بمناسبة ذكرى المولد النبوي: بُردة البوصيري في المكتبة الوطنيّة

في ذكرى المولد النّبوي، نقدّم إليكم مخطوطة نفيسة لبردة البوصيريّ الشّهيرة في مدح النّبي محمد من مجموعة المخطوطات في المكتبة الوطنيّة.

بردة البوصيري، 1361

في ذكرى المولد النّبوي، نقدّم إليكم مخطوطة نفيسة لبردة البوصيريّ الشّهيرة في مدح النّبي محمد من مجموعة المخطوطات في المكتبة الوطنيّة.

تعدّ هذه المخطوطة فاخرة لتزويقها وخطّها على يد “العبد الفقير إلى رحمة الملك الهادي محمّد الفيروز ابادى” وتعود لعام 1361 م. وهي صغيرة الحجم تحمل بين طيّاتها تخميس لبردة البصيريّ الّتي أسماها صاحبها “الكواكب الدّرية في مدح خير البريّة”. والتّخميس في الشّعر معناه أن يقوم شاعر بأخذ بيت لشاعرٍ آخر، يبدأ بصدر البيت ويدفع عجزه إلى أبيات لاحقة يقوم بنظمها على وزن البيت الأوّل، أو يضيف أبياتًا موزونة بين البيت الأصلي والثّاني. فهو نوع من الاستلهام لنصّ شعريّ موجود ومعروف، فلا يكون سرقة أو تقليد، بل نوعٌ معروف من الإبداع الشّعري، ويسمّى بالتّخميس لأن فيه البيت الواحد يصبح خمسة أشطر. ولا عجب أن يجاري الكثيرون قصيدة البوصيريّ الّتي لاقت رواجًا واسعًا حتى يومنا هذا، وقد نظم الشّاعر أحمد شوقي قصيدته الشّهيرة في مدح الرّسول على نهجها أيضًا.

للاطلاع على بوابة المولد النبوي المعرفية الرقمية حيث المخطوطات والأخبار الصحفية القديمة وملصقات التهنئة.

وتخميس قصيدة البوصيري وخطّها من جديد في نسخة فاخرة كهذه بعد وفاته بقرابة مائة عام دليل على رواج بردته وحبّ النّاس لها. فإلى جانب الجمال الشّعري والبلاغي في قصيدة البوصيريّ، تحكي لنا المخطوطة في صفحاتها الأولى سبب نظمها وقصّتها، إذ كانت لهذه القصيدة مكانة خاصّة للبوصيريّ، أشفت مرضه وجادت عليه بالكرامات كما استخدمها آخرون لطلب الشّفاعة والاستشفاء من المرض، ممّا يفسّر سبب نسخ المخطوطة.

فتقول الصّفحة الأولى من المخطوطة عن الإمام البوصيري “كان سبب إنشاء هذه القصيدة المباركة أني كنت قد أصابني خلط فالج أبطل نصفي، ولم انتفع بنفسي، ففكرت أن أنظم قصيدة في مدح النّبي صلى الله عليه وسلّم وأستشفع به إلى الله تعالى. فأنتشأت هذه القصيدة المباركة ونمت فرأيت النّبي صلّى الله عليه وسلّم في المنام فمسح بيده الميمونة عليّ فعوفيت لوقتي، فخرجت من بيتي ذلك اليوم أوّل النّهار فلقيني بعض الفقراء فقال لي يا سيّدي أريد أن تعطيني القصيدة الّتي مدحت بها النّبي صلى الله عليه وسلم ولم أكن أعلمت بها أحدًا. فقلت وقد حصل عندي منه شيء وأي قصيدة تريد فإني مدحت النّبي صلّى الله عليه وسلّم بقصايد كثيرة قال التّي أوّلها

أمِنْ تَــذَكِّرِ جيرانٍ بــذي سَــلَم   مَزَجْتَ دَمعــا جرى مِن مُقلَةٍ بِدَمِ

والله لقد سمعتها البارحة وهي تُنشد بين يدي من صُنّفت فيه ورأيته صلّى الله عليه وهو يتمايل كالقضيب فأعطيته القصيدة، فذهب وذكر ما جرى بيني وبينه للنّاس فبلغت الصّاحب بهاء الدّين وزير الملك الظّاهر، فاستنسخ القصيدة ونذر ألّا يسمعها إلّا حافيًا مكشوف الرأس، وكان يحبّ سماعها ويتبرّك بها هو وأهل بيته ورأوا من بركاتها أمورًا عظيمة في دينهم ودنياهم ولقد أصاب سعد الدين الفارقيّ موقع الصاحب بهاء الدّين المذكور رمدٌ (مرض في العينين) أشرف منه على العمى، فرأى في منامه قايلًا يقول: أمّا النّبي صلّى الله عليه وسلّم أو غيره يقول له امض الى الصّاحب بهاء الدين وخذ منه البردة واجعلها على عينيك تفق، قال: فنهض من ساعته وجاء إلى الصّاحب فقال له ما رأى في نومه، فقال الصّاحب: ما عندي شيء يقال له البردة، وإنّما عندي قصيدة مديح النّبي صلى الله عليه وسلّم انشاء البوصيريّ فنحن نستشفي بها ثمّ أخرجها له فوضعها على عينيه وقُرّبت وهو جالس فعوفي من الرّمد لوقته.

وهذه القصيدة بركاتها كثيرة فلتقرأ عند طلب الحاجات وتزول الملمّات. فإنها عظيمة البركات كثيرة الخيرات. نفع الله بها كاتبها وقاريها وسامعها آمين يا رب العالمين”

وفي تصميم المخطوطة وخطّها، يظهر الفارق بين أبيات البوصيريّ ووبين أشطر مخمّسها “عزّ الدّين أبي محمّد بن عبد العزيز بن أحمد بن سعيد الديريني الدميري المتوفى سنة 697 هـ”. فكُتبت أبيات البوصيري بخطّ أكبر وعلى اتّساع الصفحة بين الهامشين المزخرفين، بينها أشطر التّخميس فكتبت بخطّ أصغر بين البيت والآخر، موزونة بنفس القافية ومتّسقة مع نفس موضوع البيت.

 

قصيدة البردة وتخميسها، 1361، مجموعة يهودا للمخطوطات، المكتبة الوطنية
قصيدة البردة وتخميسها، 1361، مجموعة يهودا للمخطوطات، المكتبة الوطنية

 

 

صلة آل التميمي بالصحابي تميم الدّاري: مخطوطة نادرة من الخليل

ومن قرأ هذه النّسخة يرى من العجايب كما رأى تميم الدّاري رضي الله عنه، إمام وخطيب الحرم الإبراهيمي والمتولي على أوقاف جدّه تميم الدّاري. للمزيد في المقال.

مخطوطة نسبة تميم الداري

ومن قرأ هذه النّسخة يرى من العجايب كما رأى تميم الدّاري رضي الله عنه.

هكذا افتتح عمر بن أحمد الحرتاني النّسبة الّتي كتبها إلى عبد المنعم التميمي، “إمام وخطيب الحرم الإبراهيمي في الخليل والمتولي على أوقاف جدّه تميم الدّاري” عام 1861. وهي النّسبة الّتي تُظهر اتّصال الإمام التّميميّ وأولاده وأولاد عمومته وأولادهم بالصّحابيّ تميم الدّاري الّذي أعطاه الرّسول منطقة الخليل وبيت عينون (شمال الخليل) والمرطوم (رامة الخليل) وبيت إبراهيم، وفقًا لروايات إسلاميّة عديدة.

وُجدت هذه المخطوطة في المكتبة الوطنيّة إلى جانب مخطوطات أخرى متّصلة بالخليل ضمن مجموعة المخطوطات النّادرة، ويبدو أنّها كُتبت بخطّين مختلفين؛ أحدهما يعود إلى كاتب المخطوطة الّذي أشار إلى نفسه في المقدّمة “الفقير إلى الله تعالى عمر ابن أحمد المرحوم الحرتاني المغربيّ أصلًا المالكي مذهبًا القادري البكري طريقةً القاطن في غزّة سيدنا هاشم سكنًا“، أما القسم الآخر فقد يكون بيد عبد المنعم التّميمي نفسه، إذ أشار إلى نفسه في موضعٍ آخر من الكتاب.

فيبدأ كاتب النّسبة بعرض هذه المكانة العالية مباشرة قبل المقدّمات والتّمهيدات؛ فيضع بين يدي القارئ وصيّة يخصّ الرّسول بها الصّحابيّ تميم الدّاري بهبة؛ وهي أرض الخليل وبعض البلدات المجاورة له ولأولاده من بعده.

 هبة الرّسول كما تظهر في الصّفحة الأولى من المخطوطة، مجموعة المخطوطات النّادرة، المكتبة الوطنية
هبة الرّسول كما تظهر في الصّفحة الأولى من المخطوطة، مجموعة المخطوطات النّادرة، المكتبة الوطنية

هذا ما أنطى محمّد رسول الله لتميم الدّاري وأصحابه: إنّي أنطيتكم بيت عينون وحبرون والمرطوم وبيت إبراهيم برمتهم وجميع ما فيهم نطيّة بتّ ونفذت وسلمت، ذلك لهم ولأعقابهم من بعدهم أبد الآبدين فمن آذاهم فيه آذاه الله. شهد بذلك أبو بكر ابن أبي قحافة وعمر ابن الخطّاب وعثمان ابن عفّان وعليّ ابن أبي طالب ومعاوية ابن أبي سفيان“.

فيما بعد، يبدأ الكاتب بافتتاحيّة النّسبة الّتي يقوم بكتابتها، وكما يتطلّب أي نوعٌ من الكتابة مقدّمة خاصّة به فالنّسبة كذلك تتطلّب تقديم مناسب يشمل اسم كاتب النّسبة ومكانه وزمانه، واسم الرّجل الّذي يكتبها له، ومبتدأ النّسبة وآخرها، أي من الرّجل الّذي سيبدأ من عنده ومن الرّجل الّذي سينتهي عنده.

بعد افتتاحيّة من صفحتين تبدأ المقدّمة الطّويلة المعهودة في الأدب العربيّ، حيث الصّلاة والسّلام والقصّة القصيرة ذات العبرة والأقوال المأثورة، وهي عوامل قد تبدو لأوّل وهلة غير متّصلة لموضوع الكتاب الّذي نحن بصدد قراءته، إلّا انّنا إذا تمعنّا بتلك القصص والأقوال الّتي يختارها الكاتب لوجدنا أنّه يختارها بعناية للتأكيد على قيمٍ مرتبطة بالموضوع المتناول، أو أنّه يضع فيها نظرته للموضوع المتناول دون أن يصرّح بها بشكلٍ مباشرٍ في متن النّص، وقد يفعل ذلك في خاتمته أيضًا. وكذلك هو الحال في مقدّمة هذه النّسبة الّتي تناول بها الكاتب قصّة اقتتال قابيل وهابيل، حين قتل الأخ أخاه حسدًا.

بعد هذه المقدّمة الأدبيّة ينتقل كاتب النّسبة إلى متن النّص فيكتب “أمّا بعد” بالأحمر مؤشّرًا إلى بداية متن النّسبة. فيبدأ بذكر المصادر الّتي اعتمدها في عمله وهدفه من كتابتها.

بداية متن النّسبة من المخطوطة
بداية متن النّسبة من المخطوطة

 

لتصفّح المخطوطة كاملة

فيقول: “هذه نسبةُ شريفة متّصلة بتميم الداري رضي الله تعالى عنه وأرضاه، نُقلت من كتاب الأنساب الّذي جمعه الفاضل حاوي المزايا والفضائل الأصمعي ومن كتب التّواريخ الواردة عن العيني وابن خلكان كالواقدي والبكري وما جاء من كلام أهل الفصاحة والبلاغة، لأن هذا الكتاب عندي مخلّف عن الآباء والأجداد وفيه جميع النبذات من الصّحابة والتّابعين والملوك والسّلاطين من تبع الحميري إلى الآن“.

وهكذا يبدأ الكاتب بالنّسبة من عند “الملك خزرج” وبحسب المخطوطة فهو الجد الأوّل للسلالة الّتي انحدر منها الصّحابيّ تميم الدّاري، وفي ذكر فضائله وأخباره تروي المخطوطة أن الملك خزرج هو المقصود بذي القرنين الوارد ذكره في سورة الكهف، ومن إحدى التّفسيرات الّتي أوردها كاتب النّسبة أنه “ملك قرنيّ الدّنيا مشرقًا ومغربًا” وأنه عاش في قصرٍ قرب نهرٍ مبارك، يشفى بمائة كلّ عليل وأنه كان كريمًا شجاعًا ومغوارًا، وأنّه آمن بنبوءة إبراهيم.

وانطلاقًا من الملك خزرج إلى أولاده التّسعة عشر، يروي الكاتب ما تيسّر له من أخبار عنهم، فالنّسبة هنا لا تهتمّ بصلة الدّم فحسب، بل تروي قصص هؤلاء الرّجال وأحيانًا مواطن زوجاتهم وما رُوي عنهم من طُرف وعجائب، فتعتبر، هنا، نوعًا أدبيّا من الكتابة بامتياز، يدمج ما بين الواقعيّة والخيال والأسطورة.

فمثلًا، ومع تقدّم القصّة، أجيال عديدة يصل كاتب النّسبة إلى الشّيخ أحمد والد الشّيخ عبد الرّحمن أفندي، وزمانهما غير واضح، فيحكي قصّة زيارة الشّيخ أحمد إلى الحرم الإبراهيميّ حيث قابل “رجلًا من أكابر دولة ذلك الزّمان” ورافقه بدخول الغار حيث يرقد الأنبياء. “فطلب منهم أن يفتحوا باب الغار الشّريف فنزلوا جميعًا حتى وصلوا إلى المحل الّذي فيه أعضاء الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام وإذا بقاطع فيه حضرة سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ملقًا على ظهره ومدرج في ديباج أخضر قد بدا وشيبته الشريفة مفروقة فرقتين من النسيم الذي ريحته كالمسك الأوفر ثم ذهبوا وإذا بقاطع فيه سيدنا إسحاق عليه الصلاة والسلام فوجدوه كذلك ثم ذهبوا كذلك إلى محل آخر وإذا فيه سيدنا يعقوب عليه السلام ثم ذهبوا إلى محل آخر وإذا بصوت قايل الحريم يرحمكم الله تعالى فخرجوا جميعًا وقد رأوا جميع الأكفان وأثره فطلعوا من الغار الشريف بعد الزيارة ورؤيتهم ما قد رأوا وشاهدوا فعند ذلك صنع لهم أكفانًا ووضعهم على أجسادهم كما كانوا موضوعين سابقًا وبنوا عليهم بنيانًا خوفًا لا أحد يجسر عليهم فطوبا لهم“.

قصة دخول الغار عند الحرم الإبراهيمي.
قصة دخول الغار عند الحرم الإبراهيمي.

وفي المراحل المتقدّمة يبدأ التّركيز حول سلالة تميم الدّاري في الخليل ونابلس، ويختتم الكاتب النّسبة ببعض من شيوخ طائفة الخطباء التميميّين في الخليل، أولادهم وأولاد عمومتهم، ويختتم كتابه بآيتين من سورة المؤمنون “فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ – فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ“.

نسخة عن صحيح البخاري كُتبت في الحرم الإبراهيميّ في الخليل، 1739.
نسخة عن صحيح البخاري كُتبت في الحرم الإبراهيميّ في الخليل، 1739.

كتبت مخطوطة صحيح البخاري قبل مخطوطة النّسبة بمائة عام، ويظهر في آخرها اسم ناسخها؛ إمام الحرم الإبراهيمي حينها الشّيخ محمّد بن يوسف التّميمي، وقد ورد ذكره في مخطوطة النّسبة أيضًا.

لتصفح بوابة مدينة الخليل حيث العديد من المخطوطات المتاحة والمواد المنوّعة.

الظاهر بيبرس والرواية الشامية

المخطوطة النادرة "سيرة الظاهر بيبرس": مادة قيمة وملفتة توثق سيرة الظاهر بيبرس من سيرته كما رواها الحكواتيين وكما أراد الناس سماعها؛ قصة أسطورية مليئة بالتشويق والمبالغات اللطيفة

تشكل المخطوطة النادرة “سيرة الظاهر بيبرس” والمحفوظة في أرشيف المكتبة الوطنية الاسرائيلية في القدس مادة قيمة وملفتة، فهي لا توثق سيرة الظاهر بيبرس كما جاءت على لسان المؤرخين والكتاب، بل توثق جانباً من سيرته كما رواها الحكواتيين وكما أراد الناس سماعها: قصة أسطورية مليئة بالتشويق والمبالغات اللطيفة. ولكي تكون كذلك كان على الحكواتيين كتابتها بلغة الناس، ولذلك فالمخطوطة أدناه هي من المخطوطات القليلة التي كتبت باللغة العامية والتي توفر مادة غنية ومميزة حول الظاهر بيبرس وحول اللغة العامية التي استخدمت لسرد قصته.

                                                                                                                                           لقراءة المخطوطة

لا شك أن الظاهر بيبرس (1223 – 1277) قد شكل أسطورة في بلاد الشام تداولها الناس لعشرات السنين، حول شخصيته حيكت الأساطير وكتبت القصص والروايات، ووصل الكثير منها حد المعجزات. كان الظاهر بيبرس قد ذاع سيطه بعد سيرة عسكرية مليئة بالنجاحات. وربما يكون أحد أشهر الحكام المسلمين بعد صلاح الدين الأيوبي، حيث قارن الناس بينهما دوماً فهو أيضاً قاتل الصليبين، وهو من أدار معركة عين جالوت القريبة من بيسان عام 1260 تحت قيادة سيف الدين قطر، حيث استطاع تحقيق انتصار ساحق على المغول وكان القائد الذي استطاع اخضاع الصليبيين وإخراجهم تماماً من البلاد لتصير عين جالوت ومعارك بيبرس الأخرى رمزًا للفرج والخلاص في الخيال الإسلامي.

 

أفعال الظاهر بيبرس وشخصيته شكلت مادة مهمة للباحثين والمؤرخين والكتاب على مر التاريخ، لكن قصته كانت مهمة أيضاً للناس أنفسهم والذين رأوا به شخصية بطولية حررتهم وأنقذتهم لذلك فالناس أيضاً تداولوا قصته وحولوه إلى بطل شعبي، لكن القصة في أفواه الناس ولغتهم مختلفة دوماً، فالأحداث الكبرى مُلك المؤرخين أما التفاصيل فهي ملكها تضيف إليها وتغيرها وتبدلها، بهذا الأسلوب التقط الحكواتيون هذه الحكايات وحولوها إلى قصص جميلة أضافوا إليها اللغة الشعرية، والموسيقى الصوتية مع أسلوب تمثيلي وتشويقي مميز مع استخدام العصا (عصا الحكواتي) والملابس المزركشة التي يلبسونها لإضفاء نوع من الواقعية.


                                       أبيات شعر من مخطوط “سيرة الظاهر بيبرس” لقراءة المخطوطة

الجزء هذا من سيرة الظاهر بيبرس يوثق  قصة مهاجمة المماليك في فترة الظاهر بيبرس، وفتح مدينة سيس عاصمة مملكة أرمينيا الصغرى على يدهم وتشمل بطولات الظاهر بيبرس وصديقه جمال الدين شيحة  المقاتل المملوكي الشهير. وهي جزء من الروايات الشعبية، ولكل منطقة روايتها الخاصة فهناك “سيرة الظاهر بيبرس – الرواية الشامية” وهناك “الرواية المصرية” وربما تكون هذه المخطوطة هي جزء من “الرواية الفلسطينية”.

بغض النظر عن منشأ القصة هذه، لكنها تظل جزءاً من الثقافة الشعبية لسكان المنطقة، تداخل فيها الواقعي مع الخيالي والتاريخية مع الأسطوري.  بحيث بات من الصعب التمييز بين الحقيقي والخيالي وهو ما دفع الكثير من المؤرخين إلى إعادة كتابة سيرة الظاهر بيبرس لتبيان الحقيقة لهم، كمحاولة المربي ضياء الدين الخطيب والذي حاول في مقالته “الملك الظاهر بيبرس” والتي نشرتها في مجلة الكلية العربية عام 1934 توضح السيرة الحقيقية لبيبرس كي لا تختلط على الناس.

 

 

الخطيب، ضياء الدين. الملك الظاهر بيبرس. مجلة الكلية العربية، العدد الثاني، 28 شباط 1934. ص 132
الخطيب، ضياء الدين. الملك الظاهر بيبرس. مجلة الكلية العربية، العدد الثاني، 28 شباط 1934. ص 132

 

لقراء المجلة كاملة

سيرة الظاهر بيبرس وتفاصيلها لا تزال حتى اليوم تشكل جزءاً من ثقافة بلاد الشام، بعض هذه القصص حقيقية وبعضها قد لا نعرف يوماً مدى مصداقيتها، لكن آثار المباني والعمارة التي أنشأها تظل حقيقة تاريخية لا يمكن التشكيك بها مثل قلعة ومسجد صفد، إضافة لقلعة النمرود الذي أعاد بناءها وأضاف إليها جسراً ومنارة وجامع، ومقام النبي موسى على طريق القدس، إضافة لـ “خان الظاهر” في القدس والذي لم يعد موجوداً اليوم ولكن الفهود التي زينته، نقلت أثناء ترميم السور لتعتلي القسم العلوي من باب الأسباط حيث لا تزال تعتلي باب المدينة حتى يومنا هذا وهذه الأسود هي شعار حكم بيبرس نظراً لاسمه (بي – برس) وبرس تعني الفهد.

باب الأسباط، بداية القرن العشرين، أرشيف تروتر ريد. المكتبة الوطنية الاسرائيلية
باب الأسباط، بداية القرن العشرين، أرشيف تروتر ريد. المكتبة الوطنية الاسرائيلية

 

الصور الكثير المحفوظة في أرشيف المكتبة الوطنية الاسرائيلية توثق جانباً مهماً من عمائر الظاهر بيبرس في البلاد ومرجعاً تاريخياً إضافياً لدراسة حقبته، كإحدى الشخصيات التاريخية التي تركت أثراً ملحوظاً في البلاد، كما تزخر المكتبة بعشرات الكتب والمخطوطات التي تضيء جوانباً مختلفة من حقبته ومن شخصيته، إن قراءة جديدة لتاريخ الظاهر بيبرس “التاريخي”، وقراءته كما جاء على لسان الناس من خلال المخطوطة أعلاه معاً يشكل مدخلاً مهماً لفهم التحولات والبناء الشعبي للقصة التاريخية وهي مهمة تستحق البحث والتفكير، ولكن تظل المخطوطة المذكورة مرجعاً ملفتاً ومهماً يستحق البحث.

البحث عن المسحّراتي يعقوب مراد

تعرفوا على شخصية المسحراتي اليهودي الذي تغنى بحب التقاليد والعادات العربية والإسلامية بشهر رمضان الفضيل ضمن مجموعة الموسيقيين في راديو إذاعة صوت إسرائيل

يعقوب مراد يعزف الرّق ويغنّي، على يساره صديقه وزميله في فرقة "الكروان" سليم ندّاف، أرشيف سليم ندّاف.

 

 

         مصدر الصورة : من كتيّب “الأغاني الدّينيّة ليهود العراق”، مركز تراث يهود بابل، أرشيف المكتبة الوطنيّة.

لا شكّ أن دور المسحّراتي لم يولد ويتشكّل كما هو اليوم على يد شخصٍ واحدٍ أو في حقبة معيّنة يمكننا الإشارة إليها بسهولة، كما أن طبيعة الدّور تختلف بين منطقةٍ جغرافيّة وأخرى وبين حقبةٍ وأخرى.

فالمسحّراتي أحد التقاليد الكثيرة الّتي اتلفّت وتكوّنت حول العبادات والمعاني الرّوحيّة عبر مئات السّنين ومختلف المجتمعات الإسلاميّة بعفويّة، كالفانوس والزّينة والمأكولات الرّمضانيّة والحلويّات الّتي تستقرّ في ذاكرتنا ونجدها تتغيّر وتزداد غنىً وتنوّعًا عام بعد عام. وقد وجد تقليد المسحراتي طريقه كذلك إلى الرّاديو والتلفاز في سبعينيّات القرن الماضي، كما يجد طريقه إلى التطبيقات الإلكترونيّة اليوم. ولكن، هل يستبدل التّسجيل طرقة الباب وصوت المسحّراتي وهو ينادي باسم عائلتكم ويمازحكم بأغنياته؟ وهل نجح المنبّه والهاتف بتحويل المسحّراتي من شخصٍ نعرفه ونألفه إلى فكرة نحبّها ونتذكّرها بدفء؟ وماذا نفعل حين نفتقد المسحراتي؟ أو حين نعيش في مكانٍ لا مسحّراتي فيه؟

أردنا في المكتبة الوطنيّة تقفّي أثر مسحّراتيّا حُفظ صوته منذ عام 1972 بإحدى تسجيلات إذاعة “صوت إسرائيل بالعربيّة” المؤرشفة في المكتبة، على سبيل عدم تجريد المسحّراتي من كونه شخص حقيقيّ، وعلى سبيل الفضول والاستكشاف.  ففي البوابة الرّقميّة حول شهر رمضان في موقع المكتبة، تجدون من بين التّسجيلات واحدًا بعنوان “مسحّراتي”. قد يشدّكم صوت المسحّراتي إذا نقرتم على التّسجيل وتجدون اسمه كما يظهر بالعبريّة في بيانات المادّة “ياعكوف مراد”، وتتسائلون كما فعلنا: هل كان المسحّراتي يهوديًا؟ هل كانت أصوله مغربيّة أم مصريّة أم عراقيّة؟ ولماذا كان يؤدّي دور “مسحراتي” على إذاعة صوت إسرائيل؟

للاستماع للتّسجيل، اضغطوا هنا.

على الطريقة التقليديّة، بدون آلات موسيقيّة سوى الطّبلة الصغيرة، تبدأ الطبلة برنّة السّحور الشّهيرة- خمس ضربات متواضعة تصمت الطّبلة بعدها لينطلق بالغناء منفردًا، فلا نسمع سوى صوت المسحّراتي، تمامًا كما يكون الحال في الأزقّة والحارات قبل آذان الفجر في رمضان. الصّوت نديّ وهادئ، العُرب منسابة والكلمات عفويّة وبسيطة، فيقول ما هو مألوف مرّة “سحورك يا صايم، قوم وحّد الدّايم”، وينادي العمّ “حسين” والسيّد “عطيّة” مرّة، كأنه معتاد على الدّور، يتنقّل بين الطّبقات بطربيّة وخفّة عالية، ينخفض بصوتٍ جهور كأنه يتلو القرآن ثمّ يرتفع كأنّه يغنّي ألحانًا غزليّة لعبدالوهاب. المؤكّد أن من يؤدّي هذا التّسجيل متمرّس في الغناء العربيّ ولا سيّما المصريّ بدرجة ملفتة.

إذا كتبتم بالعربيّة “يعقوب مراد” على محرّك البحث “جوجل” سيأخذكم مباشرة إلى يعقوب مراد الكاتب والصّحافيّ السّوريّ فتفهمون مباشرة أنّه ليس الرّجل المطلوب، وأن من تبحثون عنه ليس واسع الشّهرة. واذا استغرقتم في التّصفّح قليلًا كما فعلنا، ستجدون بعض الصّور لرجل يحمل عودًا، مستدير الوجه وممتلئ الكتفين، وكثير من الفيديوهات اليوتيوبيّة والتّسجيلات الصّوتيّة المنشورة على منتديات محبّي التّراث العراقي تحمل اسم “الموسيقار اليهوديّ يعقوب مراد العمّاري”، وغالبًا ترتبط عناوينها بأغانٍ تراثيّة عراقيّة، المقام العراقي والجالغ البغدادي، أغاني الأعراس والطّرب وأغانيات أخرى قام العمّاري بتلحينها ونظمها بنفسه. فهل يكون المسحّراتي هو نفسه يعقوب مراد العمّاري؟ أو كما سّمّي بالعبريّة بعد تركه إذاعة بغداد وهجرته للبلاد، بار-ناي (أي ابن النّاي) العمّاري؟

تنتبهون بعد وهلة أن فارق الصّوت جليًا، كما أن الأداء العراقيّ المشدود للعمّاري يبتعد كثيرًا عن الطّربيّة المصريّة المنسابة في تسجيل “المسحراتي”. وعند محاولة البحث بالعبريّة، تظهر لكم عشرات الفيديوهات لشخصٍ أسمر طويل لا يشبه العمّاري، مستطيل الوجه ويرتدي نظّارة سميكة، يغنّي جالسًا في الأعراس والحفلات وأمامه طبلة ينقرها بعصاتين صغيرتين أو يحمل دفًا، في بعض الفيديوهات يعزف الإيقاع فقط، وفي بعضها تجدونه يغنّي “يا وابور قلّي” لعبد الوهاب، و”حبيبي يسعد أوقاته” لزكريا أحمد، و”اشكي لمين” لبليغ حمدي. يتنقّل بين المقامات بسلاسة، يؤدّي بهدوء وهو مغمض العينين تارة ويعلو بصوته تارة أخرى كما في تسجيل المسحّراتي. إنه يعقوب مراد، عازف الإيقاع والمغنّي في الفرقة الموسيقيّة لإذاعة “صوت إسرائيل بالعربيّة” منذ سنوات الخمسينيّات.

لم نجد الكثير حول يعقوب مراد، فلم نجد موادًا تحمل اسمه سوى تسجيلًا إضافيًا كمسحّراتي في الإذاعة، محفوظاً في المكتبة الوطنيّة كذلك، وصورة صغيرة له إلى جانب بقيّة أعضاء الفرقة في أحد منشورات “مركز تراث يهود بابل” حين قاموا باطلاق تسجيلات لمجموعة من الأغاني الدّينيّة ليهود بابل واشترك في أدائها مراد فتم إرفاق صورته على ظهر الغلاف مع بقيّة العازفين ومنهم “صالح الكويتي”، عازف الكمان والملحّن العراقيّ الشّهير الّذي بدأ مشواره في إذاعة بغداد قبل أن يهاجر إلى البلاد.

ولد يعقوب مراد في بغداد عام 1938، كان يعاني من ضررٍ في عينيه فكانت رؤيته شديدة الضّبابية. كما يحدّثنا صديقه وعازف الكمان إلى جانبه سليم ندّاف، كان الغناء والسّمع الطّربيّ ملاذًا للكثيرين ممن يعانون من إعاقة بصريّة في ذلك الوقت، فلا يذهبون للسينما مثلًا كأبناء جيلهم. كان يجلس يعقوب الطفل على قهوة في بغداد وينتظر أغاني عبدالوهاب الّتي كان مولعًا بها حتّى حفظها كلّها، ممّا يفسّر أداءه المصريّ وابتعاده عن الغناء العراقيّ، حتّى أن صديقه ندّاف يذكر أن مراد كان يتكلّم باللهجة المصريّة في حياته اليوميّة لشدّة حبّه لها.

يعقوب مراد يعزف الرّق ويغنّي، على يساره صديقه وزميله في فرقة "الكروان" سليم ندّاف، أرشيف سليم ندّاف.
يعقوب مراد يعزف الرّق ويغنّي، على يساره صديقه وزميله في فرقة “ليالي زمان” سليم ندّاف، أرشيف سليم ندّاف.

كان يبلغ من العمر أربعة عشر عامًا حين وصل إلى البلاد مع بعض أفراد أسرته. التحق بإذاعة صوت إسرائيل وبعض الفرق الموسيقيّة الشّرقيّة الّتي كانت تؤدّي في أعراس ومناسبات اليهود القادمين من بلدان عربيّة. توفّي يعقوب مراد في الثّامن والعشرين من شباط عام 1994، ولم يخلّف لنا سوى تسجيلات المسحّراتي، وعشرات الفيديوهات وهو يغنّي أغاني مصريّة وتحتها تعليقات بالعبريّة؛ تترحّم عليه وتلقّبه بعبد الوهاب اليهودي.