بطريقته الخاصة: فرانك سيناترا بخدمة “الهاغاناه”

هكذا ساعد المغني المناصر للدولة قيد الإنشاء وضلّل بعملاء الـ FBI من أجل إسرائيل

فرانك سيناترا يشاهد عرضًا للجيش الإسرائيلي أثناء زيارة في إسرائيل، 1962. مجموعة ميتار، المجموعة الوطنية للصور الفوتوغرافية على اسم عائلة فريتسكر، المكتبة الوطنية. تلوين: MyHeritage

ناتي غباي

والآن، باتت النهاية قريبة

يمضي الوقت مع الرياح.

وأقول لكم أعزائي،

بكل صراحة- كل شيء بات مباحًا.

عشت حياة جميلة

عشت عزلاتُ كثيرة

ولكنني كنت أسير دومًا بطريقتي

 

(“بطريقتي”: كلمات: بول أنكا. أداء: فرانك سيناترا)

آذار 1948. قبل قيام دولة إسرائيل بأيام.

سعت منظمة الهاغاناه بكل الطرق الممكنة لتسليح اليشوف اليهودي. في مقر سري للمنظمة، في فندق في نيويورك، بدأ مندوب الهاغاناه، تيدي كوليك، يضع خطواته: مهمّته، الموكلة إليه من قِبل بن غوريون، هي تحويل الأموال لربّان سفينة أسلحة إيرلندية محمّلة بالأسلحة والتي رست في مكان قريب. ستنطلق السفينة قريبًا إلى أرض إسرائيل. ولكن واجهت كوليك مشكلة صعبة. كان واضحَا بالنسبة له أنّه لن يتمكن من إخراج المال بنفسه من الفندق ليدفعه لربّان السفينة. وبات مصير شحنة الأسلحة التي كانت منظمة الهاغاناه بأمس الحاجة إليها مجهولًا.

بجوار مقر الهغاناه، في المبنى نفسه، يقع الملهى الليلي “كوباكبانا” الشهير. يجلس على البار نشطاء المقر ونخبة من الفنانين الترفيهيين، أحدهم المغني والممثل فرانك سيناترا.

“كنت جالسًا على البار وتوجّه إليّ سيناترا”، أفاد كوليك لاحقًا. “لا أعرف ماذا حلّ بي في تلك اللحظات، ولكنني أخبرته بما كنت أفعل في الولايات المتحدة وبالمعضلة التي كنت أواجهها”.

نشرت الصورة في صحيفة “دڤار”. 19 حزيران، 1980

 

في ساعة مبكرة من صباح اليوم التالي، يخرج تيدي كوليك من المبنى وبيده حقيبة. يتبعه عملاء الـ FBI. في تلك اللحظة تحديدًا، يخرج فرانك سيناترا من الباب الخلفي وبيده كيس ورقي فيه مليون دولار. يتوجّه إلى الرصيف البحري، يسلّم المال للربّان ويودّع سفينة الأسلحة التي تنطلق من المكان.

“كانت تلك أولى أيام الدولة الفتية “، قال سيناترا لاحقًا لابنته نانسي. “أردت المساعدة. كنت أخشى هزيمتهم”.

رافق فرانك سيناترا الدولة الفتية لسنوات طويلة، وقد فعل ذلك بكلّ الحب. بطريقته الخاصة.

 

تلّة الذّخيرة – المعركة والميدان اليوم

لتخليد ذكرى المعركة، في "يوم القدس" الثّامن تمّ افتتاح موقعًا رسميًا في تلّة الذّخيرة يمكن زيارته لمشاهدة المخابئ والقنوات. تعرّفوا عن كثب على تلة الذخيرة والحرب التي جرت بين الأردن وإسرائيل هناك.

جنود اسرائيليّون يقلّون أسرى أردنيين معصوبي الأعين في العاشر من حزيران 1967، أرشيف دان هداني

في شمال القدس اليوم، يمرّ القطار الخفيف الّذي تمّ تشغيله رسميًا عام 2011، من محطّة جفعات هتحموشت، ومن يعتلي هذا القطار يوميًا يسمع هذا الاسم يتردّد بالتأكيد. لا يظهر الكثير للرّكاب من داخل القطار، فما يراه الرّاكب حوله من النّافذة يُشعره بأن هذه المنطقة ليست سوا مفترق طرقٍ كبير، يصل خطوط المواصلات ويربط غرب المدينة بشرقها وشمالها بجنوبها، إلّا أنّ الكثيرون لا يعلمون أنّهم يمرّون بجانب “مثلّث الموت” كما أسماه الجنود الّذين شاركوا في المعركة على القدس عام 1967 وهي ساحة لمعركة تلة الذّخيرة الشّرسة. تلك المعركة الحاسمة الّتي تقاتل فيها الجنود الأردنيّون مع اللّواء الخامس والخمسين من قوّات المظلّيين الإسرائيليّة، ومرّ من خلالها نجاح القوات الاسرائيليّة بالسّيطرة على القدس كاملة.

للتعرّف على معالم ساحة المعركة على القدس في حرب عام 1967 لا بدّ من التّطرّق إلى مآلات حرب عام 1948 في المنطقة، وكيف كانت تلّة جفعات هتحموشت تتربّع على منطقة مضطربة جغرافيّا في حين اندلاع الحرب الكبرى عام 1967، ممّا جعلها مسرحًا لهذه المعركة المفصليّة بين القوّات الأردنيّة والإسرائيليّة، والّتي وصفها البعض بالمعركة الأكثر دمويّة في تاريخ الحروب العربيّة-الإسرائيليّة على الإطلاق.

خارطة للقدس من إصدار ستيماتسكي عام 1955، تظهر تلّة الذّخيرة شمال غرب البلدة القديمة
خارطة للقدس من إصدار ستيماتسكي عام 1955، تظهر تلّة الذّخيرة شمال غرب البلدة القديمة

 

وفقًا لقرار التقسيم، كان يفترض أن تكون منطقة القدس تابعة لسيادة دوليّة، إلّا أن حرب عام 1948 أفضت لواقعٍ مختلف بدأ من عنده انقسام المدينة. فأصبح غربها بالكامل تحت السّيطرة الإسرائيليّة، وشرقها بمعظمه تحت السّيطرة الأردنيّة. وبهذا تم فصل جبل المشارف عن بقيّة الجزء الواقع تحت السّيطرة الإسرائيليّة في الغرب ومن هنا كان لا بدّ من استعادة الطّريق نحو الجبل في حرب 1967 من خلال احتلال تلّة الذّخيرة وجفعات همفتار أولًا.

أكاديميّة الشّرطة ومخازن الأونروا في تلّة الذّخيرة عام 1969 من خلف الحدود، أرشيف بن تسفي
أكاديميّة الشّرطة ومخازن الأونروا في تلّة الذّخيرة عام 1969 من خلف الحدود، أرشيف بن تسفي

 

بعد انضمام الأردن إلى الحرب وعمل جيشها تحت إمرة عربيّة موحّدة، كانت خطّة الجيش الإسرائيلي اقتحام التّلة من أجل الوصول إلى جبل المشارف، فبعد تأمين كلا الطّريقين بين القدس ورام الله والقدس وبيت لحم (تل الفول)، بقي تأمين الطريق نحو بلدة القدس القديمة. تلقّى لواء المظلّيين الخامس والخمسين الأمر بفتح الطّريق بين حيّ الشّيخ جرّاح وجبل المشارف وصولًا إلى متحف روكفلر، وبعد تردّدات حول التّوقيت الأنسب لشنّ الهجوم، بدأ جنود الوجدة بالتّقدّم في السّاعة الثّانية من صباح السّادس من حزيران، واندلعت هذه المعركة الّليليّة الّتي استمرّت لثلاث ساعات متواصلة.

اتّسمت معركة تلّة الذّخيرة بالدّمويّة وبالمواجهة المباشرة بين الجنود الأردنيّين والإسرائيليّين. فقد بدأ الجنود المظلّيين باقتحام أكاديميّة الشّرطة الّتي تمّ بنائها على يد الانتداب البريطاني وبقيت تحت السّيطرة الأردنيّة منذ تمكّنت منها عام 1948 وحتّى هذه اللّحظة من المعركة. وبعد أن تمّت السّيطرة عليها بسهولة بدأ الجنود بالتّحرك للهجوم على الحصن الأردني جنوب الأكاديميّة، ومنذ اللّحظة الأولى بدأ تبادل إطلاق النّيران بشراسة بين الجهتين. كان الحصن الأردنيّ محاط بالأسلاك الشّائكة وبحقول الألغام، كما أحيط من ثلاث جهات بقنوات حُفرت عميقًا ليطلق الجنود النّار من داخلها دون تعريض أجسادهم للخطر، بالإضافة إلى أنفاق ومنشئات بسيطة تحت الأرض أُعدّت للتّنقل الآمن بين أنحاء الحصن وربطه كذلك بناحية الأكاديميّة. بعد انضمام عناصر إضافيّة للمساعدة، تمكّن المقاتلون الإسرائيليّون من التّقدّم لمساحة كافية بحيث سمحت لهم مواقعهم بتفجير مخابئ المقاتلين الأردنيّين ممّا حسم نتيجة المعركة، وهكذا تمّت السّيطرة على تلّة الذّخيرة بالكامل بعد القضاء على السّرية الأردنيّة بأكملها تقريبًا، وسقوط أربعة وثلاثين جندي من القوّات الإسرائيلية.

قنوات تلّة الذّخيرة وتظهر خلفها بنايات حيّ رامات أشكول عام 1969، أرشيف بن تسفي
قنوات تلّة الذّخيرة وتظهر خلفها بنايات حيّ رامات أشكول عام 1969، أرشيف بن تسفي

 

لتخليد ذكرى المعركة، في “يوم القدس” الثّامن تمّ افتتاح موقعًا رسميًا في تلّة الذّخيرة يمكن زيارته لمشاهدة المخابئ والقنوات، بالإضافة إلى مبنى حديث بمثابة نصب تذكاري ليكون شاهدًا على معارك القدس بمجملها حيث تُعرض بعض الأسلحة والصّور والشّروحات، وفي ساحة الموقع تقوم الاحتفالات الرّسميّة بذكرى انتصار إسرائيل عام 1967، باعتبار هذا الموقع الأهم لثقل هذه المعركة وأثرها على بقيّة الحرب.

رسم لتصميم الموقع التّذكاري لتلّة الذّخيرة، 1987 أرشيف جيرشون تسيبور
رسم لتصميم الموقع التّذكاري لتلّة الذّخيرة، 1987 أرشيف جيرشون تسيبور

 

تصميم النّصب التّذكاري، أرشيف المهندس يعكوف جيفر
تصميم النّصب التّذكاري، أرشيف المهندس يعكوف جيفر

 

أراد الملك عبدالله في حرب 1948 الحفاظ على القدس بأي ثمن، ويقال أنه كلّم الضّباط الأردنيّين بنفسه قائلًا “القدس القدس، لآخر طلقة ولآخر رجل”، ويبدو أن هذه المقولة كانت تدوي كذلك بعد عشرين عامًا في نفوس الجنود الأردنييّن الّذين لقوا حتفهم في معركة جفعات هتحموشت أو تلّة الذّخيرة عام  1967 ويقدّر عددهم بثمانية وتسعين. وما زالت أرض المعركة إلى اليوم تكشف تفاصيلًا وقصّصًا مخبأة، ففي العام السّابق على سبيل المثال، وجدت بقايا رفات ومتعلّقات لجندي أردني منها خنجر وساعة يد وخوذة. ولا بدّ أن تلّة الذّخيرة الّتي احتفظ اسمها بطابعها الحربيّ، ما زالت تخبّئ المزيد من القصص والتّفاصيل الدّفينة لمعركة شديدة الدّمويّة وكبيرة الأثر.

جنود إسرائيليّون مع صورة للملك حسين في القدس، العاشر من حزيران 1967، أرشيف دان هداني
جنود إسرائيليّون مع صورة للملك حسين في القدس، العاشر من حزيران 1967، أرشيف دان هداني

 

 

يوم القدس والرّقص بالأعلام

احتفالات يوم توحيد القدس والرقص بالأعلام الإسرائيلية، نظرة تاريخية عامة على هذا اليوم.

“أتعرفين؟ طوال عشرين سنة كنت أتصور أن بوابة مندلبوم ستفتح ذات يوم …ولكن أبداً، أبداً لم أتصور أنها ستفتح من الناحية الأخرى. لم يكن ذلك يخطر لي على بال، ولذلك فحين فتحوها هم، بدا لي الأمر مرعباً وسخيفاً وإلى حدٍّ كبيرٍ مُهيناّ تماماً … قد أكون مجنوناً لو قلتُ لكِ إن كل الأبواب يجب ألاّ تفتح إلا من جهةٍ واحدةٍ، وإنها إذا فُتحت من الجهة الأخرى، فيجب اعتبارها مغلقةً لا تزال، ولكن تلك هي الحقيقة”.

لم تكن كلمات الروائي غسان كنفاني إلا انعكاسًا لنتائج حرب حزيران عام 1967، والتي أسفرت بشكل أساسي عن ضم الجزء المتبقي من مدينة القدس وتوحيدها تحت السيادة الإسرائيلية وهدم ما تبقى من بوابة مندلبوم التي كانت تفصل بين الشطر الغربي والشرقي من القدس. بعد 55 عامًا، لا يزال معظم الإسرائيليين يحتفلون بما يُعرف بيوم التوحيد لشطري مدينة القدس.

في الثّامن والعشرين من الشّهر الثّامن في التّقويم العبريّ يحتفل الإسرائيليّون بيوم القدس، ومن أشهر تقاليد هذا العيد مسيرة ترقيص الأعلام الّتي يجوب بها الآلاف بلدة القدس القديمة. فما قصّة هذا الاحتفال وما هي مراسمه؟

يوم القدس هو عيد وطني يحتفل فيه الإسرائيليّون بذكرى توحيد مدينة القدس بشقّيها الغربي مع الشّرقي خلال حرب عام 1967 ويُسمّى أيضًا بيوم توحيد القدس ويوم تحرير القدس. من التّقاليد الشّهيرة في هذا اليوم كلّ عام مسيرة ترقيص الأعلام الّتي تنطلق من غرب المدينة وتدخل البلدة القديمة من أبوابها لتلتقي عشرات الآلاف من الشّبيبة في ساحة الحائط الغربيّ. فكيف تشكّلت هذه التّقاليد؟

في العام التّالي للسّيطرة الإسرائيليّة على شرقيّ مدينة القدس قام نشطاء من حركات ومدارس دينيّة-قوميّة بالمطالبة بإقامة وقفة احتفاليّة عند الحائط الغربيّ احتفالًا بذكرى الانتصار إلّا أنّهم لم يحصلوا على موافقة الحكومة فقاموا بإحياء الاحتفال خارج أسوار البلدة القديمة بقيادة رجال دين بارزين استمرّوا بالعمل على ترسيخ الثّامن والعشرين من الشّهر الثّامن للسّنة العبريّة ذكرى وطنيّة لحيازة القدس كاملة. إلّا أنه في ذلك الوقت، انطلق بعض تلاميذ المدرسة الدّينيّة مركاز هراف ليلًا بقيادة أستاذهم راف تسفي يهودا كوك ليسيروا رقصًا من مركز المدينة في شارع يافا وحتّى الحائط الغربيّ في البلدة القديمة. تحوّلت هذه المسيرة فيما بعد إلى حدث جماهيري كبير يتكرّر كلّ عام، ففي عام 1974 تمّ إشراك عدد كبير من المدارس الدّينيّة ومنذ ذلك الحين ما زالت المسيرة مستمرّة، وتشكّل إحدى الأحداث الأكثر بروزًا على رزنامة التّيار الصّهيونيّة الدّينيّة في إسرائيل.

مسيرة يوم القدس، 1992، أرشيف دان هداني، المكتبة الوطنية
مسيرة يوم القدس، 1992، أرشيف دان هداني، المكتبة الوطنية

يمثّل هذا اليوم بالنّسبة للمحتفلين فيه مناسبة للفخر وللتأكيد على السّيادة اليهوديّة والإسرائيليّة على كامل القدس، ويتغيّر مسار المسيرة أحيانًا بحسب الظّروف ورغبة القائمين عليها، لكنّها دومًا ما تبدأ من غرب المدينة وتتجّه نحو البلدة القديمة لتدخلها من أبوابها وتصل إلى ساحة الحائط الغربيّ. تستمرّ مراسم مسيرة الرّقص بالأعلام حتّى ساعات المساء، ويشارك بها عشرات الآلاف من شبيبة التّيار الدّيني-القومي.

في العادة، يتمّ دخول البلدة القديمة من عدّة أبواب من ضمنها باب العامود وباب الخليل، في الماضي تمّ منع المسيرة من دخول البلدة القديمة من باب الأسباط لعدّة سنوات إلّا أن المنع تم إبطاله في عام 2017. أما باب العامود فهو جزء من المسار التّقليدي لمسيرة الأعلام، وقد تمّ منع المسيرة من المرور فيه فقط في العام الماضي 2021.

بالرّغم من كون هذه المسيرة تقليد قائم منذ أواخر السّتينيّات، أي تمامًا بعد إتمام السّيطرة العسكريّة لإسرائيل على شرق القدس، إلّا أن “يوم القدس” لم يغدُ عيدًا وطنيًا رسميًا في دولة إسرائيل سوى بعد اتّفاقيّات أوسلو وبدء الحديث حول مبادرة السّلام العربيّة بسنوات قليلة، ففي العام 1998 وافق الكنيست أخيرًا على اعتبار التّاريخ المحدّد مناسبة وطنيّة للدّولة تحت عنوان “يوم يروشلايم” أي يوم القدس.

بهذه المناسبة، بالإضافة إلى مسيرة الرّقص بالأعلام، يُقام احتفالٌ رسميّ للدولة في موقع إحدى أهمّ المعارك على القدس عام 1967 في تلة الذخيرة، بالإضافة إلى الجولات الميدانيّة والاحتفالات المتفرّقة للمواطنين، وكذلك مراسم دينيّة معيّنة. ومن الجدير بالذّكر أن مسيرة الأعلام لم تكن الأولى من نوعها في شرق المدينة، فقد أقامت الدّولة مسيرة عسكريّة هناك هناك في يوم الاستقلال لعام 1968.

من المسيرة العسكريّة في يوم الاستقلال عام 1968 شارع السلطان سليمان في القدس.
من المسيرة العسكريّة في يوم الاستقلال عام 1968 شارع السلطان سليمان في القدس.

 

دالية الكرمل – من تمرّد جبل لبنان حتّى حلف الدّم مع إسرائيل

ضمن سلسلة من الأعمال المتعلّقة بالطّائفة الدّرزيّة، ندعوكم للتعرّف على قصّة دالية الكرمل من خلال صور ومواد وُجدت في المكتبة الوطنيّة.

متجر وصاحبه في دالية الكرمل عام 1960

تأسست قرية دالية الكرمل كقرية درزيّة منذ البداية في عشرينيّات القرن السّابع عشر حين أمر الأمير فخر الدّين المعني الثّاني ببناء ستّة عشر قرية درزية على جبال الكرمل في مدينة حيفا لتعزيز النّفوذ الدّرزيّ في المنطقة وحماية الحدود الجنوبيّة لولايته. فالأمير فخر الدّين المعني، الوالي الطّموح الّذي نجح ببناء جيشه الخاص وتوسعة ولايته لتشتمل على معظم أراضي سورية الكبرى، أراد أن يضمن وجود من يسانده في هذا الموقع الاستراتيجيّ على شمال السّاحل الفلسطيني فاختار جبل الكرمل، ويقال أنّ الموقع الّذي بُنيت عليه القرية كان يعجّ بالـ “دّوالي” البريّة (أوراق العنب باللّهجة الشّاميّة)، فكان جنود المعني يشيرون إلى الموقع بالـ “دالية”، وهكذا أصبحت القرية المقامة عليها “دالية الكرمل”.

لم يبقى إلى اليوم من هذه القرى السّتة عشر سوى دالية الكرمل وجارتها عسفيا، وكان سكّان هذه القرى الأوائل من عائلات الطائفة درزيّة موالية للمعني من سورية ولبنان. وهناك روايات أخرى تُرجّح بداية التّوطّن الدّرزي في جبل الكرمل إلى ما بعد فترة الأمير فخر الدّين، كما ويعتقد البعض أن القرية وُجدت قبل هذه الفترة لوجود مقام قديم في القرية.

نساء من دالية الكرمل بجانب فرن القرية ، 1890-1910، أرشيف بن تسفي
نساء من دالية الكرمل بجانب فرن القرية ، 1890-1910، أرشيف بن تسفي

              للمزيد حول الطائفة الدرزية، تصفحوا البوابة المعرفية لأرشيف مصوّر خاص بالدروز في زوايا المكتبة الرقمية

لقرية دالية الكرمل تاريخ متفرّد خاص بها يميّزها عن المنطقة ويربطها بمناطق أخرى وبالتّاريخ الأوسع لسورية الكبرى، فبالرّغم من الاختلاف حول قصّة بنائها، إلّا أن جميع القصص تشير إلى الهجرة من سورية ولبنان نحو فلسطين، ثمّ لاحقًا، الهجرة الدّاخلية من قرى محيطة إلى دالية الكرمل أثناء حملة إبراهيم باشا على سورية في منتصف القرن التّاسع عشر؛ إذ هاجم قرى الدّروز في الكرمل في طريق عودته إلى مصر فأدّى إلى نزوح أهالي عدد من القرى الدّرزيّة المحيطة إلى دالية الكرمل وهدم قراهم. بالإضافة إلى موجة نزوح ثانية شهدتها القرية عام 1948 من سكّان القرى المجاورة.

نجد في داخل القرية منطقة أثريّة تحتوي على مدافن ومعاصر وأُسس منحوتة من الصّخور تشهد على تأسيس القرية وتغيّر ثقافتها عبر العصور. وفي العقود الأخيرة من العهد العثماني في فلسطين، نجد أن القرية استقبلت بكلّ ترحاب ساكنًا أجنبيًا من أصول اسكتلنديّة “سير لورانس أوليفانت” الرّحالة، الّذي ابتاع في القرية قطعة أرض وعمّر فيها بيتًا على الطّراز الأوروبي ما زال قائمًا إلى اليوم. وقد كتب أوليفانت عدّة مقالات صحافيّة حول حياته في فلسطين وصف فيها معيشته مع الدّروز في دالية الكرمل، ووصفهم بالجدّيين والمستقيمين، وبالطّيبين الّذين يُقدّرون المعاملة الحسنة.

قبل فترة مكوث سير أوليفانت، ذكر الرّحالة البريطانيّ لورد كيشنر أنّ عدد سكّان دالية الكرمل عام 1859 كان 300 نفرًا وفي عسفيا 400 نفرًا. وقد بلغ عدد سكّان دالية الكرمل في عام 1911 بحسب الإحصاء العام للحكومة العثمانيّة 838 نفرًا سكنوا قرابة مائتين بيت من بينهم عائلة حلبي وبيراني وقرا/قره وسلوم وخطيب وقبلان وحسّون وغيرهم.

 

دالية الكرمل في عهد الانتداب البريطاني – الثّورة الفلسطينيّة وبناء المدارس

 

خبر يتناول دالية الكرمل في جريدة الدّفاع 7.4.1938
خبر يتناول دالية الكرمل في جريدة الدّفاع 7.4.1938

نرى عبر الأخبار الّتي تناولت دالية الكرمل في عهد الانتداب البريطانيّ أنّ حال القرية لم يختلف عن أحوال قرى فلسطين عمومًا. فبالرّغم من الاعتقاد العام بأن أبناء الطّائفة الدّرزية لم ينخرطوا في صفوف المعارضة الفلسطينيّة لحكومة الانتداب والهجرة اليهوديّة، نجد خبرًا عن القرية في جريدة الدّفاع في السّابع من نيسان عام 1938، أي في أوج الثّورة الفلسطينيّة الّتي اندلعت عام 1936 واستمرّت حتّى عام 1939، بأنّ حكومة الانتداب البريطانيّ تفرض على أهالي قرية دالية الكرمل غرامة بقدر خمسمائة جنيه بل وأرسلت قوّة خاصّة إلى القرية لجباية الضّريبة. وكان سبب هذا العقاب الجماعيّ هو إطلاق النار من قرية دالية الكرمل نحو عمّال يهود كانوا يقومون بتعبيد طريق جديدة في سفح الجبل.

"دالية الكرمل قرية عربيّة" من صفحة شؤون الفلّاحين في جريدة الاتّحاد 21.5.1944
“دالية الكرمل قرية عربيّة” من صفحة شؤون الفلّاحين في جريدة الاتّحاد 21.5.1944

بينما يجدر بالذّكر هنا أنّ أهالي القرية كانوا قد رحّبوا بالطّرق المعبّدة من قبل حكومة الانتداب قبل ذلك، فأوّل طريق للقرية تمّ شقّه في بداية الثّلاثينيّات من أجل استقبال ضيوف لساكنة أجنبيّة في بيت أوليفانت السّابق ذكره، إذ قامت السيّدة بدعوة حاكم لواء حيفا مع ضيوف آخرين وفي أعقاب الدّعوة تمّ تعبيد شارع يربط قرية دالية الكرمل بحيفا عن طريق عسفيا، وكان هذا الشّارع وفقًا لإصدار مركز “سِوا”، أول طريق معبّد يصل القرية بالخارج، وقد رحّب به أهالي القرية حينها.

رجال يركبون الحميرعند مدخل القرية عام 1939، أرشيف بن تسفي
رجال يركبون الحميرعند مدخل القرية عام 1939، أرشيف بن تسفي

 

رجال في دالية الكرمل يلعبون الشطرنج عام 1936، أرشيف بن تسفي
رجال في دالية الكرمل يلعبون الشطرنج عام 1936، أرشيف بن تسفي

 

كما نجد في عام 1944 محاولة من شابّين من دالية الكرمل لفت نظر حكومة الانتداب إلى حاجة مدرسة القرية الّتي بناها أهالي البلدة بأنفسهم للتّوسعة والرّعاية الحكوميّة إذ لم تتّسع حينها إلّا لنصف أطفال القرية الّذين يرغبون بالتّعلّم. وقد قاموا بذلك من خلال السّفر إلى أحد مكاتب جريدة الاتّحاد وتقديم طلب لنشر شكواهم وطلباتهم لتسمعها حكومة الانتداب.

زائرتان يهوديتان للقرية 1937-1939، أرشيف بن تسفي
زائرتان يهوديتان للقرية 1937-1939، أرشيف بن تسفي

 

العقود الأولى تحت الحكم الإسرائيلي –  التّجنيد الإجباري بين القبول والرّفض

 

أهالي حيّ في دالية الكرمل مجتمعين عام 1956، أرشيف بن تسفي
أهالي حيّ في دالية الكرمل مجتمعين عام 1956، أرشيف بن تسفي

 

منذ قيام دولة إسرائيل عام 1948، تطوّع عددٌ من الدّروز في صفوف الجيش الإسرائيلي في كتيبة خاصّة ضمت دروز، بدو وشركس، إلّا أنّه في أواخر الخمسينيّات، قامت دولة إسرائيل بالاعتراف بالطّائفة الدّرزية كديانة مستقلّة، كما فُرض على شباب قرية دالية الكرمل، كحال جميع الشّباب الدّروز حينها في البلاد، الخدمة الإجباريّة في الجيش الإسرائيليّ بعد سنوات قليلة من المراسلات والتردّدات بين بعض قادة الطّائفة الدّرزيّة على رأسهم الشيخ أمين طريف والحكومة. إلّا أنّ قرار فرض التّجنيد قوبل أيضًا برفض من قبل شريحة كبيرة من الدّروز؛ حيث امتنع الكثير من الشّبان عن استلام أوامر تجنيدهم، فنجد في عام 1956 على سبيل المثال أن 60 فقط من أصل 141 شاب مطلوب للتّجند من قرى الكرمل  حضروا بالفعل إلى مكتب التّجنيد في حيفا. (وثيقة من أرشيف الجيش بحسب فرّو، 2019، ص284) استمرّت محاولات قمع هذا الرّفض حتّى سنوات السّبعينيّات على ما يبدو، إذ نجد حادثة في صحيفة الاتّحاد في 17 حزيران 1978، تصف غضب أهالي قرية دالية الكرمل من اقتحام بيوتهم واعتقال أبنائهم بالقوّة لإجبارهم على التّجنّد في حملة امتدّت إلى دروز شفاعمرو كذلك.

"العدوان البوليسي على دالية الكرمل" صحيفة الاتّحاد 27 حزيران 1978
“العدوان البوليسي على دالية الكرمل” صحيفة الاتّحاد 27 حزيران 1978


حلف الدّم وزيارة زعماء دولة إسرائيل إلى دالية الكرمل

إن كانت العلاقات مضطربة في بدايتها فإنّها في العقود التّالية ازدهرت بلا شكّ بين القرية الجبليّة والدّولة كما ازدهر بالتّوازي اقتصاد القرية وأسواقها السّياحيّة. ويظهر هذا الازدهار جليًا في مجموعة من الصّور الّتي التقطت أثناء زيارات عديدة لقادة الدّولة إلى القرية في مناسبات عديدة. ففي الثّامن من أيّار عام 1968 شارك رئيس أركان الجيش الإسرائيلي موشيه دايان في جنازة الرّقيب لطفي ناصر الدّين من قرية دالية الكرمل وشارك في مراسم الدّفن بنفسه تأكيدًا على تقدير الدّولة لدور الدّروز في حماية أمنها. كما نجد في عام 1974 احتفالاً بافتتاح سوق للقرية بحضور وزير السّياحة حينها موشيه كول الّذي استقبله أهالي القرية برفع الأعلام الإسرائيليّة. وفي عام 1991 شارك رئيس الحكومة يتسحاك شامير في مؤتمر احتفالي للطّائفة الدّرزيّة في القرية.

من جنازة الرّقيب الرّاحل لطفي ناصر الدّين 1968، يظهر قائد الأركان موشيه دايان وفي يمين الصّورة يظهر الشّيخ أمين طريف رئيس الطّائفة الدّرزيّة، أرشيف دان هداني
من جنازة الرّقيب الرّاحل لطفي ناصر الدّين 1968، يظهر قائد الأركان موشيه دايان وفي يمين الصّورة يظهر الشّيخ أمين طريف رئيس الطّائفة الدّرزيّة، أرشيف دان هداني

 

من جنازة الرّقيب الرّاحل لطفي ناصر الدّين 1968، أرشيف دان هداني
من جنازة الرّقيب الرّاحل لطفي ناصر الدّين 1968، أرشيف دان هداني

 

من افتتاح سوق في دالية الكرمل عام 1974 بحضور الوزير موشيه كول، أرشيف دان هداني
من افتتاح سوق في دالية الكرمل عام 1974 بحضور الوزير موشيه كول، أرشيف دان هداني

 

صورة داخل متجر في دالية الكرمل عام 1974، أرشيف دان هداني
صورة داخل متجر في دالية الكرمل عام 1974، أرشيف دان هداني

 

رئيس الحكومة السّابق يتسحاك شامير في دالية الكرمل عام 1991، أرشيف دان هداني
رئيس الحكومة السّابق يتسحاك شامير في دالية الكرمل عام 1991، أرشيف دان هداني

 

تطوّرت العلاقات بين أبناء الطّائفة المعروفيّة  في دالية الكرمل والبلدات الدّرزيّة ودولة إسرائيل بلا شكّ فأصبحت مزارًا للسّياحة الدّاخليّة للمواطنين اليهود الّذين يرغبون بالتّعرف على ثقافة الدّروز الّذين يخدمون الدّولة جنبًا إلى جنب معهم، كما تمّ إنشاء المصانع والمشاغل والمصالح الّتي ساهمت بنهضة اقتصاديّة ملحوظة، وقد وصف البعض هذه العلاقة بين أبناء الطّائفة الدّرزيّة والدّولة ب”حلف الدّم” للتأكيد على أنّها علاقة وثيقة ومتينة وهو ما نراه في المشاهد التّي تصدّرت الصّور الأرشيفيّة لقرية دالية الكرمل في المكتبة، إلّا أننّا نجد أيضًا أنّ مطالبات القرية بالمساواة والتّطوير بقيت تطفو على السّطح من خلال رؤساء المجلس المحلّي تارة والمظاهرات الشّعبيّة تارة أخرى، وهو ما نراه في أخبار القرية في صحيفة الاتّحاد في سنوات الثّمانينيّات والتّسعينيّات.

إليكم بعض هذه الأخبار:

 

عن شكوى عاملات دالية الكرمل في المصانع، الاتحاد 26 حزيران 1981
عن شكوى عاملات دالية الكرمل في المصانع، الاتحاد 26 حزيران 1981

 

مظاهرة لأهالي دالية الكرمل ضدّ التّمييز العنصري، الاتّحاد 1 حزيران 1992
مظاهرة لأهالي دالية الكرمل ضدّ التّمييز العنصري، الاتّحاد 1 حزيران 1992

 

 مذكّرة رئيس المجلس المحلّي إلى رئيس الدّولة، الاتّحاد 15 أيّار 1992

مذكّرة رئيس المجلس المحلّي إلى رئيس الدّولة، الاتّحاد 15 أيّار 1992

 

دالية الكرمل تستعدّ للنّضال الشّعبي إن لم يتم الاعتراف بها كقرية تطوير "أ"، الاتّحاد 6 تشرين الثّاني 1994
دالية الكرمل تستعدّ للنّضال الشّعبي إن لم يتم الاعتراف بها كقرية تطوير “أ”، الاتّحاد 6 تشرين الثّاني 1994

 

المصادر التي اعتمد عليها في هذا المقال:

دالية الكرمل في ثلاثمائة عام، نزيه خير، دار الهدى للنّشر في كفرقرع، 1991.
دالية الكرمل حضارة وتاريخ، حركة سوا، 2009.
دروز في زمن الغفلة، قيس فرو، مؤسّسة الدّراسات الفلسطينيّة، 2019.