في ذكرى المولد النّبوي، نقدّم إليكم مخطوطة نفيسة لبردة البوصيريّ الشّهيرة في مدح النّبي محمد من مجموعة المخطوطات في المكتبة الوطنيّة.
تعدّ هذه المخطوطة فاخرة لتزويقها وخطّها على يد “العبد الفقير إلى رحمة الملك الهادي محمّد الفيروز ابادى” وتعود لعام 1361 م. وهي صغيرة الحجم تحمل بين طيّاتها تخميس لبردة البصيريّ الّتي أسماها صاحبها “الكواكب الدّرية في مدح خير البريّة”. والتّخميس في الشّعر معناه أن يقوم شاعر بأخذ بيت لشاعرٍ آخر، يبدأ بصدر البيت ويدفع عجزه إلى أبيات لاحقة يقوم بنظمها على وزن البيت الأوّل، أو يضيف أبياتًا موزونة بين البيت الأصلي والثّاني. فهو نوع من الاستلهام لنصّ شعريّ موجود ومعروف، فلا يكون سرقة أو تقليد، بل نوعٌ معروف من الإبداع الشّعري، ويسمّى بالتّخميس لأن فيه البيت الواحد يصبح خمسة أشطر. ولا عجب أن يجاري الكثيرون قصيدة البوصيريّ الّتي لاقت رواجًا واسعًا حتى يومنا هذا، وقد نظم الشّاعر أحمد شوقي قصيدته الشّهيرة في مدح الرّسول على نهجها أيضًا.
وتخميس قصيدة البوصيري وخطّها من جديد في نسخة فاخرة كهذه بعد وفاته بقرابة مائة عام دليل على رواج بردته وحبّ النّاس لها. فإلى جانب الجمال الشّعري والبلاغي في قصيدة البوصيريّ، تحكي لنا المخطوطة في صفحاتها الأولى سبب نظمها وقصّتها، إذ كانت لهذه القصيدة مكانة خاصّة للبوصيريّ، أشفت مرضه وجادت عليه بالكرامات كما استخدمها آخرون لطلب الشّفاعة والاستشفاء من المرض، ممّا يفسّر سبب نسخ المخطوطة.
فتقول الصّفحة الأولى من المخطوطة عن الإمام البوصيري “كان سبب إنشاء هذه القصيدة المباركة أني كنت قد أصابني خلط فالج أبطل نصفي، ولم انتفع بنفسي، ففكرت أن أنظم قصيدة في مدح النّبي صلى الله عليه وسلّم وأستشفع به إلى الله تعالى. فأنتشأت هذه القصيدة المباركة ونمت فرأيت النّبي صلّى الله عليه وسلّم في المنام فمسح بيده الميمونة عليّ فعوفيت لوقتي، فخرجت من بيتي ذلك اليوم أوّل النّهار فلقيني بعض الفقراء فقال لي يا سيّدي أريد أن تعطيني القصيدة الّتي مدحت بها النّبي صلى الله عليه وسلم ولم أكن أعلمت بها أحدًا. فقلت وقد حصل عندي منه شيء وأي قصيدة تريد فإني مدحت النّبي صلّى الله عليه وسلّم بقصايد كثيرة قال التّي أوّلها
أمِنْ تَــذَكِّرِ جيرانٍ بــذي سَــلَم مَزَجْتَ دَمعــا جرى مِن مُقلَةٍ بِدَمِ
والله لقد سمعتها البارحة وهي تُنشد بين يدي من صُنّفت فيه ورأيته صلّى الله عليه وهو يتمايل كالقضيب فأعطيته القصيدة، فذهب وذكر ما جرى بيني وبينه للنّاس فبلغت الصّاحب بهاء الدّين وزير الملك الظّاهر، فاستنسخ القصيدة ونذر ألّا يسمعها إلّا حافيًا مكشوف الرأس، وكان يحبّ سماعها ويتبرّك بها هو وأهل بيته ورأوا من بركاتها أمورًا عظيمة في دينهم ودنياهم ولقد أصاب سعد الدين الفارقيّ موقع الصاحب بهاء الدّين المذكور رمدٌ (مرض في العينين) أشرف منه على العمى، فرأى في منامه قايلًا يقول: أمّا النّبي صلّى الله عليه وسلّم أو غيره يقول له امض الى الصّاحب بهاء الدين وخذ منه البردة واجعلها على عينيك تفق، قال: فنهض من ساعته وجاء إلى الصّاحب فقال له ما رأى في نومه، فقال الصّاحب: ما عندي شيء يقال له البردة، وإنّما عندي قصيدة مديح النّبي صلى الله عليه وسلّم انشاء البوصيريّ فنحن نستشفي بها ثمّ أخرجها له فوضعها على عينيه وقُرّبت وهو جالس فعوفي من الرّمد لوقته.
وهذه القصيدة بركاتها كثيرة فلتقرأ عند طلب الحاجات وتزول الملمّات. فإنها عظيمة البركات كثيرة الخيرات. نفع الله بها كاتبها وقاريها وسامعها آمين يا رب العالمين”
وفي تصميم المخطوطة وخطّها، يظهر الفارق بين أبيات البوصيريّ ووبين أشطر مخمّسها “عزّ الدّين أبي محمّد بن عبد العزيز بن أحمد بن سعيد الديريني الدميري المتوفى سنة 697 هـ”. فكُتبت أبيات البوصيري بخطّ أكبر وعلى اتّساع الصفحة بين الهامشين المزخرفين، بينها أشطر التّخميس فكتبت بخطّ أصغر بين البيت والآخر، موزونة بنفس القافية ومتّسقة مع نفس موضوع البيت.