تعتبر يافا واحدة من المدن الّتي فقدت بريقها بعد حرب العام 1948. فقد كانت المدينة في السنوات الّتي تلت انتهاء الحكم العثماني محجًا ثقافيًّا وسياسيًّا للفلسطينيين، فيأتي إليها الشبان من مختلف المدن والقرى الفلسطينيّة الأخرى للعمل والدّراسة والتّعرّف على المجتمع الفلسطينيّ المُسيّس وللانخراط مع الأحزاب الّتي بدأت تحارب من أجل إنهاء الانتداب البريطاني في البلاد أسوةً ببقيّة الدول العربيّة المجاورة.
مدينة يافا قديمًا وحديثأ: صور، خرائط، ملصقات وأخبار تاريخية رقمية
وقد صمدت بعض المباني والأماكن التاريخية المهمّة في المدينة رغم تعرضها للهدم وبناء تل أبيب وتوسعها على حسابها، فمسجد حسن بيك وبرج الساعة ومسجد المحمودية وسبيل أبو نبوت ومركز السرايا ما زالوا قائمين وشهود على يافا العثمانية الّتي لم تتدمر بالكامل عام 1948.
التصاعد الثقافي في فلسطين ما بعد الحرب العالمية الأولى
تعود بداية النهضة الثقافية في الفترة الانتدابية إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وقد تأسست بفعل تصاعد عوامل كثيرة؛ من تزايد عدد الإرساليات والمدارس الّتي رسّخت لها وأقامتها حكومة الانتداب البريطاني، دخول المطابع والعدد الكبير من الصحف الّتي كانت تصدر في ذلك الحين، ثمّ تأسيس الجمعيات والنوادي والحركات السياسية، الّتي تطّورت بفعل تصاعد الأحداث السّياسيّة في البلاد. إضافةً إلى التغييرات على المستوى الحضاري من دخول الكهرباء وإقامة الطرق والمواصلات والموانئ الحديثة، كلّ ذلك كان له الأثر في إعادة صياغة بُنية المجتمع وتطوّر المدن وتبلور هوية الشعب وقضاياه، ليتبلور الحراك الثقافي الفلسطيني منذ ذلك الحين ويتصاعد.
وعرفت يافا كونها مركز الصحافة في فلسطين الانتدابية، وإذ إن الصحافة ترتبط بهموم الناس ومشاكلهم، وتطورها يرتبط بشكلٍ مباشر بتطور الحركة الثقافية في المجتمع، وعلى الرغم من افتقاد الصحف في فلسطين الانتدابية ذلك الوقت إلى مقال الرأي، بسبب الوضع السياسي المشحون الّذي كانت فيه البلاد من ثورات متتالية وأخبار عن إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، فإنّ المدينة نجحت في الازدهار بشكلٍ كبير. حيث ذكر كامل السوافيري في كتابه “الأدب العربي المعاصر في فلسطين” أن عدد الصحف وصل إلى 57 صحيفة و22 مجلة خلال فترة الانتداب، وقد استقطبت الصحف الفلسطينيّة الشّعراء والأدباء والمثقفين، الّذين بادروا للكتابة ونشر المساهمات فيها، فكانت من أهم الوسائل الّتي ساعدت في وضع يافا على رأس التطور الثقافي في فلسطين.
وعد بلفور: معرض رقمي للصور والرسائل والأخبار
وتعدّ المدينة مركز الصحافة الفلسطينيّة، تليها القدس وحيفا، ومن أشهر أسماء الصحف الّتي كانت تصدر في ذلك الوقت: الكرمل والدفاع والشعب واللواء والعرب وصوت الشعب والميزان والجهاد وفلسطين. أما أشهر المجلات فكان منها: النفائس العصرية، الأصمعي، الدستور، الحرية، الرأي العام، المنتدى، المستقبل والفجر. ويضاف إلى ذلك العديد من الصحف والمجلات المصرية الّتي كانت تصل إلى يافا في ذات اليوم الّذي تصدر فيه، كالأهرام والبلاغ والمصري.
أرشيف الصحف العربيّة من فلسطين العثمانيّة والانتدابيّة
ولم تزدهر يافا فقط في مجال الصحافة، فقد لعبت الترجمة دورًا رئيسًا في تطور المشهد الثقافي في فلسطين الانتدابية عمومًا ويافا خصوصًا، وقد برزت أسماء عديدة في هذا المجال ما تزال إسهاماتهم مؤثرة إلى اليوم على مستوى المكتبة العربية، بدايةً من خليل بيدس (1874-1947) رائد الترجمة عن الروسية، وقد درس في المدرسة الأرذوكسية في الناصرة، فترجم أعمال بوشكين وتولستوي. أما عادل زعيتر (1895-1957)، وقد أتقن التركية والألمانية والفرنسية، وكانت معظم ترجماته عن الفرنسية.
وقد شهدت البلاد في ذلك الوقت نشاطًا أدبيًا واسعًا شمل مختلف أجناس الأدب وفنونه، بما في ذلك دراسات الأدب النقدي والأدب المقارن؛ فبرز في المجال خليل السكاكيني (1878-1953)، الّذي نادى بالتجديد والتطّور في الأسلوب والموضوع. ولم يقتصر الأمر هنا، فشهدت الساحة الأدبية والثقافية تطوّرًا كبيرًا في مختلف المجالات الأدبية، فتطور الشعر والرواية والقصة القصيرة وكتبت معظم نواة الأدب الفلسطيني في تلك الحقبة.
السينما والمسرح في يافا
انتشرت دور السينما في معظم المدن الفلسطينية، وكانت تعرض الأفلام العربية والعالمية، وفي يافا تجمّعت دور السينما في شارع جمال باشا؛ وكان من أشهر دور العرض: سينما الحمرا، سينما الرشيد، سينما نبيل، سينما الفاروق، سينما الشرق وسينما أبوللو. أما في صناعة السينما فكان رشيد حسن سرحان أول فلسطيني ينتج فيلمًا، وذلك في عام 1935، حين قام بتصوير فيلم مدته 20 دقيقة عن زيارة الملك عبد العزيز آل سعود لفلسطين وتنقّله بين اللّد ويافا.
أما الرائد الثاني في المجال فكان أحمد الكيلاني، الّذي درس الإخراج والتصوير السينمائي في القاهرة، وتخرّج عام 1945، ثم عاد إلى فلسطين ليؤسس مع شركاء “الشركة العربية لإنتاج أفلام سينمائية”، الّتي أنتجت عام 1946 أوّل فيلم روائي فلسطيني وهو “حلم ليلة” من إخراج صلاح الدين بردخان، وقد عرض في القدس ويافا وعمّان.
أما على صعيد المسرح، فقدت شهدت الساحة الفلسطينية نشاطًا كبيرًا قبل النكبة؛ فظهرت أسماء عديدة من الكتّاب المسرحيين، مثل: جميل البحري، ومحيي الدين الحاج عيسى وعزيز ضومط. كما تأسست جمعيات تمثيلية كثيرة؛ كجمعية التمثيل الأدبي وجمعية التمثيل والفنون في القدس، وفرقة جمعية الشبان المسلمين في يافا، الّتي مثّلت رواية “دموع اليائسة”، وفرقة “النادي الساليسي” الّتي قاكت بتمثيل رواية “كسرى والعرب”. وقد امتدت الفرق المسرحية لتشمل حيفا وبيت لحم وغزة، وعرفت غزارة الإنتاج الثقافي والمعرفي.
مبنى السرايا شاهد على المدينة
والمبنى عبارة عن دار الحكومة العثمانية القديمة، بناها والي يافا أبو نبوت سنة 1810 في وسط مدينة يافا، مقابل برج الساعة، حيث يطل على واجهة ساحة ميدان الساعة أو الحناطير، الّتي شهدت على معظم الثورات والانتفاضات. وجميع أعمدة مبنى السرايا استوردت من آثار قلعة قيساريا الرومانية، وكانت أثناء حكم الوالي مقرًا له، واستمر في كونه مقرًّا لمحاكم سلطات الاستعمار البريطاني في بداية الانتداب، إلى أن انتقل لاحقًا إلى مكانٍ آخر وتم إهمال ترميمه، وأخذ حال المبنى في التدهور وخصوصًا المرافق الداخلية والغرف، وتحوّل المبنى بعد الحرب العالمية الثانية إلى مقر لإدارة الخدمات الاجتماعية في مدينة يافا، وكان من نشاطاته رعاية الأحداث ودار الأيتام في يافا.

في بداية الأربعينات، تم تفجير المبنى من قبل مجموعة من المستوطنين، ضمن أعمال العنف الّتي تصاعدت تلك السنوات ومع تصاعد الثورة الفلسطينيّة المسلّحة. وإضافةً إلى مبنى السرايا، تم تفجير مصرف باركليز البريطاني ممّا أدّى إلى صدمة عنيفة وذعر بين السكان.
وبجانب مبنى السرايا الّذي كان مركزًا للحكم ويحتوي أيضًا على مسرح وقاعة مُعدّة لعدد للاجتماعات السياسية والثقافية في المدينة، كانت بعض المباني شاهدة على التطور المَدني في المدينة، وبقيت هذه المباني موجودة حتى اليوم؛ فجامع حسن بيك، يقع اليوم في منتصف مدينة تل أبيب، كان سابقًا امتدادًا للمدينة الّتي هُدمت بفعل المدفعية عام 1948، وكنيسة القديس بطرس حيث يعود تاريخ بنائها إلى الفترة العثمانية في 1654 وذلك تخليدًا للقدّيس بطرس، إلا أنها تعرضت للهدم مرتين خلال القرن الثامن عشر، وتاريخ ترميمها الحديث يعود إلى العام 188. ومسجد المحمودية أو مسجد يافا الكبير يعدّ معلمًا أثريًا يعود للحقبة العثمانية، ويقع قريبًا من برج الساعة ومبنى السرايا. وبرج الساعة أحد أهم الأعلام الأثرية المقابلة للسرايا، وقد تم تشييده في مطلع القرن العشرين على يد السلطان عبد الحميد الثاني، وذلك احتفالًا بمرور خمسة وعشرين عامًا على تولّيه السلطنة العثمانية، وقد بُنيت أبراج مماثلة في عكا وحيفا والناصرة ونابلس.
اعتبرت هذه الشواهد التاريخية، أماكن اجتماع الناس، توقف الحناطير ولقاء الغرباء، أماكن لاجتماع المسؤولين السياسيين والكتّاب والمثقفين في المدينة، كان التمدّن الّذي أظهرته يافا سابقًا لبقية المدن المعاصرة لها، فاستحقت كونها سبّاقة في تصدّر الثقافة والأدب.