اختبار الصحراء أم اختبار الله؟
في تاريخ 3 شباط عام 1948، وعقب قرار تقسيم فلسطين، قدّم دافيد بن غوريون مداخلةً خلال اجتماع اللجنة الأمنية الصّهيونية، حول طبيعة وأهداف الحرب الّتي تخوضها الميلشيات اليهودية والقوات المسلحة على أرض فلسطين الانتدابية، حيث شدد في خطابه على أهمية صحراء النقب بالنسبة لدولة إسرائيل، حيث قال في خضم حديثه: “للنّقب أهمية لا تقتصر عل مستوى الاستيطان الزراعي فقط؛ بل أيضًا على المستوى السياسي والاقتصادي والاستراتيجي من الدرجة الأولى، فها هو خليج إيلات والأرض الّتي وراءه هي وادي عربة“
في موقع المكتبة: قرار تقسيم فلسطين: خرائط، أخبار وصور
في ذات الاجتماع، أصرّ بن غوريون، على عكس العديد من القيادات والمؤسسات الصهيونيّة الأخرى، على أهمية الاستيطان في النّقب واحتلاله بشكلٍ كامل وفرض السّيطرة الأمنية عليه، بينما فكّر الآخرون وعلى رأسهم أحد أعضاء اللّجنة الأمنية دافيد ريمز، بضرورة المحاربة والدفاع عن الأراضي الّتي أفرزها قرار التّقسيم لليهود، دون محاولة الدخول إلى الصّحراء الّتي لم تكن ضمن الخطة، وكانت ضمن حدود الدولة العربية.
جاء رفض بن غوريون مغايرًا، فقد اعتبر أنّ اليهود في عام 1948 لم يكونوا في موقع الدفاع، بل لديهم إمكانيات ليكونوا في الهجوم وفي فرض السيطرة الأمنية على مناطق واسعة من أرض فلسطين الانتدابية، فالادّعاء الّذي طرحته اللّجنة الأمنية، كان يخشى من فقدان “الييشوف” القائم، أي المستوطنات الّتي كانت في أيديهم حتى ذلك العام، تل أبيب وما حولها. أما بن غوريون، فقد اعتبر أنّ السيطرة على النّقب، زراعته وتطويره، هي الخطوة الأولى في الحفاظ على أمن البلاد.
فقد اعتبر أنّ الخطر الّذي يواجه الصّهيونيّة لا يقتصر على خطر الاقتلاع من “الييشوف” القائم، بل هو خطرٌ يهدد الصّهيونية كلّها وفكرة الوطن القوميّ كاملًا، وذلك بسبب العداوة مع الدول المجاورة للبلاد، الأردن وسوريا ولبنان شمالًا، ومصر جنوبًا، إذن فالسيطرة على النقب وخليج إيلات وغزّة، ستمنحه فرصة الحفاظ على بقيّة الأرض أمنيًّا، وذلك بحسب رؤيته، يعود للجغرافيا الصعبة للنقب، الّتي ستصعّب مهمّة أي جيش في الدخول إلى البلاد ومحاولة استعادتها.
بالنسبة لجيل كامل من مؤسسي الصّهيونيّة، فإنّ الحفاظ على تل أبيب أو بيتاح تكفا وغيرها من مستوطنات مركز البلاد، ليست هي الهدف الأساسي للصهيونية، فبحسب تعبير بن غوريون “فكلّ من هاجر إلى إسرائيل لم يهاجر لينعم بما هو موجود، الموجود ليس كافيًا حتى الآن، بالتأكيد لم يكن كافيًا قبل ثلاثين عامًا. كلّ جيلي الّذي جاء إلى إسرائيل، لم يأتِ للاستمتاع بـ “تل أبيب” لأنّ تل أبيب لم تكُن موجودة إلّا بالمُخيلة، لم يأتِ ستامبر وسالومون للاستمتاع في “بيتح تكفا” لأنها لم تكن موجودة إلّا في مخيلتهما أيضًا.”
وقد أكّد بن غوريون مرارًا على أنّ هذا “الوجود الخياليّ” للمستوطنات في فلسطين الانتدابية، كان هو الدافع الأساسي للطلائعيين – هحالوتسيم- للوجود والعمل على بنائها والدفاع عنها، وبذلك اعتبر أنّ الوجود في النقب والسّيطرة الأمنية عليه، أكثر أهميةً وعمقًا تاريخيًا من الدفاع عن تل أبيب.
إنّ العمل على الدفاع عن النقب وتطويره ونقل المياه إليه، لم يكن وليد اللحظة حين تم نقل المياه من طبرية لاحقًا بعد تأسيس إسرائيل، فقد قال بن غوريون في خطابه أمام المؤسسة الصهيونية واللّجنة الأمنية عام 1948، بإن النّقب لن يتم فرض السيطرة الأمنية عليه فقط، بل سيتم نقل المياه إليه من الشمال إلى الجنوب، وهذا صحيح أنه شأن الخبراء، لكن هؤلاء الخبراء عليهم تنفيذ أوامر الحركة الصهيونية فقط، وليس تحديد أهدافها. إنّ النّقب بالنسبة لبن غوريون، هو القطعة الأهم، فالوجود التاريخيّ فيه وأهميته الاستراتيجية بين فلسطين ومصر، ومساحته الكبيرة، جعلت أهداف الحركة الصهيونية أكبر لفرض السيطرة على أماكن أكبر في فلسطين الانتدابية.
حيث كلّ شيء من صناعة اليهود
بعد استقالة بن غوريون الأولى المفاجئة من الحياة السياسية عام 1953، قرّر بن غوريون الرحيل عن تل أبيب والانتقال إلى سديه بوكير، وقد شكّل هذا الانتقال مفاجئة للمجتمع الإسرائيلي في حينه، وقد قيل أنه جاء بسبب الإحباط السياسيّ الّذي شعر به بن غوريون آنذاك، وبسبب الضغط الّذي تشكّل عليه بقبول تعويضات مادية عن المحرقة من ألمانيا الغربية، حيث اعتبر الإسرائيليون بأنه لا ثمن يساوي الغفران عما جرى.
انتقل بن غوريون إلى سديه بوكير للعيش في كوخٍ خشبي متواضع، حيث علّق في غرفة نومه صورةً لغاندي وإبراهام لنكولن، والنبي موسى. عثر لاحقًا في بيته على مقابلة مسجلة أجريت معه، حول أسباب انتقاله إلى سديه بوكير بهذا الشكل المباغت، فجاءت إجابته: “جئت إلى الصحراء، حيث لا شيء، لا تراب ولا ماء، ولا أشجار. جئتُ لحراثة الحقول الّتي لم تمسسها يدٌ آدمية من قبل، سنخلق كلّ شيءٍ من البداية، كلّ شيءٍ سيوجد فيها، سيكون من صنع أيدينا نحن، وعندما أرى شجرةً، سأكون متأكدًا بأننا نحن الّذين قمنا بزراعتها، لا الآخرون“
سديه بوكير
وهو مستوطنة في النقب الشماليّ، تقع بالقرب من الموقع الأثري عبدات، حيث يقيم في المنطقة، منذ مئات السنين، فلسطينيين بدو في قرًى متفرقة. اكتسبت هذه المستوطنة أهميتها بعد أن قرر بن غوريون الاستيطان فيها عام 1953 عندما اعتزل الحياة السياسية لأوّل مرة، حيث كانت له رؤية في إحياء الزراعة والعمل في المنطقة الصحراوية، حيث أراد أن يكون هو بنفسه نموذجًا لهذه الرؤية.
وقد شجّع لاحقًا مبادرة إقامة مدرسة سديه بوكير، والّتي يوجد فيها معهد دراسة الصحراء ومركز دراسة تراث بن غوريون، وهي تابعة لجامعة بن غوريون في بئر السبع. وقد سكن في الكيبوتس عام 1953، ودُفن فيه رفقة زوجته بعد وفاتهما.
دافيد بن غوريون قبل عام 1948
ولد دافيد بن غوريون في بلدة بلونسك البولندية عام 1886، وتلقّى تعليمه في مدرسة عبرية أسسها أبوه، الّذي كان ينتمي إلى مؤسسة “محبي صهيون”. وفي الـ 18 من عمره أسس بن غوريون شبيبة “عزرا“، ثم انتقل إلى وارسو وانضم هناك إلى الحزب الصهيوني الاشتراكي – “بوعالي تسيون”. في عام 1906 انتقل إلى فلسطين وعمل فيها كعامل في الزراعة، وكمعلم وناشط في حزب “عمال صهيون“، وكعضو في هيئة تحرير صحيفة الحزب “هأحدوت“.
خلال السنوات 1911 – 1914 بدأ بدراسة اللغة التركية في سالونيكي وبدراسة الحقوق في إسطنبول لكي يتمكن من تمثيل حركته فيما يتعلق بالشؤون الداخلية في الإمبراطورية العثمانية، بيد أن الحرب العالمية الأولى منعته من مواصلة دراسته. لاحقًا خلال الحرب، سافر بن غوريون إلى الولايات المتحدة من أجل نشر الأفكار الصهيونية والاشتراكية ومن أجل إقامة كتائب عبرية في الجيش البريطاني.
في عام 1918، تجنّد في صفوف الجيش البريطاني وعاد معه إلى أرض فلسطين، وشارك في تأسيس حزب “أحدوت هعافودا“، وقد شغل لاحقًا منصب السكرتير العام لنقابة العمال اليهود في فلسطين الانتدابية خلال السنوات 1921-1935. خلال السنوات 1935-1948، شغل منصب رئيس إدارة الوكالة اليهودية وقام بتحديد سياساتها مثل: الصراع السياسي حول مستقبل أرض إسرائيل، الاستيطان، حركة الهجرة ومسائل اجتماعية وثقافية أخرى. برئاسته، قام بقيادة جيش إسرائيل عام 1948 من أجل إقامة وطن قومي لليهود في أرض فلسطين، وحصل على اعتراف عالمي فور قيام الدولة.
للمزيد من أرشيف دافيد بن غوريون الرقمي في المكتبة الوطنية، متاح هنا.