لا شكّ أن نظريّة التطوّر الغنيّة عن التعريف أثارت جدلًا حسّاسًا ما زال حاضرًا إلى اليوم. يضع المعتقدات الدينيّة على اختلافها في كفّة واحدة في مواجهة مع العلم في كفّة أخرى. أو على الأقل، هذا ما رآه كثيرون خلال العقود الّتي تلت خروج النّظريّة إلى النّور. والنّظر إلى قراءة الثقافات والحضارات المختلفة لها، والمتغيّرة على الدوام، يشكّل نافذة هامّة لقراءة التّعدديّة الكامنة في الثقافة الواحدة، وكيفيّة تعاملها الفكري مع محدثات العصر. وكما تقول مروة الشاكري، لقد طافت أفكار داروين الأرض أكثر مما طافها هو بنفسه. نقدّم لكم في هذه المقالة بمناسبة ذكرى رحيل تشارلز داروين مقتطفات من بعض الكتب العربيّة الّتي اهتمّت بنظريّة التّطوّر في الفكر العربيّ.
تعدّدت التوجهات الفكريّة تجاه نظريّة التطوّر والأدبيّات العلميّة المحيطة بها. والّتي وجدت طريقها إلى اللّغة العربيّة عبر ترجمات متعدّدة، كانت مجلّة “المقتطف” العلميّة الصّادرة في بيروت ومن ثم بالقاهرة منذ سبعينيّات القرن التّاسع عشر أبرزها. إذ اهتمّ كتّابها بالعلوم الحديثة ورغبوا بتقديمها لجمهور القرّاء العرب. وأظهروا اطّلاعًا مبكّرا على التّفسيرات والأدبيّات العالميّة اللاحقة لنظريّة التّطوّر والمفسّرة لها.
في كتابها “قراءة داروين في الفكر العربي”، تقوم د.مروة الشّاكري، الباحثة المصريّة وأستاذة التّاريخ المساعدة في جامعة كولمبيا، بتتبّع القراءات العربيّة المتنوّعة حول نظريّة التّطوّر في دراسة ضخمة ما بين منتصف القرن التّاسع عشر ومنتصف القرن العشرين. ضمن إظهار سياقاتها السّياسيّة والاجتماعيّة والثّقافيّة المؤثّرة والمتباينة.
لا يقدّم الكتاب على كلّ حال تحليلًا للأفكار والجدليّات المذكورة بقدر ما يؤرّخ لها ويضعها في سياقها التّاريخيّ. وهي خطوة هامّة لمن يريد مساءلة دوافع وظروف الأفكار قبل الخوض بها. وهي رحلة تستطيعون من خلالها تتبّع وفهم مراحل هامّة ساهمت في تشكيل الثّقافة العربيّة المعاصرة، لا سيما فيما يخصّ قضايا جدليّة التّراث والحداثة، والعلم والنّصوص المقدّسة، الإصلاح والتّقدّم، الإسلام والاستشراق وغيرها من الجدليّات الّتي طبعت اهتمام الكثير من المفكّرين العرب في تلك المرحلة المفصليّة من عمر الدّولة العثمانيّة وما زالت حاضرة في المساعي الفكريّة العربيّة إلى اليوم. تقوم الشّاكري بذلك دون اقتطاع السّياق العربي والعثمانيّ من ذلك العالميّ كما يفعل بعض المؤرّخون بالنّظر إلى تاريخ الفكر العربيّ. ولا تفسّر نشوء تلك التّوجهات من منظور تلك الثّنائيّات بعينها، كأن تعتبرها تأثّرًا من الغرب أو العكس بشكلٍ تلقائي، إنّما بردّها إلى السياقات المتداخلة بطبيعة الحال.
أمّا الرّاحل د. محفوظ علي عزّام، أستاذ الفلسفة الإسلاميّة في كليّة الدّراسات الإسلامية والعربيّة في جامعة المنيا، فيشكّل كتابه “نظريّة التّطور عند مفكّري الإسلام – دراسة مقارنة” محاولة للإجابة والفصل في رأيٍ شاع لدى العديد من المفكّرين الإسلاميين في العصر الحديث، ويقول: بأن مفكّري الإسلام القدامى قالوا بنظريّة التّطور بالفعل، أو أن القرآن الكريم يوحي في عددٍ من آياته لتلك النّظريّة. مستدلّين بكتاب “الحيوان” للجاحظ على سبيل المثال وببعض التّفسيرات القرآنيّة. من هؤلاء المفكّرين كان إسماعيل مظهر في مقدّمته لترجمة “أصل الأنواع” والشّيخ طنطاوي جوهري في كتابه “الجواهر في تفسير القرآن” وغيرهم. وهو ما دفع عزّام لإصدار هذا الكتاب لحل “اللّبس” كما رآه.
يتألف الكتاب من أربعة أبواب يفصل بها بين مفهوم التّطوّر الداروينيّ والخلق الإسلاميّ وكيف نظر له المفكّرون والفلاسفة المسلمون. يستخلص عزّام في نهاية دراسته أن رفض نظريّة التّطور أو قبولها بدوافع نصوصيّة كانت أو فكريّة إسلاميّة أمرٌ غير ممكن، وأن القول بهذا ينطوي على مغالطات عديدة، إمّا في اعتماد تفسيرات محدودة لتلك الآيات أو لعدم فهم هؤلاء المفكّرين المسلمين، أو لخطأ في فهم نظريّة التّطوّر نفسها.
ولمن يبحث منكم عن كتابٍ بالعربيّة يشرح له النّظريّة وما تلاها من تفسيرات علميّة مؤيّدة أو معارضة، فستجدون كتاب “داروين والتّطور بمنظار العلماء المؤيّدين والمعارضين” لمدرّس العلوم الحمصيّ الأستاذ دعّاس ناصيف، الّذي لم يجد تعارضًا بين الإعجاب الشديد بالنّظرية والاتّفاق العقليّ معها وبين الإيمان الرّوحانيّ بالإله الخالق.
إذ يقول دعّاس: “لم يقصد داروين أبدًا إحداث شرخ بين العلم والدّين كان يحاول فقط وصف الطّبيعة كما رآها. وكثيرون هم الآن الذين يؤمنون بأن تكون متديّنًا وتقبل الحقائق العلميّة في الوقت نفسه يعتقدون أن الله خلق الحياة الأولى على الأرض وأن جميع القوانين المدهشة، بما في ذلك التّطور، نتج عن ذلك. إن تقبل بفكرة التّطوّر لا يعني أن تتخلّى عن مشاعرك الدّينيّة الخيّرة ومبادئك الرّوحيّة السّامية”. أو بكلمات “أندرو نكسون وايت” الدبلوماسيّ الأمريكيّ الّذي اتفق معه كما تحدّثنا شاكري “فارس نمر”، أحد ملّاك دار النّشر الّتي صدرت منها مجلّة المقتطف في القاهرة، فإن “لهذا الكون إلهًا يتمتّع بالحكمة التّي تجعل سائر مساعي البحث عن الحقيقة أمرًا آمنًا، ويتمتّع بالخير الّذي يجعل كافّة مساعي قول الحقيقة أمرًا مفيدًا”.