كيف تمّ نقل أربعة ملايين كتاب

كيف نقلت المكتبة الوطنية مجموعاتها-ليس على مرحلة واحدة، بل على مرحلتين- من موقع لآخر؟ تبيّن لنا هذه الصور عملية نقل مئات آلاف الكتب، ولاحقًا ملايين الكتب إلى المقرات المختلفة للمكتبة الوطنية على مر السنين.

Ara715

على يسار الصورة، نقل كتب المكتبة الوطنية من مبنى تراسنطة إلى الحرم الجامعي في جفعات رام في عام 1960؛ على يمين الصورة، خزائن الكتب المشغّلة بالروبوتات في مبنى المكتبة الوطنية الجديد

هذا المقال مترجم عن اللغة العبرية للكاتبة عوفريت أساف أرييه

في 10 كانون الثاني 2023، استكملت عملية نقل الكتب من الموقع الحالي للمكتبة الوطنية الإسرائيلية في جفعات رام إلى موقعها الجديد. نُقِلَ بالمجمل 3.6 ملايين كتاب، وهو إنجاز مهمّ في الطريق نحو نقل المكتبة الوطنية إلى موقعها الجديد بجوار الكنيست.

مرّت المكتبة منذ تأسيسها بتغييرات كثيرة، من حيث موقعها ومجموعاتها. ولكنّ نقل هذه الكمية الهائلة من الكتب من مبنى لآخر تمّ على مرحلتين: في عام 1960 وفي عام 2022.

 نقل الكتب: 1960 مقابل 2022 

في عام 1948، خلال الحرب، سُدّت الطريق إلى الجامعة العبرية في جبل المشارف، وكذلك الأمر بالنسبة للمكتبة الوطنية، وكانت تدعى في حينه “المكتبة الوطنية الجامعية اليهودية”. نتيجة لذلك، تناثرت الكتب لتصل في نهاية المطاف إلى أماكن مختلفة في الجزء الغربي من المدينة، من بينها مبنى ترسانطة، مكتبة كنيس يشورون وأماكن عديدة أخرى. في عام 1960، نُقلَ مقر المكتبة مجددًا، من المباني المختلفة التي أوَتْ مجموعات المكتبة بشكل مؤقّت، إلى مقرها الحالي في الحرم الجامعي جفعات رام في الجامعة العبرية. وثّق المصور دافيد هاريس عملية النقل هذه في مجموعة رائعة من الصور تستعرض الجهود الحثيثة التي بذلها طاقم المكتبة لنقل مئات آلاف الكتب من المواقع المختلفة إلى المبنى الجديد. في الوقت الحالي، يوثّق المصوّرون مجددًا عملية نقل كتب المكتبة إلى مقرها الدائم الجديد.

تحميل الكتب لنقلها إلى مبنى المكتبة الحالي في الحرم الجامعي جفعات رام، 1960

 

بدء عملية نقل الكتب، تشرين الأول 2022. صورة: أودي إلفاسيكما ترون، فإنّ العمل شاق جدًا، وهو مكوّن من عدة مراحل: أولًا التصنيف، ومن ثم رَزْم الكتب وأخيرًا نقلها. في عام 1960، حمّلت الكتب داخل خزائن كتب، ومن ثم تم حزمها وربطها بحبل أو وضعها داخل صناديق. ثم قام أعضاء الطاقم بتحميل الخزائن والرزم والصناديق على شاحنات. أما في الوقت الحالي، تتضمن العملية أساسًا رافعات شوكية وشبه مقطورات- لأنّ المجموعة كبرت بطبيعة الحال.
عمّال ينقلون الكتب من مبنى ترسانطة إلى موقع الحرم الجامعي جفعات رام، 1960. تصوير: دافيد هاريس 

 

تصنيف الكتب في المبنى الجديد. تصوير: ألباتروس

 

مستودع المكتبة الوطنية الجامعية اليهودية في تراسنطة، 1960. تصوير: دافيد هاريسعملية التصنيف الحالية مختلفة أيضًا عما كانت عليه في الماضي: ففي حينه، تم تصنيف الكتب يدويًا فقط. أما الآن، فهي تدمج بين التصنيف الرقمي واليدوي والذي يتمحور حول المسح الضوئي لشفرات التعرف (باركود) الموضوعة على الكتب.
تصنيف الكتب في جفعات رام، 1960. تصوير: دافيد هاريس

 

تصنيف الكتب في مبنى المكتبة الوطنية الجديدـ، 2022. تصوير: ألباتروس

 

أما في الوقت الحالي، فقد نقلت جميع كتب المكتبة إلى الخزائن الرئيسية الآلية، خزنت داخل صناديق خاصة فوق منظومة رفوف متعددة الطوابق. عند طلب كتاب ما، فإنّ البحث عنه لا يتم من قبل عضو طاقم بشري، بل من قبل روبوت على شكل رافعة. يعرف الروبوت من أي صندوق يجب إخراج الكتاب، ومن أي رف. ثم ينقل الصندوق إلى الموقع حيث يستطيع طاقم المكتب إخراج الكتاب المطلوب. من المدهش أيضًا عدم وجود أية قوى عاملة داخل المستودع الآلي الضخم، والذي يحتوي على نسبة أكسجين منخفضة وحيث تخزّن الغالبية العظمى من مجموعات المكتبة. يعرف الروبوت بالضبط من أين يجب استخراج كتاب معين من ملايين الكتب المرتبة في الصناديق المنظمة بعناية ودقة.

خزائن الكتب في جفعات رام. تصوير: حنان كوهين

 

المستودع الآلي في المبنى الجديد للمكتبة الوطنية، 2022. تصوير: يانيف ليفي كوريمتبيّن الصور أنّ نقل هذه الكمية من الكتب- والتي تتضمن مئات آلاف، بل ملايين الكتب- يبدو مدهشًا بصريًا، ولكنه مركّب جدًا من الناحية التقنية. اتبعت المكتبة تقنيات رقمية وتناظرية لحفظ مجموعاتها، مع الحرص على وضع كل كتاب في موقعه المناسب على الرفوف، ومع مرور السنين، توسّع حيز المستودع أكثر فأكثر.في السنة المقبلة، ستستكمل المكتبة الوطنية نقل جميع الكتب إلى الحرم الجامعي الجديد، وعند فتح أبوابها، ستكون ملايين الكتب هذه متاحة لكم، بالإضافة إلى سائر مجموعات المكتبة.

سيف الدين الزعبي؛ عضو عربي في الكنيست أثار الجدل

سيف الدين الزعبي في كتابه "شاهد عيان"، كيف بقي بالناصرة بعد الحرب، وكيف وصل للكنيست الأول، وكيف هاجمته صحيفة الاتحاد.

سيف الدين الزعبي في مظاهرة يوم العمال في الناصرة، 1965، مجموعة بيتمونا.

لطالما كان اسم سيف الدين الزعبي (1913 – 1986) اسم مثير للجدل في الأوساط العربية بالبلاد، إذ كان من أوائل النوّاب العرب في الكنيست الإسرائيلي الأول عام 1949 ودعم قرار تقسيم فلسطين. ولكن، الأكثر من ذلك بإنه تعاون مع الهاجاناه قبل تأسيس إسرائيل عام 1948.

لقد كان سيف الدين الزعبي من مواليد قرية نين (إحدى قرى المرج) تعلّم في الكتّاب، وختم القرآن في عمر العاشرة من عمره. (شاهد عيان، 1987). انتقل لمدينة الناصرة لكي يدرس في مدارسها، إلا أنّه ووفقًا لمذكّراته لم يلتزم بالدوام في صفوف الدراسة على الرغم من أنّه كان فصيح اللسان، وملّمًا بالشعر والأدب والسياسة. لقد تقلّد سيف الدين العديد من المناصب حتى تقلّد منصب رئيس بلدية الناصرة.

سيف الدين الزعبي وآرائه الجدلية

عند النظر إلى موقفه من قرار تقسيم فلسطين، كان سيف الدين الزعبي من أوائل الناس الذين نظروا إلى قرار تقسيم فلسطين نظرة مختلفة عن الباقي؛ إذ يورد لنا في مذكراته “شاهد عيان”: “وتقرّر هيئة الأمم المتحدة تقسيم فلسطين سنة 1947 وتثور ثائرة العرب، ويقرر العرب ومعهم دول عربية سبع أن ينتزعوا البلاد بقوة السلاح. أما أنا فقد رأيت آنذاك ما لم يره أولئك الذين انخدعوا وضُّللوا من قبل الزعماء العرب، ورأيت بما حباني الله من بعد نظربأنّ ما يقوله أولئك الزعماء هو غير ما يفعلون. وأنّ التقسيم الذي قُّرر لا بد وأن يكون وأنّه من مصلحة العرب وأن يقبلوا بالأمر الواقع قبل أن تقع الكارثة فيندمون.” ويستطرد الزعبي في مذكراته حول المشاكل والأزمات التي دارت بينه وبين الزعماء العرب وعلى رأسهم المفتي أمين الحسيني، الذي تبيّن لاحقًا أنه قد أرسل ببعض “الزعران” لكي يغتالوا سيف الدين الزعبي (شاهد عيان، 1987).

أما موقفه من الهاجاناه، فقد كان سيف الدين الزعبي نشطًا في صفوف “الهجاناه” وتحديدًا في وحدة الاستخبارات، وقد نال على ذلك “وسام محاربي إسرائيل.” وهذا النشاط مكّنه من مساعدة بعض اللاجئين الفلسطينيين على العودة إلى البلاد بل واستعادة أراضيهم الزراعية، لا سيما بعض وجاهات قرى مرج بن عامر مثل إكسال ودبورية؛ إذ ساهمت علاقته الخاصة مع موشيه شاريت ويغال ألون بمساعدة بعض الناس بالعودة إلى بيوتهم، وتأمين بعض الأشغال لهم بعدما استشرى الجوع  والمرض في مدينة الناصرة.

ولقد اعتبر الزعبي أن دورة الكنيست الإسرائيلي الأولى كان فيها من الديموقراطية الجديدة التي لم يشهدها العرب من قبل، إذ سُمِح لهم باختيار نائب والتصويت له وكان التصويت لأول مرة حقًّا للجميع ذكورًا وإناثًا، أغنياءً وفقراء. عقدت الدورة الأولى للكنيست في كانون الثاني من العام 1949، أي بعد أقل من عام على قيام الدولة، إذ كانت الحاجة تُلّح إلى تشكيل حكومة، وقد تشكّلت الحكومة بقيادة دافيد بن غوريون، فيما كان في هذه الدورة ثلاثة أعضاء عرب وهم: أمين سليم جرجورة وسيف الدين زعبي عن القائمة الديمواقراطية للناصرة، وتوفيق طوبي تحت كتلة الحزب الشيوعي الإسرائيلي. وقد حصدت حينها القائمة الديمواقراطية للناصرة مقعدين، بينما حصل الحزب الشيوعي الإسرائيلي على أربعة مقاعد.

اقرأ/ي أيضًا:  النوّاب العرب في الكنيست: توفيق الطوبي، سيف الدين الزعبي، وأمين جرجورة

 

اقتتال “الأخوة”: سيف الدين الزعبي والأعضاء العرب في الحزب الشيوعي الإسرائيلي

 

لا نشعر بوجود الحكم العسكري

سلسلة اعتداءات على أعضاء الحزب الشيوعي: صحيفة الاتحاد 26 أيار 1951

اتّهَمَت صحيفة الاتحاد التابعة للأعضاء العرب في الحزب الشيوعي الإسرائيلي سيف الدين زعبي بأنّه سياسي مثير للجدل في العديد من المواقف خلال عمله السياسي سواءًا في الكنيست أو بلدية الناصرة. على سبيل المثال، في العام 1951، اتُّهِم بتنظيم سلسلة من الاعتداءات على عدد من أعضاء الحزب الشيوعي الرافضين للحكم العسكري آنذاك مستخدمًا سلطته في الحكومة وعلاقاته. أمّا في العام 1960، خلال ترأسه لبلدية الناصرة، تحدّث باسم سكان الناصرة بأنّ “البلدية والأهالي لا يشعرون بوجود الحكم العسكري”. وفي انتخابات رئاسة بلدية الناصرة للعام 1971، عقّبت صحيفة الاتحاد أنّ الانتخابات تمّت في جلسة غير قانونية. وقد اتهم بتشكيل ائتلافات خاصة به داخل منظومة بلدية الناصرة، مما أدّى إلى الكشف عن فساد في إدارة سيف الدين الزعبي داخل البلدية. وقد توالت الأحداث والاشتباكات السياسية داخل البلدية مما أدّى بنشر خبر صحفي في صحيفة الاتحاد وُثِّق فيه تهديد سيف الدين الزعبي لعضو الحزب الشيوعي الإسرائيلي توفيق طوبي بالطرد من مدينة الناصرة. و لم تتوانى صحيفة الاتحاد باللحاق بالنائب سيف الدين الزعبي والكتابة عنه والكشف عن الفساد والخطابات السياسية، التي وصفتها الصحيفة، بأنها لا تمثّل العرب في البلاد.

 

 

 

 

انتخاب سيف الدين الزعبي في جلسة غير قانونية: صحيفة الاتحاد 30 نيسان 1971

 

ائتلاف سيف الدين في بلدية الناصرة
ائتلاف سيف الدين في بلدية الناصرة: الاتحاد 20 حزيران 1972

 

فساد إدارة سيف الدين الزعبي: الاتحاد 5 كانون الثاني 1973

 

سيف الدين يهدد توفيق الطوبي: الاتحاد 12 تشرين الثاني 1976

سكن سيف الدين الزعبي في البلدة القديمة لمدينة الناصرة في ستينيّات القرن الماضي في بيتٍ قديم بُني من العام 1888، وكان يتبع لجميعة عميدار للإسكان، وقد اشترته ابنته من ذات الجمعية في العام 2011 وحوّلته لمركز سياحيّ وبيت ضيافة وصله العديد من القادة والسياسيين أمثال شمعون بيريز، جولدا مائير، جيمي كارتر وغيرهم.

 

روضة الأطفال التي تحولت إلى مقر لقيادة الموساد في المغرب

في الصباح مربية أطفال، وفي المساء عميلة للموساد- إنّها قصة حقيقية وليست فيلم تجسس.

المربية اليهودية يحزقيلي غليلي (من اليسار) في احتفالات عيد الأنوار في الروضة العبرية الأولى، الدار البيضاء، المغرب.

المربية اليهودية يحزقيلي غليلي (من اليسار) في احتفالات عيد الأنوار في الروضة العبرية الأولى، الدار البيضاء، المغرب.

مُتّرجّم عن: شير أهارون برام

تخيّلوا الموقف التالي: تكلّفون بالسفر إلى دولة أجنبية، يطُلب منكم تأسيس روضة أطفال عبرية لأطفال الجالية اليهودية، وفي صباح أحد الأيام، تكتشفون أنّ الروضة التي أسّستموها- تحولت إلى قاعدة تدريبات للموساد، وأقيم فيها فرع للمنظمة السريّة اليهودية. هل تبدو لكم قصة من فيلم أكشن؟ ربما تكون كذلك، ولكنها قصة حقيقية، وهذا مجرّد غيض من فيض. تحدّثت بطلة القصّة فقط عمّا سمحت الرقابة بنشره: مع اقتراب نهاية عام 2022، نشرت لأول مرة قصة يهوديت يحزقيلي (غليلي)، “بعثة مصيرية”، حيث تحدثت عن التجارب المثيرة التي مرت بها في المغرب.

في عام 1954، كلّفت يهوديت غليلي بالسفر إلى المغرب من قبل قسم الثقافة والتعليم في الوكالة اليهودية.  كانت مهمّتها بسيطة: تأسيس روضة أطفال إسرائيلية-عبرية في المغرب، وتعليم اللغة العبرية. في تلك الفترة، كانت غليلي تعمل كمدرّسة في بلدة هارطوڤ، والتي ساهمت في إقامتها، وفي أحد الأيام، وبينما كانت تنتظر القطار عودةً إلى مدينة القدس، أخبرها أحد أصدقائها بأنّ الوكالة تبحث عن مدرّسين للسفر في إطار بعثة إلى دولة المغرب. مع أنّ يهوديت كانت تجهل موقع الدار البيضاء على الخارطة، إلّا أنّها لم تتردد – وبتشجيع من أصدقائها، قررت قبول المهمّة التي كلّفت بها. بعد أن اجتازت جميع المقابلات ومسار القبول، تقلّدت منصبًا رسميًا في المغرب عام 1954، ولم تكن قد تجاوزت بعد سن 24 عامًا.

ولدت غليلي عام 1930 في طبريا، وترعرعت في نيشر. شاركت في صِباها في فعاليات الشبيبة العاملة والمتعلمة ونشطت أيضًا في كتائب الشباب “غدناع”. قبل سفرها إلى المغرب، شاركت في دورة تأهيل قادة عسكريين في القوات البرية الإسرائيلية التابعة للبلماح، قاتلت في عمليات عسكرية وأصيبت في معركة حيفا. في أيار 1948، انضمت إلى لواء هريئيل حيث عملت في مرافقة وإرشاد القوافل الأمنية.

 

يهوديت غليلي (لاحقًا يحزقيلي) تتدرب على استخدام الأسلحة في تدريبات البلماح
يهوديت غليلي (لاحقًا يحزقيلي) تتدرب على استخدام الأسلحة في تدريبات البلماح

 

تدريبات لأعضاء البلماح وهم يجتازون مستجمعًا مائيًا. يهوديت غليلي يحزقيلي فوق أكتاف أحد الأشخاص
تدريبات لأعضاء البلماح وهم يجتازون مستجمعًا مائيًا. يهوديت غليلي يحزقيلي فوق أكتاف أحد الأشخاص

 

المهمّة: إقامة روضة أطفال في المغرب

كانت مهمّة يهوديت، على الأقل في بداياتها، جوهر النشاط الصهيوني خارج البلاد في تلك الفترة: استقطاب وتقريب يهود المغرب من البلاد، خاصة أبناء الطبقة الوسطى – الثرية، والذين ابتعدوا عن الفكرة الصهيونية وعن دولة إسرائيل. كانت الجالية اليهودية في المغرب أكبر جالية يهودية في البلدان الإسلامية. اعتاد اليهود المثقفون والأثرياء إرسال أبنائهم إلى مؤسسات تعليمية فرنسية بدلًا من الصهيونية، مثل الأليانس ومؤسسات تعليمية أخرى. جزء كبير من هذه الجالية، وقد تمركز العديد من ابنائها في الدار البيضاء ـ (حيث أرسلت يهوديت)، لم يفكروا قط في الهجرة إلى دولة إسرائيل. في تلك الفترة، كانت المغرب لا تزال “دولة واقعة تحت حماية” الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية – وشيكة الزوال. على الرغم من وقوع أحداث عنف معدودة (مثل البوغرومات في وجدة وجرادة والتي وقعت بعد إعلان استقلال دولة إسرائيل)، تمتّع اليهود في المغرب بقدر من الراحة النسبية تحت الحكم الفرنسي، ولكن دولة إسرائيل كانت تعلم أنّ حالة الهدوء لن تدوم طويلًا- ولذلك، أرسلت مبعوثيها لتقريب يهود المغرب من الفكرة الصهيونية، تحسّبًا لأي طارئ.

في السنة الأولى لهذا التكليف، سعت يهوديت لتأسيس روضة أطفال عبرية في الدار البيضاء، وإلى جانبها استوديو لتعليم اللغة العبرية. درّست اللغة العبرية في الروضة، وكانت العبرية اللغة المستخدمة في الروضة التي أدارتها يهوديت والمساعِدة تسيبورا، يهودية محلية تحدثت العبرية. اتبعت الروضة نفس نهج العمل الذي كان متبعًا في رياض الأطفال العبرية في البلاد، ووفقًا لنفس المنهاج. حضر الأطفال إلى الروضة في سفريات خاصة، وكانت معدات ولوازم الروضة عبارة عن تبرّعات قدّمتها جهات صهيونية في إسرائيل ومنظمة الجوينت. أقيمت الروضة في فيلا فخمة في الحي الفرنسي في الدار البيضاء، وخصّص فيها مسكن ليهوديت، والتي طوّرت خلال عملها علاقة وطيدة مع أهالي الأطفال من المجتمع المحلي، والذين كانت لهم لاحقًا مساهمة كبرى. تم لاحقًا تجنيد بعض الأهالي الذين أرسلوا أطفالهم إلى الروضة للانضمام إلى المنظمة السريّة اليهودية في المغرب – “همَسغيرت”. ابتداءً من عام 1954، كان عملاء الجهاز الأمني الإسرائيلي، وعلى رأسهم شلومو حافيليو، يكلفون بالسفر إلى المغرب، لفحص وتقييم وضع اليهود في الدولة. كانت المغرب تسعى لنيل الاستقلال، وكان على اليهود – الذين تحسنت مكانتهم خلال فترة الاستعمار الفرنسي – الاستعداد مجددًا للتغيير الوشيك. في الواقع، فإنّ المهمة الأصلية ليهوديت غليليت كانت مرتبطة بتحقيق هذا الهدف، إذ أنّ التشجيع على الهجرة كان أحد الطرق الرسمية التي اتبعتها إسرائيل للتعامل مع الوضع.

 

صورة جماعية لأطفال الروضة في عيد البوريم، يهوديت غليلي-يحزقيلي (الصف الثاني من اليمين)، نيشر.
صورة جماعية لأطفال الروضة في عيد البوريم، يهوديت غليلي-يحزقيلي (الصف الثاني من اليمين)، نيشر.

بعد مضي عام على بدء العمل، خرجت يهوديت في إجازة قصيرة. عند عودتها، كانت البلاد في حالة سيئة. فقد تم قبل ذلك نفي السلطان محمد الخامس، حدث في مصر انقلاب وفقدت المنطقة بأسرها أمنها واستقرارها. توقعت دولة إسرائيل انضمام المغرب إلى المعسكر المعادي لإسرائيلي، كسائر البلدان العربية، وساد القلق والخوف على حياة نحو 200,000 يهودي في المغرب. سرّع الموساد عملية تأسيس “همسغيرت”، المنظمة السرية اليهودية في المغرب، وبدأت خلايا المنظمة تنتشر سرًا في مختلف أرجاء الدولة. افتتحت إحداها داخل الروضة التي أسّستها يهوديت غليلي. كان يوم 16 تشرين الأول 1955، وهو يوم عودة ملك المغرب إلى بلاده، نقطة تحول بالنسبة ليهوديت. سعت المنظمة السرية في تلك الفترة لإيجاد غطاء تتستر خلفه، الاندماج بين عملاء الوكالة المخولين رسميًا بالتواجد في الدولة، وتم تجنيد سكان محليين في صفوفها. وعليه، وعند عودة يهوديت من إجازتها القصيرة، اكتشفت أنّ الروضة التي أقيمت في الفيلا باتت تستخدم لأغراض أخرى.

 

الملك محمد الخامس ونجله حسن عند عودتهما من المنفى في مدغشقر، داخل مركبة وترافقهما فرقة خيالة، شوارع الدار البيضاء، المغرب. تصوير: يهوديت غليلي.
الملك محمد الخامس ونجله حسن عند عودتهما من المنفى في مدغشقر، داخل مركبة وترافقهما فرقة خيالة، شوارع الدار البيضاء، المغرب. تصوير: يهوديت غليلي.

 

يهوديت غليلي، الاسم المستعار: “نورا”

“عند صعود السلّم باتجاه غرفتي، سمعت أصواتًا غريبة صادرة عن الطابق الثاني (…). هممت بالانصراف بسرعة، ولكنني فوجئت برؤية أشخاص غرباء، وأعتقد أنّهم هم أيضًا ذعروا أكثر مما ذعرت أنا نفسي… كان من المفترض أن يكونوا عملاء “سريين”، تسللوا إلى المغرب كل على حدة، ولم يكن أحد يعلم بوجودهم هنا، وفجأة، يُكتشف مخبأهم أمام إسرائيلية مجهولة….”. هكذا استحضرت يهوديت غليلي لقاءها الأول بنشطاء المنظمة السرية اليهودية في المغرب. كان شلومو يحزقيلي، قائد الخلية ولاحقًا زوج يهوديت، أول من استعاد رباطة جأشه ودعاها للجلوس ومن ثم التحقيق معها بعد أن قدّم نفسه باختصار. “أجبت عن جميع الأسئلة كطفلة مطيعة، وفي النهاية، نفذ صبري. بنبرة غاضبة وواضحة، قلت مندفعة، ما هذه التحقيقات؟ من أنتم؟ بأي حق تدخلون الروضة؟ أنا أسكن هنا وهذه روضتي!”، كتبت يهوديت عن ذاك اللقاء. بعد هذا التعبير الحازم عن موقفها، كُسر الجليد، وفي نهاية المطاف، وجدت يهوديت نفسها مجنّدة للمنظمة السرية اليهودية في المغرب. وافقت على الانضمام مع أنّها لم تكن تعلم ما يدور، وذلك بعد أن اكتشفت أن أعضاء المنظمة يعرفون عنها كل شيء دون أن تنبس ببنت شفة.

 

طفلة تقدّم تبرعًا للصندوق الأزرق الخاص بالصندوق القومي اليهودي، الروضة العبرية، الدار البيضاء، المغرب. في الوسط يهوديت يحزقيلي غليلي. أطفال الروضة متنكرين في عيد البوريم.
طفلة تقدّم تبرعًا للصندوق الأزرق الخاص بالصندوق القومي اليهودي، الروضة العبرية، الدار البيضاء، المغرب. في الوسط يهوديت يحزقيلي غليلي. أطفال الروضة متنكرين في عيد البوريم.

 

في ذاك اللقاء الذي اقتحمته غليليت بدون قصد، قرر أعضاء “همسغيرت” الاستقرار في مبنى الروضة في الدار البيضاء، لتصبح الروضة بذلك مقرًا مؤقتًا للمنظمة السرية اليهودية في المغرب.  تم تجهيز وتهيئة قبو الروضة ليصبح مخبأ الأسلحة الأول للتنظيم اليهودي، ومن ثم مقرًا للتدريبات، مقرًا لتفكيك وتركيب الأسلحة والوسائل القتالية ومقرًا للقاءات السريّة لضم المجندين الجدد. انتحل أعضاء المنظمة شخصية عملاء الوكالة، لتتحول المنظمة بذلك من ذراع صهيوني معترف به إلى جهة متداخلة عميقًا في نشاط الموساد. أصبحت يهوديت “المتعلمة” موردًا ثمينًا بالنسبة للمنظمة السرية. عملها كمربية أطفال أتاح لها المجال للتواصل مع السكان المحليين- ابتداءً من أهالي أطفال الروضة وحتى تلاميذ استوديو تدريس اللغة العبرية، الإصغاء للآخرين وفهم الأجواء السائدة- والأهم من ذلك كلّه- إيجاد عملاء محتملين يمكن تجنيدهم.  تعلّمت يهوديت كيفية الكتابة بحبر سري وتجهيز مخابئ الأسلحة، تدرّبت على مختلف طرق جمع المواد والمعلومات واستخدمت الاسم المستعار- “نورا”. بالإضافة إلى المهارات أعلاه، أدّت يهوديت دور المبعوثة وهمزة وصل بين المجموعات المختلفة، وبدأت أيضًا بتزوير جوازات سفر لليهود الذين أرادوا الهروب من المغرب.

 

مربية الأطفال يهوديت يحزقيلي وأطفال الروضة العبرية الأولى متنكرين في عيد البوريم، الدار البيضاء، المغرب.
مربية الأطفال يهوديت يحزقيلي وأطفال الروضة العبرية الأولى متنكرين في عيد البوريم، الدار البيضاء، المغرب.

 

روضة الأطفال ومقر المنظمة السرية اليهودية

كيف سارت الأمور في الواقع؟ إليكم مثال: حضرت كارميلا، يونا وابنتهما أورلي- عميلا موساد وابنتهما- إلى المغرب كعملاء للوكالة واستقروا في الدار البيضاء. سجّلت الطفلة أورلي في روضة يهوديت، لتسهيل المحادثات بين يهوديت والزوجين. عندما كانت كارميلا تحضر ابنتها إلى الروضة صباحًا، كانت تترك ليهوديت رزمًا ورسائل مصنّفة، لتقوم يهوديت بدورها بتوصيلهما إلى وجهتها. كان يونا نائب شلومو يحزقيلي، قائد المنظمة السرية اليهودية، وكان مسؤولًا عن استلام الأسلحة، تخبئتها والتدريب على استخدامها. كان أيضًا متخصصًا في صنع مغلّفات مزدوجة ذات محتويات سرية.  عندما كان يأتي إلى الروضة، كان يهتم بصنع مخابئ مختلفة داخل الفيلا، على سبيل المثال، داخل أصيص كبير أمام الفيلا حيث حفر تجويفًا لتخبئة المناشير. استُخدمت المخابئ لتشفير الرسائل وتخبئة الأسلحة.  تزامنًا مع ذلك، أصبحت يهوديت هي أيضًا جاسوسة: كل محادثة مع أهالي أطفال الروضة أصبحت مصدر معلومات تم تمريرها لأعضاء المنظمة السرية. من بين طالبات استوديو تدريس اللغة العبرية، كانت هناك فتيات ونساء عاملات في مكاتب حكومية أو لدى مسؤولين قياديين في مؤسسات مختلفة، وتم تجنيدهن هن أيضًا لجمع المعلومات. استخدمت الروضة أيضًا كمقر لإرسال ممتلكات العائلات اليهودية التي لم يتمكنوا من أخذها عند الهجرة، وفيه شبكة لاسلكية بين المغرب وفرنسا. تدربت في الروضة خلايا سرية لا تعرف شيئًا عن بعضها بعضًا، وكانت فيها أيضًا مناطق تُفتح وتُغلق عند سماع كلمة المرور الصحيحة.  تجدر الإشارة إلى أنّ الروضة تابعت نشاطها الاعتيادي إلى جانب هذا النشاط السري.

 

قصة حب. شلومو يحزقيلي، قائد "همسغيرت" وزوجته يهوديت غليلي التي جنّدها للمنظمة السرية، في صف تدريس اللغة العبرية والحساب، الدار البيضاء، المغرب
قصة حب. شلومو يحزقيلي، قائد “همسغيرت” وزوجته يهوديت غليلي التي جنّدها للمنظمة السرية، في صف تدريس اللغة العبرية والحساب، الدار البيضاء، المغرب

 

في بداية حزيران 1956، أصدرت السلطات في المغرب قرارًا بتقليص نطاق النشاط الصهيوني في البلاد. حتى إغلاقها نهائيًا، تابعت روضة غليلي نشاطها مكتملة العدد، إلى جانب كونها مقر المنظّمة السرية “همسغيرت”. بعد إغلاقها، انتقلت المنظمة السرية اليهودية للعمل في مناطق أخرى ومن أماكن مختلفة. لم تغادر يهوديت غليليت المغرب، ولكنها تابعت نشاطها في مخيم المهاجرين “مازاغان” بجوار الدار البيضاء، إلى أن اضطرت لمغادرة البلاد. تابعت لاحقًا نشاطها من مرسيليا من أجل يهود المغرب.

 

غليلي تتابع نشاطها حتى بعد ترحيلها من الدولة. يهوديت غليلي يحزقيلي تكتب على آلة كاتبة قائمة بأسماء المهاجرين غير الشرعيين من المغرب إلى إسرائيل، مرسيليا، فرنسا
غليلي تتابع نشاطها حتى بعد ترحيلها من الدولة. يهوديت غليلي يحزقيلي تكتب على آلة كاتبة قائمة بأسماء المهاجرين غير الشرعيين من المغرب إلى إسرائيل، مرسيليا، فرنسا

 

تزوجت لاحقًا من شلومو يحزقيلي، قائد “همسغيرت” في المغرب، والذي التقت به للمرة الأولى في ذاك اليوم المصيري. تابعا معًا نشاطهما الأمني، الاستخباراتي والجماهيري الإسرائيلي في باريس بين 1960 و 1964. سكنا لاحقًا في أفريقيا في إطار منصب رسمي، ومن ثم عادا إلى البلاد. عملت يهوديت في التربية والتعليم والكتابة، وإلى جانب نشاطها التربوي، عملت في الرسم، النحت، تأليف القصص وإنتاج الأفلام. أصدرت تسعة كتب وعشرات المقالات، نظّمت معارض وأنتجت ثلاثة أفلام. فازت خلال حياتها بعدة جوائز، أنجبت من زوجها شلومو غليلي ثلاثة أبناء وأسّست عائلة في إسرائيل. يسرد كتابها الأخير، “بعثة مصيرية”، قصة بعثتها إلى المغرب، وهو يشكّل مرجعًا لكتابة هذه المقالة. القصة متاحة للقراءة عبر الإنترنت. (باللغة العبرية)

 

كما في فيلم تجسس. يهوديت غليلي يحزقيلي (من اليمين) مع شلومو يحزقيلي في مقهى، الدار البيضاء ـ المغرب
كما في فيلم تجسس. يهوديت غليلي يحزقيلي (من اليمين) مع شلومو يحزقيلي في مقهى، الدار البيضاء ـ المغرب

 

الصور في المقالة هي جزء من مشروع شبكة أرشيفات إسرائيل وهي متاحة في إطار تعاون بين ياد يتسحاق بن تسفي، وزارة شؤون القدس والتراث والمكتبة الوطنية الإسرائيلية.

 

أموال الحالوكاه أو التقسيمة – كيف عاش يهود اليشوف القديم؟

اليشوف القديم مصطلح عبري، ويُقصد به السكان اليهود في البلاد قبل الهجرات الصّهيونيّة، واعتاش هذا المجتمع على أموال التبرعات من يهود العالم. فما "الحالوكاه".

باب الخليل في القدس، نهاية القرن ال 19

باب الخليل في القدس، نهاية القرن ال 19

بقلم: شارون كوهين

إن فكرة تخصيص الميزانيات لطلبة العلم فكرة مألوفة لدى معظمنا، لكن جذور هذه الفكرة في الديانة اليهودية قديمة وتسمى باتفاقية يَساكار وزبولون. ظهر هذا الاتفاق في سفر التكوين وفيه حدث تحالف بين شخصين – أحدهما لديه المال والآخر طالب ذكي ولكنه فقير؛ الرجل الغني يدعم الطالب الذكي مادياً ويسمح له باستثمار وقته في دراسة التوراة. في المقابل، يُعتبر صاحب المال شريكًا للطالب الذكي في أداء فريضة دراسة التوراة.

ظهرت هذه الممارسة عبر التاريخ بأشكال مختلفة؛ أحدها هو الحالوكاه أو أموال التقسيمة – مصطلح من فترة اليشوف القديم في فلسطين العثمانيّة يشير إلى الحسابات التي كانت تدار على يد يهود الشتات من أجل المستوطنين اليهود في البلاد.

كان سكان اليشوف القديم يمثّلون الشعب اليهودي كله، واعتبر مكوثهم في البلاد عملًا يقرّب الخلاص. لذلك، شعر يهود الشتات بنوع من الالتزام بدعمهم والاهتمام باحتياجاتهم. كانت الأموال التي تم جمعها مخصصة في المقام الأول للفقراء من العلماء الذين كرّسوا حياتهم للصلاة ولدراسة التوراة، وكان يهود اليشوف يذكرون المتبرعين في صلاتهم ويدعون لهم.

مثال على ذلك، الملصق التالي والذي يُظهر الصلاة بمناسبة عيد الميلاد المائة للسيد موشيه مونتفيوري الذي جمع الكثير من الأموال لسكّان اليشوف القديم. كُتبت الصفحة وطُبعت في مطبعة الحاخام يوئيل موشيه شالامان، وطُبع اسم مونتيفيوري بالحبر الذهبي.

 

ملصق "صلاة لموشيه" من مجموعة الأفيمرا، المكتبة الوطنية.
ملصق “صلاة لموشيه” من مجموعة الأفيمرا، المكتبة الوطنية.

تطوّر جمع أموال التقسيمة وتنظيمها في القرن السابع عشر، عندما عرّف حاخامات البلاد أموال التقسيمة كفرض على يهود الشتات  وليست صدقة فقط. كانت إحدى الطرق الشائعة لجمع الأموال من خلال تركيب الحصّالة النقدية “الحاخام مئير صاحب المعجزة” في الكُنُس والبيوت، وقُسّمت الأموال التي تم جمعها على المستوطنين اليهود في البلاد، ومن هنا جاء اسم “أموال التقسيم”.

بدأت المشكلة عندما لم يتفق المستوطنون على حساب التّقسيمة، نشأت الخلافات بين الطائفة السفاردية والطائفة الأشكنازية في القدس حول توزيع أموال التقسيمة عندما قرّر السفارديون أن تٌعطى للقادة والعلماء، بينما قرّر الأشكنازيّون تقسيم الأموال وفقًا لمعادلة تم بموجبها تخصيص الثلث للمحتاجين، والثلث للعلماء والثلث للمؤسسات العامة.

على أثر هذه النّزاعات، غادر معظم الأشكنازيين القدس وانتقلوا إلى طبريا وصفد والخليل خلال القرن السابع عشر، ومنذ ذلك الحين، تم إرسال أموال التقسيمة إلى “المدن المقدسة الأربع” وهي القدس والخليل وطبريا وصفد. وفي العام 1786، قررت المجتمعات الأوروبية إنشاء “لجنة الكتّاب والمفوّضين” التي اهتمّت بتنسيق جمع الأموال وتوزيعها بشكلٍ منظّم.

طالع/ي أيضًا: صفحات عناوين المدن التاريخية

حتى بداية الهجرات الصهيونية في نهاية القرن التاسع عشر كان أهالي اليشوف القديم يعتمدون بشكل تام على أموال التقسيمة لتسيير حياتهم. عملت منظمات وشخصيات يهودية من جميع أنحاء الوجود اليهودي في العالم من الاستيطان القديم، ومن بين أهدافهم كان التأثير على ثقافته، مثل المنظمة اليهودية الفرنسية “كل أصدقاء إسرائيل”، والمتبرعين من عائلة روتشيلد، ورؤساء الجاليات من إنجلترا وعلى رأسهم موشيه مونتفيوري، كما ذكرنا سابقًا، وعائلة ساسون من بغداد ومومباي وغيرهم. يعتقد  الباحث موشيه سمت إلى أن نمو الاستيطان القديم وازدهاره كان مخيّبًا لهذا السبب بالتحديد – لأن المستوطنين القدامى لم يتمكنوا من إعالة أنفسهم واعتمدوا على الدعم المستمر من يهود الشتات.

إعلان خاص نشره موشيه بويمغارتن المقيم في القدس عام 1872 في صحيفة هابزالت.

في هذا الإعلان، يحتج السيّد على احتمال توقيف حصوله وعائلته على حصّتهم المعتادة من أموال التقسيمة بسبب افتتاحه لبيت مدراش (مقرّ علم ديني) بالقرب من منزله. وبحسبه، فقد تم تحذيره من أنه إذا لم يغلق البيت “مدراش”، فسوف يتوقف عن تلقي حصته من أموال التقسيمة خوفًا من أن يلجأ إلى جاليات يهودية في الخارج طلبًا لدعم البيت مدراش والتسبب بضرر للأموال المحوّلة إلى نظام التقسيمة.

 

الإعلان عام 1872، مجموعة الصحافة التاريخيّة في المكتبة الوطنية الإسرائيليّة
الإعلان عام 1871، مجموعة الصحافة التاريخيّة في المكتبة الوطنية الإسرائيليّة

وفقًا لأهالي الشتات حينها، كان من الأفضل تشجيع المستوطنين القدامى على العمل لكسب قوتهم بأنفسهم حتى يتمكنوا من العيش في البلاد باكتفاء ذاتي وبدون احتياج لتبرّعات من أي نوع. تبنّى هذا التوجّه ودعّمه العديد من المهاجرين الصّهيونيّين في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، والذين رأوا أن نظام التّقسيمة يتعارض مع اعتقادهم بأن على الاستيطان اليهودي في البلاد أن يقوم على أسس اقتصادية سليمة.

بحلول نهاية القرن التاسع عشر، كانت قد بدأت فكرة التقسيمة بالتّلاشي. اليوم، بقي استخدام صناديق التمويل في الخارج تحت إدارة الوكالة اليهودية ومنظمات إضافيّة، إلّا انّ هذه الأموال غير موجّهة إلى مواطني إسرائيل مباشرة، إنّما لدعم المنظّمات وأعمالها، ممّا يصبّ في المصلحة الجماعيّة للشعب اليهودي والإسرائيلي.