ماذا ألَمَّ بيهود ليبيا أثناء المحرقة النازية؟

أهوال المحرقة النازية كانت من نصيب يهود شمال أفريقيا أيضًا، ولكنّ قصّتهم ما زالت ملفوفة بالضبابية. إنّها قصّة هؤلاء الذين أسماهُم النازيون "شفارتسا يودن"، وأُدرِجوا في أدنى سلّم الجنس البشري، حيث يحلّق ملاك الموت.

زوجان يهوديان من ليبيا، ناجيان من معسكر بيرغن بيلسن، يضعان الشارة الصفراء، من كتاب "صور من الذاكرة"، "أور شالوم".

تُرجِم عن  يوسي سوكاري

 

تعي أعداد متزايدة من الناس أنّ أهوال المحرقة النازية لم تكن فقط من نصيب يهود أوروبا، ولكن الغالبية العظمى من الناس لا يعرفون ما ألمَّ بيهود شمال أفريقيا أثناء المحرقة. يهود شمال أفريقيا ليسوا كيانًا واحدًا. فيهود الجزائر مختلفون عن يهود المغرب، ويهود المغرب مختلفون عن يهود ليبيا، ويهود ليبيا مختلفون عن يهود تونس. ينطبق ذلك أيضًا على تجربة كل من هذه الجاليات تحت أهوال المحرقة النازية. لا شك في أنّ الجالية اليهودية في شمال أفريقيا والتي عانت من أقسى أهوال المحرقة النازية كانت جالية يهود ليبيا. نجح النازيون- بمساعدة الإيطاليين الذين فرضوا سيطرتهم على ليبيا من 1911 حتى 1943- في احتلال ليبيا من أيدي الإنجليز وأقاموا فيها ثلاثة معسكرات اعتقال. أكبرها وأشهرها كان معسكر جادو والمعسكران الأخريان هما غريان وسيدي عزاز. أرسل النازيون إلى هذه المعسكرات جميع اليهود المعتقلين، ومن بينهم نساءً وأطفالًا.

معسكر جادو حيث اعتقل أكثر من 2600 يهودي وتوفي فيه نحو 600 معتقل بسبب الجوع والأوبئة. بلطف من مركز أور شالوم للحفاظ على تراث يهود ليبيا
معسكر جادو حيث اعتقل أكثر من 2600 يهودي وتوفي فيه نحو 600 معتقل بسبب الجوع والأوبئة. بلطف من مركز أور شالوم للحفاظ على تراث يهود ليبيا

 

الجزء الأكبر من يهود ليبيا المعتقلين في معسكرات الاعتقال كانوا من إمارة برقة، وعاصمتها بنغازي الواقعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط. ولكن العديد من يهود طرابلس أيضًا، عاصمة إقليم طرابلس وليبيا نفسها، اعتقلوا في معسكرات الاعتقال التي أقيمت وسط الصحراء الكبرى.

إلاّ أنّ النازيين لم يكتفوا بذلك. اعتقل النازيون مجموعة كبيرة من يهود ليبيا أبناء الطبقة العليا وأرسلتهم إلى معسكرات الاعتقال في أوروبا، لتتم إبادتهم في نهاية المطاف مع أشقائهم الأشكناز. في نهاية رحلة طويلة وشاقة من أفريقيا الحارة، وجد بعض يهود ليبيا أنفسهم معتقلين في البرد الأوروبي القارس في مختلف معسكرات الاعتقال مثل بيرغن بيلسن وماوتهاوزن.

 

إخلاء الجثث ف يبيرغن بيلسن بجوار الجناح 210، حيث أقام معتقلو ليبيا. بلطف من مركز التراث اليهودي في ليبيا
إخلاء الجثث ف يبيرغن بيلسن بجوار الجناح 210، حيث أقام معتقلو ليبيا. بلطف من مركز التراث اليهودي في ليبيا

 

للأسف، كان أبناء أسرتي من اليهود الذين اعتقلوا في هذه المعسكرات، وفي نهاية المطاف، قتلوا أثناء المحرقة النازية. عندما ألفت كتاب “بنغازي- بيرغن بيلسن”، تتبعت سيرة عائلتي وجاليتها أثناء المحرقة، وخلال سنوات تأليف الكتاب الثلاث، أقمت فعليًا في الأماكن المروعة التي مرّوا بها في أفريقيا وأوروبا. تشبّثت بقصة سيلفانا حجيجي، والتي تمكّنت، على الرغم من صغر سنها، قيادة عائلتي والجالية اليهودية-الليبية كلها، وسط بحر من الآلام التي تفوق الوصف.

يمكنني القول إنّ سيلفانا هي جدتي التي نجت من بيرغن بيلسين. أدلت سيلفانا والعديدون من أبناء جالية يهود ليبيا الذين نجوا من معسكرات الموت في أوروبا، بشهادتهم المباشرة على الطريق التي مروا بها. من خلال هؤلاء الأشخاص، تعرفت إلى الآلية الوحشية التي نقلت يهود شمال أفريقيا من قلب الصحراء إلى أوروبا، ولم تكتف بإبادتهم في ليبيا. لقد فعلوا ذلك لأنّ هؤلاء اليهود كانوا يحملون الجواز البريطاني، وقد نقلوهم إلى أوروبا باعتبارهم أسرى حرب. ولكن النازيين لم يعاملوهم معاملة أسرى الحرب. نُقلوا في سفن الشحن إلى إيطاليا، وقطعوا طريقًا شاقة ومرهقة دامت سنتين، إلى أن وصلوا إلى معسكرات الاعتقال في ألمانيا.

عندما قمت بتأليف كتابي “بن غازي- بيرغن بيلسن”، لم أفعل ذلك من أجل عائلتي أو جاليتي فحسب، إنّما من أجل الإنسان عامةً. أردت أن اعيد إلى الحيز العام ما قام التاريخ الإسرائيلي بطمسه، ربما عن دون وعي. لقد أسعدتني مساهمة هذه الرواية التي كتبتها عن عائلتي وعن سيرة حياتها في معسكرات الاعتقال، في مساعدة يهود ليبيا على الدخول إلى الوعي الجماعي الإسرائيلي.

 

على يسار الصورة- راحيل مسيكا، قتلت في معسكر الاعتقال جادو Gado وهي في الخمسين من عمرها. من أرشيف الصور في ياد فاشيم
على يسار الصورة- راحيل مسيكا، قتلت في معسكر الاعتقال جادو Gado وهي في الخمسين من عمرها. من أرشيف الصور في ياد فاشيم

 

ولكنني أعي الآن أنّ هدفًا آخر كان يكمن وراء الهدف الرئيسي لتأليف هذا الكتاب، ألا وهو رغبتي الشخصية في الوصول إلى وضع يكون فيها النسيان أسهل. أردت أن أنسى لفترة ما المحرقة التي مرّت بها عائلتي وأبناء شعبي. لم أرغب في أن تتداخل المحرقة بعد الآن في حياتي اليومية، التأثير على وجهة نظري للحياة، وعلى إيماني بالبشرية.

أردت هدنة مع المحرقة. ظننت أنّني إذا كتبت عن المحرقة، فإنّني سأستوفي الشرط الذي سيمكنني من الحصول على هذه الهدنة. ولكن اتضح لي أنّ هذا الشرط كان حتميًا، ولكنه غير كاف. للاستراحة قليلًا من المحرقة، عليّ أن أتجنّب المجتمع الإسرائيلي المشبع بذكريات المحرقة. فهي حاضرة في جميع أركانه وجوانبه وزواياه، حتى النائية منها. تشكّل المحرقة جزءًا من الخطاب السائد في إسرائيل: لدى القادة، السياسيين، الإعلاميين، والمواطنين العاديين الذين يستخدمونها بدون هدف، يسخّرونها لتلبية احتياجاتهم إلى حد انحنائها، حتى تفقد شكلها السابق.

يهود ليبيون الناجون من بيرغن بيبسن يعودون إلى ليبيا. نرى على عربة القطار جملة Going Home, to Tripoli ورسمًا لعلم بريطانيا
يهود ليبيون الناجون من بيرغن بيبسن يعودون إلى ليبيا. نرى على عربة القطار جملة Going Home, to Tripoli ورسمًا لعلم بريطانيا

 

ولكن حضور المحرقة في مجتمعنا لا يقتصر على المظاهر الجلية. فهي تعمل أيضًا خلف الكواليس، توجّه سلوكيات المجموعات، المجتمعات المحلية والأفراد بشكل خفيّ، بطريقة تصعّب علينا تقفي آثارها. لا يمكننا الاستراحة من المحرقة النازية. ولكن ما الذي سيلم بنا نحن، الأشخاص الذين لا يريدون العيش في مكان آخر، وإسرائيل هي مكانهم الوحيد في العالم، والكيان الإسرائيلي، بجميع عيوبه، هو عاصمتهم الروحانية؟ هل حُكم علينا العيش للأبد تحت سماء المحرقة النازية، هل سنضطر للعيش حتى يومنا الأخير تحت زخات أحد أفظع الأحداث في تاريخ الحضارات؟ ليس حتمًا.

الأمر ليس قَدَريًا. علينا التحدث عن المحرقة النازية بعقلانية، بهمس، معاملتها بلطف ورهبة، وتجاهل كل من يسخّرها لتحقيق أهدافه. عندما يتحقق ذلك، فإنّ طريقة التعامل مع موضوع المحرقة النازية ستتغير أيضًا. سأتمكن أنا أيضًا من أخذ قسط من الراحة، الخروج في إجازة بعيدًا عن نَسَبي النازف.  ولكن إلى أن يتحقق ذلك، فقد حكم علينا العيش طوال الوقت تحت قذائف المتحدثين باسم المحرقة النازية، وأن أنزف أنا أيضًا.

السُلّم الثّابت في كنيسة القيامة وتقاليد حفظ السّلم الطائفي

التظاهر ضد الخلاف الطائفي حول إدارة شؤون كنيسة القيامة والذي اعتبره سخيفًا ومسيء للمسيحيّة، سلم كنيسة القيامة الثابت.

كنيسة القيامة، 2019، أرشيف المصور غابي لارون

كنيسة القيامة، 2019، أرشيف المصور غابي لارون

إن كنيسة القيامة معلم شديد الأهمية من معالم القدس وكذلك أحد أقدس الأماكن المسيحيّة حول العالم. تشترك كلّ من كنيسة القيامة في القدس وكنيسة المهد في بيت لحم بما يعرف ب”الوضع القائم” وهي انظمة وضُعت على يد الدولة العثمانيّة من خلال عدة فرامانات بين عام 1757 وعام 1852 تقوم بتقسيم مهام هذه الأماكن وخدمتها ورعايتها ما بين الطوائف المسيحيّة المختلفة، وهو وضع ما زال قائمًا إلى اليوم.

اطلعوا على أماكن ومقدسات مسيحية

 

منشور بريطاني لشكل كنيسة القيامة من أواخر القرن الثّامن عشر، مجموعة خرائط عيران لَؤور
منشور بريطاني لشكل كنيسة القيامة من أواخر القرن الثّامن عشر، مجموعة خرائط عيران لَؤور

 

عُرف “السّلم الثّابت” الموضوع على شرفة النّافذة اليمنى لواجهة كنيسة القيامة في القدس كرمز للوضع الراهن. إذ بسبب الاتفاق على الوضع الراهن بقي السلم الخشبي البسيط مكانه ولم يتحرك الّا في حالات خاصّة، وذلك خوفًا من اندلاع النّزاع بين الطوائف المسيحيّة إذا ما قام أحد بتحريكه واعتبرته الطوائف الأخرى تعديًا على الوضع الراهن. ومع مرور أكثر من مائتي عام، يمكننا القوم بأن السّلم أصبح جزئًا من الكنيسة، إذ يظهر في جميع المواد البصرية المتاحة في هذه السنوات كأحد معالمها، انظر على سبيل المثال إلى هذا الملصق المرسوم من مطلع القرن العشرين.

هناك من يرى أنّ هذه التّقاليد بقيت كعنوان للاتفاق والتفاهم بين الطّوائف، وهناك من اعتبرها أثرًا مذمومًا للانقسام المسيحي، من هؤلاء بابا الكنيسة الكاثوليكية بولس السادس (1897-1978) الذي حجّ إلى القدس في ستينات القرن العشرين واعتبر ان السلم الثابت رمزًا مرئيًا للانقسام المسيحي، وأكّد على ضرورة عدم تحريكه من مكانه إلى أن تصل الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكيّة إلى توافق فيما بينها.

دعونا نطّلع على تفاصيل قصّة الوضع الرّاهن والسّلم الشّهير الّذي أصبح معلمًا من المعالم هذه المدينة التاريخيّة المليئة بالقصص.


المعالم المسيحيّة المقدّسة في الشّرق وقصّة الوضع الرّاهن

بدأ التنافس أو الاختلاف على من يكون الاحق برعاية المعالم المسيحيّة المقدسة في الشرق (بالأساس كنيسة القيامة وكنيسة المهد في بيت لحم) عقود قليلة بعد وقوع الانشقاق العظيم بين الكنائس الشرقيّة الإغريقيّة التي باتت تعرف بالأرثوذكسية والكنائس الغربيّة اللاتينيّة التي باتت تُعرف بالكاثوليكيّة.

حين خرجت الحملة الصّليبيّة الأولى من الغرب وقعت هذه المواقع تحت سيطرة الكنيسة الكاثوليكيّة وبقيت كذلك حتى نهاية الحكم الصّليبي. خلال العهد العثماني كان هناك حالة من عدم الاستقرار بكيفيّة تقسيم الوصاية على هذه الاماكن بين الكنيسة الارثوذكسية والكنيسة الكاثوليكيّة، ممّا أسفر عن عدّة خلافات من أبرزها أحداث أسبوع الآلام عام 1757، في ذلك العام وضع السلطان العثماني أول فرامان للوضع القائم.

 

رسم مقطع فوقي لكنيسة القيامة، 1683، مجموعة خرائط عيران لَؤور
رسم مقطع فوقي لكنيسة القيامة، 1683، مجموعة خرائط عيران لَؤور

 

كان من الاسباب المعلنة لحرب القرم هو تغيير الوضع الراهن على يد السلطان العثماني لصالح فرنسا مما يعني منح الصلاحية الكاملة للكنيسة الكاثوليكيّة، فكان أحد أسباب شنّ الحرب من قبل روسيا هو أن تكون صلاحية رعاية هذه الاماكن تحت يد الكنيسة الارثوذكسيّة. وخلال الحرب التي دامت لثلاث سنوات بين 1853-1856 قام السلطان العثماني بالتأكيد على الوضع الراهن السابق في فرمانات جديدة في عام 1852 و 1853 كمحاولة لتهدئة الحرب. وتم التأكيد على ان الوضع الراهن في الاماكن المقدسة في القدس سيبقى على ما هو عليه إلى الأبد. أي ان الاماكن المشتركة للطوائف، أو المملوكة لأحدها حصرًا، ستبقى كذلك بدون تغيير.

ولأن كنيسة القيامة مشتركة بين الطوائف المتعددة، فإنّ تفاصيل إدارتها اليوميّة وكيفيّة تقاسم المساحات والمواقيت بها أمر غاية للاهمية ويمارس بدقة شديدة إلى اليوم. وذلك تمسّكًا بالوضع الراهن الّذي سمح لهذه الطوائف المتعددة بممارسة شعائرها وحقوقها بالتواجد في هذا المعلم الديني الأساسي لجميعهم.


السّلم الثّابت

صورة حديثة للسلم الثابت من تصوير غابي لارون، 2014، أرشيف غابي لارون
صورة حديثة للسلم الثابت من تصوير غابي لارون، 2014، أرشيف غابي لارون

 

السلم الخشبي الموضوع على شرفة النافذة اليمينية لواجهة الكنيسة أحد رموز الوضع الراهن ولكنه ليس الوحيد. في الحقيقة، هناك العديد من التقاليد المميزة في حياة هذه الكنيسة اليوميّة تؤدي دورها بحفظ السلم والاتفاق بين الطوائف المسيحيّة في الكنيسة بل وبينها وبين الطائفة المسلمة في المدينة أيضًا. من أشهر هذه التقاليد هو فتح أبواب الكنيسة وإغلاقها على يد أبناء من عائلة مسلمة من القدس تقوم بهذا الدور منذ مئات السنين.

مع ذلك، فإن السلم محط جدل من جهة واحترام من جهة أخرى، اذ ليس هناك أي اجراء يخصّه، كل ما في الأمر هو انه يُمنع تحريكه فقط، مما جعله رمز يوحي بحالة من الجمود من جهة والقداسة من جهة إخرى بالرغم من انه لا يحمل أي قداسة دينيّة لدى أي من الطوائف، بل يعتقد أنه هناك لأنّه كان يُستخدم على يد أحد العمال الّذي تركه، وبقي هناك خوفًا من انتهاك الوضع القائم.

من القصص المثيرة للجدل هي قيام سائح مسيحي عام 1997 برفع السّلم من مكانه وإخفائه خلف أحد أبواب الكنيسة الداخليّة كنوع من الاعتراض على الامر، وحين تم التعرف عليه والتحقيق معه حول هذه الجناية اقرّ بانه قام بذلك كنوع من التظاهر ضد الخلاف الطائفي حول إدارة شؤون كنيسة القيامة والذي اعتبره سخيفًا ومسيء للمسيحيّة.

في النهاية تبقى كلمات البابا بولس السادس تثير التفكير، اذ اعتبره بحزن رمزًا مرئيًا للانقسام المسيحي، ومع ذلك أكّد على ضرورة احترامه وعدم المساس به إلى أن يأت الوقت المناسب.

السّلطان المحب: ديوان “محبّي” في المكتبة

السّلطان سليمان القانوني خلّف بصمة جميلة في صفات تبدو متناقضة في شخصيّة تاريخيّة ذات أثر هام على التاريخ. فلنقرأ إحدى قصائده ونلقي نظرة على عالمه العاطفي.

من مخطوطة لديوان محبي في المكتبة الوطنيّة،1552، مجموعة يهودا، المكتبة الوطنيّة. 

من مخطوطة لديوان محبي في المكتبة الوطنيّة،1552، مجموعة يهودا، المكتبة الوطنيّة. 

 السلطان سليمان القانوني الشّهير، أو سليمان العظيم كما يلقّب بالإنجليزيّة، شخصيّة مثيرة جدًا للاهتمام. فقد كان يتمتع بشخصيّة قياديّة وسياسيّة فذّة، وتشهد له إنجازاته وبصماته الكثيرة على تشكّل الإمبراطوريّة العثمانيّة بذلك، ومن جهة أخرى هو شاعر مرهف الحس وعاشق ولهان. وخلّف أشعار عالية الحساسيّة والبلاغة في الغزل والعاطفة وكان غزير الإنتاج الأدبي، حتّى وصفه بعض الباحثين بأحد أهم المبدعين في التّاريخ العثماني، وهذا ليس لأنّه سلطانًا، ولكن لكونه شاعر فذّ أيضًا. يبدو أنّ لهذه الشّخصية التاريخيّة حياة حافلة على الصّعيد الخاص والعام، وهي تتطلّب المزيد من البحث الدؤوب حتّى يتم الكشف عنها بشكل كافي.

ولكن الشعر الذي خلفه شباك جميل يطل على عالمه الخاص والعاطفي، وللسلطان الكبير ديوان شعر بديع يدعى “محبي”، فيه آلاف من أبيات الشعر التي يظهر بها مكنونات قلبه بانكشاف ولغة جميلة. كتب السلطان أشعارًا بالفارسيّة كذلك. وفي المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة نسخ مزوّقة لهذا الدّيوان يمكنكم الاطلاع عليها هنا.

طالع/ي أيضًا: السلطان العظيم سليمان القانوني

السلطان المحب للذوق والجمال

أمضى السلطان أوقاتًا كثيرة من طفولته في قصر جده بيازيد الثّاني حيث تلقّى العلوم والدروس من علماء كبار، ولطالما كان محبّا للشعر والشّعراء وكان يتقن الكتابة بخطّ جميل، كما كان يعتني بمظهره وبهندامه ويمتلك ذوقًا خاصًّا، اذ اشتهر بالبناطيل المختلفة والثّوب الطويل والمزركش ومظاهر الفخامة، كما كان محبًا للأحجار الكريمة. كان مهتمًا بالعمارة الجميلة التي ازدهرت في عهده، كما قام بترميم الكعبة المشرّفة في مكّة وقبّة الصّخرة في القدس، كما بنيت اسوار القدس في عهده أيضًا. كان يعلي من مكانة الصّاغة مثلًا ويقيم لهم محافل، كما استقبل الشّعراء والعلماء في بلاطه وأكرمهم بل وكان يصطحبهم أحيانًا في سفراته ورحلاته. وفي عهده ترجم العمل الكبير “كليلة ودمنة” من روائع الأدب الهندي، بالإضافة الى المزيد من الاعمال الكلاسيكيّة الفارسية التي نقلت إلى التركية في عهده. ولذلك فليس بغريب ان يكون مطلعًا على الشعر والأدب إلى هذا الحد وأن لا يكون شغوفًا بالشعر بنفسه.

أسوار القدس التي بنيت في عهد السّلطان سليمان من أعلى متحف روكفلر، مجموعة موشيه بن دافيد، ارشيف بن تسفي.  
أسوار القدس التي بنيت في عهد السّلطان سليمان من أعلى متحف روكفلر، مجموعة موشيه بن دافيد، ارشيف بن تسفي.

 

بعض الأبيات من ديوان محبي

يشتهر ديوان محبي أي ديوان “المحب” كما سمّى نفسه، بالنّظم على بحر الغزل باللّغة التركية. يقال أن السلطان سليمان كان يسهر الليل بطوله ملوّعًا، يكتب كلمة ويترك الورقة ويعود إليها وهكذا دواليك، ويبقى على هذه الحالة إلى أن تنطلق منه قصيدة كاملة.

من مخطوطة لديوان محبي في المكتبة الوطنيّة،1552، مجموعة يهودا، المكتبة الوطنيّة. 
من مخطوطة لديوان محبي في المكتبة الوطنيّة،1552، مجموعة يهودا، المكتبة الوطنيّة.

لم ينفرد السّلطان سليمان من بين السّلاطين العثمانيّين في شعره، فالسّلطان محمّد الفاتح كان شاعرًا أيضًا، وكذلك السّلطان عثمان الثّاني، وكان كلّ منهم يختار اسمًا له ليوقّع به أشعاره، وفي حالة السّلطان سليمان استخدم الكلمة العربيّة الاصل حُب، وسمّى نفسه بالمحبّ.

إليكم إحدى هذه القصائد الشهيرة:

يا عرشي محرابي الوحيد، يا ثروتي، يا حبّي، يا ضياء قمري

يا أكثر الأصدقاء إخلاصًا، وصاحبة سرّي، يا وجودي، سلطانتي، وحبّي الواحد والوحيد

يا أجمل الجميلات

يا ربيعي وحبّي ووجهي المَرح، يا نهاري وقلبي الحلو وأوراق الأشجار الضاحكة

يا نباتاتي، يا حلوتي، يا زهرتي، أيتها الوحيدة الّتي لا تثقل حياتي في هذه الغرفة

يا إسطنبولي، يا قرماني، يا أرض أناضولي

يا بادخشاني، يا بغدادي، يا خراساني

يا امرأتي ذات الشعر البديع، يا حبّي للحاجب المائل

يا حبّي للعيون المليئة بالأسى

سأسبّح لك دومًا فإنني المحب ذو القلب المحزون

إنّ محبّي ذو العيون المليئة بالدّموع حقًا سعيد

كتب السّلطان سليمان هذه القصيدة إلى زوجته المعروفة باسم روكسالانا، والذي جمعته بها علاقة عاطفية جياشة تعبّر عنها هذه القصيدة. نرى في القصيدة أنها أكثر من مجرد تعبير عن الحبّ والتعلق، إنّما دلالة على المكانة العاليّة التي اتخذتها حرم السلطان في حياته. وأن إشارته إلى مواقع من الدولة العثمانيّة الواسعة والّتي اتّسعت أكثر وأكثر في عهده مثيرة للاهتمام، إذ يصفها بالوطن الأناضول، إلا أنّه أيضًا يصفها بالمدن البعيدة التي من خلال الإشارة لها يرسم خارطة تدلّ على مدى اتّساع رقعة حكمه الجغرافيّة من الشّرق الى الغرب، فكأنه يقول لها: يا قوّتي.

ولدت روكسلانا في شرق أوروبا وتم اختطافها وبيعها في سوق للعبيد في القسطنطينيّة، وهكذا وجدت طريقها الى البلاط ومن ثمّ إلى قلب السّلطان الأعظم. ليس من الممكن معرفة الكثير عن شخصيّة هذه المرأة الّتي عشقها السّلطان وتأثر بها الى هذا الحدّ، فإن حياة حريم السّلطان بقيت غامضة الى حدّ بعيد. ولكن بقيت أبيات “محبي” تشير إليها، وإلى خفايا جميلة في التّاريخ العثماني ولا سيّما في التاريخ الإنساني كله.

صور رمضانيّة نادرة من يافا في العشرينيّات

في المقال المصوّر، عُرِضَت صور نادرة من مدينة يافا تحمل مظاهر الحياة اليومية الثقافية والاجتماعية في شهر رمضان.

مسحراتي في يافا، 1920-1923، مجموعة بن تسفي

مسحراتي في يافا، 1920-1923، مجموعة بن تسفي

المسحراتي، المدفع، المشاريب والحلويات المميزة، الأغاني والزّينة وتبادل الأطباق والتهاني، كلها عادات جميلة تكوّنت عضويًا بين الأهالي والمجتمعات على امتداد العالم العربي والعالم الإسلامي. ويمكننا بالطبع المقارنة بين هذه العادات في البلاد المختلفة. ولكن المقارنة عبر العصور أصعب قليلًا، فرمضان في القاهرة في القرن السّادس عشر للميلاد ليس مثل رمضان في القاهرة في العام 2023، وإن كان جوهر الشّهر واحد وهو فريضة الصّوم في الدّيانة الإسلاميّة.

مدفع رمضان في يافا، 1920-1923، مجموعة بن تسفي
مدفع رمضان في يافا، 1920-1923، مجموعة بن تسفي

المعلومات حول رمضان في الماضي البعيد عزيزة ولكنها موجودة، وبالرّغم من عدم توفّر تقنيات نقل الصوت والصّورة فقد دأب مؤرّخون عديدون على تدوين ملاحظات حول شهر رمضان في الزّمان الّذي عاشوا فيه، وذكروا بعض أنواع المأكولات التي ما زالت تتألق في رمضان إلى يومنا هذا، منها الكنافة والقطائف والزّلابية على سبيل المثال، وهي حلويات قديمة في المنطقة، إذ ذكرها الشّاعر الشهير في العصر المملوكي أبو الحسين بن الجزار وقال عن حلويات رمضان:

سقى الله أكناف الكنافة بالقطر    وجاد عليها سكر دائم الدر

أهيم غراما كلما ذكر الحمى      وليس الحمى إلا القطارة بالسعر

واشتاق ان هبت نسيم قطائف     سحور سحيرًا وهي عاطرة النشر

طالع/ي أيضًا: رمضان: صور، وقصاصات من الصحف ومخطوطات قرآنية ومقالات في مدونة أمناء المكتبة

ومع التشابه الكبير في العادات والمأكولات الرمضانية عبر العصور، إلّا أننا أيضًا نستطيع رصد بعض التغيّرات أو الإضافات بالأحرى. فعادة تزيين البيوت مثلًا تعتبر عادة حديثة لم تتّبع سابقًا لكنها اليوم أضحت ضرورة من ضرورات الاحتفال بالشهر الكريم، وتتزين بها البيوت والحارات قبل حلول الشهر بأيام ترحيبًا به، وهي مما يستمتع به الأطفال على وجه الخصوص. كذلك المشاريب الرّمضانيّة تنوّعت في السنوات الأخيرة وباتت لا تُحصى، ففي حين كان التمر الهندي المشروب الرئيسي في رمضان ومع العرق سوس، أُضيفت إليه اليوم مشروبات إضافية في القدس على سبيل المثال، منها عصير اللوز والجزر.

رمضان في القدس

مسحراتي في يافا، 1920-1923، مجموعة بن تسفي
مسحراتي في يافا، 1920-1923، مجموعة بن تسفي

 

في صورة نادرة لمسحراتي مدينة يافا في أوائل سنوات العشرينيّات نجد المسحراتي يلبس لباسه المعتاد في ذلك الوقت، ويطرق طبلة بسيطة معتمدًا على صوته وحده، ولا نلحظ وجود زينة على البيوت التي تظهر خلفه بوضوح. في بعض المدن العربية في البلاد اليوم يرتدي المسحراتي الملابس التقليدية القديمة تمسّكًا بذكرى المسحراتي التقليدي، تأكيدًا على أن هذه الوظيفة تاريخيّة ومستمرّة، وفي بعض الأحيان يستخدم مكبرًا للصوت، ويقوم بأداء مميّز من الإنشاد والغناء فضلًا عن التسحيرة المعهودة “اصحَ يا نايم.. وحد الدايم..”.

اقرأ/ي أيضًا: البحث عن المسحراتي يعقوب مراد

 

بائع المشاريب في يافا في رمضان 1920 - 1923، مجموعة بن تسفي
بائع المشاريب في يافا في رمضان 1920 – 1923، مجموعة بن تسفي

 

في هذه الصّورة نجد بائع المشاريب في يافا، كما اليوم يعرض المشاريب في ساعات الصّيام ويبدو عليه التعب، يقال أنّ الصائم يشتهي كل ما يراه، ويبدو أن تبضّع المشاريب والحلويات الرمضانية من الشارع والأسواق في ساعات الصّيام عادة قديمة وإن لم يلقي لها الكثيرون بالًا. ففي هذا الشهر تزدهر أعمال صانعي هذه الحلوى وهذه المشاريب أكثر من أي وقت آخر في العام.

 

طفل عربي في يافا يحمل طبقًا في رمضان، 1920-1923، مجموعة بن تسفي
طفل عربي في يافا يحمل طبقًا في رمضان، 1920-1923، مجموعة بن تسفي

نختتم هذه المقالة الصّغيرة بصورة جميلة لطفل يافاوي يمشي في الشّارع حاملًا طبقًا من الطّعام مبتسمًا وممثّلا لبهجة رمضان بأفضل شكل. ما رأيكم؟ هل هذا طبق حمّص لإضافته إلى المائدة كما يفعل محبّو الحمّص في رمضان اليوم؟ أم هي العادة الاجتماعية الجميلة بإرسال الأطباق بين الجيران لتنويع المأكولات وإدخال البهجة إلى المائدة الرمضانية؟

على كلّ، التقط هذه الصّور المصوّر فرانك شولتن خلال رحلته الطويلة بين الأعوام 1920-1923 في بلدان عديدة في الشرق الاوسط، وهي من مجموعة ياد يتسحاك بن تسفي، يمكنكم الاطلاع على مجموعة رحلات شولتن الرقمية بالكامل هنا.