تُرجِم عن يوسي سوكاري
تعي أعداد متزايدة من الناس أنّ أهوال المحرقة النازية لم تكن فقط من نصيب يهود أوروبا، ولكن الغالبية العظمى من الناس لا يعرفون ما ألمَّ بيهود شمال أفريقيا أثناء المحرقة. يهود شمال أفريقيا ليسوا كيانًا واحدًا. فيهود الجزائر مختلفون عن يهود المغرب، ويهود المغرب مختلفون عن يهود ليبيا، ويهود ليبيا مختلفون عن يهود تونس. ينطبق ذلك أيضًا على تجربة كل من هذه الجاليات تحت أهوال المحرقة النازية. لا شك في أنّ الجالية اليهودية في شمال أفريقيا والتي عانت من أقسى أهوال المحرقة النازية كانت جالية يهود ليبيا. نجح النازيون- بمساعدة الإيطاليين الذين فرضوا سيطرتهم على ليبيا من 1911 حتى 1943- في احتلال ليبيا من أيدي الإنجليز وأقاموا فيها ثلاثة معسكرات اعتقال. أكبرها وأشهرها كان معسكر جادو والمعسكران الأخريان هما غريان وسيدي عزاز. أرسل النازيون إلى هذه المعسكرات جميع اليهود المعتقلين، ومن بينهم نساءً وأطفالًا.
الجزء الأكبر من يهود ليبيا المعتقلين في معسكرات الاعتقال كانوا من إمارة برقة، وعاصمتها بنغازي الواقعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط. ولكن العديد من يهود طرابلس أيضًا، عاصمة إقليم طرابلس وليبيا نفسها، اعتقلوا في معسكرات الاعتقال التي أقيمت وسط الصحراء الكبرى.
إلاّ أنّ النازيين لم يكتفوا بذلك. اعتقل النازيون مجموعة كبيرة من يهود ليبيا أبناء الطبقة العليا وأرسلتهم إلى معسكرات الاعتقال في أوروبا، لتتم إبادتهم في نهاية المطاف مع أشقائهم الأشكناز. في نهاية رحلة طويلة وشاقة من أفريقيا الحارة، وجد بعض يهود ليبيا أنفسهم معتقلين في البرد الأوروبي القارس في مختلف معسكرات الاعتقال مثل بيرغن بيلسن وماوتهاوزن.
للأسف، كان أبناء أسرتي من اليهود الذين اعتقلوا في هذه المعسكرات، وفي نهاية المطاف، قتلوا أثناء المحرقة النازية. عندما ألفت كتاب “بنغازي- بيرغن بيلسن”، تتبعت سيرة عائلتي وجاليتها أثناء المحرقة، وخلال سنوات تأليف الكتاب الثلاث، أقمت فعليًا في الأماكن المروعة التي مرّوا بها في أفريقيا وأوروبا. تشبّثت بقصة سيلفانا حجيجي، والتي تمكّنت، على الرغم من صغر سنها، قيادة عائلتي والجالية اليهودية-الليبية كلها، وسط بحر من الآلام التي تفوق الوصف.
يمكنني القول إنّ سيلفانا هي جدتي التي نجت من بيرغن بيلسين. أدلت سيلفانا والعديدون من أبناء جالية يهود ليبيا الذين نجوا من معسكرات الموت في أوروبا، بشهادتهم المباشرة على الطريق التي مروا بها. من خلال هؤلاء الأشخاص، تعرفت إلى الآلية الوحشية التي نقلت يهود شمال أفريقيا من قلب الصحراء إلى أوروبا، ولم تكتف بإبادتهم في ليبيا. لقد فعلوا ذلك لأنّ هؤلاء اليهود كانوا يحملون الجواز البريطاني، وقد نقلوهم إلى أوروبا باعتبارهم أسرى حرب. ولكن النازيين لم يعاملوهم معاملة أسرى الحرب. نُقلوا في سفن الشحن إلى إيطاليا، وقطعوا طريقًا شاقة ومرهقة دامت سنتين، إلى أن وصلوا إلى معسكرات الاعتقال في ألمانيا.
عندما قمت بتأليف كتابي “بن غازي- بيرغن بيلسن”، لم أفعل ذلك من أجل عائلتي أو جاليتي فحسب، إنّما من أجل الإنسان عامةً. أردت أن اعيد إلى الحيز العام ما قام التاريخ الإسرائيلي بطمسه، ربما عن دون وعي. لقد أسعدتني مساهمة هذه الرواية التي كتبتها عن عائلتي وعن سيرة حياتها في معسكرات الاعتقال، في مساعدة يهود ليبيا على الدخول إلى الوعي الجماعي الإسرائيلي.
ولكنني أعي الآن أنّ هدفًا آخر كان يكمن وراء الهدف الرئيسي لتأليف هذا الكتاب، ألا وهو رغبتي الشخصية في الوصول إلى وضع يكون فيها النسيان أسهل. أردت أن أنسى لفترة ما المحرقة التي مرّت بها عائلتي وأبناء شعبي. لم أرغب في أن تتداخل المحرقة بعد الآن في حياتي اليومية، التأثير على وجهة نظري للحياة، وعلى إيماني بالبشرية.
أردت هدنة مع المحرقة. ظننت أنّني إذا كتبت عن المحرقة، فإنّني سأستوفي الشرط الذي سيمكنني من الحصول على هذه الهدنة. ولكن اتضح لي أنّ هذا الشرط كان حتميًا، ولكنه غير كاف. للاستراحة قليلًا من المحرقة، عليّ أن أتجنّب المجتمع الإسرائيلي المشبع بذكريات المحرقة. فهي حاضرة في جميع أركانه وجوانبه وزواياه، حتى النائية منها. تشكّل المحرقة جزءًا من الخطاب السائد في إسرائيل: لدى القادة، السياسيين، الإعلاميين، والمواطنين العاديين الذين يستخدمونها بدون هدف، يسخّرونها لتلبية احتياجاتهم إلى حد انحنائها، حتى تفقد شكلها السابق.
ولكن حضور المحرقة في مجتمعنا لا يقتصر على المظاهر الجلية. فهي تعمل أيضًا خلف الكواليس، توجّه سلوكيات المجموعات، المجتمعات المحلية والأفراد بشكل خفيّ، بطريقة تصعّب علينا تقفي آثارها. لا يمكننا الاستراحة من المحرقة النازية. ولكن ما الذي سيلم بنا نحن، الأشخاص الذين لا يريدون العيش في مكان آخر، وإسرائيل هي مكانهم الوحيد في العالم، والكيان الإسرائيلي، بجميع عيوبه، هو عاصمتهم الروحانية؟ هل حُكم علينا العيش للأبد تحت سماء المحرقة النازية، هل سنضطر للعيش حتى يومنا الأخير تحت زخات أحد أفظع الأحداث في تاريخ الحضارات؟ ليس حتمًا.
الأمر ليس قَدَريًا. علينا التحدث عن المحرقة النازية بعقلانية، بهمس، معاملتها بلطف ورهبة، وتجاهل كل من يسخّرها لتحقيق أهدافه. عندما يتحقق ذلك، فإنّ طريقة التعامل مع موضوع المحرقة النازية ستتغير أيضًا. سأتمكن أنا أيضًا من أخذ قسط من الراحة، الخروج في إجازة بعيدًا عن نَسَبي النازف. ولكن إلى أن يتحقق ذلك، فقد حكم علينا العيش طوال الوقت تحت قذائف المتحدثين باسم المحرقة النازية، وأن أنزف أنا أيضًا.