يصور فرانز كافكا في رواية المحاكمة، عالمًا تسيطر فيه البيروقراطية على حياة الأفراد، حيث يصبح النظام الإداري قوة غامضة وقاهرة تحكم مصائر الناس دون تفسير أو منطق. يعاني جوزيف ك.، بطل الرواية، من اتهام غامض دون أن يُشرح له طبيعة التهمة أو كيفية الدفاع عن نفسه. طوال الرواية، يُجبر جوزيف ك. على التنقل بين مكاتب ومستويات من البيروقراطية لا يمكن الوصول إليها أو فهمها. كلما حاول جوزيف الاقتراب من حل مشكلته، وجد نفسه عالقًا في نظام يتلاعب به ويبعده أكثر عن الحقيقة. هذه المشاهد المأساوية والعبثية تعكس بشكل لافت التجربة الفلاحين مع نظام الطابو العثماني.
حين فرضت الدولة العثمانية نظام الطابو كجزء من إصلاحات التنظيمات، كان الهدف هو تقنين ملكية الأراضي لتعزيز المركزية وزيادة الإيرادات الضريبية. لكن بالنسبة للسكان المحليين، تحولت هذه الإصلاحات إلى تجربة مريرة، حيث واجهوا نظامًا لا يفسر قواعده ولا يمنحهم أي دعم لفهمه. في الرواية، عندما يُطلب من جوزيف ك. المثول أمام المحكمة، فإنه لا يعرف مكان المحكمة، ولا متى ستُعقد، ولا حتى كيف يمكنه الدفاع عن نفسه. بالمثل، كان المزارعون العثمانيون غالبًا لا يعرفون كيفية التعامل مع متطلبات الطابو. غياب التوعية وقلة الموارد تركت الكثير منهم عرضة لفقدان أراضيهم بسبب الأخطاء أو استغلال الوسطاء.
ورغم أن البعض اليوم ينظر إلى الحقبة العثمانية برومانسية، بوصفها فترة حكم إسلامي وشرقي جامع، إلا أن الحقيقة كانت أكثر تعقيدًا. حتى وإن كانت الدولة العثمانية جزءًا من إرث مشترك، فإن سياساتها لم تكن خالية من أدوات القمع، وكان الفلاحون العرب في البلاد في كثير من الأحيان يواجهونها كسلطة مركزية بعيدة أكثر من كونها حامية لهم أو لمصالحهم.
في مشهد من الرواية، يحاول جوزيف ك. التحدث مع أحد الموظفين لمعرفة طبيعة قضيته. يواجهه الموظف بغموض مبالغ فيه، مما يزيد من إحساسه بالعجز. هذا المشهد يذكرنا بما كان يعيشه المواطنيون العثمانيون عند محاولتهم تسجيل أراضيهم. المسؤولون العثمانيون غالبًا ما كانوا يفتقرون إلى الشفافية أو كانوا بعيدين عن الواقع المحلي، مما جعل العملية أكثر تعقيدًا وأبعد عن متناول الفلاحين. كثيرًا ما لجأ الفلاحون إلى وسطاء أو ملاك أثرياء لتسجيل الأراضي بأسمائهم، ليجدوا أنفسهم في النهاية فاقدين لحقهم الشرعي في الأرض.
الرواية تمتلئ أيضًا بمشاهد تدل على إحساس جوزيف ك. بالاغتراب عن مجتمعه وأسرته، حيث يبدأ في فقدان الثقة بمن حوله. هذا الشعور بالاغتراب يتماشى مع ما عاشه الفلاحون في ظل الإصلاحات العثمانية. بالنسبة لهم، لم يكن النظام البيروقراطي مجرد تحدٍ إداري؛ بل كان رمزًا لفقدان السيطرة على حياتهم وأراضيهم. الأرض بالنسبة لهم كانت أكثر من مصدر رزق؛ كانت هوية وانتماءً وجذوراً، وفقدانها يعني فقدان كل ذلك.
ورغم قسوة هذا النظام، لم يكن الفلاحون بلا رد فعل. في بعض المناطق، رفض الفلاحون التعاون مع المسؤولين العثمانيين، بينما في مناطق أخرى حاولوا التأقلم مع الواقع الجديد عبر توظيف وسطاء أو محامين. لكن، كما في رواية كافكا، كانت النتيجة النهائية دائمًا شعورًا بالعجز أمام قوة أكبر لا يمكن مواجهتها أو فهمها.
رواية المحاكمة ليست مجرد قصة عن الظلم البيروقراطي؛ بل هي صورة عميقة للإنسان الذي يجد نفسه بلا حول ولا قوة أمام أنظمة لا تعترف بإنسانيته. عندما نضع الرواية في سياق فلسطين العثمانية، نجد أوجه تشابه مذهلة بين تجربة جوزيف ك. وتجربة الفلسطينيين العثمانيين مع نظام الطابو، وكلاهما يمثل صراع الإنسان الدائم مع قوى أكبر منه تحاول أن تسلبه حقوقه.