مقدمة: تاريخ الصحافة العربية في فلسطين

يستعرض المقال تاريخ الصحافة العربية خلال الفترة الانتدابية والعثمانية على فلسطين؛ كيف تطورت؟ وكيف كان ظهورها المتأخر في النصف الثاني من القرن الـ 19.

أ.د. عامي أيالون ود. نبيه بشير

اعتبرت فلسطين منذ مطلع القرن السادس عشر وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى جزءًا من الدولة العلية العثمانية التي سيطرت على غالبية البلدان الناطقة بالعربية. ومع الاحتلال البريطاني للبلاد في سنة 1917/1918، تحوّلت إلى سيطرة الإمبراطورية البريطانية، إذ خضعت بداية (1917-1920) لنظام حكم عسكري وفيما بعد (منذ تموز 1920) لنظام مدني حيث انتدبتها عصبة الأمم لحكم البلاد. تغطي مجموعة الصحف السنوات الأخيرة للعصر العثماني – منذ ثورة تركيا الفتاة – والحقبة البريطانية بكاملها.

عديدة هي العوامل التي ساهمت في تأخّر ظهور الصحافة العربية في المنطقة بصورة عامة وفي فلسطين بصورة خاصة، مقارنة بأوروبا، كما أثقلت مجمل هذه العوامل خطى تطوّر الصحافة بعد صدورها لاحقًا. ومن أهم هذه العوامل كان تأخّر اعتماد الطباعة في الدولة العلية العثمانية، إذ اجتمعت جملة من العوامل الثقافية والاعتبارات السياسية لإحجام السلاطين عن اعتماد الطباعة حتى منتصف القرن الثامن عشر تقريبًا، وإتاحة المجال أمام الجمهور لاستخدام الطباعة منذ منتصف القرن التاسع عشر فقط. كذلك، فإنَّ تباطؤ خطى التحديث في الدولة العلية، وخاصة في مجال التربية والتعليم، إلى جانب فرض نظام رقابي صارم، كانت جميعها عراقيل وقفت أمام ظهور الصحافة ونموّها.

ظهرت الصحافة العربية بداية خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر في مصر، حيث صدرت الصحيفة الأولى في سنة 1828، وتسارعت وتيرة صدور الصحف فيها بصورة كبيرة خلال النصف الثاني للقرن ذاته، وذلك بفضل مبادرات فردية واهتمام حكّام مصر حينئذ بتطويرها. أما في لبنان، فقد صدرت أولى الصحف في النصف الثاني للقرن التاسع عشر بإيعاز من منظمات تبشيرية أوروبية وأمريكية. كما وشهدت أماكن أخرى في أرجاء الدولة العلية في تلك الفترة نهضة، وإن كانت بطيئة، في هذا المجال، إلاّ أنَّ نظام السلطان عبد الحميد الثاني (1876- 1909) الصارم كان على الأبواب، وأثقل كاهل جميع المبادرات لإنماء وتطوير المطبوعات كالصحف وغيرها في كافة أنحاء الدولة العلية. ولهذا فإنَّ مصر ولبنان شكّلتا مركزين يتيمين تقريبًا للنشاط الصحفي في المنطقة حتى انطلاق ثورة تركيا الفتاة في سنة 1908. كذلك كانت الحالة في فلسطين، التي لم تشهد هي الأخرى، أسوة ببقية البلدان المجاورة، نموًا لصحافة محلّية حتى مطلع القرن العشرين (باستثناء صحافة عثمانية رسمية متواضعة جدًا).

أتّسمت الفئات السكانية العربية في فلسطين في منتصف القرن التاسع عشر بكونها قروية بالأساس، إلى جانب بعض المدن المتوسّطة والصغيرة – كالقدس (نحو 40,000 نسمة) ويافا (نحو 30,000 نسمة) وغزة (نحو 20,000 نسمة) -وفق التعداد السكاني في نهاية القرن- ونابلس والخليل وعكّا وحيفا. فقد سكنت غالبية السكان العرب في نحو 800 قرية كبيرة وصغيرة – شكّل التجمّع اليهودي في حينه، في نهاية القرن، نحو 25,000 نسمة بالمجمل، تركّز في القدس وفي المدن المقدّسة الثلاث الأخرى: الخليل وطبرية وصفد. كذلك، فقد بلغت نسبة معرفة القراءة والكتابة في المجتمع العربي المحلّي مستويات متدنية جدًا، فقد تشكّلت من شريحة بسيطة جدًا من السكان. أسوة بالمجتمعات الأخرى في المنطقة، فقد وقفت عوامل ثقافية خلف هذا الواقع وتجلّت في تحديد بالغ الصرامة للمعلومات التي يتعيّن صيانتها وتوريثها، إضافة إلى أنها لعبت دورًا بالغ السلبية في تضييق الخناق على مجالات تأثير التربية والتعليم في المجتمع. أفضت هذه العوامل إلى خلق بيئة لا تشجّع على نمو أنشطة نشر الإصدارات المكتوبة والمطبوعة.

دخلت الطباعة إلى البلاد بدايةً في منتصف القرن التاسع عشر. ويبدو أنَّ الرهبان الفرنسيسكان في القدس كانوا أول المبادرين في هذا المضمار، فقد أنشئوا أول مطبعة في سنة 1846 (هي مطبعة رهبان دير الفرنسيسكان في القدس). وأنشأت بعض المنظمات المسيحية والتبشيرية لاحقًا بعض المطابع الأخرى في القدس، أصدرت جميعها نشرات تحمل طابعًا دينيًا. وعلى ما يبدو، فقد صدرت أول نشرة بالعربية (والعثمانية) في البلاد في سنة 1876 هي “قدسى شريف/القدس الشريف”، التي تعتبر نشرة رسمية بائسة أصدرتها السلطات العثمانية في القدس، وسعت إلى نشر الفرمانات والتشريعات. لم تصمد هذه النشرة فترة طويلة ولم تصلنا منها أية نسخة. وكذلك الأمر بخصوص نشرة الغزال، التي صدرت في البلاد في نفس الفترة، وفق ما جاء في بعض المصادر. لم تظهر أية نشرة أخرى بعد هاتين المحاولتين المتواضعتين حتى مطلع القرن العشرين. وقد ظهرت النشرة الرسمية البائسة “قدسى شريف/القدس الشريف” مجدّدًا في سنة 1903 بصورة أسبوعية بوصفها صحيفة وحيدة تقريبًا في البلاد، ووقف الشيخ علي الريماوي على تحرير القسم العربي فيها بينما ترأس عبد السلام كمال هيئة تحرير القسم التركي. أسوة بالولايات العثمانية المجاورة، فقد انتظرت البلاد طويلاً لهبوب رياح التغيير فيها، تلك الرياح التي ستهب أخيرًا منذ سنة 1908، والتي ستتيح الفرصة أمام ازدهار الأنشطة في المجال الصحفي. وبالرغم من افتقار البلاد للنشاطات الصحفية المحلّية إلاّ أنها لا تكن منفصلة عن محيطها، فقد استهلكت طبقة المثقفين المتواضعة فيها الصحافة والمجلات والكتب الصادرة في مصر ولبنان، وحافظ المثقفون عبر كتاباتهم على روابط نشطة مع زملائهم المقيمين في الولايات الأخرى.

أدخلت ثورة “تركيا الفتاة” (صيف 1908) تغييرات على قلب السلطة السياسية العثمانية، ومن بين جملة الأمور فقد تجلّت في ظهور مبادرات للكتابة والنشر بكافة الأنواع الأدبية في جميع أرجاء الدولة العلية. أسوة ببقية البلدان المجاورة، استجابت البلاد بصورة مباشرة وصدرت فيها نشرات صحفية، إذ نشهد صدور ما لا يقل عن 15 صحيفة ودورية ناطقة باللغة العربية في تلك السنة نفسها (1908)، إضافة إلى نحو 20 صحيفة ودورية أخرى صدرت حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى. وكانت أهم هذه النشرات صحيفة الكرمل (حيفا، 1908)، لصاحبها نجيب نصّار، وصحيفة فلسطين (يافا، 1911)، لصاحبيها عيسى داود العيسى وابن عمّه يوسف حنا العيسى، بادرت هذه الشخصيات الوطنية المسيحية إلى تأسيسهما، وتحوّلتا الصحيفتان في العقود التالية إلى العمود الفقري للصحافة العربية السياسية في البلاد. كما صدرت نشرات دورية هامة أخرى بدءًا من سنة 1908، هي صحيفة القدس (القدس)، لصاحبها جورج حبيب حنانيا، وصحيفة النفير (القدس وحيفا)، التي أسّسها بداية إبراهيم زكا في الإسكندرية بعنوان “النفير العثماني” وانتقلت إلى القدس ولاحقًا إلى حيفا وتحوّل الامتياز إلى شقيقه إيليا زكا، ومجلة النفائس (دورية أدبية صدرت في حيفا)، لصاحبها الأديب خليل بيدس، إلى جانب نشرات سياسية وثقافية ودينية وغيرها صدرت غالبيتها لفترات قصيرة. يعتبر هذا النشاط مهد الصحافة العربية في البلاد، وتميّز بمواجهته صعابًا عديدة، وحيازة وسائل شحيحة، وسوق مستهلكين بالغ الضيق: إذ نجحت الصحف العربية بمجملها في البلاد، بحسب أحد التقديرات، بتسويق نحو 5,000 نسخة قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى، وهو عدد قليل جدًا قياسًا بعدد السكان البالغ نحو 650 ألف نسمة في ذلك الحين، إذ كان استهلاك الصحف لا يزال في خطواته الأولى.

صحيفة فلسطين
صحيفة فلسطين

أفضت سنوات الحرب العالمية الأولى وظروفها الصعبة إلى شلل كامل لحقل الصحافة في فلسطين كما جرى في البلدان المجاورة كذلك. وعند انتهاء الحرب، بدأت حقبة جديدة وعاصفة في تاريخ البلاد، إذ تحوّلت إلى حلبة صراع وتصادم بين مختلف اللاعبين المحليّين والأجانب. كما ظهرت تنظيمات جديدة داخل المجتمع العربي في البلاد -من حركات وأحزاب سياسية واتحادات دينية ومنظمات نسائية وشبابية وغيرها- واجهت تحدّيات جديدة لم يسبق أن اختبرها المجتمع الفلسطيني في الحقبة العثمانية. فقد استُخدمت الصحف لأول مرّة كأدوات في الصراعات العامة ولخدمة قيادات وحركات وأحزاب بعينها. وقد نما خطاب متسارع حول القضايا الكبرى التي أدرجت على جدول الأعمال، وخاصة الصراع ضد الصهيونية والسلطات الأجنبية، إلى جانب ظهور تعبيرات صحافية للصراعات السياسية المحلّية الداخلية في المدن وكذلك الصراعات الوطنية. لم تول السلطة البريطانية بداية أهمية بالغة لهذه المنشورات المكتوبة، بسبب تفشّي الأمية بنسب عالية في المجتمع العربي في البلاد، فأتاحت الفرصة أمام الصحف للتعبير بحرية كبيرة حتى الإعلان عن الإضراب العام في سنة 1936. صدرت في البلاد كافة نحو 200 صحيفة بين السنتين 1919-1948، صدرت غالبيتها لفترات قصيرة ولم تتمتّع بأهمية كبيرة، ولكن تحوّل بعضها إلى أدوات هامة لا على الصعيد الإخباري فحسب بل على صعيد تشكيل الأحداث التاريخية في البلاد كذلك.

يمكن تقسيم تاريخ الصحافة الفلسطينية في حقبة الانتداب إلى قسمين، ما قبل الأحداث الدامية التي اندلعت في صيف 1929 وما بعدها. فقد تركّزت هذه الصحف قبل هذه الأحداث في البلاد في مركزين مدنيّين مركزيّين، هما يافا والقدس، إلى جانب نشاط صحفي متواضع في حيفا وغزة وعكا وبيت لحم وطولكرم. ومن أبرز صحف تلك الفترة نذكر صحيفة فلسطين وصحيفة الكرمل العريقتين، واللتان صدرتا من جديد بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وركّزتا على الصراع القومي مجددًا؛ وصحيفة مرآة الشرق (القدس، 1919، لصاحبها بولس شحادة)؛ وصحيفة الصراط المستقيم (القدس، 1925، لصاحبها الشيخ علي القلقيلي) التي اتّسمت بتوجّه ديني إسلامي؛ وصحيفة الجامعة العربية (القدس، 1927، لصاحبها منيف الحسيني) بوصفها ناطقًا رسميًا بلسان المجلس الإسلامي الأعلى. وتجدر الإشارة إلى أنه لم تظهر بعد في تلك الفترة صحافة فلسطينية يومية، إذ ظهرت الصحف الإخبارية مرة أو مرتين أسبوعيًا، وهي الوتيرة التي عكست الجو الهادئ للحياة العامة والوطنية/القومية في البلاد -مقارنة بما ستشهده البلاد لاحقًا- وكذلك عكست الاهتمام المتواضع للجمهور العربي بمثل هذه الإصدارات، إذ انحصر إلى درجة كبيرة بين طبقة المثقفين المقيمين في المدن فقط. لقد عكست الصحف في تلك الفترة المبكّرة مجمل التحدّيات والمشكلات، التي شغلت بال الخطاب الجماهيري المكتوب على طول الفترة بكاملها: التعبير عن الريبة من الصهيونية والعدائية لها، والغضب من السلطة البريطانية، وتأجّج الصراعات بين معسكر الحسيني ورجالات المجلس من جهة، وبين المعسكر المعارض بزعامة عائلة النشاشيبي من جهة أخرى. وفي صميم هذه المنظومة المتصارعة، قليلة هي الصحف التي حافظت على توجّه سياسي موحّد ودعم دائم لأحد الطرفين، إذ نشهد أنَّ غالبية هذه الصحف اعتمدت توجّهًا براغماتيًا استبطنت مواقف متباينة وفقًا للظروف المختلفة وبما يتلاءم مع الاحتياجات المتغيرة. وعليه، فقد اتّسم التوجّه السياسي للصحف العربية في تلك الفترة بكونها براغماتية ومتحوّلة وبقيت كذلك حتى انتهاء حقبة الانتداب. هيمنت صحيفة فلسطين اليافية على المشهد الصحفي في البلاد وحازت على النسبة الأكبر من التوزيع. فقد باعت في سنة 1929 نحو 3,000 نسخة من كل عدد، وهو ضعف نسخ أية صحيفة أخرى في البلاد بل وأكثر من ذلك، بالرغم من حقيقة أنَّ عدد النسخ هذا يبقى متواضعًا كما أسلفنا. وبالمجمل، فقد بلغ حجم مبيعات جميع الصحف العربية البارزة في البلاد في تلك السنة نحو 12,500 نسخة، ما يشكّل ضعفين ونصف من حجم المبيعات في سنة 1914، علمًا بأنَّ هذا الحجم يبقى متواضعًا جدًا (قياسًا بلبنان على سبيل المثال، حيث وصل حجم المبيعات فيها في تلك الفترة إلى 68,000 نسخة، علمًا بأنَّ عدد سكانها قد بلغ نفس عدد سكان البلاد الفلسطينيّين). يبدو واضحًا أنَّ الصحافة الفلسطينية في هذه الحقبة لا زالت في طور التشكّل بوصفها حلبة للخطاب الجماهيري.

تعتبر الأحداث الدامية التي وقعت في صيف 1929 نقطة مفصلية في تاريخ البلاد، وتشير إلى بداية فصل متوتّر في العلاقات بين اللاعبين الثلاثة المركزيّين – المجتمع العربي، والاستيطان العبري، والسلطات البريطانية – وبلغ الصراع ذروته في سنوات الإضراب العام والثورة الفلسطينية 1936-1939. انعكس تأجّج هذا الصراع والتوتّر بالعلاقات في الصحافة: بالتزامن مع سكون لهب الأحداث الدامية المندلعة في صيف 1929، تحوّلت بعض الصحف الفلسطينية المركزية لأول مرة في شهر أيلول من نفس السنة من صحف أسبوعية أو نصف أسبوعية إلى صحف يومية، وزاد بعضها عدد صفحاته. فإلى جانب صحيفة فلسطين واسعة الانتشار، والتي كانت صحيفة يومية رائدة حتى سنة 1934 وسوّقت أعدادها في كافة أرجاء البلاد، فقد صدرت في شهر نيسان من نفس السنة (1934) صحيفة يومية أخرى هي صحيفة الدفاع، صحيفة يافية طموحة بلغ حجم مبيعاتها نفس حجم مبيعات صحيفة فلسطين، لا بل وفاق حجم مبيعاتها لاحقًا حجم مبيعات صحيفة فلسطين بوصفها الصحيفة اليومية الأكثر انتشارًا في البلاد (يبدو أن ذلك طرأ بفعل الانتماء الإسلامي لصاحبها، إبراهيم الشنطي، في مقابل الانتماء المسيحي لصاحب صحيفة فلسطين). ويعتبر التنافس بين هاتين الصحيفتين أحد المعالم البارزة للحياة الفلسطينية العامة حتى نهاية حقبة الانتداب، إذ ساهمت مساهمة دائمة في تحسين الجودة التقنية والمستوى الصحفي المهني وحجم التوزيع، إذ بلغ حجم مبيعات كل واحدة من هاتين الصحيفتين بين 4 آلاف وحتى 6 آلاف نسخة لكل عدد. وإلى جانب هاتين الصحيفتين، صدرت في يافا صحيفة يومية أخرى، هي صحيفة الجامعة الإسلامية (1933) لصاحبها الشيخ سليمان التاجي الفاروقي، وحملت ميولاً إسلامية، ولكنها لم تنجح في الوصول إلى حجم مبيعات صحيفتي فلسطين والدفاع.

إنَّ مدينة يافا، التي اعتبرت في حينه عاصمة الصحف اليومية الكبيرة واسعة الانتشار إلى جانب صحف ودوريات أخرى، باتت مركز النشاط الصحفي الفلسطيني برمّته. أما المركز الثاني فتمثّل في القدس، التي صدرت فيها صحافة يومية هامة مثل صحيفة اللواء (1933)، الناطق الرسمي بلسان معسكر الحسيني، قام جمال الحسيني على تحريرها. ظهرت في مقابل ذلك العديد من الدوريات السياسية والأخرى التي اهتمت بقضايا أخرى مختلفة، مثل التربية والتعليم والثقافة والآداب والسينما والرياضة (مجلة الحياة الرياضية، يافا 1938).

صحيفة الدفاع
صحيفة الدفاع

على غرار الفترة السابقة، فقد ركّز الخطاب الصحفي السياسي الفلسطيني بصورة خاصة على قضيتين محوريتين في هذه الفترة: صراع ضد الصهيونية والسلطة البريطانية؛ والصراعات الداخلية بين المعسكرين (عائلة الحسيني وقف على رأسها المفتي وعائلة النشاشيبي) والأحزاب. انعكس تأجّج الصراع ضد الحركة الصهيونية في التطرّف اللفظي نحوها ونحو البريطانيّين الذي سهروا على تعزيزها. وعند الإعلان عن الإضراب العام، في نيسان 1936، الذي تحوّل سريعًا إلى ثورة فلسطينية، حملت الصحافة العربية على كاهلها وظيفة مركزية تتلخّص بتحديد أهداف الإضراب والثورة، وتعبئة الجمهور، وتوجيه مسيرة الإضراب، ورعاية النشاطات التطوعية والتبرّع. إلاّ أنَّ المجتمع الفلسطيني في البلاد كان منقسمًا آنذاك على نفسه، لا على صعيد تحديد الأهداف الوطنية وسبل تحقيقها فحسب، وإنما على صعيد القضايا المركزية الأخرى السياسية والاجتماعية التي ورث بعضها من حقب سابقة. إضافة إلى الرسائل الإخبارية، فقد شكّلت الصحف وسائل في الصراعات الداخلية بين الأطراف المختلفة كذلك. لم تكن هذه الصراعات الداخلية أخف وطأة من تلك الصراعات الخارجية، لا بل نشهد أنها كانت أكثر عنفًا أحيانًا. أما السلطات البريطانية، التي تابعت هذه الصراعات وارتفاع نبرتها باهتمام كبير، فقد تخلّت في أعقاب ذلك عن عدم اكتراثها واعتمدت سياسة أكثر حزمًا بكل ما يتعلّق بالصحافة المحلّية وذلك بهدف تحييد مصادر التوتّر. كما بادرت سلطات الانتداب إلى وضع قانون جديد للصحافة في كانون الثاني 1933، إلى جانب التشريعات العثمانية الخاصة بالصحافة، وأدخلت عليه تعديلات كثيرة خلال ذلك العقد، وفرضت قيودًا إضافية على حرية التعبير، وعاقبت صحفًا وأغلقتها بشكل متكرّر. احتاج الجمهور الفلسطيني خلال هذه الفترة أكثر من أية فترة سابقة إلى المعلومات حول الأحداث والتأويلات التي عرضها الصحافيون، ولم يقل الطلب على الصحف حتى بعد انطلاق الإذاعة الفلسطينية (هنا القدس) في سنة 1936. زاد الطلب على الصحف بصورة خاصة في سنوات الإضراب العام والثورة، واعتمد المجتمع الفلسطيني، الذي كان لا يزال يعاني من تفشّي الأمية، على نمط قديم ومتعارف عليه يتلخّص بالقراءة الجماعية وبصوت مرتفع في الأماكن العامة – مثل المقاهي والساحات العامة في الأحياء والمساجد وغيرها. إنَّ اعتماد هذا النمط في المدن والقرى قد عزّز بصورة بالغة عدد الأشخاص المنكشفين على الرسائل الضمنية للصحف أكثر بكثير من نسبة أولئك الذين يجيدون القراءة والكتابة في المجتمع الفلسطيني.

صحيفة الدفاع
صحيفة الدفاع

أفضت التبعات الوخيمة لثورة 1936-1939 على المجتمع والنخبة السياسية الفلسطينية، إضافة إلى ظروف الحرب العالمية الثانية، إلى شلل الصحافة العربية في البلاد. مع اندلاع هذه الحرب، أغلقت سلطات الانتداب جميع الصحف العربية باستثناء فلسطين والدفاع والصراط المستقيم التي صدرت بصورة دورية. وقد جاء هذا الاستثناء بهدف استخدامها كوسيلة اتصال مع المجتمع الفلسطيني والسيطرة عليه. لم تسمح السلطات البريطانية بصدور صحف جديدة، باستثناء عدد قليل من الدوريات غير السياسية، وسمحت خلال الفترة الأخيرة من الحرب بصدور الصحيفة اليسارية الشيوعية الاتحاد (حيفا، 1944، وقف إميل توما على رأس هيئة تحريرها)، وهي الناطق الرسمي بلسان اتحاد العمال في حيفا، والتي لا زالت تصدر حتى وقنا الحاضر. وبعد انطفاء نار الحرب، حاول المجتمع العربي في البلاد إنعاش نفسه من الأزمات التي وجد نفسه عالقًا فيها، والبحث عن سبل للتعامل مع التحدّيات الوجودية الجديدة، ونشهد مرة أخرى انتعاشًا للصحف والإقبال عليها في هذه الفترة. وبقيت فلسطين والدفاع الصحيفتان المركزيتان حتى انتهاء هذه الحقبة، وتراوح حجم توزيع كل منها بين 6 آلاف و 10 آلاف لكل عدد، ويبدو أنَّ صحيفة الدفاع قد كانت أكثر انتشارًا من صحيفة فلسطين. كما واستمرت صحيفة الصراط المستقيم العريقة بالصدور إلى جانب هاتين الصحيفتين، إضافة إلى صحيفة يومية أخرى جديدة هي صحيفة الوحدة (حزيران 1945، لصاحبها إسحاق عبد السلام الحسيني). كما وصدرت صحف أخرى، سياسية وغيرها، في هذه الفترة بصورة أسبوعية أو نصف أسبوعية، إلاّ أنَّ غالبيتها صدرت بصورة غير منتظمة ولم تنجح بتحقيق انتشار واسع، بينما أغلقت بعضها أبوابها بعد فترة وجيزة. ويمكن تقدير الحجم الإجمالي لمبيعات هذه الصحف بين العامين 1945-1948 ما بين 20 ألف إلى 25 ألف نسخة.

شاهد/ي أيضًا: الحرب العالمية الثانية: معارض رقمية لصور وأخبار من الصحف

لقد عكست الصحافة العربية الصادرة في حقبة الانتداب في البلاد بأمانة الحياة السياسية والصراعات القومية والوطنية التي كانت سائدة في تلك الحقبة. إلاّ أنَّ معاينة قريبة لها تكشف أمامنا أوجه هامة أخرى للكيان الفلسطيني في العقود القليلة قبل سنة 1948. فقد تركت الصحافة أثرها على جوانب الحياة في البلاد بطرق عديدة، إذ استُخدمت كوسيلة لمناقشة القضايا اليومية الجارية، ونشر المعلومات والبيانات الاقتصادية والتجارية، وتسويق الخدمات والمنتجات الاستهلاكية، ونشر حيثيات النشاطات الثقافية التي جرت وتلك التي ستجري لاحقًا، وتقديم نصائح في قضايا التربية والتعليم، ومناقشة قضايا الأسرة والعائلة، والإعلان عن مناسبات الأفراح والوفيات، ونشر الإعلانات الشخصية وغيرها. أما الجمهور الفلسطيني، الذي عاش حتى مطلع القرن العشرين من دون أدوات ووسائل صحفية محلّية، فقد تعوّد لاحقًا على استخدام هذه الأدوات الحديثة الواردة من الخارج وتحوّل تدريجيًا إلى التعلّق بها على صعيد مختلف الخدمات. وعليه، تعتبر الصحافة الفلسطينية المتاحة هنا نافذة متنوعة ومميزة لا مثيل لها تطلّ على واقع المجتمع العربي في البلاد في النصف الأول من القرن العشرين، ويمكننا من خلال قراءتها بصورة عميقة الاستفادة منها أكثر بكثير مما يبدو للعيان للوهلة الأولى.

إعلان في صحيفة القافلة 
إعلان في صحيفة القافلة 

من كتب وعد بلفور؟

من خلال المقال يمكنكم تتبع التغييرات التي نجح القادة الصهاينة وغير الصهاينة في إدخالها على الوعد التاريخي؛ وعد بلفور والتي سبقت الاعلان الرسمي عنها.

كلما ترسخ وازداد الاستيطان اليهودي في البلاد، كان قادة اليشوف اليهودي يعلمون أن تحقيق رؤية الدولة اليهودية لن تتم دون دعم حقيقي من القوى العظمى في العالم وعلى رأسها الامبراطورية البريطانية.

ولذلك، حين نجحت بريطانيا في الحرب العالمية الأولى من هزيمة الوجود العثماني في البلاد  والذي امتد لمئات السنين، سارع الدكتور حاييم وايزمان في تموز 1917 بتقديم مسودة إعلان للحكومة البريطانية والذي تعترف بموجبه بفلسطين كأرضٍ للشعب اليهودي، وتعترف في حقه بإقامة دولة يهودية فيها.

مع الأيام ستكون هذه المسودة هي وعد بلفور المشهور، وعد اللورد آثر جيمس بلفور والذي تقلد منصب وزير خارجية بريطانيا.

مر الوعد بعدد غير قليل من التغييرات التي قدمها الدكتور وايزمان لحكومة بريطانيا. حتى بداية تشرين الأول 1917 عملوا في وزارة الحرب البريطانية، وبتنسيق مع البعثة الصهيونية برئاسة وايزمان، على صيغة نهائية للوعد، حيث أزيلت منه قضية الحق بالأرض، وتحول فيه كلمة الدولة إلى “بيت قومي” وهو مصطلح غير مسبوق من الجانب القضائي والدبلوماسي.

اقرأ/ي أيضًا: وعد بلفور: معرض رقمي للصور والرسائل والأخبار

شهر واحد قبل أن يسلم اللورد بلفور وبشكل رسمي وعده للورد روتشلد، أرسلت وزارة الحرب المسودة لبعض القيادات الصهيونية وغير الصهيونية، لكي تستشيرهم في الموضوع. من بين القيادات التي تم استشارتها: السير فيليب ماغنوس، وهو رجل دين إصلاحي وسياسيّ بريطاني مهم والذي طُلب منه ابداء رأيه على مسودة الوعد.

الرجل الدين والسياسي اليهودي-بريطاني فيليب ماغنوس (1842-1933)

تحتفظ المكتبة الوطنية بالمسودة التي أرسلتها وزارة الحرب للراب ماغنوس. من خلال التمعن فيها، تظهر اختلافات كبيرة بينها وبين الصيغة النهائية، مثلاً: في الصيغة النهائية للوعد ترى حكومة جلالته بعين الاعتبار إقامة بيت قومي يهودية في فلسطين للشعب اليهود، في الصيغة التي سُلمت كان الحديث عن بيت لليهود فقط “للعرق اليهودي”.

مسودة الوعد كما أرسلت للراب فيليب ماغنوس (من مجموعة فيليب ماغنوس)

من الممكن أن التعديل هذا كان تعبيرًا عن موافقة بريطانيا بأن ترى بالطلب الصهيوني، طلباً ذو ميزة قومية، بدلاً من طلب صاحب ميزة دينية أو حضارية، كما يتضح من الكلمات “العرق اليهودي”.

كانت رسالة الرد التي كتبها ماجنوس لوزارة الحرب محفوظة هي أيضاً في المكتبة الوطنية. وهي تشكل فرصة مميزة للاطلاع على أفكار اليهود البريطانيين غير الصهيونيين والكثر في تلك الفترة، منذ بداية الرسالة يسحب الراب والسياسي الأرض من تحت الأقدام حين طلب منه الرد كممثل يهودي، حيث رأى أن أفكاره كيهودي لا تنفصل عن أفكاره كبريطاني. يدعي ماغنوس في رده أنه ومنذ الاحتلال الروماني لفلسطين، توقف الشعب اليهودي على أن يكون جسماً سياسياً، ولذلك فهو اليوم يدير فقط علاقات دينية مشتركة والتي تحمل أية طموحات قومية مشتركة في فلسطين.

بدلاً من ذلك، يقترح ماغنوس صيغة بديلة للوعد، والتي تقضي بأن “حكومة جلالته ترى بعين الاعتبار إقامة مركز حضاري يهودي في فلسطين”  هكذا بحيث لا يضر بحقوق أبناء حضارة أو دين آخر، أو بحقوق ومركز اليهود السياسي في البلاد الأخرى.

الصفحة الأولى من رد فيليب ماغنوس لوزارة الحرب البريطانية، الرد محفوظ في مجموعة فيليب ماغنوس في المكتبة الوطنية

يبدو أن في هذا الأمر تكمن مساهمة ماغنوس الكبيرة في تعديل مسودة وعد بلفور. في نهاية الصيغة النهائية، توضيح مفصل غير موجود في مسودة السادس من تشرين الأول، وفيها أن إقامة البيت اليهودي القومي في فلسطين لا تضر بحقوق المواطنة لليهود في دول أخرى، وبالتالي أذعنت الحكومة لمطالب اليهود المناوئين للصهيونية، ومن بينهم فيليب ماغنوس.

 

أين يُحفظ الوعد الأصلي؟

عام 1924 سُأل اللورد  روتشيلد، هل المكتوب الأصلي الذي وصله من اللورد بلفور في حوزته؟  في المكتبة وجدنا الإجابة لهذا السؤال؛ داخل رسالة أرسلها روتشيلد إلى يسرائيل كوهين، أحد أعضاء الهستدروت الصهيونية في بريطانيا، في الرسالة يشرح روتشيلدر أن المكتوب الأصلي ليس في حوزته،  حيث – وبسبب أهميته التاريخية – قام بايداعه في المكتبة البريطانية حيث يُحفظ المكتوب هناك حتى يومنا هذا.

رسالة الرد من اللورد بلفور لعضو الهستدروت الصهيونية في بريطانيا يسرائيل كوهين. الرسالة أُرسلت في السادس من حزيران 1924. مجموعة ليونيل ولتر روتشيلد في المكتبة الوطنية الاسرائيلية.

سكة حديد الحجاز: القطار الذي ربط قلب الإمبراطورية بأطرافها

بذلت الأمبروطورية العثمانية جهودًا جبارة لأجل إقامة خط سكة الحديد الحجازية، فربطت قلب الدولة مع أطرافها ووصلت إلى المدن المقدسة في الحجاز

بناء سكة حديد الحجاز ، تصوير كارل لورينز أولير ، أرشيف المكتبة الوطنية الإسرائيلية

بناء سكة حديد الحجاز ، تصوير كارل لورينز أولير، أرشيف المكتبة الوطنية الإسرائيلية

ما بين الرمال والسماء، يقف صف من العمال بجوار السكك الحديدية التي تم وضعها كخطين متوازيين يخترقان السهول والجبال والصحاري؛ على جسور معلقة وأنفاق شكلت حتى يومنا هذا تحفة معمارية شاهدة على الجهد الذي تم بذله في سبيل تحقيق هذا المشروع الضخم، مشروع امتد لسنوات طوال حتى اكتمل وربط شعوبًا ومناطق ببعضها البعض. لكن، من هنا يُطرح التساؤل:

  لماذا بذلت الأمبروطورية العثمانية كل هذا الجهد، هل كان ذلك من أجل اللحمة الوطنية بين الشعوب العثمانية المختلفة أم كنوع من بسط السيادة على أطراف الأمبروطورية الشاسعة؟

تُظهر إحدى الصور بالأبيض والأسود القاطرات وهي تعبر جسرًا منخفضًا مقوسًا في وسط الصحراء. هذه الصور الغامضة هي جزء من ألبوم فريد من نوعه موجود في أرشيفات المكتبة الوطنية الإسرائيلية. يحتوي الألبوم على ثمانية وستين صورة فوتوغرافية التقطت في عام 1904 من قبل كارل لورينز أولير لسكة حديد الحجاز الشهيرة. والتي تمتد بين دمشق ومنطقة الحجاز في شبه الجزيرة العربية، خاصة لمكة المكرمة والمدينة المنورة، ومع خط فرعي يصل مدينة حيفا.

لقد تم بناء السكة الحديدية من قبل الإمبراطورية العثمانية بين عامي 1900 و 1908 لربط هذه المناطق النائية من عالمها. وتشكل صور”أولير” دليلًا مهمًا على مجريات البناء في المشروع.

 

بناء سكة حديد الحجاز ، تصوير كارل لورينز أولير، أرشيف المكتبة الوطنية الإسرائيلية

ولكن ما الذي كان يقوم به أولير، الجنرال العسكري البروسي المخضرم، في فحص خط سكة حديد الحجاز للسلطان العثماني؟ وكيف وصل الألبوم إلى المكتبة الوطنية الإسرائيلية؟

يعتبر الحج رحلة روحية وسامية يلتزم بها كل مسلم، قادر من ناحية الجسد والإمكانية المادية، لأداءها مرة واحدة على الأقل خلال حياته. عندما قام النبي محمد (عليه الصلاة والسلام) بفريضة الحج للمرة الأولى والوحيدة، قبيل وفاته، سافر بالقافلة وسار عبر الصحراء من العاصمة الإسلامية الأولى في المدينة المنورة، على بعد أكثر من 400 كيلومتر. ولكن مع توسع الإمبراطورية الإسلامية بسرعة خلال القرن الهجري الأول، أصبحت مثل هذه الرحلات أطول وأكثر خطورة. آنذاك، كان المرض والإرهاق شائعين وكان قطّاع الطرق يهاجمون بانتظام الحجاج لكونهم يشقون طريقهم عبر الصحراء وصولًا للأراضي الحجازية.

اقرأ/ي أيضًا: كعبة القلب: الحج في التصوّف الإسلامي 

 

صورة للتحصينات “المعاصم” ، بالقرب من خط سكة حديد الحجاز، كارل لورينز أولير، 1904، أرشيف المكتبة الوطنية الإسرائيلية

من أجل تقليل هذه المخاطر ، انضم معظم الحجاج خلال الفترات الإسلامية الوسيطة والمتأخرة إلى قوافل الجمال المنظمة والتي سافرت على طرق تم تحديدها مسبقًا. كانت القوافل تنطلق من مدينة الكوفة جنوب العراق، من القاهرة ومن دمشق (كانت تعتبر من أهم القوافل). أدى إدخال الباخرة في منتصف القرن التاسع عشر إلى تخفيف قسوة رحلة الحج، خاصة بالنسبة للحجاج القادمين من الهند، التي كانت ترزح تحت الحكم الاستعماري البريطاني. لكن هذا التطور في وسائل النقل ساهم بشكل مباشر في ظهور جائحة عالمية وهي الكوليرا، إذ  تم نقل الكوليرا، الموجودة في الهند، إلى مكة المكرمة من قبل الحجاج عام 1863، ومن هناك انتشر إلى جميع أنحاء العالم. وهذا أدى إلى نشوء في حالة من القلق، مما حدا بالقوى الاستعمارية الأوروبية إلى فرض أنظمة الحجر الصحي الصارمة على أولئك الذين يصلون من مكة ومحيطها.

 

صورة للمقطورات التي تسير على خط سكة حديد الحجاز، كارل لورينز أولير، 1904، أرشيف المكتبة الوطنية الإسرائيلية

الدولة العثمانية وتصديها للأطماع الأجنبية

كان تجاوز إجراءات الحجر الصحي ومواجهة الاستعمار الأوروبي قد شكل  دافعًا رئيسيًا وراء بناء سكة حديد الحجازـ إذ أنه في العقود التي سبقت إعلان السلطان عبد الحميد الثاني عن بناء سكة حديد الحجاز، في الأول من أيار 1900، فقد العثمانيون أراضيهم الواسعة تقريبًا في جنوب أوروبا. فكانت المصالح الفرنسية والبريطانية والروسية تتنافس لتفتيت  الإمبراطورية أكثر فأكثر، ولم تكن الدولة العثمانية تستطيع المجابهة سياسيًا أو حتى اقتصاديًا، فهي كانت مدينة بشكل كبير للممولين الأوروبيين، واضطرت إلى الاعتماد على الدائنين الأوروبيين لتمويل البنية التحتية وجهود التحديث والتطوير، بما في ذلك بناء خطوط سكك حديدية أخرى لربط الإمبراطورية الشاسعة.

السكة الحجازية؛ صورة لانعكاس استقلالية السلطان عبد الحميد الثاني أم وسيلة لتثبيت حكمه؟

لقد كانت سكة حديد الحجاز مختلفة عن الخطوط الأخرى، حيث أن الخط لم يكن له فائدة اقتصادية تذكر – بل كان يعمل بشكل منتظم فقط خلال موسم الحج – إلا أن له العديد من الأهداف السياسية والدينية. فقد تم تمويل المشروع بالكامل من قبل المسلمين، وتم جمع التبرعات من أجل “الخط المقدس” في جميع أنحاء العالم. هذه الحقيقة التي تم نشرها على نطاق واسع، بالإضافة إلى مشروع الإنشاء نفسه، قد صقلت قوة عبد الحميد الثاني وصورته الإسلامية كحاكم مسلم مستقل وحيد يواجه المصالح الأوروبية. ولا ننسى قدرة السكة الحجازية على تخفيف قسوة ظروف الحج نفسه، كذلك  سيضمن الخط أيضًا أن الجيش العثماني يمكنه نشر القوات والإمدادات بسرعة لحماية الشحن في البحر الأحمر والدفاع ضد التوسع الاستعماري والتحركات نحو التمرد من قبل الزعماء المحليين، خاصة في مكة.

 

صورة لبدوي عربي وعامل سكك حديدية في وادي العلا، بالقرب من خط سكة حديد الحجاز، كارل لورينز أولير، 1904، أرشيف المكتبة الوطنية الإسرائيلية

 

لقد كان للمهندسين والمستشارين الألمان دورًا حاسمًا في تخطيط وبناء السكك الحديدية. وكان يعكس هذا الدور العلاقة المتينة بين العثمانيين والألمان والتي استمرت لعقود من التعاون العسكري والاقتصادي؛ ولعدة أسباب، رأى عبد الحميد ألمانيا كشريك أوروبي مفضل للإمبراطورية.

في هذا السياق، أصبح كارل أولير مرتبطًا بالمشروع. ولد أولير عام 1854، وكان قد خدم جنرالًا للمشاة ببروسيا  ومن ثم أصبح  (مثل العديد من الضباط الآخرين) مستشارًا عسكريًا للعثمانيين بين عامي 1901 و 1908. تم تعيينه في رتبة لواء من قبل عبد الحميد، وأصبح معروفًا بلقب “أولير باشا”. عام 1904 تم إرساله لتفقد التقدم الذي تم تحقيقه في مشروع السكك الحديدية، ودراسة الجغرافيا المحلية والإثنوغرافيا.

ركز أولير على خطين من السكك الحديدية: الخط بين دمشق ومعان في جنوب الأردن، بما في ذلك خط الفرع إلى حيفا، ومن معان إلى العلا في شبه الجزيرة العربية (تقع محافظة العلا على بعد 300 كيلومتر شمال المدينة المنورة). تعد التقارير التي كتبها أولير من بين أهم المصادر الأولية حول سكة حديد الحجاز، والتي تمتاز بدقتها وشمولها لأدق التفاصيل كتضاريس الطريق، النباتات والحيوانات، بما في ذلك النمل الأبيض الذين ينخر في العوارض الخشبية لسكة الحديد؛ كذلك شمول التفاصيل حول التحديات في توفير ما يكفي من الماء والوقود؛ وردود الفعل (ربما النمطية) للسكان المحليين على بناء السكك الحديدية (ترجمة بيتر كريستيانسن):

“ستظل الحيوية التي عبروا عن فرحتهم بها لا تُنسى. كما كرر الرجال باستمرار التحية في جوقة بالإجماع، “فلينتصر السلطان ثلاث مرات!”

تقارير أولير، التي نُشرت في أعوام 1906 و 1908 في المجلة المؤثرة “Petermanns Geographische Mitteilungen”  تم توضيحها بصور التقطها هو بنفسه على طول الطريق. يبدو أن الألبوم في مجموعة المكتبة الوطنية يحتوي على المطبوعات الإضافية من تلك الرحلة التي اعتبرها، لسبب من الأسباب، غير مناسبة للنشر. بينما تتداخل مواضيع مجموعتي الصور إلى حد كبير ، يتضمن الألبوم المزيد من الصور الشخصية – للبدو والسكان المحليين والعمال والمسؤولين وغيرهم – مما يوفر لمحات رائعة للأفراد والحياة اليومية.

صورة لسكة حديد الحجاز مروراً بوادي أبو طه، كارل لورينز أولير، 1904، أرشيف المكتبة الوطنية الإسرائيلية

 

كيف وصلت الصور إلى المكتبة الوطنية الإسرائيلية ؟

في حين أننا لا نعلم ماذا فعل أولير بالصور بعد عودته إلى ألمانيا عام 1908، لكن من المعلوم بأنه خدم في الحرب العالمية الأولى ثم تقاعد في مدينة أولم، بينما- بطريقة ما- شقت مجموعة الصور طريقها نحو طريقهم إلى إلياكيم غوتهولد ويل (1882-1960)، الذي كان ألمانيًا يهوديًا باحثًا في الإسلام، خاصة في الثقافة التركية والعربية، ومدير سابق للمكتبة الوطنية في إسرائيل. درس ويل في برلين وفرانكفورت قبل الهجرة إلى فلسطين عام 1934، وعلى الرغم من عدم ذكر أوريل في أرشيف ويل الشخصي، الموجود الآن في المكتبة، لكنه من الممكن أن يكون هذا الألبوم الفريد من نوعه قد تم تقديمه من أولير لويل كهدية شخصية والذي بعد ذلك تبرع بها لمجموعة المكتبة عام 1936.

يمكنكم استعراض بقية الصور من ألبوم الصور التاريخي هنا.

يعد هذا المقال جزءًا من مشروع مكتوب للمخطوطات الإسلامية الرقمية في المكتبة الوطنية الإسرائيلية، بدعم من صندوق أركاديا، سيوفر مكتوب وصولًا مجانيًا وعالميًا لأكثر من 2500 مخطوطة وكتب عربية وفارسية وتركية نادرة محفوظة في المكتبة، كذلك القصص الكامنة وراء إنشائها.

شخصية موسيقية من وراء الظلال: محطات في حياة رياض البندك

على الرغم من حجم الإنجازات الكبيرة التي قام بها رياض البندك إلا أنه بقي وراء الظلال حبيس معرفة الأوساط الفنية دون التعرض لضوء الشهرة والشعبية بين أوساط عامة الناس

في واحدة من المقابلات النادرة التي قامت بإجرائها مجلة الذخيرة الفلسطينية عام 1946 مع الموسيقار رياض البندك، كانت إحدى الأسئلة هل يوجد في فلسطين نهضة فنية قومية، فكانت الإجابة بأنه توجد في فلسطين نهضة فنية قومية لكن لا توجد في فلسطين معاهد موسيقية ومع الأسف لا تهتم إدارة المعارف في إدخال الموسيقى في منهاج التعليم. بهذه المقابلة تتكشف لنا ملامح شخصية رياض البندك، الشخصية التي تلقى بالًا على مجتمعها وتطوره في جانب مهم وغير مسلط الضوء على أهميته؛ التربية الموسيقية وسبل صقلها وتطورها في المجتمع الفلسطيني. فمن هو رياض البندك يا ترى؟

مقابلة مجلة الذخيرة مع الموسيقار رياض البندك، 4 تشرين الثاني 1946

للاطلاع على كامل المقابلة اضغطوا هنا 

من المعروف لدى الغالبية من الناس أن أغلب القوالب الغنائية العربية كان يتم إعدادها في عواصم عربية عدة، خاصة في بيروت والقاهرة. لكن الذي لا يعرفه الكثيرون حول مساهمة شخصيات فلسطينية فنية وموسيقية في إنشاء تلك القوالب الغنائية والموسيقية العربية. ومن تلك الشخصيات كانت شخصية رياض عيسى البندك التي ساهمت بشكل كبير في مجال التلحين الموسيقي لأشهر المغنين العرب أمثال وديع الصافي وفايزة أحمد. وعلى الرغم من حجم الإنجازات الكبيرة التي قام بها رياض البندك إلا أنه بقي وراء الظلال حبيس معرفة الأوساط الفنية دون التعرض لضوء الشهرة والشعبية بين أوساط عامة الناس. لذلك ومن أجل التعرف على تلك الشخصية الاستثنائية يستعرض هذا  المقال بعض من محطات حياة رياض البندك خاصة الفنية منها.

في حياة رياض البندك بدأت المحطة الأولى في بيت لحم، إذ أنها المدينة التي تسكنها عائلته كما كانت محل أشغالها وأعمالها، فوالده هو السيد عيسى البندك صاحب جريدة الشعب والذي كان أيضُا رئيس بلدية بيت لحم. كما أنها ذات المدينة التي وُلد فيها رياض عام 1926 وترعرع فيها حتى مرحلة الشباب. أما اللمسات الفنية الأولى في شخصية رياض بدأت أيضًا من بيت لحم من خلال معلمه الملحن المشهور “يوسف بتروني” في كلية تراسانطة. فأخذت شخصيته بالنمو حتى بدأت أبواب العواصم العربية تفتح أمامه والتي كانت أولها أبواب العاصمة المصرية القاهرة عام 1946 عندما قام بتلحين أول أغنية له وهي بعنوان “تحية عرب فلسطين إلى أرض الكنانة”. هنا كانت البداية التي تعثرت مع الاضطرابات السياسية التي عصفت بالبلاد، والتي أجبرته على التوجه نحو المحطة الثانية وهي العاصمة السورية دمشق وكانت بعد ذلك مرقده الأخير أيضًا، إذ توجه إليها وقد أشرف هناك على القسم الموسيقي في إذاعة دمشق وقد كان فيها ثلة من خيرة العازفين أمثال عازف القانون إبراهيم عبد العال وميشيل عوض على الكمنجة هو وفريد السلفيتين كما أنه التقى في دمشق الفنانة فايزة أحمد (سيكون لهما باع طويل من المسيرة الفنية من خلال تلحين رياض لأغانيها). أما موهبته الفنية فقد اتجهت أكثر نحو التلحين أكثر من  الغناء وهذا ما دعاه بالتوجه نحو بيروت ليقوم بتلحين لحن “عروس الأندلس” لفرقة الأوركسترا التي أسسها بذاته والتي تتبع الإذاعة اللبنانية في بيروت وهو الذي نظم القسم الموسيقي فيها.

خلال سنوات الخمسينيات أصبح نجم رياض البندك يأخذ بالسطوع خاصة مع مشاركته في تأسيس إذاعة صوت العرب في القاهرة عام 1953 ومن ثم في تلحينه للعديد من الأغاني الوطنية مثل “هلموا شباب العرب” وأنشودة  الوحدة العربية. فكما دمشق كانت القاهرة من المحطات المفصلية في حياته، إذ شكلت له منبرًا يتوجه من خلاله إلى العديد من البلاد العربية مثل توجهه للشعب الجزائري في بداية ثورته بأنشودة عنوانها “لتحيا الجزائر وشعب الجزائر”. عايش رياض تلك الفترة بمزيد من الأناشيد القومية والحماسية حتى أنه استرجع من خلالها الخط القومي الذي أخذه والده في السياسة قبل عام 1948، خاصة أن الأحداث السياسية في تلك الفترة وما بعدها، سواء بتجسدها بالوحدة السورية المصرية 1958 ومن ثم فشلها، أو تلحينه لأغنية “يا عيني عالصبر يا عيني عليه” التي غناها وديع الصافي والتي لا تزال تُطرب لها الآذان حتى يومنا هذا.

لم يلتزم رياض في خط فني يتصف بالجمود، بل على العكس من ذلك كان يتصف بالمرونة في ذلك، فبرع في التأليف الأغاني والأناشيد كما في موهبة التلحين. وقد كان من أهم أعماله الفنية التي وضع فيها أكبر قدر من خبرته الفنية  سيمفونية “من تشرين إلى فلسطين” التي بدأ بكتابة افتتاحيتها عام 1976 وانتهى منها في العام 1989.

بيت لحم، القاهرة، بيروت، دمشق، هذه كانت أبرز محطات حياة الفنان والملحن رياض البندك الذي توفي في العام 1996 عن عمر يناهز السبعين عامًا قضى أغلبها في تطوير مواهبه الفنية من خلال أعماله التي بدأها منذ سن مبكرة. ومن الصحة القول أن رياض كان من الموسيقيين الفلسطينيين الذي امتد إرثهم الفني للعديد من البلاد العربية بعيدًا عن طلب الشهرة الفظة، فاختار شهرة الموسيقى من وراء الظلال.

للمزيد حول شخصية رياض البندك تصفحوا عددًا من الكتب حوله والتي هي موجودة في المكتبة الوطنية مثل كتاب “أعلام فلسطين” وغيره من المصادر الأخرى.