يافا كمركزٍ ثقافي خلال فترة فلسطين الانتدابية

نناقش في هذا المقال الثورة الثقافية والسياسية الّتي كانت تتبلور في فلسطين عامةً ويافا بشكلٍ خاص خلال السنوات الّتي تلت الحرب العالمية الأولى.

مشهد الوصول إلى الأراضي المقدسة من ميناء يافا، 1880 - 1910، مجموعة الصور.

مشهد الوصول إلى الأراضي المقدسة من ميناء يافا، 1880 - 1910، مجموعة الصور.

تعتبر يافا واحدة من المدن الّتي فقدت بريقها بعد حرب العام 1948. فقد كانت المدينة في السنوات الّتي تلت انتهاء الحكم العثماني محجًا ثقافيًّا وسياسيًّا للفلسطينيين، فيأتي إليها الشبان من مختلف المدن والقرى الفلسطينيّة الأخرى للعمل والدّراسة والتّعرّف على المجتمع الفلسطينيّ المُسيّس وللانخراط مع الأحزاب الّتي بدأت تحارب من أجل إنهاء الانتداب البريطاني في البلاد أسوةً ببقيّة الدول العربيّة المجاورة.

مدينة يافا قديمًا وحديثأ: صور، خرائط، ملصقات وأخبار تاريخية رقمية

وقد صمدت بعض المباني والأماكن التاريخية المهمّة في المدينة رغم تعرضها للهدم وبناء تل أبيب وتوسعها على حسابها، فمسجد حسن بيك وبرج الساعة ومسجد المحمودية وسبيل أبو نبوت ومركز السرايا ما زالوا قائمين وشهود على يافا العثمانية الّتي لم تتدمر بالكامل عام 1948.

التصاعد الثقافي في فلسطين ما بعد الحرب العالمية الأولى

تعود بداية النهضة الثقافية في الفترة الانتدابية إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وقد تأسست بفعل تصاعد عوامل كثيرة؛ من تزايد عدد الإرساليات والمدارس الّتي رسّخت لها وأقامتها حكومة الانتداب البريطاني، دخول المطابع والعدد الكبير من الصحف الّتي كانت تصدر في ذلك الحين، ثمّ تأسيس الجمعيات والنوادي والحركات السياسية، الّتي تطّورت بفعل تصاعد الأحداث السّياسيّة في البلاد. إضافةً إلى التغييرات على المستوى الحضاري من دخول الكهرباء وإقامة الطرق والمواصلات والموانئ الحديثة، كلّ ذلك كان له الأثر في إعادة صياغة بُنية المجتمع وتطوّر المدن وتبلور هوية الشعب وقضاياه، ليتبلور الحراك الثقافي الفلسطيني منذ ذلك الحين ويتصاعد.

وعرفت يافا كونها مركز الصحافة في فلسطين الانتدابية، وإذ إن الصحافة ترتبط بهموم الناس ومشاكلهم، وتطورها يرتبط بشكلٍ مباشر بتطور الحركة الثقافية في المجتمع، وعلى الرغم من افتقاد الصحف في فلسطين الانتدابية ذلك الوقت إلى مقال الرأي، بسبب الوضع السياسي المشحون الّذي كانت فيه البلاد من ثورات متتالية وأخبار عن إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، فإنّ المدينة نجحت في الازدهار بشكلٍ كبير. حيث ذكر كامل السوافيري في كتابه “الأدب العربي المعاصر في فلسطين” أن عدد الصحف وصل إلى 57 صحيفة و22 مجلة خلال فترة الانتداب، وقد استقطبت الصحف الفلسطينيّة الشّعراء والأدباء والمثقفين، الّذين بادروا للكتابة ونشر المساهمات فيها، فكانت من أهم الوسائل الّتي ساعدت في وضع يافا على رأس التطور الثقافي في فلسطين.

وعد بلفور: معرض رقمي للصور والرسائل والأخبار

وتعدّ المدينة مركز الصحافة الفلسطينيّة، تليها القدس وحيفا، ومن أشهر أسماء الصحف الّتي كانت تصدر في ذلك الوقت: الكرمل والدفاع والشعب واللواء والعرب وصوت الشعب والميزان والجهاد وفلسطين. أما أشهر المجلات فكان منها: النفائس العصرية، الأصمعي، الدستور، الحرية، الرأي العام، المنتدى، المستقبل والفجر. ويضاف إلى ذلك العديد من الصحف والمجلات المصرية الّتي كانت تصل إلى يافا في ذات اليوم الّذي تصدر فيه، كالأهرام والبلاغ والمصري.

أرشيف الصحف العربيّة من فلسطين العثمانيّة والانتدابيّة

ولم تزدهر يافا فقط في مجال الصحافة، فقد لعبت الترجمة دورًا رئيسًا في تطور المشهد الثقافي في فلسطين الانتدابية عمومًا ويافا خصوصًا، وقد برزت أسماء عديدة في هذا المجال ما تزال إسهاماتهم مؤثرة إلى اليوم على مستوى المكتبة العربية، بدايةً من خليل بيدس (1874-1947) رائد الترجمة عن الروسية، وقد درس في المدرسة الأرذوكسية في الناصرة، فترجم أعمال بوشكين وتولستوي. أما عادل زعيتر (1895-1957)، وقد أتقن التركية والألمانية والفرنسية، وكانت معظم ترجماته عن الفرنسية.

وقد شهدت البلاد في ذلك الوقت نشاطًا أدبيًا واسعًا شمل مختلف أجناس الأدب وفنونه، بما في ذلك دراسات الأدب النقدي والأدب المقارن؛ فبرز في المجال خليل السكاكيني (1878-1953)، الّذي نادى بالتجديد والتطّور في الأسلوب والموضوع. ولم يقتصر الأمر هنا، فشهدت الساحة الأدبية والثقافية تطوّرًا كبيرًا في مختلف المجالات الأدبية، فتطور الشعر والرواية والقصة القصيرة وكتبت معظم نواة الأدب الفلسطيني في تلك الحقبة.

السينما والمسرح في يافا

انتشرت دور السينما في معظم المدن الفلسطينية، وكانت تعرض الأفلام العربية والعالمية، وفي يافا تجمّعت دور السينما في شارع جمال باشا؛ وكان من أشهر دور العرض: سينما الحمرا، سينما الرشيد، سينما نبيل، سينما الفاروق، سينما الشرق وسينما أبوللو. أما في صناعة السينما فكان رشيد حسن سرحان أول فلسطيني ينتج فيلمًا، وذلك في عام 1935، حين قام بتصوير فيلم مدته 20 دقيقة عن زيارة الملك عبد العزيز آل سعود لفلسطين وتنقّله بين اللّد ويافا.

أما الرائد الثاني في المجال فكان أحمد الكيلاني، الّذي درس الإخراج والتصوير السينمائي في القاهرة، وتخرّج عام 1945، ثم عاد إلى فلسطين ليؤسس مع شركاء “الشركة العربية لإنتاج أفلام سينمائية”، الّتي أنتجت عام 1946 أوّل فيلم روائي فلسطيني وهو “حلم ليلة” من إخراج صلاح الدين بردخان، وقد عرض في القدس ويافا وعمّان.

أما على صعيد المسرح، فقدت شهدت الساحة الفلسطينية نشاطًا كبيرًا قبل النكبة؛ فظهرت أسماء عديدة من الكتّاب المسرحيين، مثل: جميل البحري، ومحيي الدين الحاج عيسى وعزيز ضومط. كما تأسست جمعيات تمثيلية كثيرة؛ كجمعية التمثيل الأدبي وجمعية التمثيل والفنون في القدس، وفرقة جمعية الشبان المسلمين في يافا، الّتي مثّلت رواية “دموع اليائسة”، وفرقة “النادي الساليسي” الّتي قاكت بتمثيل رواية “كسرى والعرب”. وقد امتدت الفرق المسرحية لتشمل حيفا وبيت لحم وغزة، وعرفت غزارة الإنتاج الثقافي والمعرفي.

مبنى السرايا شاهد على المدينة

والمبنى عبارة عن دار الحكومة العثمانية القديمة، بناها والي يافا أبو نبوت سنة 1810 في وسط مدينة يافا، مقابل برج الساعة، حيث يطل على واجهة ساحة ميدان الساعة أو الحناطير، الّتي شهدت على معظم الثورات والانتفاضات. وجميع أعمدة مبنى السرايا استوردت من آثار قلعة قيساريا الرومانية، وكانت أثناء حكم الوالي مقرًا له، واستمر في كونه مقرًّا لمحاكم سلطات الاستعمار البريطاني في بداية الانتداب، إلى أن انتقل لاحقًا إلى مكانٍ آخر وتم إهمال ترميمه، وأخذ حال المبنى في التدهور وخصوصًا المرافق الداخلية والغرف، وتحوّل المبنى بعد الحرب العالمية الثانية إلى مقر لإدارة الخدمات الاجتماعية في مدينة يافا، وكان من نشاطاته رعاية الأحداث ودار الأيتام في يافا.

عرض عسكري إنجليزي في مبنى السرايا في يافا، 1918، مجموعة الصور.
عرض عسكري إنجليزي في مبنى السرايا في يافا، 1918، مجموعة الصور.

في بداية الأربعينات، تم تفجير المبنى من قبل مجموعة من المستوطنين، ضمن أعمال العنف الّتي تصاعدت تلك السنوات ومع تصاعد الثورة الفلسطينيّة المسلّحة. وإضافةً إلى مبنى السرايا، تم تفجير مصرف باركليز البريطاني ممّا أدّى إلى صدمة عنيفة وذعر بين السكان.

وبجانب مبنى السرايا الّذي كان مركزًا للحكم ويحتوي أيضًا على مسرح وقاعة مُعدّة لعدد للاجتماعات السياسية والثقافية في المدينة، كانت بعض المباني شاهدة على التطور المَدني في المدينة، وبقيت هذه المباني موجودة حتى اليوم؛ فجامع حسن بيك، يقع اليوم في منتصف مدينة تل أبيب، كان سابقًا امتدادًا للمدينة الّتي هُدمت بفعل المدفعية عام 1948، وكنيسة القديس بطرس حيث يعود تاريخ بنائها إلى الفترة العثمانية في 1654 وذلك تخليدًا للقدّيس بطرس، إلا أنها تعرضت للهدم مرتين خلال القرن الثامن عشر، وتاريخ ترميمها الحديث يعود إلى العام 188. ومسجد المحمودية أو مسجد يافا الكبير يعدّ معلمًا أثريًا يعود للحقبة العثمانية، ويقع قريبًا من برج الساعة ومبنى السرايا. وبرج الساعة أحد أهم الأعلام الأثرية المقابلة للسرايا، وقد تم تشييده في مطلع القرن العشرين على يد السلطان عبد الحميد الثاني، وذلك احتفالًا بمرور خمسة وعشرين عامًا على تولّيه السلطنة العثمانية، وقد بُنيت أبراج مماثلة في عكا وحيفا والناصرة ونابلس.

اعتبرت هذه الشواهد التاريخية، أماكن اجتماع الناس، توقف الحناطير ولقاء الغرباء، أماكن لاجتماع المسؤولين السياسيين والكتّاب والمثقفين في المدينة، كان التمدّن الّذي أظهرته يافا سابقًا لبقية المدن المعاصرة لها، فاستحقت كونها سبّاقة في تصدّر الثقافة والأدب.

كيف ساهم الدّروز في منع تهجير بعض القرى في الجليل؟

كيف ساهم وجهاء الطائفة الدرزية في البلاد بمنع تهجير قرًى كاملة في الجليل من خلال اتفاقيات سريّة اُبرِمت بين الأعوام 1939-1948؟

موشيه ديان في جنازة ضابط درزي في دالية الكرمل، 1969، أرشيف دان هداني.

موشيه ديان في جنازة ضابط درزي في دالية الكرمل، 1969، أرشيف دان هداني.

عند قراءة تاريخ منطقة الجليل، يصطدم القارئ بقصص كثيرة الّتي تثير الأسئلة حول بقاء العديد من القرى وعدم تهجيرها بعد حرب عام 1948. إن تدّخل وجهاء الطائفة الدرزية للوساطة أمام قوات الجيش الإسرائيلي ساهمت بشكلٍ كبير في الحفاظ على قرى الجليل من التهجير.

اختلف واقع القرى في الجليل خلال ذلك الوقت عن واقع مدن الساحل يافا وحيفا وما حولهما من مدنٍ مركزية كاللد والرملة والقدس، فقد افتقر الناس إلى أبسط المقوّمات العسكرية للدفاع عن أنفسهم من أجل البقاء في أراضيهم واعتمدوا اعتمادًا تامًا على جيش الإنقاذ العربي، لذلك عند وصول الجيش الإسرائيلي إلى أيٍ من هذه القرى، اُستخدم مصطلح “سقوط القرية” لأنها كانت تُحتل وتُهجّر دون مقاومة حقيقيّة.

طالع/ي: مدن تاريخية مصوّرة في موقع المكتبة الوطنية

خلال هذا المقال نستعرض كيف تمكّن وجهاء الطائفة الدرزية من خلال اتفاقهم مع الحكومة والجيش الإسرائيليين من ضمان بقاء قُراهم دون تهجير، وكيف استغلوا هذه العلاقات لبقاء بعض القرى والمدن العربية في الجليل دون تهجير أو مجازر كبرى كالّتي حدثت في مناطق أخرى في البلاد.

الاتفاق بين الدروز والحركة الصهوينية

بحسب المصادر التاريخية المختلفة، فإنّ التواصل بين الحركة الصهوينية وبعض وجهاء الطائفة الدرزية بدأ قبل قيام دولة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية بسنوات، وذلك بحكم الجيرة وامتلاك أراضٍ زراعية متجاورة في منطقة حيفا، حيث نشأت علاقة بين عائلة أبو ركن وبعض المزارعين اليهود في كيبوتس الياجور، ممّا مهّد الطريق لتعاون بين بعض أفراد العائلة والمستوطنين اليهود.

استغلّت ابتداءً من سنوات العشرين من القرن الماضي الخلافات الّتي كانت تنشب في بعض الأحيان بين الطوائف المختلفة مع الدروز، فكانوا يتدخلون لصالح الدروز وحمايتهم من أجل جذبهم لناحيتهم في الحرب المتوقعة. نجحت الحركة في ضم جزء من وجهاء الطائفة الدرزية من خلال مدّهم بالدعم المادي والعسكري والمعنوي ضد المسلمين والمسيحيين.

إحدى الحوادث المشهورة الّتي أدّت إلى تعميق النزاع بين المسلمين والدروز كانت حادثة إصابة عشر دروز في نزاع دار في مدينة شفاعمرو، خلفيّته أن المسؤول عن أراضي شفاعمرو صالح أفندي محمد الشبل من المكر قُتل في شفاعمرو واتهم الدروز بقتله. فدخلت الحركة الصهيونية النزاع لمساعدة الدروز، لكنها لم تحصل على تعاون حقيقي من قبل الطائفة حتى قدوم عام 1939 عندما قُتل الشيخ حسن خنيفس على يد الثّوار عن طريق الخطأ.

ويذكر المؤرخ قيس ماضي فرّو في كتابه “دروز في زمن الغفلة” بإن لقاءً جرى بين ضباط الجيش الإسرائيلي وزعماء من الدروز في مدينة شفاعمرو قبيل احتلالها، وتم الاتفاق على تسليم المدينة معهم، من خلال القيام بمعركة وهمية في حارة الدروز، وبالمقابل قصف حارة المسلمين. هذه الخطة ساهمت بشكلٍ كبير في تسليم المدينة وسقوطها، وتذكر الأدبيات الإسرائيلية ذلك، بأنه لولا مساعدة الدروز لما سقطت شفاعمرو بهذه السهولة.

عملت الحكومة الإسرائيلية منذ تأسيس الدولة على دب الخلاف بين الدروز وبقية الطوائف في البلاد، كما استغلت وصولها لبعض الزعماء والوجهاء الدروز لتقوية العلاقة مع الطائفة، يغرونهم تارةً بالمال وتارةً بالحماية من التنكيل والقتل والتهجير كغيرهم من جيرانهم المسلمين والمسيحيين. لم يتوقف الأمر على الدروز في البلاد، فقد استقطبت الاستخبارات الإسرائيلية بعض الوجهاء الدروز من سورية، واستقروا في البلاد بعد قيام الدولة.

اقرأ/ي أيضًا: الشيخ أمين طريف: رجل حمل همّ توحيد الطائفة الدرزية

وكان لتأسيس فرقة “وحدة الأقليات” في الجيش الإسرائيلي خط اللاعودة بالنسبة للدروز، فقد كانت الدليل على العلاقات المتينة الّتي جمعت بعض وجهاء الطائفة خلال الحرب، الدروز الّذين كانوا من أوائل من حمل البندقية في وجه الاستعمار البريطاني في فلسطين وبدايات الاستيطان اليهودي في فلسطين الانتدابية أيضًا، لكنهم اختاروا لاحقًا الوقوف في صف المنتصر في الحرب من أجل المحافظة على بقاءهم في بلادهم.

اقرأ/ي أيضًا: دالية الكرمل – من تمرّد جبل لبنان حتّى حلف الدّم مع إسرائيل

التدخل لحماية بعض القرى المسلمة والمسيحية

خلال أيام الحرب في شهر تموز 1948، اجتاحت قوات الجيش الإسرائيلي منطقة الجليل لتنفيذ الخطة بإفراغ القرى من أهلها، لكن في ذات الشهر وعند دخول الجيش إلى مدينة شفاعمرو في أيام المعارك العشرة في الجليل، ساهم الدروز في تسليم المدينة دون أن يقتلع سكّانها منها وجرى الشيء ذاته في وقراها المجاورة. فقد نفّذ الدروز الاتفاق السّري الّذي عُقد سابقًا بين ضباط الجيش الإسرائيلي وبعض القيادات الدرزية بعد معركة الهوشة والكساير، وبناءً على هذا الاتفاق الّذي نصّ على انسحاب الدروز من القتال ضد اليهود، عاد محاربو فوج العرب في معظمهم إلى بيوتهم في سوريا ولبنان، بينما انضم العشرات منهم إلى الجانب الإسرائيلي في الحرب.

وفي قرية يركا، كان هناك دور كبير لعائلة معدي الدرزية في مساعدة أهالي القرى المجاورة على عقد اتفاقيات تسليم واستسلام، وكانت كفر ياسيف واحدة من تلك القرى الّتي تم تسليمها بعد تدخل وجهاء العائلة اليركاوية، إذ بينما هُجِّرت معظم قرى ساحل عكا بعد احتلالها في أيار، فإنّ القرى الدرزية القريبة وبعض القرى المختلطة حولها ظلّت على حالها.

وقد استغل يني يني رئيس مجلس كفر ياسيف علاقات جيرانه الدروز في يركا باليهود لإنقاذ أهالي قريته من الاقتلاع والتهجير، ووقّع اتفاقًا معهم عن طريق حاييم أورباخ من نهاريا المجاورة في 10 تموز.

وفي مجد الكروم، يذكر أنه في يوم الجمعة الموافق 29 تشرين الأول 1948، انسحبت قوات جيش الإنقاذ من القرية، ونصحت الأهالي بمحاولة التوصل إلى اتفاق مع الجيش الإسرائيلي يقتضي بتسليم القرية دون خوض معارك حفاظًا على حياتهم وبيوتهم، وفي الليلة نفسها الّتي انسحبت فيها الفرقة من مجد الكروم، توجه وجهاء من القرية إلى عائلة معدي في قرية يركا المجاورة، طالبين منهم مساعدتهم في إبرام اتفاق مع قيادات الجيش لضمان سلامة القرية وأهلها.

ومن هناك تم الاتصال بحاييم أورباخ ضابط الاستخبارات في الجليل الغربي، ورتبوا للقاء معه في قرية البروة، وخلال هذا الاجتماع تم التوصل إلى اتفاق لتسليم قرية مجد الكروم وبعض القرى المجاورة في الشاغور. وفي اليوم التالي، دخلت الفرقة رقم 123 من الجيش الإسرائيلي إلى القرية واستلَمت السلاح الموجود مع الأهالي ضمن الخطة المتفق عليها مع الوجهاء الدروز.

على الرغم من الاتفاق مع الجيش الإسرائيلي للحفاظ على سلامة الناس في قرى الشاغور، إلا أن إحدى الفرق العسكرية أعدمت شابين من كل قرية (مجد الكروم، البعنة، دير الأسد، نحف) على مرأى من السكان، وطلبت من البقية المغادرة إلى لبنان لئلا يكون مصيرهم مثل الّذي اُعدموا.

وفي قرية الرامة، قام الجيش الإسرائيلي بترحيل المسيحيين فقط من القرية، حيث ذكر في بعض المصادر التاريخية بأن الضابط قال بإن الدروز هم وحدهم لن يهجّروا لأنهم أصدقائهم، وأمر المسيحيين بالتحرك إلى لبنان. عند وصول المهجرين إلى قرية بيت جن الدرزية، توجهوا إلى وجهاء القرية وطلبوا مساعدتهم للبقاء في البلاد. قُبل طلب الوجهاء وعاد جميع المسيحيين إلى الرامة والناصرة، كما أخبروا أقاربهم الّذين هجّروا سابقًا إلى لبنان وعاد معظمهم.

إنّ محاولات طرد السكّان في الشاغور باءت بمعظمها بالفشل، ولم يهجّر من القرى المذكورة إلا القليل، وذلك لعدة أسباب مجتمعة، ربما يكون أبرزها التنوّع الديني للسكّان في المنطقة، وخوف الجيش الإسرائيلي من الاعتداء على من أطلقوا عليهم اسم “الأصدقاء”، فيؤثر ذلك على عملية احتلال الجليل وتطويعه.

 

المصادر:

نكبة وبقاء: حكاية فلسطينيين ظلّوا في حيفا والجليل. عادل مناع، مؤسسة الدراسات الفلسطينية.

دروز في زمن الغفلة: من المحراث الفلسطيني إلى البندقية الإسرائيلية. قيس ماضي فرّو، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2019

العرب الدروز في إسرائيل: مقاربات وقراءات نظرية وسياسية ناقدة. مدى الكرمل، 2018

أبراج الساعة: تاريخٌ نُقِش في الحجر

في هذا المقال نقوم بالتركيز على أبراج الساعة في مدن فلسطين العثمانية، تاريخ بنائها وأسبابه، وكيف غيّرت بحضورها المدن.

برج الساعة في يافا، مجموعة بينو روتنبيرغ، المكتبة الوطنية

برج الساعة في يافا، 1946-1988، مجموعة بينو روتنبيرغ، المكتبة الوطنية

تاريخ البناء والامبراطورية العثمانية

تقف في البلاد، وسط مدن مختلفة، أبراج الساعة العديدة، التي بنيت جميعها في العهد العثماني في عهد السلطان عبد الحميد الثاني. تم بناء هذه الأبراج المنتشرة في أنحاء القدس ويافا وعكا وصفد وحيفا لإحياء ذكرى حكمه الذي دام 25 عامًا. للأسف، تم هدم برج ساعة القدس أثناء دخول القوات البريطانية إلى المدينة، ولم يصمد حتى يومنا هذا.

 

برج الساعة في حيفا، 1957، أرشيف روتنبيرغ، المكتبة الوطنية.
برج الساعة في حيفا، 1957، أرشيف روتنبيرغ، المكتبة الوطنية.

 

مدن تاريخية مصوّرة

ظهر مفهوم هذه الأبراج بعد أن أهدى السلطان عبد الحميد الثاني المدن الساعات. كان امتلاك ساعة شخصية خلال تلك الحقبة أمرًا نادرًا، لذلك تم تشييد هذه الأبراج في مراكز المدن – وهي مراكز يتجمع فيها الناس، حيث ازدهرت الحياة  – لتوفير الوقت للجميع، ومساعدتهم على جدولة حياتهم. اذ في ذلك الوقت، كان الأثرياء فقط هم من يمتلكون الساعات المحمولة.

مبادرة السلطان الشخصية لتكريم حكمه حولت هذه الأبراج إلى مراكز استراتيجية لمساعدة الناس. وبمرور الوقت، تحولت هذه الساحات المزينة بالأبراج إلى معالم تاريخية وثقافية. لقد تم وضعها بشكل استراتيجي في قلب المدن، حيث تتركز التنمية الحضرية، مما يجعل الوصول إلى الخدمات سهلاً ويعزز الروابط المجتمعية.

ولم تقتصر هذه المبادرة على المدن الفلسطينية وحدها؛ إذ عند التجوّل في المدن القديمة في جميع أنحاء بلاد الشام – سوريا ولبنان وبعض المدن المصرية – يجد المرء أبراجًا مماثلة، وهي شهادة على السلطة الموحدة لتلك الحقبة.

المدن كشواهد على التاريخ

في نسيج المدن الكبيرة النابضة بالحياة آنذاك، تَتَكَشّف الحكايات حول أبراج الساعة المهيبة. في عكا، يقف برج الساعة بفخر فوق المدخل الشمالي الرئيسي، وهو عبارة عن حارس حجري يزين خان العمدان، الذي شيده الوالي أحمد باشا الجزار في أواخر القرن التاسع عشر. وبجوار الساحة الخضراء الصاخبة بالقرب من الميناء، ظهر حضورها الهائل في عام 1918، لينضم إلى سجلات الأبراج في جميع أنحاء فلسطين في عهد السلطان عبد الحميد الثاني.

برج الساعة في عكا، 1960-1970، مجموعة زيف يهودا، المكتبة الوطنية.
برج الساعة في عكا، 1960-1970، مجموعة يهودا، المكتبة الوطنية.

يمكن الوصول للبرج من خلال القناطر الحجرية المحمية بسقف حجري، والتي تقع على يسار المدخل الشمالي للخان. كانت الفتحات الدائرية على كل وجه تحتوي على ساعات مستديرة كبيرة ظلت شامخة حتى أواخر الخمسينيات قبل أن تقوم سلطات التراث بإزالتها. ثلاث لوحات رخامية منحوتة على الوجه الشمالي للبرج تحمل نقوشًا تحتفل بمرور 25 عامًا من حكم السلطان عبد الحميد.

أما برج الساعة في صفد، فيزين المحيط الجنوبي الشرقي للقلعة. تم بناء القلعة في القرن الثامن عشر في عهد ظاهر العمر، ثم تحولت إلى رمز للحكم العثماني بعد عام 1775. تم دمج برج الساعة بسلاسة في عام 1901، جنبًا إلى جنب مع نظرائه في جميع أنحاء فلسطين.

وفي الوقت نفسه، في نابلس، أشرف أحمد السروان، كبير عمال البناء في ذلك الوقت، على بناء البرج، وحصل على التكريم العثماني لدوره. وعلى غرار نظيراتها الفلسطينية، كان برج نابلس، وهو مبنى شاهق مكون من أربعة طوابق، يستضيف ضابط الوقت في المدينة وأصبح رمزا للأهمية التاريخية.

ظهر برج يافا أيضًا في عام 1901 وسط عمليات تجديد على مستوى البلاد. تقول الأسطورة أن أحد أثرياء جافان أخذ زمام المبادرة، بعد أن سئم من مقاطعة الأشخاص الذين يبحثون عن الوقت في طريقهم إلى محطة القطار. يضم هذا البرج أربع ساعات – اثنتان تحافظان على التوقيت الأوروبي واثنتان تتزامنان مع الجداول الزمنية المحلية، وهي شهادة على تقارب الثقافات في ذلك العصر.

صناعة الصّابون في فلسطين الانتدابية

خلال هذا المقال نقوم بسرد تاريخي حول أصول صناعة الصابون في العالم، وكيف تصدّرت نابلس الصّناعة في بدايات القرن العشرين.

مصنع صابون في حيفا

مصنع لصناعة الصابون في حيفا، 1906- 1922، أرشيف بن تسفي، المكتبة الوطنية.

اشتهرت مدينة نابلس منذ مئات السنوات بصناعة الصابون، وقد تصدّرت خلال بدايات القرن العشرين بتصدير الصّابون إلى بلاد كثيرة وواسعة خارج فلسطين. على الرغم من أن سوريا قد تصدّرت الصّناعة في الشرق الأدنى خلال سنوات الخلافة الأموية، إلّا أنّ الصّناعة اختفت بعدها لسنوات طويلة، لتعود للظهور في نابلس بحدود بدايات القرن السادس عشر.

لم تكن نابلس وحدها المتصدرة في الصناعة خلال تلك الأعوام، فعلى الرغم من التنافس العالي مع مدينة صقلية الإيطالية وظهور بعض المصانع في فرنسا، فإن ما كان يميّز صناعة الصابون في نابلس هو استخدام زيت الزيتون الصافي، بدون إضافات أخرى غير صحية، على عكس الصناعة في فرنسا وإيطاليا، حيث كانوا يستخدمون زيوت القلي وبعض الزيوت الأخرى غير الموثوقة صحيًّا.

مدينة نابلس التاريخية: صور، خرائط ومقتطفات من الصحف

وفي إحدى المقالات من صحيفة الأخبار، يقول الكاتب بإن الإقبال على شراء الصابونة النابلسية كان كبيرًا في فلسطين وسوريا ومصر والشرق العربي، وبالذات من شركة الزيتون للحاج فوزي باشا النابلسي، والمصنوعة في معمل مصبنة الشاب السيد علي سالم النابلسي العربية، والّتي كانت من أبرز الشركات في سنوات الثلاثينيّات.

صناعة الصابون في نابلس

إن صناعة الصابون في نابلس قديمة، وقد اشتهرت المدينة بمصانعها منذ القِدَم وبجودة الصّابون الّذي تقدّمه إلى العالم وتبيعه في العديد من الأقطار العربية والغربية. وقد بدأت صناعة الصابون في نابلس وبعض الأقطار العربية باستخدام زيت الزيتون والقلي فقط، لكن طرأت بعض التحسينات على الصناعة في نهاية سنوات الثلاثينيّات، حيث بدأ المصنِّعون يضيفون الصودا الكاوية مستبدلين بذلك زيت القلي، حيث تعطي الصابونة لمعانًا وشكلًا مختلفًا، كما تمت إضافة العديد من الروائح العطرية لتغيير رائحة زيت الزيتون الطاغية على التصنيع. كما تغيّر شكل ووزن الصابونة لتتناسب مع انتاج كلّ شركة، حيث يمنع لأي شركة أخرى استخدام الإنتاج الخاص ببقية الشركات.

مصبنة عربية في يافا، 1920 - 1923، بن تسفي.
مصبنة عربية في يافا، 1920 – 1923، بن تسفي.

 

مصنع "شجرة الزيت" في بيتاح تكفا، 1970، أرشيف بيتاح تكفا التاريخي.
مصنع “شجرة الزيت” في بيتاح تكفا، 1970، أرشيف بيتاح تكفا التاريخي.

 

وقد بلغَ عدد معامل ومصابن الصابون في نابلس خلال بداية الأربعينيّات من القرن الماضي، 22 مصنعًا منها الكبيرة وهي ما تسمّى بالمصابن والصغيرة وهي ما تسمّى بالمعامل. وأما عن الفرق بينهما فهو أن المصبنة تحوّل 250 جرة من الزيت بمعدل 6 أرطال للجرة إلى صابون، ويحتاج إلى غليه على النار ثمانية أيام، بينما طبخة الصابون في المعمل تبقى على النار مدة 24 ساعة فقط توضع فيها 60 جرة من الزيت فقط. وعدد العمال في كلّ من القسمين هو: في المصبنة ستة عمال ومسؤول الفريق وهو الّذي يشرف على إدارة العمل من الوجهة الفنية، مراقب حسابات، حارس وخادم. أما العمّال والرئيس فلا يتقاضون راتبًا يوميًا أو شهريًا، بل يتقاضون أجرًا عن كل طبخة وطبخة. أما ساعات العمل فهي 8-10 ساعات في الأيام العادية و8 ساعات في رمضان. وتكون العطلة في العادة يوم الجمعة وفي أيام الأعياد الكبرى؛ الفطر والأضحى وعيد المولد النبوي. ولا تمنح الإجازات إلا في حالاتٍ اضطرارية، ولا تعطى تعويضات للعمال الّذين يصابون خلال العمل. ويتراوح انتاج الصابون في نابلس بين 200-300 طن في السنة حسب جودة زيت الزيتون في تلك السنة.

إنتاج الصابون في نابلس، صحيفة الاقتصاديات العربية: 1 نيسان 1935.
إنتاج الصابون في نابلس، صحيفة الاقتصاديات العربية: 1 نيسان 1935.

لم يُعرَف عن نابلس صناعة أخرى خلال تلك السنوات سوى مصنع واحد للنسيج يخص الشقيقين فتحي وفيصل النابلسي، حيث كان المعمل مجهّزًا بآلات كهربائية ويعمل به 170 عاملًا.

لم تكن نابلس الوحيدة الّتي تصنع الصابون في فلسطين، فقد جاءت خلفها مدينة يافا في تصدّر الصناعة بوجود عشرة مصانع في المدينة، ثم تليهما حيفا بوجود مصنعان. ولعل أبرزهم كان مصنع “شيمن” وهو المصنع الوحيد بين جميع مصانع فلسطين المؤسس والمُجهّز على النظام الحديث. والمصنع الثاني في حيفا مملوك لرجل ألمانيّ، حيث كانت صادرته بأغلبها توّزع في الولايات المتحدة، وقد بدأ عمله منذ نهاية القرن التاسع عشر.

كما كان هناك بعض المعامل في كلّ من اللّد والرملة وتل أبيب، وجميع هذه المصانع كبيرها وصغيرها –باستثناء مصانع حيفا- مبنيّة على الطراز القديم ولم يدخل عليها منذ إنشائها أي تحسين يُذكر.

تأثُّر الصّناعة خلال الحرب العالمية الأولى

مع اعتماد صناعة الصّابون على موسم قطف الزيتون والزيت المستخرج منه، فقد تأثرت صناعة الصّابون خلال الحرب العالمية الأولى، حيث تم استغلال أشجار الزيتون وحطبها لتسيير القاطرات الّتي كانت تحتل البلاد آنذاك. وقد نتج عن ذلك قلة كمية الزيوت الّتي تستخرجها البلاد سنويًا، فاضطر أصحاب المعامل إلى استيراد الزيت من تركيا وسوريا واليونان، وقد أثّر ذلك على صناعة الصابون في فلسطين، حيث تضاءلت الصناعة في تلك الفترة، لكنها سرعان ما تعافت وانتعشت بعد الحرب، حيث عادت زراعة شجر الزيتون تنشط من جديد لتعويض ما تم إتلافه خلال الحرب.

أنشئ المعمل عام 1923 ولكنه لم يبدأ العمل إلا في عام 1925، وقد أنشأته شركة شيمن لتصنيع الزيوت، والّتي اندمجت في شركة ايسترن وأوفيرسيز الإنجليزية. وظلت الشركة منذ إنشائه تكبّر في حجمه وتزيد في مساحته وتضيف إليه المباني حتى أصبح لا يقل حجمًا وجودةً عن مصانع أوروبا، وقد كان الوحيد من هذه النوعية في فلسطين وسوريا. وهو يشتغل في صناعة الصابون والزيوت في آن واحد. أما أنواع الصابون الّتي كان يصنعها فهي كالتالي:

  • صابون من نوع صابون مرسيليا، أصفر وأبيض ويستعمل في صناعته من الزيوت زيت الزيتون وزيت جوز الهند وزيت السمسم
  • صابون من نوع كاستيل؛ ولا يدخل فيه صناعته من الزيوت غير زيت الزيتون النقي، وأكثر ما يستعمل هذا الصابون هو للأطفال وكان يصدّر كثيرًا للخارج.
  • صابون كصابون نابلس الوطني ومصنوع من زيت الزيتون فقط.
  • صابون معطّر للتواليت؛ ويستعمل في صناعته مزيج من زيت الزيتون وزيت جوز الهند.