برج الساعة في يافا، 1946-1988، مجموعة بينو روتنبيرغ، المكتبة الوطنية
تاريخ البناء والامبراطورية العثمانية
تقف في البلاد، وسط مدن مختلفة، أبراج الساعة العديدة، التي بنيت جميعها في العهد العثماني في عهد السلطان عبد الحميد الثاني. تم بناء هذه الأبراج المنتشرة في أنحاء القدس ويافا وعكا وصفد وحيفا لإحياء ذكرى حكمه الذي دام 25 عامًا. للأسف، تم هدم برج ساعة القدس أثناء دخول القوات البريطانية إلى المدينة، ولم يصمد حتى يومنا هذا.
مدن تاريخية مصوّرة
ظهر مفهوم هذه الأبراج بعد أن أهدى السلطان عبد الحميد الثاني المدن الساعات. كان امتلاك ساعة شخصية خلال تلك الحقبة أمرًا نادرًا، لذلك تم تشييد هذه الأبراج في مراكز المدن – وهي مراكز يتجمع فيها الناس، حيث ازدهرت الحياة – لتوفير الوقت للجميع، ومساعدتهم على جدولة حياتهم. اذ في ذلك الوقت، كان الأثرياء فقط هم من يمتلكون الساعات المحمولة.
مبادرة السلطان الشخصية لتكريم حكمه حولت هذه الأبراج إلى مراكز استراتيجية لمساعدة الناس. وبمرور الوقت، تحولت هذه الساحات المزينة بالأبراج إلى معالم تاريخية وثقافية. لقد تم وضعها بشكل استراتيجي في قلب المدن، حيث تتركز التنمية الحضرية، مما يجعل الوصول إلى الخدمات سهلاً ويعزز الروابط المجتمعية.
ولم تقتصر هذه المبادرة على المدن الفلسطينية وحدها؛ إذ عند التجوّل في المدن القديمة في جميع أنحاء بلاد الشام – سوريا ولبنان وبعض المدن المصرية – يجد المرء أبراجًا مماثلة، وهي شهادة على السلطة الموحدة لتلك الحقبة.
المدن كشواهد على التاريخ
في نسيج المدن الكبيرة النابضة بالحياة آنذاك، تَتَكَشّف الحكايات حول أبراج الساعة المهيبة. في عكا، يقف برج الساعة بفخر فوق المدخل الشمالي الرئيسي، وهو عبارة عن حارس حجري يزين خان العمدان، الذي شيده الوالي أحمد باشا الجزار في أواخر القرن التاسع عشر. وبجوار الساحة الخضراء الصاخبة بالقرب من الميناء، ظهر حضورها الهائل في عام 1918، لينضم إلى سجلات الأبراج في جميع أنحاء فلسطين في عهد السلطان عبد الحميد الثاني.
يمكن الوصول للبرج من خلال القناطر الحجرية المحمية بسقف حجري، والتي تقع على يسار المدخل الشمالي للخان. كانت الفتحات الدائرية على كل وجه تحتوي على ساعات مستديرة كبيرة ظلت شامخة حتى أواخر الخمسينيات قبل أن تقوم سلطات التراث بإزالتها. ثلاث لوحات رخامية منحوتة على الوجه الشمالي للبرج تحمل نقوشًا تحتفل بمرور 25 عامًا من حكم السلطان عبد الحميد.
أما برج الساعة في صفد، فيزين المحيط الجنوبي الشرقي للقلعة. تم بناء القلعة في القرن الثامن عشر في عهد ظاهر العمر، ثم تحولت إلى رمز للحكم العثماني بعد عام 1775. تم دمج برج الساعة بسلاسة في عام 1901، جنبًا إلى جنب مع نظرائه في جميع أنحاء فلسطين.
وفي الوقت نفسه، في نابلس، أشرف أحمد السروان، كبير عمال البناء في ذلك الوقت، على بناء البرج، وحصل على التكريم العثماني لدوره. وعلى غرار نظيراتها الفلسطينية، كان برج نابلس، وهو مبنى شاهق مكون من أربعة طوابق، يستضيف ضابط الوقت في المدينة وأصبح رمزا للأهمية التاريخية.
ظهر برج يافا أيضًا في عام 1901 وسط عمليات تجديد على مستوى البلاد. تقول الأسطورة أن أحد أثرياء جافان أخذ زمام المبادرة، بعد أن سئم من مقاطعة الأشخاص الذين يبحثون عن الوقت في طريقهم إلى محطة القطار. يضم هذا البرج أربع ساعات – اثنتان تحافظان على التوقيت الأوروبي واثنتان تتزامنان مع الجداول الزمنية المحلية، وهي شهادة على تقارب الثقافات في ذلك العصر.
رحلة في عمق سداسية الأيام الستّة
في هذا المقال نستعرض أدب وسياسة إميل حبيبي، ميوله وحياته من خلال تحليل مبسّط لسداسية الأيام الستة، بعد حرب عام 1967.
لحظة تسلّم إميل حبيبي لجائزة إسرائيل للأدب، 1992، من أرشيف دان هداني، المكتبة الوطنية.
يعتبر كاتب المجموعة القصصية “سداسية الأيام الستّة” إميل حبيبي، واحدًا من أكثر الكتّاب الفلسطينيين جدلًا على المستويات الثقافية والسياسية، السياسيّ والمثقف هو من أوائل الكتّاب الّذين وصفوا حياة الفلسطينيين الّذين ظلّوا في أرضهم بعد حرب عام 1948، فكتب عن حياتهم وطريقة تأقلمهم مع الوضع السياسي – الاجتماعي الجديد، وحقيقة انفصالهم عن البقية من شعبهم وامتدادهم العربي.
خلال هذا المقال نستعرض أدب وسياسة إميل حبيبي، ميوله وحياته من خلال تحليل مبسّط لسداسية الأيام الستة، القصص الّتي ولدت بعد هزيمة الجيوش العربية في حرب عام 1967، أو النكسة كما عُرفت عربيًّا.
ولد إميل حبيبي في حيفا عام 1921، وهو ابن لعائلة فلسطينية مسيحية أصلها من مدينة شفاعمرو الّتي تبعد عن حيفا 22 كيلومترًا. أتمّ دراسته الثانوية في حيفا وعكا، ونال شهادة الاجتياز في 1939، ثم عمل في مصانع تكرير البترول في حيفا، ودرس في ذات الفترة الهندسة البترولية بالمراسلة مع جامعة لندن لمدة سنتين.
انضم حبيبي إلى الحزب الشيوعي الفلسطينيّ عام 1941، وهو من بين مؤسسي “رابطة التحرير الوطني” عام 1944 وأحد رؤسائها، في عام 1948 انضم إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي وانتخب عضوًا هامًا في الحزب، ومع الانشقاق الّذي حصل في الحزب عام 1965 كان من بين رؤساء القائمة الشيوعية الجديدة وعضو الديوان السياسي التابع للحزب. عمل محررًا لصحيفة الاتحاد في السنوات بين 1971-1989، وفي عام 1989 استقال من مؤسسات القائمة الشيوعية الجديدة.
شغل عضوية الكنيست الثانية والثالثة والخامسة عن الحزب الشيوعي الإسرائيلي، والكنيست السادسة والسابعة عن القائمة الشيوعية الجديدة، وتوفي في 2 أيار 1996 م بعد أن أوصى بأن يُكتب على قبره “باقٍ في حيفا”.
إميل حبيبي الّذي وافق عصبة التحرر الوطني على قرار التقسيم، صار لاحقًا صوت الّذين بقوا في البلاد وعاشوا الحكم العسكري وحرب عام 1967. وقد كان بشكلٍ أو آخر، واحدًا من أهم الأصوات السياسية الّتي لعبت دورًا كبيرًا في مصير الفلسطينيين الّذين عاشوا تحت الحكم الإسرائيلي.
سداسية الأيام الستة
يرتبط الأدب بالواقع، يحاكي تطوّره والتغييرات الّتي تطرأ عليه بمرور الزمن، وتعتبر القصة القصيرة أحد الأجناس الأدبية الّتي تتمكن من نقل الواقع بصورة مبسطة، سلسة ومباشرة. وقد تجذّرت أعمال إميل حبيبي بالواقع المعاش لدى الفلسطينيين في إسرائيل في سنوات ما بعد حرب حزيران بشكلٍ خاص، حيث اعتمد في القصص الستة الّتي نحكي عنها في المقال على مرجعية الواقع العينيّ المدمج بسردية التاريخي، عبر رصده لذاكرة المكان الفلسطيني ببعديه التاريخيّ والجغرافي.
سداسية الأيام الستة هي عبارة عن ست قصص تحت عناوين: حين سعدَ مسعود بابن عمه، وأخيرًا نوّر اللوز، أم الروبابيكا، العودة، الخرزة الزرقاء وعودة جبينة، الحب في قلبي. وتحكي كلّ قصة منهم بُعدًا سياسيًا واجتماعيًا للواقع الفلسطيني المعاش خلال وبعد حرب عام 1967.
امتاز أسلوب إميل حبيبي الأدبي بدمج ما بين الموروث الشعبي الفلسطيني والأدب، ويبدو هذا الهوس في التداخل بين العالمين من خلال كتاباته جليًا في عناوين قصصه، وفي سداسية الأيام الستة تبدو الإشارة إلى الموروث الشعبي الفلسطينيّ والعربي جلية من خلال استحضار قصة “جبينة” و “الخرزة الزرقاء”، كما أنه اعتمد توظيف العديد من الأبيات الشعرية – الغنائية في النصوص. يظهر هذا التوظيف من خلال بدايات بعض القصص، ففي الاستهلال لقصة “حين سعد مسعود بابن عمه تظهر البداية بأغنية فيروزية:
لماذا نحن يا أبتِ
لماذا نحن أغراب
أليس لنا بهذا الكون
أصحاب وأحباب؟
ولم يأتِ اختيار هذا الاستهلال عبثيًا، فمسعود طفل وحيد دون أعمام أو أخوال أو أبنائهم في قريته الّتي تقع داخل أراضي الحكم الإسرائيلي، بينما أبناء عائلته الآخرين شاءت قسمتهم أن يكونوا في الضفة الغربية والأردن، فظل هو وحيدًا بين الأولاد، لتؤثر عليه هزيمة عام 1967 بشكلٍ مباشر. وفي قصة “أخيرًا نوّر اللوز” يستهل الكاتب أيضًا بأغنية فيروزية:
“بلادي أعدني إليها
ولو زهرةً يا ربيع”
ولا يتوقف الأمر عند هاتين القصتين، فقد استخدم حبيبي الأسلوب ذاته في كافة القصص، ليفتتح به زمنًا كان يحاول ربط الفلسطيني ببُعدهِ العربي والوطني، ومحاولًا إيصال الخيبة الّتي حدثت للناس بعد النكسة من خلال ربطه بواحدٍ من الأصوات الموسيقية الأكثر بروزًا عربيًا، فيروز.
رمزية المكان في أدب إميل حبيبي
يهتم حبيبي في تقلّبات المكان في الأدب عبر تسجيل دقيق وتوثيق للتاريخ الفلسطيني من الداخل وليس من الخارج فقط، إذ يحرص على تسجيل الأزمنة والحروب والتواريخ المهمة في تشكيل الشعب الفلسطينيّ اليوم. ولذلك يعتبر بحسب العديد من الناقدين، الكاتب الّذي يهتم بإقامة نصب تذكارية لمعالم المكان من حوله. كما أنه يمتلك عين رحّالة لا يغادر مكانه، فهو دائم التحديق في تقلّبات المكان.
يظهر المكان ببعديه التاريخي والجغرافي تدريجيًا في أدب حبيبي، فهو ينقل القارئ إلى تصوّر ذهني وعياني للأمكنة من خلال إشارات وتفاصيل تاريخية وجغرافية محددة معروفة لهذه الأمكنة، فهو يضع إطار القصة من خلال المكان، حيث يستطرد في الحديث عن تاريخ المكان وجغرافيته وساكنيه، حيث تبدو كتابته توثيقًا لتاريخ الانسان الفلسطيني المسلوب من حق توثيق أصله وحكاياته.
يبدو المكان في سداسية الأيام الستة واضحًا للقارئ منذ السطور الأولى، ففي قصة “أخيرًا نوّر اللوز” يدور الحوار بين الصديقين القديمين حول طريق القدس ورام الله وحيفا واللبن الشرقية، ويصف فيها إميل حبيبي أشجار اللوز الّتي تتفتح في ربيع البلاد، ولافتًا النظر إلى التقسيم الّذي عانى منه جيلٌ كامل بعد الفصل بين الأراضي الفلسطينية والناس.
وفي قصة “أم الروبابيكا” يذكر الكاتب أسماء الشوارع في حيفا بشكلٍ عينيّ، شارع الوادي وشارع عباس وسوق الشوام ووادي النسناس والوادي في إشارة لوادي الصليب. وفي قصة “العودة” يذكر حبيبي أماكن عينيّة من مدينة القدس، طريق الآلام، المقبرة اليوسيفية، باب السلسلة، درجة الطابوني، خان العطار، سوق الباشورة، خان الزيت، عقبة التكية، وغيرها الكثير من الأسماء للأماكن، كأنه يريدنا أن نحفظها في عقولنا.
يحرص حبيبي من خلال ذكر أسماء الأماكن بأسمائها المجردة من حفظها، ويقدم من خلالها صورة دقيقة للمكان الفلسطيني، القرية والمدينة، الشوارع والأماكن المقدسة، فالوصف لدى حبيبي لا يتعلق بالمدى الجمالي بل بالبعد التاريخي الجغرافي، وذلك كي يتمكن من توثيق الأمكنة وتاريخها، وما جرت فيها أحداث ردًا على الاستلاب والهدم الّذي يتعرض له التاريخ الفلسطيني.
بين الموقف السياسي والأدبي
عُرفت أعمال حبيبي بكونها تُحاكي المكان والانسان الفلسطيني الباقي في أرضه، ولم يتوانى يومًا عن إظهار هذا الموقف من خلال الأدب كما شرحنا في البنود السابقة، ولكن على العكس مما كتب، ومما نادى به من تحرير البلاد وصوت الانسان الفلسطيني المختنق في ظل السياسات الإسرائيلية، فإنّ حبيبي كان أحد أعضاء الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وكان من أوائل النواب العرب في الكنيسيت الإسرائيلية، وأحد أبرز الأصوات الّتي أيّدت حل الدولتين سياسيًا.
يظهر هذا الموقف المتباين بين حبيبي الأديب وحبيبي السياسي، معظم المواقف المبهمة وتداخل الهوية لدى الفلسطينيين في البلاد، فهم من ناحية يحاولون التواصل مع امتداد شعبهم العربي والمحافظة على الأصل الّذي يربطهم بالأرض والشعب، لكنهم في ذات الوقت يبحثون عن “الفتات” السياسية الّتي تمنحهم بعض الحقوق الّتي يمكن للحكومات الإسرائيلية سحبها منهم في أي لحظة.
وقد تعرض إميل حبيبي للكثير من الانتقادات بسبب مواقفه الّتي كانت تتوافق مع مواقف الحزب الشيوعي، حول تقسيم فلسطين واتفاقية أوسلو لاحقًا، وقد كانت هذه المواقف تنبع من فكرة اتحاد شعوب منطقة الشرق الأوسط ضد قوى الاستعمار العالمية، والعيش بسلام بين اليهود والعرب على أرض فلسطين، حيث تنقسم الأرض إلى دولتين إسرائيلية وفلسطينية على حدود عام 1967.
أثبتت هذه المواقف لاحقًا فشلها، خاصةً بعد الانتفاضة الثانية، حيث قال حبيبي في إحدى مقابلاته إن حل أوسلو لم يكن الحل المثالي والمنصف للفلسطينيين، لكنه كان أفضل من الحلول الأخرى. ظل هذا الجدل حول مواقف حبيبي قائمًا حتى بعد وفاته، وشكل هذا السياسي – الأديب نقطة جدلٍ طويلة بين الأدباء الفلسطينيين، فلم يتفق على مواقفه الجميع ولم يتفق على انتقاده أيضًا.
كيف تمّ نقل أربعة ملايين كتاب
كيف نقلت المكتبة الوطنية مجموعاتها-ليس على مرحلة واحدة، بل على مرحلتين- من موقع لآخر؟ تبيّن لنا هذه الصور عملية نقل مئات آلاف الكتب، ولاحقًا ملايين الكتب إلى المقرات المختلفة للمكتبة الوطنية على مر السنين.
على يسار الصورة، نقل كتب المكتبة الوطنية من مبنى تراسنطة إلى الحرم الجامعي في جفعات رام في عام 1960؛ على يمين الصورة، خزائن الكتب المشغّلة بالروبوتات في مبنى المكتبة الوطنية الجديد
هذا المقال مترجم عن اللغة العبرية للكاتبة عوفريت أساف أرييه
في 10 كانون الثاني 2023، استكملت عملية نقل الكتب من الموقع الحالي للمكتبة الوطنية الإسرائيلية في جفعات رام إلى موقعها الجديد. نُقِلَ بالمجمل 3.6 ملايين كتاب، وهو إنجاز مهمّ في الطريق نحو نقل المكتبة الوطنية إلى موقعها الجديد بجوار الكنيست.
مرّت المكتبة منذ تأسيسها بتغييرات كثيرة، من حيث موقعها ومجموعاتها. ولكنّ نقل هذه الكمية الهائلة من الكتب من مبنى لآخر تمّ على مرحلتين: في عام 1960 وفي عام 2022.
نقل الكتب: 1960 مقابل 2022
في عام 1948، خلال الحرب، سُدّت الطريق إلى الجامعة العبرية في جبل المشارف، وكذلك الأمر بالنسبة للمكتبة الوطنية، وكانت تدعى في حينه “المكتبة الوطنية الجامعية اليهودية”. نتيجة لذلك، تناثرت الكتب لتصل في نهاية المطاف إلى أماكن مختلفة في الجزء الغربي من المدينة، من بينها مبنى ترسانطة، مكتبة كنيس يشورون وأماكن عديدة أخرى. في عام 1960، نُقلَ مقر المكتبة مجددًا، من المباني المختلفة التي أوَتْ مجموعات المكتبة بشكل مؤقّت، إلى مقرها الحالي في الحرم الجامعي جفعات رام في الجامعة العبرية. وثّق المصور دافيد هاريس عملية النقل هذه في مجموعة رائعة من الصور تستعرض الجهود الحثيثة التي بذلها طاقم المكتبة لنقل مئات آلاف الكتب من المواقع المختلفة إلى المبنى الجديد. في الوقت الحالي، يوثّق المصوّرون مجددًا عملية نقل كتب المكتبة إلى مقرها الدائم الجديد.
ملك وجنرالان ومصوّر
في مجموعة صور المكتبة الوطنية وجدت صورة مميّزة تعود لعام 1947 في القدس جمعت الملك عبدالله الأول وغلوب باشا القائد البريطاني للجيش العربي الاردني حينها مع جينيرال باركر، المبعد لتوه عن منصب القائد العام للقوات البريطانية في فلسطين وشرق الاردن. وعلى ظهرها سجّلت ملاحظة على ما يبدو أنها "سرية".
غلوب باشا، الملك عبدالله، جينيرال باركر، 1947، مجموعة صور المكتبة الوطنية
ولد الملك عبدالله في مكّة ابنًا للشريف حسين بن علي قائد الثورة العربية الكبرى ضد الحكم العثماني. ترعرع في كنف أبيه وتولّى بنفسه قيادة بعض الهجمات خلال التمرد العربي الذي خرج من الحجاز أملًا ببناء دولة عربيّة شرق أوسطية كبرى تحكمها السلالة الهاشمية.
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى ووقوع كل من الانتداب البريطاني والفرنسي على الاقاليم العربيّة، جرى الاتفاق على تولية أبناء الشريف حسين على شرقي الاردن والعراق، وتولى بذلك الامير عبدالله إمارة شرقي الأردن إلى أن نال الأردن استقلاله في أيار 1946 وتنصيبه ملكًا عليها.
عند مشاركة الجيش الأردني في معارك حرب 1948، تمكّن من إحكام قبضته على القدس القديمة والمناطق التي أصبحت تُعرف لاحقًا بالضّفة الغربيّة وضمّها إلى مناطق حكم الملك. إلّا أنّ هذه النتيجة لم تكن من قبيل الصّدفة الغير مرجوّة، فإذا كانت فلسطين ستنقسم لدولة يهوديّة ودولة عربيّة، فمن الأولى بحكم الدولة العربيّة من أبناء الشريف حسين، الذين بقوا أوفياء لبريطانيا خلال الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثّانية ولم يحصلوا على ما وعدوا به بالكامل؟
علينا تخيّل هذا المنطق؛ حين نسترجع تلك الفترة المشحونة، فالملك عبدالله كان حليفًا موثوقًا لدى الحكومة البريطانيّة، ومع ذلك فهو لم يُمنح أي تأكيد أو وعد على أن تُضمّ الدولة العربيّة الوليدة في فلسطين إلى أراضي حكمه، مع أنه دعم قرار التقسيم وحيدًا في ظلّ رفض عربي قاطع.
في مجموعة صور المكتبة الوطنية، وُجدت صورة مميّزة تعود لعام 1947 في القدس جمعت الملك عبدالله الأول وغلوب باشا القائد البريطاني للجيش العربي الأردني حينها مع الجنرال باركر، المبعد لتوه عن منصب القائد العام للقوات البريطانية في فلسطين وشرق الأردن. يظهر في الصّورة الملك عبدالله في الوسط ممسكًا بيد الجنرال باركر ومبتسمًا وكأن الصورة تحتفل بشيء ما.
كان الجنرال باركر رجلًا عسكريًا فذًا خدم في الحرب العالميّة الأولى وتولّى قيادة معركة فرنسا في الحرب العالميّة الثّانية، ولكنه تولى منصب قيادة القوات البريطانية في فلسطين وشرق الأردن لعام واحدٍ فقط (1946-1947).
إذ قدمت شكاوى عديده ضده من قبل الوكالة اليهوديّة بخصوص سياسته بالتعامل مع المعتقلين اليهود وطالبت بنقله، ووفقًا لخبر جاء في صحيفة فلسطين فإنّ نقله كان نتيجة لمساومة غير معلنة بين حكومة الانتداب والحركة الصّهيونيّة إلا أن هذا لم يتأكد. ومن المثير للاهتمام أن على ظهر الصّورة سُجّلت ملاحظة بخط اليد بالإنجليزيّة تقول: “جنرال باركر يقول إلى جنرال غلوب: أتساءل ماذا سيقول اليهود حين يرون هذه الصّورة”، مع التّاريخ 10.2.1947.
المثير للاهتمام أن هذه الصّورة، إذا كان التاريخ المسجل عليها هو تاريخ التقاطها، كانت قبل أيام معدودة من مغادرة الجينيرال باركر فلسطين بلا عودة. ووفقًا لمقالة نشرتها جريدة فلسطين بعد قرابة عشرة أيام من رحيله، فإنه في كلمته الأخيرة للجنود البريطانيين، أعرب عن قلقه من اضطرابات مستقبلية ستحدث في البلاد قائلًا “لا يبدو لي أن السلام سيخيّم على هذه البلاد التعسة في المستقبل القريب، وسيجد الجيش مهامه تزداد وتتضاعف”.
بعد هذه الحادثة بتسعة أشهر صدر قرار تقسيم فلسطين الذي أبدى الملك عبدالله موافقة عليه أملًا بأن تكون أراضي الدولة العربية جزء من الدولة الأردنية حديثة العهد، حتّى أن بعض المصادر تفيد بإجراء لقاءات سرية بين الملك عبدالله وزعامات صهيونيّة للتباحث في هذا الأمر، ومع إبداء الارتياح الضمني للتجاور ما بين الدولة اليهوديّة والمملكة الهاشمية إلا أن للحرب كانت الكلمة الأخيرة، وهذا ما فهمه جميع الأطراف بالتأكيد.
فما الذي دار بين الملك عبدالله والجنرالين غلوب وباركر، وما سرّ هذه الابتسامة والملاحظة المكتوبة على ظهر الصّورة؟ ومن الذي سمع هذا الكلام وسجّل هذه الملاحظة على ظهر الصورة؟
يظهر تحت الملاحظة الختم الخاص بالمصوّر اليهودي تسفي أورون الذي التقط الصورة، عمل تسفي أورون كمصورًا للصحافة وكان المصوّر الرسمي للمندوب السامي البريطاني وللقوات البريطانيّة. وبالتأكيد فإن طبيعة عمل أورون كمصوّر رسمي للقوات البريطانيّة منحته مادة مميزة لعمله مع الصّحافة، وهذه الصّورة بالملاحظة المكتوبة على ظهرها كانت على ما يبدو خبر أراد ان ينقله المصوّر بهذه الطريقة إلى الصّحافة.