بن غوريون واختبار الصحراء

دافيد بن غوريون واحد من أهم مؤسسي الحركة الصهيونية العالمية وأوّل رئيس لدولة إسرائيل، أوصى بعد وفاته بأن يدفن في كيبوتس "نفي تسيديك" في النقب.

715 537

بن غوريون وزوجته من أمام خليج إيلات، 1934-1962، مجموعة الصور "بيت بن غوريون"، المكتبة الوطنية



اختبار الصحراء أم اختبار الله؟

في تاريخ 3 شباط عام 1948، وعقب قرار تقسيم فلسطين، قدّم دافيد بن غوريون مداخلةً خلال اجتماع اللجنة الأمنية الصّهيونية، حول طبيعة وأهداف الحرب الّتي تخوضها الميلشيات اليهودية والقوات المسلحة على أرض فلسطين الانتدابية، حيث شدد في خطابه على أهمية صحراء النقب بالنسبة لدولة إسرائيل، حيث قال في خضم حديثه: “للنّقب أهمية لا تقتصر عل مستوى الاستيطان الزراعي فقط؛ بل أيضًا على المستوى السياسي والاقتصادي والاستراتيجي من الدرجة الأولى، فها هو خليج إيلات والأرض الّتي وراءه هي وادي عربة


في موقع المكتبة: قرار تقسيم فلسطين: خرائط، أخبار وصور
 

في ذات الاجتماع، أصرّ بن غوريون، على عكس العديد من القيادات والمؤسسات الصهيونيّة الأخرى، على أهمية الاستيطان في النّقب واحتلاله بشكلٍ كامل وفرض السّيطرة الأمنية عليه، بينما فكّر الآخرون وعلى رأسهم أحد أعضاء اللّجنة الأمنية دافيد ريمز، بضرورة المحاربة والدفاع عن الأراضي الّتي أفرزها قرار التّقسيم لليهود، دون محاولة الدخول إلى الصّحراء الّتي لم تكن ضمن الخطة، وكانت ضمن حدود الدولة العربية.  

997011217610405171
بن غوريون في سديه بوكير كمزارع، 1953-1971، مجموعة الصور (بيت بن غوريون)، المكتبة الوطنية.


جاء رفض بن غوريون مغايرًا، فقد اعتبر أنّ اليهود في عام 1948 لم يكونوا في موقع الدفاع، بل لديهم إمكانيات ليكونوا في الهجوم وفي فرض السيطرة الأمنية على مناطق واسعة من أرض فلسطين الانتدابية، فالادّعاء الّذي طرحته اللّجنة الأمنية، كان يخشى من فقدان “الييشوف” القائم، أي المستوطنات الّتي كانت في أيديهم حتى ذلك العام، تل أبيب وما حولها. أما بن غوريون، فقد اعتبر أنّ السيطرة على النّقب، زراعته وتطويره، هي الخطوة الأولى في الحفاظ على أمن البلاد.

فقد اعتبر أنّ الخطر الّذي يواجه الصّهيونيّة لا يقتصر على خطر الاقتلاع من “الييشوف” القائم، بل هو خطرٌ يهدد الصّهيونية كلّها وفكرة الوطن القوميّ كاملًا، وذلك بسبب العداوة مع الدول المجاورة للبلاد، الأردن وسوريا ولبنان شمالًا، ومصر جنوبًا، إذن فالسيطرة على النقب وخليج إيلات وغزّة، ستمنحه فرصة الحفاظ على بقيّة الأرض أمنيًّا، وذلك بحسب رؤيته، يعود للجغرافيا الصعبة للنقب، الّتي ستصعّب مهمّة أي جيش في الدخول إلى البلاد ومحاولة استعادتها.

997010821303705171 2
من زيارات بن غوريون للنقب، 1934-1962، مجموعة الصور (بيت بن غوريون)، المكتبة الوطنية.


بالنسبة لجيل كامل من مؤسسي الصّهيونيّة، فإنّ الحفاظ على تل أبيب أو بيتاح تكفا وغيرها من مستوطنات مركز البلاد، ليست هي الهدف الأساسي للصهيونية، فبحسب تعبير بن غوريون “فكلّ من هاجر إلى إسرائيل لم يهاجر لينعم بما هو موجود، الموجود ليس كافيًا حتى الآن، بالتأكيد لم يكن كافيًا قبل ثلاثين عامًا. كلّ جيلي الّذي جاء إلى إسرائيل، لم يأتِ للاستمتاع بـ “تل أبيب” لأنّ تل أبيب لم تكُن موجودة إلّا بالمُخيلة، لم يأتِ ستامبر وسالومون للاستمتاع في “بيتح تكفا” لأنها لم تكن موجودة إلّا في مخيلتهما أيضًا.”

وقد أكّد بن غوريون مرارًا على أنّ هذا “الوجود الخياليّ” للمستوطنات في فلسطين الانتدابية، كان هو الدافع الأساسي للطلائعيين – هحالوتسيم- للوجود والعمل على بنائها والدفاع عنها، وبذلك اعتبر أنّ الوجود في النقب والسّيطرة الأمنية عليه، أكثر أهميةً وعمقًا تاريخيًا من الدفاع عن تل أبيب.

إنّ العمل على الدفاع عن النقب وتطويره ونقل المياه إليه، لم يكن وليد اللحظة حين تم نقل المياه من طبرية لاحقًا بعد تأسيس إسرائيل، فقد قال بن غوريون في خطابه أمام المؤسسة الصهيونية واللّجنة الأمنية عام 1948، بإن النّقب لن يتم فرض السيطرة الأمنية عليه فقط، بل سيتم نقل المياه إليه من الشمال إلى الجنوب، وهذا صحيح أنه شأن الخبراء، لكن هؤلاء الخبراء عليهم تنفيذ أوامر الحركة الصهيونية فقط، وليس تحديد أهدافها. إنّ النّقب بالنسبة لبن غوريون، هو القطعة الأهم، فالوجود التاريخيّ فيه وأهميته الاستراتيجية بين فلسطين ومصر، ومساحته الكبيرة، جعلت أهداف الحركة الصهيونية أكبر لفرض السيطرة على أماكن أكبر في فلسطين الانتدابية.


997010821303705171 3
بن غوريون في النقب، 1934-1962، مجموعة الصور (بيت بن غوروين)، المكتبة الوطنية.


حيث كلّ شيء من صناعة اليهود

بعد استقالة بن غوريون الأولى المفاجئة من الحياة السياسية عام 1953، قرّر بن غوريون الرحيل عن تل أبيب والانتقال إلى سديه بوكير، وقد شكّل هذا الانتقال مفاجئة للمجتمع الإسرائيلي في حينه، وقد قيل أنه جاء بسبب الإحباط السياسيّ الّذي شعر به بن غوريون آنذاك، وبسبب الضغط الّذي تشكّل عليه بقبول تعويضات مادية عن المحرقة من ألمانيا الغربية، حيث اعتبر الإسرائيليون بأنه لا ثمن يساوي الغفران عما جرى.

997011217610405171 4
منزل بن غوريون في النقب، 1953-1971، مجموعة الصور (بيت بن غوروين)، المكتبة الوطنية.


انتقل بن غوريون إلى سديه بوكير للعيش في كوخٍ خشبي متواضع، حيث علّق في غرفة نومه صورةً لغاندي وإبراهام لنكولن، والنبي موسى. عثر لاحقًا في بيته على مقابلة مسجلة أجريت معه، حول أسباب انتقاله إلى سديه بوكير بهذا الشكل المباغت، فجاءت إجابته: “جئت إلى الصحراء، حيث لا شيء، لا تراب ولا ماء، ولا أشجار. جئتُ لحراثة الحقول الّتي لم تمسسها يدٌ آدمية من قبل، سنخلق كلّ شيءٍ من البداية، كلّ شيءٍ سيوجد فيها، سيكون من صنع أيدينا نحن، وعندما أرى شجرةً، سأكون متأكدًا بأننا نحن الّذين قمنا بزراعتها، لا الآخرون

997011217610405171 5
من مكتبة بن غوريون في بيته في سديه بوكير، 1953-1971، مجموعة الصور (بيت بن غوريون)، المكتبة الوطنية.

 

سديه بوكير

وهو مستوطنة في النقب الشماليّ، تقع بالقرب من الموقع الأثري عبدات، حيث يقيم في المنطقة، منذ مئات السنين، فلسطينيين بدو في قرًى متفرقة. اكتسبت هذه المستوطنة أهميتها بعد أن قرر بن غوريون الاستيطان فيها عام 1953 عندما اعتزل الحياة السياسية لأوّل مرة، حيث كانت له رؤية في إحياء الزراعة والعمل في المنطقة الصحراوية، حيث أراد أن يكون هو بنفسه نموذجًا لهذه الرؤية.

وقد شجّع لاحقًا مبادرة إقامة مدرسة سديه بوكير، والّتي يوجد فيها معهد دراسة الصحراء ومركز دراسة تراث بن غوريون، وهي تابعة لجامعة بن غوريون في بئر السبع. وقد سكن في الكيبوتس عام 1953، ودُفن فيه رفقة زوجته بعد وفاتهما.

دافيد بن غوريون قبل عام 1948

ولد دافيد بن غوريون في بلدة بلونسك البولندية عام 1886، وتلقّى تعليمه في مدرسة عبرية أسسها أبوه، الّذي كان ينتمي إلى مؤسسة “محبي صهيون”. وفي الـ 18 من عمره أسس بن غوريون شبيبة “عزرا“، ثم انتقل إلى وارسو وانضم هناك إلى الحزب الصهيوني الاشتراكي – “بوعالي تسيون”. في عام 1906 انتقل إلى فلسطين وعمل فيها كعامل في الزراعة، وكمعلم وناشط في حزب “عمال صهيون“، وكعضو في هيئة تحرير صحيفة الحزب “هأحدوت“.

خلال السنوات 1911 – 1914 بدأ بدراسة اللغة التركية في سالونيكي وبدراسة الحقوق في إسطنبول لكي يتمكن من تمثيل حركته فيما يتعلق بالشؤون الداخلية في الإمبراطورية العثمانية، بيد أن الحرب العالمية الأولى منعته من مواصلة دراسته. لاحقًا خلال الحرب، سافر بن غوريون إلى الولايات المتحدة من أجل نشر الأفكار الصهيونية والاشتراكية ومن أجل إقامة كتائب عبرية في الجيش البريطاني.

في عام 1918، تجنّد في صفوف الجيش البريطاني وعاد معه إلى أرض فلسطين، وشارك في تأسيس حزب “أحدوت هعافودا“، وقد شغل لاحقًا منصب السكرتير العام لنقابة العمال اليهود في فلسطين الانتدابية خلال السنوات 1921-1935. خلال السنوات 1935-1948، شغل منصب رئيس إدارة الوكالة اليهودية وقام بتحديد سياساتها مثل: الصراع السياسي حول مستقبل أرض إسرائيل، الاستيطان، حركة الهجرة ومسائل اجتماعية وثقافية أخرى. برئاسته، قام بقيادة جيش إسرائيل عام 1948 من أجل إقامة وطن قومي لليهود في أرض فلسطين، وحصل على اعتراف عالمي فور قيام الدولة.

للمزيد من أرشيف دافيد بن غوريون الرقمي في المكتبة الوطنية، متاح هنا.

أبراج الساعة: تاريخٌ نُقِش في الحجر

في هذا المقال نقوم بالتركيز على أبراج الساعة في مدن فلسطين العثمانية، تاريخ بنائها وأسبابه، وكيف غيّرت بحضورها المدن.

برج الساعة في يافا، مجموعة بينو روتنبيرغ، المكتبة الوطنية

برج الساعة في يافا، 1946-1988، مجموعة بينو روتنبيرغ، المكتبة الوطنية

تاريخ البناء والامبراطورية العثمانية

تقف في البلاد، وسط مدن مختلفة، أبراج الساعة العديدة، التي بنيت جميعها في العهد العثماني في عهد السلطان عبد الحميد الثاني. تم بناء هذه الأبراج المنتشرة في أنحاء القدس ويافا وعكا وصفد وحيفا لإحياء ذكرى حكمه الذي دام 25 عامًا. للأسف، تم هدم برج ساعة القدس أثناء دخول القوات البريطانية إلى المدينة، ولم يصمد حتى يومنا هذا.

 

برج الساعة في حيفا، 1957، أرشيف روتنبيرغ، المكتبة الوطنية.
برج الساعة في حيفا، 1957، أرشيف روتنبيرغ، المكتبة الوطنية.

 

مدن تاريخية مصوّرة

ظهر مفهوم هذه الأبراج بعد أن أهدى السلطان عبد الحميد الثاني المدن الساعات. كان امتلاك ساعة شخصية خلال تلك الحقبة أمرًا نادرًا، لذلك تم تشييد هذه الأبراج في مراكز المدن – وهي مراكز يتجمع فيها الناس، حيث ازدهرت الحياة  – لتوفير الوقت للجميع، ومساعدتهم على جدولة حياتهم. اذ في ذلك الوقت، كان الأثرياء فقط هم من يمتلكون الساعات المحمولة.

مبادرة السلطان الشخصية لتكريم حكمه حولت هذه الأبراج إلى مراكز استراتيجية لمساعدة الناس. وبمرور الوقت، تحولت هذه الساحات المزينة بالأبراج إلى معالم تاريخية وثقافية. لقد تم وضعها بشكل استراتيجي في قلب المدن، حيث تتركز التنمية الحضرية، مما يجعل الوصول إلى الخدمات سهلاً ويعزز الروابط المجتمعية.

ولم تقتصر هذه المبادرة على المدن الفلسطينية وحدها؛ إذ عند التجوّل في المدن القديمة في جميع أنحاء بلاد الشام – سوريا ولبنان وبعض المدن المصرية – يجد المرء أبراجًا مماثلة، وهي شهادة على السلطة الموحدة لتلك الحقبة.

المدن كشواهد على التاريخ

في نسيج المدن الكبيرة النابضة بالحياة آنذاك، تَتَكَشّف الحكايات حول أبراج الساعة المهيبة. في عكا، يقف برج الساعة بفخر فوق المدخل الشمالي الرئيسي، وهو عبارة عن حارس حجري يزين خان العمدان، الذي شيده الوالي أحمد باشا الجزار في أواخر القرن التاسع عشر. وبجوار الساحة الخضراء الصاخبة بالقرب من الميناء، ظهر حضورها الهائل في عام 1918، لينضم إلى سجلات الأبراج في جميع أنحاء فلسطين في عهد السلطان عبد الحميد الثاني.

برج الساعة في عكا، 1960-1970، مجموعة زيف يهودا، المكتبة الوطنية.
برج الساعة في عكا، 1960-1970، مجموعة يهودا، المكتبة الوطنية.

يمكن الوصول للبرج من خلال القناطر الحجرية المحمية بسقف حجري، والتي تقع على يسار المدخل الشمالي للخان. كانت الفتحات الدائرية على كل وجه تحتوي على ساعات مستديرة كبيرة ظلت شامخة حتى أواخر الخمسينيات قبل أن تقوم سلطات التراث بإزالتها. ثلاث لوحات رخامية منحوتة على الوجه الشمالي للبرج تحمل نقوشًا تحتفل بمرور 25 عامًا من حكم السلطان عبد الحميد.

أما برج الساعة في صفد، فيزين المحيط الجنوبي الشرقي للقلعة. تم بناء القلعة في القرن الثامن عشر في عهد ظاهر العمر، ثم تحولت إلى رمز للحكم العثماني بعد عام 1775. تم دمج برج الساعة بسلاسة في عام 1901، جنبًا إلى جنب مع نظرائه في جميع أنحاء فلسطين.

وفي الوقت نفسه، في نابلس، أشرف أحمد السروان، كبير عمال البناء في ذلك الوقت، على بناء البرج، وحصل على التكريم العثماني لدوره. وعلى غرار نظيراتها الفلسطينية، كان برج نابلس، وهو مبنى شاهق مكون من أربعة طوابق، يستضيف ضابط الوقت في المدينة وأصبح رمزا للأهمية التاريخية.

ظهر برج يافا أيضًا في عام 1901 وسط عمليات تجديد على مستوى البلاد. تقول الأسطورة أن أحد أثرياء جافان أخذ زمام المبادرة، بعد أن سئم من مقاطعة الأشخاص الذين يبحثون عن الوقت في طريقهم إلى محطة القطار. يضم هذا البرج أربع ساعات – اثنتان تحافظان على التوقيت الأوروبي واثنتان تتزامنان مع الجداول الزمنية المحلية، وهي شهادة على تقارب الثقافات في ذلك العصر.

صناعة الصّابون في فلسطين الانتدابية

خلال هذا المقال نقوم بسرد تاريخي حول أصول صناعة الصابون في العالم، وكيف تصدّرت نابلس الصّناعة في بدايات القرن العشرين.

مصنع صابون في حيفا

مصنع لصناعة الصابون في حيفا، 1906- 1922، أرشيف بن تسفي، المكتبة الوطنية.

اشتهرت مدينة نابلس منذ مئات السنوات بصناعة الصابون، وقد تصدّرت خلال بدايات القرن العشرين بتصدير الصّابون إلى بلاد كثيرة وواسعة خارج فلسطين. على الرغم من أن سوريا قد تصدّرت الصّناعة في الشرق الأدنى خلال سنوات الخلافة الأموية، إلّا أنّ الصّناعة اختفت بعدها لسنوات طويلة، لتعود للظهور في نابلس بحدود بدايات القرن السادس عشر.

لم تكن نابلس وحدها المتصدرة في الصناعة خلال تلك الأعوام، فعلى الرغم من التنافس العالي مع مدينة صقلية الإيطالية وظهور بعض المصانع في فرنسا، فإن ما كان يميّز صناعة الصابون في نابلس هو استخدام زيت الزيتون الصافي، بدون إضافات أخرى غير صحية، على عكس الصناعة في فرنسا وإيطاليا، حيث كانوا يستخدمون زيوت القلي وبعض الزيوت الأخرى غير الموثوقة صحيًّا.

مدينة نابلس التاريخية: صور، خرائط ومقتطفات من الصحف

وفي إحدى المقالات من صحيفة الأخبار، يقول الكاتب بإن الإقبال على شراء الصابونة النابلسية كان كبيرًا في فلسطين وسوريا ومصر والشرق العربي، وبالذات من شركة الزيتون للحاج فوزي باشا النابلسي، والمصنوعة في معمل مصبنة الشاب السيد علي سالم النابلسي العربية، والّتي كانت من أبرز الشركات في سنوات الثلاثينيّات.

صناعة الصابون في نابلس

إن صناعة الصابون في نابلس قديمة، وقد اشتهرت المدينة بمصانعها منذ القِدَم وبجودة الصّابون الّذي تقدّمه إلى العالم وتبيعه في العديد من الأقطار العربية والغربية. وقد بدأت صناعة الصابون في نابلس وبعض الأقطار العربية باستخدام زيت الزيتون والقلي فقط، لكن طرأت بعض التحسينات على الصناعة في نهاية سنوات الثلاثينيّات، حيث بدأ المصنِّعون يضيفون الصودا الكاوية مستبدلين بذلك زيت القلي، حيث تعطي الصابونة لمعانًا وشكلًا مختلفًا، كما تمت إضافة العديد من الروائح العطرية لتغيير رائحة زيت الزيتون الطاغية على التصنيع. كما تغيّر شكل ووزن الصابونة لتتناسب مع انتاج كلّ شركة، حيث يمنع لأي شركة أخرى استخدام الإنتاج الخاص ببقية الشركات.

مصبنة عربية في يافا، 1920 - 1923، بن تسفي.
مصبنة عربية في يافا، 1920 – 1923، بن تسفي.

 

مصنع "شجرة الزيت" في بيتاح تكفا، 1970، أرشيف بيتاح تكفا التاريخي.
مصنع “شجرة الزيت” في بيتاح تكفا، 1970، أرشيف بيتاح تكفا التاريخي.

 

وقد بلغَ عدد معامل ومصابن الصابون في نابلس خلال بداية الأربعينيّات من القرن الماضي، 22 مصنعًا منها الكبيرة وهي ما تسمّى بالمصابن والصغيرة وهي ما تسمّى بالمعامل. وأما عن الفرق بينهما فهو أن المصبنة تحوّل 250 جرة من الزيت بمعدل 6 أرطال للجرة إلى صابون، ويحتاج إلى غليه على النار ثمانية أيام، بينما طبخة الصابون في المعمل تبقى على النار مدة 24 ساعة فقط توضع فيها 60 جرة من الزيت فقط. وعدد العمال في كلّ من القسمين هو: في المصبنة ستة عمال ومسؤول الفريق وهو الّذي يشرف على إدارة العمل من الوجهة الفنية، مراقب حسابات، حارس وخادم. أما العمّال والرئيس فلا يتقاضون راتبًا يوميًا أو شهريًا، بل يتقاضون أجرًا عن كل طبخة وطبخة. أما ساعات العمل فهي 8-10 ساعات في الأيام العادية و8 ساعات في رمضان. وتكون العطلة في العادة يوم الجمعة وفي أيام الأعياد الكبرى؛ الفطر والأضحى وعيد المولد النبوي. ولا تمنح الإجازات إلا في حالاتٍ اضطرارية، ولا تعطى تعويضات للعمال الّذين يصابون خلال العمل. ويتراوح انتاج الصابون في نابلس بين 200-300 طن في السنة حسب جودة زيت الزيتون في تلك السنة.

إنتاج الصابون في نابلس، صحيفة الاقتصاديات العربية: 1 نيسان 1935.
إنتاج الصابون في نابلس، صحيفة الاقتصاديات العربية: 1 نيسان 1935.

لم يُعرَف عن نابلس صناعة أخرى خلال تلك السنوات سوى مصنع واحد للنسيج يخص الشقيقين فتحي وفيصل النابلسي، حيث كان المعمل مجهّزًا بآلات كهربائية ويعمل به 170 عاملًا.

لم تكن نابلس الوحيدة الّتي تصنع الصابون في فلسطين، فقد جاءت خلفها مدينة يافا في تصدّر الصناعة بوجود عشرة مصانع في المدينة، ثم تليهما حيفا بوجود مصنعان. ولعل أبرزهم كان مصنع “شيمن” وهو المصنع الوحيد بين جميع مصانع فلسطين المؤسس والمُجهّز على النظام الحديث. والمصنع الثاني في حيفا مملوك لرجل ألمانيّ، حيث كانت صادرته بأغلبها توّزع في الولايات المتحدة، وقد بدأ عمله منذ نهاية القرن التاسع عشر.

كما كان هناك بعض المعامل في كلّ من اللّد والرملة وتل أبيب، وجميع هذه المصانع كبيرها وصغيرها –باستثناء مصانع حيفا- مبنيّة على الطراز القديم ولم يدخل عليها منذ إنشائها أي تحسين يُذكر.

تأثُّر الصّناعة خلال الحرب العالمية الأولى

مع اعتماد صناعة الصّابون على موسم قطف الزيتون والزيت المستخرج منه، فقد تأثرت صناعة الصّابون خلال الحرب العالمية الأولى، حيث تم استغلال أشجار الزيتون وحطبها لتسيير القاطرات الّتي كانت تحتل البلاد آنذاك. وقد نتج عن ذلك قلة كمية الزيوت الّتي تستخرجها البلاد سنويًا، فاضطر أصحاب المعامل إلى استيراد الزيت من تركيا وسوريا واليونان، وقد أثّر ذلك على صناعة الصابون في فلسطين، حيث تضاءلت الصناعة في تلك الفترة، لكنها سرعان ما تعافت وانتعشت بعد الحرب، حيث عادت زراعة شجر الزيتون تنشط من جديد لتعويض ما تم إتلافه خلال الحرب.

أنشئ المعمل عام 1923 ولكنه لم يبدأ العمل إلا في عام 1925، وقد أنشأته شركة شيمن لتصنيع الزيوت، والّتي اندمجت في شركة ايسترن وأوفيرسيز الإنجليزية. وظلت الشركة منذ إنشائه تكبّر في حجمه وتزيد في مساحته وتضيف إليه المباني حتى أصبح لا يقل حجمًا وجودةً عن مصانع أوروبا، وقد كان الوحيد من هذه النوعية في فلسطين وسوريا. وهو يشتغل في صناعة الصابون والزيوت في آن واحد. أما أنواع الصابون الّتي كان يصنعها فهي كالتالي:

  • صابون من نوع صابون مرسيليا، أصفر وأبيض ويستعمل في صناعته من الزيوت زيت الزيتون وزيت جوز الهند وزيت السمسم
  • صابون من نوع كاستيل؛ ولا يدخل فيه صناعته من الزيوت غير زيت الزيتون النقي، وأكثر ما يستعمل هذا الصابون هو للأطفال وكان يصدّر كثيرًا للخارج.
  • صابون كصابون نابلس الوطني ومصنوع من زيت الزيتون فقط.
  • صابون معطّر للتواليت؛ ويستعمل في صناعته مزيج من زيت الزيتون وزيت جوز الهند.

رحلة في عمق سداسية الأيام الستّة

في هذا المقال نستعرض أدب وسياسة إميل حبيبي، ميوله وحياته من خلال تحليل مبسّط لسداسية الأيام الستة، بعد حرب عام 1967.

جائزة إسرائيل للأدب

لحظة تسلّم إميل حبيبي لجائزة إسرائيل للأدب، 1992، من أرشيف دان هداني، المكتبة الوطنية.

يعتبر كاتب المجموعة القصصية “سداسية الأيام الستّة” إميل حبيبي، واحدًا من أكثر الكتّاب الفلسطينيين جدلًا على المستويات الثقافية والسياسية، السياسيّ والمثقف هو من أوائل الكتّاب الّذين وصفوا حياة الفلسطينيين الّذين ظلّوا في أرضهم بعد حرب عام 1948، فكتب عن حياتهم وطريقة تأقلمهم مع الوضع السياسي – الاجتماعي الجديد، وحقيقة انفصالهم عن البقية من شعبهم وامتدادهم العربي.

خلال هذا المقال نستعرض أدب وسياسة إميل حبيبي، ميوله وحياته من خلال تحليل مبسّط لسداسية الأيام الستة، القصص الّتي ولدت بعد هزيمة الجيوش العربية في حرب عام 1967، أو النكسة كما عُرفت عربيًّا.

طالعوا أيضاً: إميل حبيبي: أديب فلسطيني وسياسي في الكنيست

ولد إميل حبيبي في حيفا عام 1921، وهو ابن لعائلة فلسطينية مسيحية أصلها من مدينة شفاعمرو الّتي تبعد عن حيفا 22 كيلومترًا. أتمّ دراسته الثانوية في حيفا وعكا، ونال شهادة الاجتياز في 1939، ثم عمل في مصانع تكرير البترول في حيفا، ودرس في ذات الفترة الهندسة البترولية بالمراسلة مع جامعة لندن لمدة سنتين.

انضم حبيبي إلى الحزب الشيوعي الفلسطينيّ عام 1941، وهو من بين مؤسسي “رابطة التحرير الوطني” عام 1944 وأحد رؤسائها، في عام 1948 انضم إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي وانتخب عضوًا هامًا في الحزب، ومع الانشقاق الّذي حصل في الحزب عام 1965 كان من بين رؤساء القائمة الشيوعية الجديدة وعضو الديوان السياسي التابع للحزب. عمل محررًا لصحيفة الاتحاد في السنوات بين 1971-1989، وفي عام 1989 استقال من مؤسسات القائمة الشيوعية الجديدة.

شغل عضوية الكنيست الثانية والثالثة والخامسة عن الحزب الشيوعي الإسرائيلي، والكنيست السادسة والسابعة عن القائمة الشيوعية الجديدة، وتوفي في 2 أيار 1996 م بعد أن أوصى بأن يُكتب على قبره “باقٍ في حيفا”.

طالعوا أيضًا: انتخابات إسرائيل في الصور والجرائد ومنشورات الدعايات الانتخابية

 

إميل حبيبي الّذي وافق عصبة التحرر الوطني على قرار التقسيم، صار لاحقًا صوت الّذين بقوا في البلاد وعاشوا الحكم العسكري وحرب عام 1967. وقد كان بشكلٍ أو آخر، واحدًا من أهم الأصوات السياسية الّتي لعبت دورًا كبيرًا في مصير الفلسطينيين الّذين عاشوا تحت الحكم الإسرائيلي.

سداسية الأيام الستة

يرتبط الأدب بالواقع، يحاكي تطوّره والتغييرات الّتي تطرأ عليه بمرور الزمن، وتعتبر القصة القصيرة أحد الأجناس الأدبية الّتي تتمكن من نقل الواقع بصورة مبسطة، سلسة ومباشرة. وقد تجذّرت أعمال إميل حبيبي بالواقع المعاش لدى الفلسطينيين في إسرائيل في سنوات ما بعد حرب حزيران بشكلٍ خاص، حيث اعتمد في القصص الستة الّتي نحكي عنها في المقال على مرجعية الواقع العينيّ المدمج بسردية التاريخي، عبر رصده لذاكرة المكان الفلسطيني ببعديه التاريخيّ والجغرافي.

سداسية الأيام الستة هي عبارة عن ست قصص تحت عناوين: حين سعدَ مسعود بابن عمه، وأخيرًا نوّر اللوز، أم الروبابيكا، العودة، الخرزة الزرقاء وعودة جبينة، الحب في قلبي. وتحكي كلّ قصة منهم بُعدًا سياسيًا واجتماعيًا للواقع الفلسطيني المعاش خلال وبعد حرب عام 1967.

امتاز أسلوب إميل حبيبي الأدبي بدمج ما بين الموروث الشعبي الفلسطيني والأدب، ويبدو هذا الهوس في التداخل بين العالمين من خلال كتاباته جليًا في عناوين قصصه، وفي سداسية الأيام الستة تبدو الإشارة إلى الموروث الشعبي الفلسطينيّ والعربي جلية من خلال استحضار قصة “جبينة” و “الخرزة الزرقاء”، كما أنه اعتمد توظيف العديد من الأبيات الشعرية – الغنائية في النصوص. يظهر هذا التوظيف من خلال بدايات بعض القصص، ففي الاستهلال لقصة “حين سعد مسعود بابن عمه تظهر البداية بأغنية فيروزية:

لماذا نحن يا أبتِ
لماذا نحن أغراب
أليس لنا بهذا الكون
أصحاب وأحباب؟

ولم يأتِ اختيار هذا الاستهلال عبثيًا، فمسعود طفل وحيد دون أعمام أو أخوال أو أبنائهم في قريته الّتي تقع داخل أراضي الحكم الإسرائيلي، بينما أبناء عائلته الآخرين شاءت قسمتهم أن يكونوا في الضفة الغربية والأردن، فظل هو وحيدًا بين الأولاد، لتؤثر عليه هزيمة عام 1967 بشكلٍ مباشر. وفي قصة “أخيرًا نوّر اللوز” يستهل الكاتب أيضًا بأغنية فيروزية:

“بلادي أعدني إليها

ولو زهرةً يا ربيع”

ولا يتوقف الأمر عند هاتين القصتين، فقد استخدم حبيبي الأسلوب ذاته في كافة القصص، ليفتتح به زمنًا كان يحاول ربط الفلسطيني ببُعدهِ العربي والوطني، ومحاولًا إيصال الخيبة الّتي حدثت للناس بعد النكسة من خلال ربطه بواحدٍ من الأصوات الموسيقية الأكثر بروزًا عربيًا، فيروز.

رمزية المكان في أدب إميل حبيبي

يهتم حبيبي في تقلّبات المكان في الأدب عبر تسجيل دقيق وتوثيق للتاريخ الفلسطيني من الداخل وليس من الخارج فقط، إذ يحرص على تسجيل الأزمنة والحروب والتواريخ المهمة في تشكيل الشعب الفلسطينيّ اليوم. ولذلك يعتبر بحسب العديد من الناقدين، الكاتب الّذي يهتم بإقامة نصب تذكارية لمعالم المكان من حوله. كما أنه يمتلك عين رحّالة لا يغادر مكانه، فهو دائم التحديق في تقلّبات المكان.

من خلال جلسة للمطالبة بحقوق الكتّاب العرب في إسرائيل، 1990، أرشيف دان هداني.
من خلال جلسة للمطالبة بحقوق الكتّاب العرب في إسرائيل، 1990، أرشيف دان هداني.

 

يظهر المكان ببعديه التاريخي والجغرافي تدريجيًا في أدب حبيبي، فهو ينقل القارئ إلى تصوّر ذهني وعياني للأمكنة من خلال إشارات وتفاصيل تاريخية وجغرافية محددة معروفة لهذه الأمكنة، فهو يضع إطار القصة من خلال المكان، حيث يستطرد في الحديث عن تاريخ المكان وجغرافيته وساكنيه، حيث تبدو كتابته توثيقًا لتاريخ الانسان الفلسطيني المسلوب من حق توثيق أصله وحكاياته.

يبدو المكان في سداسية الأيام الستة واضحًا للقارئ منذ السطور الأولى، ففي قصة “أخيرًا نوّر اللوز” يدور الحوار بين الصديقين القديمين حول طريق القدس ورام الله وحيفا واللبن الشرقية، ويصف فيها إميل حبيبي أشجار اللوز الّتي تتفتح في ربيع البلاد، ولافتًا النظر إلى التقسيم الّذي عانى منه جيلٌ كامل بعد الفصل بين الأراضي الفلسطينية والناس.

وفي قصة “أم الروبابيكا” يذكر الكاتب أسماء الشوارع في حيفا بشكلٍ عينيّ، شارع الوادي وشارع عباس وسوق الشوام ووادي النسناس والوادي في إشارة لوادي الصليب. وفي قصة “العودة” يذكر حبيبي أماكن عينيّة من مدينة القدس، طريق الآلام، المقبرة اليوسيفية، باب السلسلة، درجة الطابوني، خان العطار، سوق الباشورة، خان الزيت، عقبة التكية، وغيرها الكثير من الأسماء للأماكن، كأنه يريدنا أن نحفظها في عقولنا.

يحرص حبيبي من خلال ذكر أسماء الأماكن بأسمائها المجردة من حفظها، ويقدم من خلالها صورة دقيقة للمكان الفلسطيني، القرية والمدينة، الشوارع والأماكن المقدسة، فالوصف لدى حبيبي لا يتعلق بالمدى الجمالي بل بالبعد التاريخي الجغرافي، وذلك كي يتمكن من توثيق الأمكنة وتاريخها، وما جرت فيها أحداث ردًا على الاستلاب والهدم الّذي يتعرض له التاريخ الفلسطيني.

بين الموقف السياسي والأدبي

عُرفت أعمال حبيبي بكونها تُحاكي المكان والانسان الفلسطيني الباقي في أرضه، ولم يتوانى يومًا عن إظهار هذا الموقف من خلال الأدب كما شرحنا في البنود السابقة، ولكن على العكس مما كتب، ومما نادى به من تحرير البلاد وصوت الانسان الفلسطيني المختنق في ظل السياسات الإسرائيلية، فإنّ حبيبي كان أحد أعضاء الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وكان من أوائل النواب العرب في الكنيسيت الإسرائيلية، وأحد أبرز الأصوات الّتي أيّدت حل الدولتين سياسيًا.

يظهر هذا الموقف المتباين بين حبيبي الأديب وحبيبي السياسي، معظم المواقف المبهمة وتداخل الهوية لدى الفلسطينيين في البلاد، فهم من ناحية يحاولون التواصل مع امتداد شعبهم العربي والمحافظة على الأصل الّذي يربطهم بالأرض والشعب، لكنهم في ذات الوقت يبحثون عن “الفتات” السياسية الّتي تمنحهم بعض الحقوق الّتي يمكن للحكومات الإسرائيلية سحبها منهم في أي لحظة.

وقد تعرض إميل حبيبي للكثير من الانتقادات بسبب مواقفه الّتي كانت تتوافق مع مواقف الحزب الشيوعي، حول تقسيم فلسطين واتفاقية أوسلو لاحقًا، وقد كانت هذه المواقف تنبع من فكرة اتحاد شعوب منطقة الشرق الأوسط ضد قوى الاستعمار العالمية، والعيش بسلام بين اليهود والعرب على أرض فلسطين، حيث تنقسم الأرض إلى دولتين إسرائيلية وفلسطينية على حدود عام 1967.

أثبتت هذه المواقف لاحقًا فشلها، خاصةً بعد الانتفاضة الثانية، حيث قال حبيبي في إحدى مقابلاته إن حل أوسلو لم يكن الحل المثالي والمنصف للفلسطينيين، لكنه كان أفضل من الحلول الأخرى. ظل هذا الجدل حول مواقف حبيبي قائمًا حتى بعد وفاته، وشكل هذا السياسي – الأديب نقطة جدلٍ طويلة بين الأدباء الفلسطينيين، فلم يتفق على مواقفه الجميع ولم يتفق على انتقاده أيضًا.