قَد يَكُون الصوفيون الأكثر إثارةً للاهتمامِ هم أولئكَ الذين تجرأوا على تحدي الوضع الراهن، وغامروا بالدخول إلى مناطق مجهولة من الفكر المتطرف بنظر البعض بغض النظر عن انتقادات العلماء كابن تيمية الشديدة لهم، والذي اعتبرهم زنادقة بسبب آرائهم غير التقليدية، والخطيرة برأيه. من خلال الخوض في حياة وأعمال هذه الشخصيات، يمكننا أن نكتسب فهمًا أعمق لتنوع الفكر الصوفي والتأثير العميق الذي كان له على العالم الإسلامي.
من تاريخ التصوف: مخطوطات رقمية من تاريخ الصوفية في العالم الإسلامي
في قلبِ الأندلُس في العصور الوسطى، وسط نَسيج الثقافةِ والمعرفة النابض بالحياة، عاش عالِمٌ مثير للجدل اسمه ابن سبعين. كانَ عقله عبارة عن متاهة من الأفكار العميقة، تَصارع مع أسرار الوجود، ساعيًا إلى كشف خيوط الواقع المعقدة.
ولد ابن سبعين في عائلة غارقة في المساعي الفكرية، وكان تعطشه للمعرفة لا يُشبع. وكان يلتهم نصوص الفلسفة واللاهوت والفنون الروحانية. ومع ذلك، كان دائما يتوق إلى شيءٍ أعمق، إلى حقيقة تتجاوزُ حدودَ الفكرِ المَحض.
انجذب ابن سبعين إلى التعاليم الصوفية وبخاصة تلك التي سمعها من ابن عربي. وحاول من خلال التّأَمُل وتنمية السكون الداخلي الوصول الى حالة الفناء الصوفية، أي أن يتحد مع الله دون الحاجة الى وسيط.
اقرأوا أيضًا: من مرسية إلى دمشق: رحلة ابن عربي
ومَع تَعَمُق ابن سبعين في العالم الصوفي، بدأَ في صياغة وجهة نظرهِ الفريدة حَول طَبيعة الواقع. كانت أفكارهُ في كثيرٍ من الأحيان جريئة، وتتحدى الفهمَ التقليدي لماهيةِ الحياة والكون والله. لقد تَحَدَّث عن وِحدةِ الوُجودِ المُطلقة، وَفكرةِ أَنَّ الوجود كُلَّه هو في النهاية واحد، وهو نسيجٌ سَلِس مَنسوج من الجَوهر الإلهي.
أفكارُ ابن سبعين الغريبة لم تمر دون أن يلاحظها أحد. كان معاصروه، سواء داخلَ الأوساط الصوفية أو خارجها، في كثير من الأحيان في حيرة من أمرهم، بل وفي بعض الأحيان انزعجوا من تصريحاته الجريئة. أشاد به البعض باعتباره صاحب رؤية، ورائدًا في عالم الفكر الصوفي، بينما أدانه آخرون باعتباره مهرطقًا، وتهديدًا لأسس العقيدة ذاتها. فكيفَ يُمكن فهم فكر ابن سبعين الذي عارضه الكثير؟
الوحدة المطلقة

يُمكِننا فِهمُ فِكرة ابن سبعين لوِحدة الوجود بصَخرة، ما حالُ المادةِ بالصّخر؟ صلبةٌ جامدة، هل هذا صحيح؟ عندما ننظر الى الصخرةِ من الخارجِ نراها كوِحدةٍ واحدة لا تتحرك، لكنّها بالحقيقة تحتوي جسميات صغيرة جداً، تخيل مجموعة من الراقصين محبوسين في رقصة واحدة لا نهاية لها، هذا إلى حد كبير ما يحدث للجُسيمات في مادةٍ صلبةٍ كالصخرة. قد ترى أنت الصَّخرَة كوحدة واحدة وَيَصعُب عليك تَخَيُلُ أنَّ بداخلها عالم من عدد كبير من الجُزيئات التّي تَتَحرَّك بِشَكلٍ مُتَناسِق لِتُشكل الشّكل الثابت الذي عليه الصّخرة.
ما علاقةُ الصخرة ِبابن سبعين؟ كما الصخرة يرى ابن سبعين أنَّ الله أو روحه هو شيءٌ واحدٌ فقط لا يَتَجَزَّأ و أنَّ ما نراهُ نحنُ من وجودٍ بشريٍ متعددٍ و مُعقد و دائم التغيّر ما هو الا مَحضُ وَهم لأننا داخل الصخرة، أي داخل وجود الله الواحد.
في كتابهِ الشّهير بعنوان “بُد العارف” يعلنُ ابن سبعين بحماسٍ عن إيمانه بهذه الوحدةِ العَميقة، حيثُ لا يوجدُ سوى الله. في حينِ رأى ابن عربي أن العالم حقيقي نسبيًا وأنَّهُ جاءَ انعكاساً لماهية الله وصفاته وأسمائهِ التي لا حصرَ لها، اتَّخذ ابن سبعين رؤية أكثر جذرياً بنفيه وجود العالم كشيء قائم بذاته من الأساس، بل اعتبره سرابً يُخَيَّلُ للعقل البشري وجوده. دعا ابن عربي لتأمل العالم من حولنا لمعرفة الله، في حين لم يرى ابن سبعين داعياً لذلك، إذ لا وجودَ للعالمِ خارجنا فيكفي أن نتأملَّ دواخلنا بصمت لندركَ حقيقة الوجود المطلقة بأنه لا وجود إلا لله فقط.
وتردد كتاباته صدى مدوياً لقول “الله فقط”، مؤكداً أنَّ كلَّ شيء، من الذاتِ الفردية حتى العالم، ليست سوى أوهام غير موجودة. في نظرته للعالم، الله وحده هو الحقيقة التي لا يَمكن إنكارها. كما يَدعو هذا المنظور إلى تجاوز كل أشكال التعدد، متجاوزًا حتى الأسماء الإلهية العديدة. وبدلاً من ذلك، يركزُ ابن سبعين بشكلٍ مكثف على الجوهر الإلهي، ويرى أنه جوهرُ كل الواقع ولا واقع غيره.

لم يردع ابن سبعين الجَدَلَ الدائر حول أفكاره، وواصل متابعة سعيه الفكري، وكتب أطروحات تستكشف أعماق رؤيته الصوفية. وكان لكلماته، المليئة بالجمال الشعري والدقة الفكرية، صدى ًلدى أولئك الذين تجرأوا على تحدي المعايير السائدة والسعي إلى فهمٍ أعمقَ للكون.
إن إرث ابن سبعين هو شهادة على قوة الفكر المستقل والجرأة في التشكيك في التعاليم القائمة. أفكاره، على الرغم من أنها مثيرة للجدل في كثير من الأحيان، لا تزال تلهم وتتحدى الباحثين عن الحقيقة، وتذكرنا بأن الطريق إلى التنوير غالبًا ما يكون مرصوفًا بالمفارقة والرغبة في احتضان المجهول.