من منا لم يسمع عن الاحتفال المهيب الذي أقامه الخديوي اسماعيل لافتتاح قناة السويس في السادس عشر من نوفمبر عام 1869؟ فبعد أكثر من عشر سنوات على مباشرة العمل على حفر القناة افتتحت الشركة العالمية لقناة السويس البحرية مشروعًا ضخمًا لم يشهد مثله البشر من قبل، وكان من اللائق أن يكون الاحتفال على درجة من الفخامة لا تقلّ عن فخامة المشروع. فكيف بثّت دعاية هذا الحفل وكيف روّج له؟
اقرأ/ي أيضًا: قناة السويس: استعادة الشرق هدية الغرب
تواجدت العائلات المصرية على ضفاف القناة على امتدادها ترحيبًا بالسفن الّتي عبرتها للمرة الأولى واحتفالًا بافتتاح القناة بإشارة من الحكومة المصريّة، وحضر إلى مدينة بور سعيد ألوف مؤلّفة من المصريين لمشاهدة الحفل، بالإضافة إلى آلاف الضيوف المدعويين من رؤساء دول وسياسيين وفنانين وشخصيات كبرى من حول العالم تمّت رعايتهم من قبل مئات الطهاة وآلاف الخدام واستقبلوا على سجاجيد فاخرة ومنصات خشبية مكسوة بالحرير والديباج والأعلام والمظلّات البهيّة. واشترك في هذا الحفل كلّ من علماء الدين المصريين وجيشها ورجال دولتها وأهلها.
رافق هذا الحفل المهيب مطبوعات ومنشورات مصممة خصيصًا ما زال الكشف عنها يعبّر عن الحالة الاجتماعية الفريدة والمتنوّعة في مصر في تلك الحقبة. من بين هذه المنشورات خارطة قام بتصميمها ونشرها الأخوان زانجاكي اليونانيان والمقيمان في بور سعيد في تلك الفترة.
ليس لدينا الكثير من المعلومات حول هذه الخارطة وتصميمها ولا نعرف في أي عام نُشرت بالضبط. لكن من تفاصيل هذا المنشور وبالمقارنة مع تصميمات شبيهة خرجت في تلك الفترة يمكننا التعرف على السياق العام الّذي أنتجت به. فمن هما الأخوان زانجاكي؟ وما المشاهد المحيطة للخريجة ومن الشخصيات التي تظهر عليها صورتهم؟
الاخوان زانجاكي مصوّران يونانيان يكتنفهما الغموض إذ ليس هناك معلومات مؤكّدة حول جذورهما أو حول أسماءهما حتّى. ولكن من المؤكّد أنهما عاشا في مصر العثمانية ما بين ستّينيّات وتسعينيّات القرن التّاسع عشر وخلّفا صورًا مذهلة عن مصر في تلك الفترة.
ارتبط اسمهما بالمصوّر الرّسمي لتوثيق العمل على قناة السويس الفرنسي إيبوليت أرنو صاحب “ألبوم قناة السويس” الّذي وثّق عشر سنين حفر القناة. ويبدو أن الإخوة زانجاكي كانا مساعدين أو مرافقين له في العل على هذا الألبوم إلى جانب عملهما الخاص، حيث كانا ينتجان الصّور التذكارية لبيعها لسيّاح مصر حيث امتلكا ستديو خاص في بور سعيد وآخر في القاهرة.
خلال سنوات مكوثهما في مصر، قام الاخوان زانجاكي بتوثيق معالم مصر الشهيرة على امتداد النيل برفقة عربة حصان مزوّدة بغرفة مظلمة للتصوير، وقاما بتوثيق بعض المشاهد من قناة السويس وبتوثيق حياة المصريين اليوميّة وتقاليدهم وأعمالهم.
في الصّورة التي نتناولها عن قناة السويس نرى ميّزات عديدة: تتربّع خارطة القناة بشكل أفقي على مركز التصميم، يعلوها صور شخصيّة لمحمد علي باشا وولديه الّذين تمّ افتتاح العمل على قناة السّويس واختتامه في عهديهما الخديوي سعيد والخديوي اسماعيل. ثمّ على الهامشين العلوي والسّفلي نرى نوعين من الصّور، صور لمشاهد من قناة السّويس على امتدادها، على ما يبدو قام الأخوان بالتقاطها وإلّا لما كان من القانونيّ نشرها على تصميمهم الخاص، وصور لشخصيّات بعضها معروف وذات أهميّة في تاريخ إقامة القناة. ففي أعلى الصورة نرى على طرفيها من اليمين صورة السلطان العثماني عبد العزيز الأوّل (1830-1876) وعلى يسارها السياسي الفرنسي فرديناند ديلسبس (1805-1894) صاحب فكرة القناة والمبادر الأوّل لها.
ليست هذه الخارطة بتصميمها الأولى من نوعها في تلك الفترة، فعلى سبيل المثال، في إحدى دعوات حفل الافتتاح المهيب والمحفوظة نسخة عنها لدى جمعية إحياء ذكري ديلسيبس وقناة السويس، تظهر خارطة لامتداد القناة وحولها صور شخصيّة لملوك ورؤساء دول العالمين الّذين سيحضرون الحفل.
وفي منشور آخر للمصوّر الفرنسي أرنو الّذي عملا معه الأخوان زانجاكي، تظهر خارطة لامتداد القناة بالعرض وحولها كذلك صور لمشاهد من مناطق مختلفة على ضفاف القناة وصور لشخصيات في تصميم يكاد يكون مطابق لخارطة الأخوان زانجاكي في مجموعة عائلة لينكن.
فعلى ما يبدو كان هذا التّصميم متداول في المنشورات والدّعوات المتعلّقة بالحفل أو حتّى المعروضة للبيع في التجارة السّياحيّة كنوع من التّعريف بالقناة وتبجيل القائمين عليها. ولكن ما يميّز تصميم الأخوان زانجاكي هو وجود شخصيات نسائيّة أكثر عدًدا من الشخصيات الرجالية من الرؤساء والسّياسيين، إلّا أن هويّة هؤلاء النّسوة وارتباطهنّ بقناة السويس يحتاج للمزيد من البحث والتّقصي.
ولكنّ الأرجح، أنّ النّساء السّبع المرفقة صورهنّ في التّصميم، بالإضافة إلى الرّجلين على الجانب السّفلي من التّصميم، هم أشخاص مغمورين ومحلّيين، قام الأخوة زانجاكي بتصويرهم خلال رحلتهم الشّهيرة على امتداد النّيل أو في الاستديو الخاص بهم، وقاموا بارفاق صورهم بألبستهم التّقليديّة والمتنوّعة إلى التّصميم كنوع من لفت الانتباه إلى ثقافة المنطقة الغريبة والأخّاذة بالنّسبة للسائحين الفرنسيين والبريطانييّن في ذلك الوقت. ومما يؤكّد على هذا الاحتمال هو عدم ورود أسماء لهم تحت صورهم مقارنة بصور الشّخصيات الهامّة والشّهيرة، بالإضافة إلى غلبة صور النّساء، وهو اهتمام شائع لدي المصّورين الأوروبيين في مصر وبلاد الشام في تلك الفترة. كما أنّ هذا التفسير يتماشى مع عرض التّصميم لصور مشاهد طبيعيّة من مصر، وكأنما التّصميم جاء ليحتفل بمشروع القناة وبمصر كلّها.
اقرأ/ي أيضًا: الحياة والأزياء التقليدية في مسيرة خليل رعد
من الجدير بالذّكر أن الأخوان زانجاكي قاما بزيارة البلاد أيضًا وخلّفا صورًا عديدة من هذه الزّيارة يمكنكم مشاهدتها هنا.