تعرّفوا على قصّة الشّيخ أسعد أفندي وعلي بك رضا النّحوي
الجزء الأوّل
تحظى القصص العائليّة والبنى الاجتماعيّة للفلسطينيّين في عهد الانتداب البريطانيّ باهتمامٍ واسعٍ في السّنوات الأخيرة، ما زال يكشف لنا شيئًا فشيئًا تفاصيل تعمّق من فهمنا لما حدث في هذه المرحلة الانتقاليّة من حياة الفلسطينييّن. ومن المصادر الّتي توفّر لنا معرفة من هذا النّوع، إلى جانب التأريخ العائليّ والوثائق المؤرشفة، هي أرشيفات الصّحف الفلسطينيّة المختلفة، إذ تناولت الصّحافة الفلسطينيّة أخبار الحياة اليوميّة لسكّان المدن والقرى الفلسطينيّة كافّة، من حفلات الزّفاف والتّبريكات والوفيّات والمسابقات الرّياضيّة وحتّى المظاهرات أو الاشتباكات ضد حكومة الانتداب والاستيطان اليهوديّ.
في هذه المقالة، نستعرض لكم خلفيّة قصة نزاع بين عائلتين من العائلات الفلسطينيّة الكبرى في مدينة صفد خلال فترة الانتداب البريطاني، عائلتيّ قدّورة والنّحوي. إذ بدأنا بتتبّع هذه القصّة المبعثرة من خبرٍ مبهم ورد في صحيفة اللّواء في تاريخ 31 من كانون الثّاني عام 1936، مفاده بأن الخلاف الّذي بدأ بين هاتين العائلتين حول انتخابات البلديّة لم ينته بعد، بل تحوّل إلى نزاع ما زال يكبر، حتّى أن أهالي صفد وعكّا يطالبون مفتي البلاد (الحاج أمين الحسيني) بالتّدخّل من أجل إنهاء الأزمة!
رغم أنّ السبب الّذي يقترحه علينا النّص يبدو بديهيًا ومفهومًا، ألا أنّ القليل من البحث حول الأسماء الّتي وردت في الخبر يكشف لنا عن خلاف أوسع من مجرّد نزاع حول تسلّم سلطة محليّة. بل هو لربّما، مرآة صغيرة لصراعات ظهرت في صفوف الحركة الفلسطينيّة الوطنيّة في عصر الإنتداب، صراعات اتّخذت طابعًا عائليّا إلا أنها حملت في طيّاتها اختلافًا في الرؤى والممارسة الوطنيّة من جهة والصراع على النّفوذ والطّموح الفردي من جهة أخرى.

في نصّ الخبر، ورد اسمان: الشّيخ أسعد أفندي قدّورة؛ مفتي المدينة سابقًا وقاضيها في فترة الانتداب، وعلي رضا بك النّحوي؛ مأمور أوقاف شمال عكّا. وإنّ تتبّع الأخبار حول هذين الاسمين في الصّحف المتنوّعة كفيل بأن يظهر لنا شيء من طبيعة الاختلاف في توجّهات كلّ منهما كشخصيّتين من وجاهات المدينة منذ أواخر العهد العثمانيّ. إلّا أن مقالتين على وجه التّحديد ضمن سلسلة “في المرآة” في صحيفة مرآة الشّرق عام 1927 تعرضان سيرة كلّ من الرّجلين بشيء من النّقد والمديح، وقد نشرت المقالتين خلال شهرين متتاليين، مما يثير فضولنا أكثر حول هذا النّزاع العائليّ وتاريخه الممتدّ لأكثر من عشر سنوات. فمن هو الشّيخ أسعد أفندي؟ ومن هو علي رضا بك؟
قدّمت صحيفة مرآة الشّرق العشرات من المقالات الّتي عرّفت بالوجاهات الدّينيّة والشّخصيّات البارزة في الحلبة السّياسيّة الفلسطينيّة، فكانت سلسلة “في المرآة” مرجع اتأكت عليه العديد من الأبحاث في التّاريخ الفلسطيني والّتي وجدت في هذه المقالات معلومات أساسيّة حول أسماء وردت في سجلات وأوراق هامّة لكّننا لا نعرف عنها الكثير.

فهكذا مثلًا، اعتمد مصطفى العبّاسي في جزء كبير من تعريفه بفترة نفوذ الشّيخ أسعد أفندي في صفد على مقالة “في المرآة” حول الشّيخ أسعد أفندي عام 1927. إذ يتناول المقال سيرة الشّيخ ودراسته في الأزهر ومن ثمّ استلامه منصب مفتي صفد. ثم لا يتوانى كاتب المقال عن إبداء نقده بين السّطور في عدّة مواضعٍ، فيمدح به ويوقّره من جهة ومن ثمّ يعود لينتقده من جهة أخرى. فمثلًا، يصف حنكته الاجتماعيّة وتصرّفاته بين النّاس، “يدخّن كثيرًا ويشرب القهوة السّادة ويقول “القهوة السّادة للسّادة”، يستضيف أصدقائه ويتفقّد القربى ويستعرض الجماعات وقد يكثر الزّيارات ليلاحظ النّعرات الحزبيّة ويدرس القوم، ومن ثمّ يتحدّث عن انخراطه في الحركة الوطنيّة ويثني على قوميّته ودفعه وبذله أمواله في سبيلها، إلا أنه يعود ويذكّر بأنّه لم يقطع علاقته بالحكومة الانتدابيّة، ثم يلتمس له الأعذار. وهكذا طيلة المقال، يصفه بالشّجاعة والكرم تارة، وضعف العزيمة والإصرار على التربع في منصبه تارة أخرى. ويذكر المقال حنكة الشّيخ في التّعامل مع خصومه، إلا أنه لا يتطرّق لتلك الخصومات أو يتّخذ منها موقفًا.
في الشّهر التّالي، تقوم مرآة الشّرق بنشر مقالة من ذات السّلسلة “في المرآة” عن علي رضا بك النّحوي، سليل العائلة العلميّة منذ القدم في صفد، والّذي كان يعمل متصرّفًا في إربد، إلا أنه سئم الوظائف وقرّر أن يكون مدرّسًا للتعاليم الدّينيّة، كتبت هذه المقالة بأسلوب يختلف تمامًا عن تلك الأولى، إذ يعرض كاتبها جميع التفاصيل حول شخصيّة على بك رضا من خلال سرد تفاصيل لقائه بشخص غريب في مقهى فندق في القدس كأنه يحكي قصّة بأسلوب أدبيّ ماهر، إلا أنه من خلال هذه القصّة يلمّح لقضايا معيّنة ويحاول إيصال شكوى النّحوي حول عدم حصوله على وظيفة في حكومة الانتداب، وأن مثله لا يستطيع أن يحصل على الوساطة المناسبة، وأن هذه المناصب لا يحصل عليها إلا من كان متصلًّا بجمعيّة الشّبان المسيحيّين، وهي جهة منتقدة من قبل الوجاهات الدّينيّة والوطنيّة الفلسطينيّة.

نفهم من هاتين المقالتين أن في عام 1927 تمتّع الشّيخ أسعد قدورة بنفوذٍ أكبر في صفد كما بعلاقة أفضل مع حكومة الانتداب، خاصّة وأن المقالة ذكرت أن الشّيخ لا يغادر بلده إلا للضرورة القصوى، خوفًا على مكانته ومنصبه من المنافسين. في حين أن على بك رضا كان يعمل في شرق الأردن لسنوات، وكان قد عاد مجددًا إلى صفد كمعلّم دين بغير منصب ذو نفوذ. فما الّذي تغيّر حتّى عام 1936؟ وهل تنافس الرّجلان على انتخابات البلديّة؟ ولماذا استنجد أهالي صفد بمفتي البلاد لحلّ النّزاع بين العائلتين؟
ترقّبوا الجزء الثّاني!