيّة المرأة.

على مدار السنوات التي تلت ظهور الفيلم، استمرّت المقالات والتغطيات الصحفيّة بالظهور بالجرائد العربيّة، سواءً كانت مؤيّدة أو منتقدة، أحدها حوارٌ مع مخرجه في الاتحاد إثر مشاركته في مهرجان الفيلم الفلسطينيّ في الناصرة عام 1992، الذي افتتح بعرس الجليل. وتستطيعون أن تعثروا على العديد منها بالبحث في أرشيفنا للصحف العربيّة “جرايد”. ومهما كان رأينا الشخصيّ بالفيلم، إلّا أنّنا نستطيع أن نلاحظ أنّه أثار جدلًا ونقاشًا، وهو ما يتفّق مع أهمّيّة السينما كما وضّحها ميشيل خليفي في حواره الذي تناولناه سابقًا، حيث قال: “للسينما تأثيرها. عندما يخرج فيلم إلى الشاشة ترى الكل يكتب ويتحدث عنه، فيصبح حدثًا خصوصًا في مجتمع كمجتمعنا – الأمر الذي يفرض طرحًا فكريًا وتحليلًا (…) الفيلم حدث تاريخي هام”.