دواليب الأمل: يانصيب اليتيم العربي

وُلدت لجنة اليتيم العربي ، وكانت مهمتها توفير الرعاية للأيتام في المجتمع العربي، الأطفال الذين تُركوا ليعولوا أنفسهم في وقت كان الوضع السياسي في البلاد غير واضح المعالم. لكن لم تكن هذه مجرد جهود إغاثة عادية، بل كانت اللجنة مصممة على القيام بشيء فريد، شيء سيصمد أمام اختبار الزمن. ومن هنا خُلِقت فكرة يانصيب اليتيم العربي.

في ربيع عام 1940، اجتمع مجموعة من القادة العرب، منهم القاضي محمد البرادعي ووصيف بسيسو حول طاولة صغيرة في في أحد أحياء تلال حيفا ، متحدين لأجل هدفٍ سامٍ وهو خلق الأمل من العدم للأطفال اليتامى العرب. وُلدت لجنة اليتيم العربي من هذا الاجتماع، وكانت مهمتها توفير الرعاية للأيتام في المجتمع العربي، الأطفال الذين تُركوا ليعولوا أنفسهم في وقت كان الوضع السياسي في البلاد غير واضح المعالم. لكن لم تكن هذه مجرد جهود إغاثة عادية، بل كانت اللجنة مصممة على القيام بشيء فريد، شيء سيصمد أمام اختبار الزمن. ومن هنا خُلِقت فكرة يانصيب اليتيم العربي.

فلسطين 15 أيلول 1946
فلسطين 15 أيلول 1946

لم يكن اليانصيب مجرد حدث لجمع التبرعات، بل كان دعوةً للشعب العربي للاتحاد من أجل قضية مشتركة. احتاج المجتمع، الذي كان يكافح تحت ثقل الحكم البريطاني وتصاعد التوترات في المنطقة آنذاك، إلى شيء يتوحدون من أجله. وبالفعل، ظهرت الملصقات في نوافذ المحلات، ونشرت الصحف أخبار اللجنة واليانصيب، وانتشر الخبر من شوارع حيفا إلى عمّان و سوريا. بدأ الناس يشترون التذاكر ليس فقط من أجل فرصة الفوز، ولكن لدعم الأيتام بالمقام الأول.

الذخيرة، 11 تشرين ثاني 1946
الذخيرة، 11 تشرين ثاني 1946

حرصت اللجنة على أن تكون شفافة وصادقة مع الجمهور، حيث كانت تعقد اجتماعات لتحديث الجميع حول التقدم المحرز. لم يتعلّق الأمر بجمع المال فقط؛ بل كان يتعلق باشراكِ كل مواطنٍ عربي في هذه العملية. كان عدد المتبرعين يزداد مع مرور كل أسبوع، بعضهم قدموا تبرعات من الأراضي، وآخرون بما يمكنهم توفيره من نقود.

أقيمت أولى مراسم سحب اليانصيب في الأردن، حيث كانت الأجواء مليئة بالحماس والترقب. بدأت الأمسية بموسيقى و أناشيد وطنية أردنية، مما أضفى جواً احتفالياً عليها. في اليوم الذي سبق الحدث، كان النساء قد تجولنَ في الأسواق وشوارع العاصمة عمّان، ووضعن ملصقات للجنة الأيتام على أي شخص مستعد للمساهمة مالياً. كانت جهودهن أساسية في جمع الأموال لدعم عمل اللجنة في حيفا.

الوحدة 28 نيسان 1947
الوحدة 28 نيسان 1947

بينما كانت مراسم اليانصيب تجري في سينما البتراء، تجمع عدد كبير من الرجال والنساء لمتابعة الحدث. اصطف جُندٌ من الجيش العربي على أبواب القاعة لاظهار الاحترام للشخصيات المهمة التي حضرت، كرئيس الوزراء وغيره من المسؤولين، بما في ذلك وزير الداخلية ووزير المالية. كما قامت وسائل الإعلام من فلسطين وسوريا ولبنان والأردن بتغطية الحدث، مما يعكس روح الوحدة آنذاك.

خلال المراسم، أعرب الملك عبد الله عن دعمه للمبادرة، وبارك اللجنة وأعضائها. اشترى أيضاً 5,000 تذكرة يانصيب، وتبرع بالعائدات لللّجنة. شهد الحدث خمسة دواليب دوارة محاطة بأعلام الدول العربية. ساعدت فتيات صغيرات في تشغيل الدواليب، مما أضفى جواً من البهجة، كما كانت ألوان الدواليب تعكس أعلام الدول العربية، مما رَمزَ إلى التضامن في هذه المهمة الجماعية. و كانت الفرحة واضحة على الحاضرين في القاعة عندما أُعلِن عن الأرقام الفائزة.

حققت الحملة نجاحاً ملحوظاً، حيث تم بيع 92% من التذاكر، وجمعت حوالي 32 ألف جنيه فلسطيني. استخدمت لجنة اليتيم العربي الأموال التي جُمعت للقيام بأعمال إنسانية كبيرة، حيث افتتحت مدارس ومؤسسات تعليمية للأيتام.

في عام 1948، اضطرت اللجنة إلى الانتقال إلى عمان بعد أحداث النكبة. لكن العمل لم يتوقف وتم افتتاح مدرسة اليتيم في القدس والقائمة حتى يومنا هذا.

خليل طوطح: المربّي الذي طبق تعاليمه

كان خليل طوطح شخصية بارزة في مجال التعليم، وترك بصمة لا تُنسى على الأجيال من الطلاب والمعلمين. وُلد في 20 مايو 1887 في رام الله، ونشأ في بيئة فكرية محفزة حيث كان والده أول معلم له. بدأ تعليمه المبكر في المنزل، لكنه سرعان ما التحق بمدرسة الفرندز في بلدة البيرة القريبة، مما كان بداية التزامه الدائم بالتعليم.

كان خليل طوطح شخصية بارزة في مجال التعليم، وترك بصمة لا تُنسى على الأجيال من الطلاب والمعلمين. وُلد في 20 أيار 1887 في رام الله، ونشأ في بيئة فكرية محفزة حيث كان والده أول معلم له. بدأ تعليمه المبكر في المنزل، لكنه سرعان ما التحق بمدرسة الفرندز في بلدة البيرة القريبة، مما كان بداية التزامه الدائم بالتعليم.

دفعه شغفه بالعلم إلى مواصلة تعليمه في لبنان ثم الولايات المتحدة، حيث أكمل دراسته الثانوية في ولاية ماين، ثم التحق بكلية كلارك في ماساتشوستس، وحصل في النهاية على درجة الماجستير في التربية من جامعة كولومبيا عام 1912. تركت هذه السنوات في الولايات المتحدة أثراً عميقاً في فلسفته التربوية، مما عزز إيمانه بالقوة التحويلية للتعليم.

عاد طوطح إلى البلاد عام 1912 لتولي إدارة مدرسة الفرندز في رام الله. تحت ادارته، تحولت المدرسة إلى مركز للإبداع الفكري والفني، حيث أدخل الموسيقى والفنون والدراما في المناهج الدراسية، وهي خطوة غير تقليدية في ذلك الوقت. كما كان طوطح من أشد المدافعين عن تعليم الفتيات، مُدركاً دور التعليم في تمكين المجتمع. خلال فترة إدارته، أصبحت المدرسة رمزاً للتعليم التقدمي في المنطقة، مقدمة للطلاب تجربة تعليمية شاملة ومبتكرة.

خارج إطار المدرسة، كان طوطح منخرطاً بعمق في الدعوة إلى الإصلاح التربوي، حيث رأى أن التعليم يجب أن يكون مستقلاً ومتجذراً في الثقافة المحلية، بهدف تمكين الشعب. وقد دافع عن إنشاء مناهج دراسية تعكس القيم والهوية المحلية، معتبراً التعليم أداة ليس فقط للنمو الشخصي، بل للتحرر الوطني والاجتماعي.

كما أسهم طوطح في مجال الكتابة، حيث تعاون مع بولص شحادة، رئيس تحرير صحيفة “مرآة الشرق”، في تأليف كتاب عن تاريخ القدس. وقد استكشف هذا الكتاب الغني الثقافة والتاريخ للمدينة، مسلطاً الضوء على أهميتها عبر العصور. تجسد هذه الشراكة التزام طوطح بالحفاظ على التاريخ المحلي، وتعزز أهمية العمل الجماعي في فهم إرث القدس.

إرث التعليم في كتابات طوطح

إلى جانب دوره كمربٍّ، كان خليل طوطح كاتباً غزير الإنتاج، تطرق في أعماله إلى المعاني العميقة للتعليم وتاريخه. يُعد كتابه “التربية عند العرب” من أبرز مؤلفاته، حيث استعرض فيه تطور التعليم في العالم العربي عبر العصور، وكيف تأثر بالتغيرات المجتمعية والثقافية.

التربية عند العرب

يتناول طوطح في كتابه كيف بدأ التعليم عند العرب كعملية مرتبطة بالتعاليم الدينية، حيث لعب القرآن دوراً محورياً في نشر القراءة والكتابة وتأسيس المدارس. ومع توسع الحضارة العربية، توسعت أيضاً أنظمة التعليم لتشمل العديد من المجالات مثل الأدب والعلوم والرياضيات. بالنسبة لطوطح، كان التعليم عند العرب ليس مجرد نقل للمعرفة، بل عملية تهدف إلى بناء عقل الفرد، وتشكيل الإطار الأخلاقي له.

من أبرز النقاط التي يعرضها طوطح في كتابه هي المكانة العالية التي كان يحظى بها المعلمون في المجتمع العربي. فقد كانوا يحصلون على ألقاب ومناصب مرموقة بناءً على كفاءتهم ومعرفتهم. كما يُشيد طوطح بدور النساء في الحياة التعليمية والثقافية، حيث يشير إلى أن العديد من النساء العربيات كن يتمتعن بالذكاء وحب العلم، مثل الخنساء وعائشة -رضي الله عنها-، اللواتي تركن أثراً في الأدب والشعر والتعليم.

من قلب القدس: دار المعلمات العربية

باعتبارها أعلى مؤسسة تعليمية للبنات في فلسطين الانتدابية، لعبت كلية دار المعلمات دورًا حيويًا في تشكيل مستقبل التعليم في المنطقة. كانت مكانًا يمكن للشابات فيه أن يحلمن بتجاوز القيود التي فرضها المجتمع، حيث يمكنهن الطموح إلى مهن وحياة من اختيارهن. في عام 1919، وفي مَدينة القُدس، تَأَسست كُلية دار المعلمات كأول مؤسسة تعليمية رائدة للنساء

832 629

باعتبارها أعلى مؤسسة تعليمية للبنات في فلسطين الانتدابية، لعبت كلية دار المعلمات دورًا حيويًا في تشكيل مستقبل التعليم في المنطقة. كانت مكانًا يمكن للشابات فيه أن يحلمن بتجاوز القيود التي فرضها المجتمع، حيث يمكنهن الطموح إلى مهن وحياة من اختيارهن.

في عام 1919، وفي مَدينة القُدس، تَأَسست كُلية دار المعلمات كأول مؤسسة تعليمية رائدة للنساء في فلسطين. جاءت هذه الكلية لتلبية الحاجة المُلحة إلى تَعليم الفتيات وإعدادِهنّ لِمهنة التّدريس في زَمنٍ كانت فيهِ الفُرص التعليمية للنساء محدودة. كانت الرؤية التي قامت عليها هذه المؤسسة ليست مجرد توفير التعليم، بل إعداد جيلٍ جديدٍ من المعلماتِ القادرات على النهوض بمستوى التعليم في البلاد، وفَتح آفاق جديدة للمرأة الفلسطينية في مجالات التعليم والمجتمع.

بدأت الكلية بمبادرة متواضعة، حيث كانت مُقامة في مبانٍ مستأجرة لم تكن مناسبة تمامًا لغرض التعليم. ورغم التحديات التي فَرَضَتها هذه المرافق غير الملائمة، استطاعت دار المعلمات سريعًا أن تُثبت نفسها كمركز للتعلم. كان القسط السنوي 24 جنيهًا فلسطينيًا، وهو مبلغ كبير في ذلك الوقت، لكن العديد من العائلات كانت مستعدة لدفعه مقابل أن تحصل بناتها على تعليم عالي الجودة.

في سنواتها الأولى، كان عدد الطالبات قليلًا. ففي عام 1920، لم يكن هناك سوى 23 طالبة مسجلة. وبحلول العام الدراسي 1924-1925، تضاعف العدد ليصل إلى 54 طالبة، ووصل في العام الدراسي 1945-1946 إلى 104 طالبات. جاءت هؤلاء الفتيات من مختلف أنحاء البلاد، حيث أقامت 70 منهن في القسم الداخلي بالكلية، بينما كانت البقية يأتينَ من بيوتهن كل يوم.

كانت مناهج دار المعلمات شاملة، تَعكس كلّ من الصرامة الأكاديمية والمهارات العملية اللازمة للتدريس. كان البرنامج التعليمي يمتد لخمس سنوات: أربع سنوات من التعليم الثانوي يليها سنة خامسة تركز على التدريب المهني والتربوي. قُسّم التعليم الثانوي إلى دورتين—الدورة الثانوية الدنيا التي تشمل السنة الأولى والثانية، والدورة الثانوية العليا التي تشمل السنة الثالثة والرابعة. بعد الانتهاء من التعليم الثانوي، كان على الطالبات اجتياز امتحان “المتريكوليشن”، وهو خطوة حاسمة تؤهلهن للانتقال من مرحلة الطالبات إلى مرحلة المعلمات المحترفات.

لم يكن التدريب المقدم في السنة الأخيرة مجرد تدريب أكاديمي، بل كان عمليًا أيضًا، مما يضمن أن الخريجات مستعدات بشكل جيد للتعامل مع متطلبات التدريس في المدارس الابتدائية. شملت المناهج أيضًا دروسًا في التدبير المنزلي والحياكة والخياطة، مما يعكس التوقعات المجتمعية للنساء في ذلك الوقت.

أشرَفت على المدرسة مديرة إنجليزية كرست نفسها لقيادة هذه المؤسسة، حيث عملت كمديرة ومفتشة على مدارس البنات في البلاد. تحت قيادتها، حافظت الكلية على معايير عالية، وازدادت سمعتها في الأوساط التعليمية. وبحلول عام 1946، تقدمت 20 طالبة من الكلية لامتحان “المتريكوليشن”، ونجحت 9 منهن، فيما حصلت 10 طالبات على شهادة المدرسة الثانوية. وفي نفس العام، تخرجت 19 طالبة من الصف الخامس الثانوي، مضيفات إلى العدد المتزايد من الخريجات اللواتي سيتولين مراكز تعليمية في جميع أنحاء البلاد.

لم تقتصر تأثيرات كلية دار المعلمات على حدودها الجغرافية. فبحلول عام1946، كانت الكلية قد خرّجت أكثر من 300 امرأة، معظمهن أصبحن العمود الفقري لنظام التعليم للفتيات في المدن كافة. لم تكن هؤلاء الخريجات مجرد معلمات، بل كن رائدات، والكثير منهن أصبحن شخصيات مؤثرة في مجالات متعددة. من بينهن شخصيات بارزة مثل الأديبة سميرة أبو غزالة والمذيعة فاطمة البديري، اللتين تركتا بصمات واضحة في الأدب والإعلام على حدٍ سواء.

لكن الحياة في دار المعلمات لم تكن مقتصرة على الدراسة فقط. بل كانت الكلية تقدم تعليمًا شاملًا، يتضمن التربية البدنية والأنشطة اللامنهجية. شاركت الطالبات في مختلف أنواع الرياضة، مثل الريشة الطائرة وكرة السلة وكرة الطائرة وحتى الرقص الأوروبي. كانت هذه الأنشطة أكثر من مجرد هوايات؛ فقد كانت جزءًا أساسيًا من التجربة التعليمية، تعزز روح الفريق والانضباط والرفاهية البدنية بين الطالبات.

باعتبارها أعلى مؤسسة تعليمية للبنات في فلسطين الانتدابية، لعبت كلية دار المعلمات دورًا حيويًا في تشكيل مستقبل التعليم في المنطقة. كانت مكانًا يمكن للشابات فيه أن يحلمن بتجاوز القيود التي فرضها المجتمع، حيث يمكنهن الطموح إلى مهن وحياة من اختيارهن. لم تكن الكلية مجرد مدرسة؛ بل كانت قوة مكّنت أجيالًا من النساء من أن يصبحن معلمات وقائدات ورائدات في مجتمعاتهن.

صوت الشرق: إرث بولس شحادة

نبذة عن الأديب والصحفي بولس شحادة مؤسس جريدة مرآة الشرق

شحادة بولس

في قلب مدينة رام الله عام 1882، وُلد الأديب والصحفي بولس شحادة في زمن كان على أعتاب تحولات عميقة. لم يكن أحد حينها يتوقع أنه سيصبح لاحقًا أحد أكثر الأصوات جرأة في البلاد خلال عهد الانتداب البريطاني.

نشأ بولس في بيتٍ كانت الأفكار فيه تنساب بحرية، وفي سنٍ مبكرة تعلّم أن يسأل، أن يبحث عن الإجابات، والأهم من ذلك، أن يحلم بعالم أفضل. بدأ تعليمه في مدرسة صهيون بالقدس، وهي المكان الذي فَتح َله أبَواب الفكر الجديد. ثم تابع دراسته في الكلية الإنجليزية، حيث تعرف على فلسفات جديدة وغُرس فيه مفهوم الحرية، الذي أشعل في قلبه روح الثورة.

النار التي في قلب بولس لم تكن لتخمد، وسرعان ما بدأ يستخدم صوته لتحدي العالم من حوله. بحلول عام 1907، وفي وقت كان معظم الناس يخشون التحدث بصراحة، وقف بولس أمام حشد كبير في حيفا مطالبًا بشيء لم يكن متوقعًا حينها: خلع السلطان عبد الحميد. كانت كلماته محفوفة بالمخاطر، وكان يعرف ذلك جيدًا.

لم يكن دفاع شحادة عن الحرية بلا ثمن شخصي، اذ اضطٌّرَ بعد فترة وجيزة الى الهروب إلى القاهرة، حيث وجد في شوارعها المزدحمة وأوساطها الفكرية النشطة ملاذًا في الكتابة. بدأ يكتب في صحف مثل المقتطف ومجلة الزهور، وكانت كل مقالة تحمل من القوة ما يفوق سابقتها.

لكن بولس لم يكن من النوع الذي يبقى مختبئًا لفترة طويلة. مع الإصلاحات الدستورية التي أدخلها العثمانيون في عام 1908، عاد إلى فلسطين التي أحبها. ومع عودته، انغمس في مجال التعليم والصحافة، فعمل مدرسًا في المدرسة الأرثوذكسية ببيت لحم. ومع حلول الحرب العالمية الأولى، وجد نفسه يعمل مع الجيش العثماني في بئر السبع، يتكيف مع التغيرات التي عصفت بالعالم.

 في عام 1919، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، بدأ عهد الانتداب البريطاني يلوح في الأفق، وكان هذا هو الوقت الذي وجد فيه بولس هدفه الحقيقي. انطلاقا من فهمه لأهمية الصحافة المقروءة ، و مدى تأثيرها على الوضع السياسي و الرأي العام آنذاك ، أسَّس َ شحادة جريدة مرآة الشرق، التي لم تكن مجرد صحيفة، بل حركة فكرية. من صفحاتها، شنّ بولس حملة بلا هوادة ضد القوى التي تهدد بتقسيم فلسطين. ندد بالطائفية، ودعا إلى الوحدة. كتب بلا كلل عن أهمية إشراك الفلاحين في القرارات السياسية، وعن ضرورة إصلاح التعليم، وضمان تمثيل كل فلسطيني بشكل عادل، بغض النظر عن أصله أو منطقته.

لكن كلماته كانت قوية، لدرجة أنها جلبت له الأعداء. في عام 1927، وفي ليلة هادئة من ليالي الجمعة، دَوّى صوت رصاصة في الظلام في غرفة نوم شحادة، كادت أن تصيبه وهو نائم في فراشه. كانت تلك الرصاصة بمثابة رسالة ٍ تحذيريةٍ من أولئك الذين أرادوا إسكاته. لكن بولس شحادة لم يكن ليسكت، لا بالرصاص ولا بالتهديدات، ولا حتى بقرار السلطات البريطانية إغلاق جريدته في عام 1939 بعد أن نشرت قصيدة ثورية تدعو للتمرد.

ورغم كل هذا، واصل بولس طريقه. ففي عام 1920، تعاون مع المربي خليل طوطح لتأليف كتاب تاريخ القدس، وهو أول كتاب تاريخي فلسطيني يظهر في فترة الانتداب، وكان هذا الكتاب تلخيصاُ لحبه العميق لأرضه وشعبه.

على مَدارِ حياته، واجه بولس تحديات كانت كفيلة بتحطيم الكثيرين. جريدته هوجمت، وحياته كانت في خطر دائم. لكنه لم يتراجع أبدًا، فقد ظل يكتب، يعلم، ويلهم الآخرين حتى وفاته.

توفي بولس شحادة في عام 1943، تاركًا وراءه إرثًا من الشجاعة الفكرية والالتزام العميق بالأرض. كانت حياته وعمله رمزًا للدافع نحو التقدم والهوية الوطنية خلال واحدة من أكثر العصور اضطرابًا في البلاد.

توفر المكتبة الوطنية أرشيفاً لصحيفة مرآة الشرق من الفترة الانتدابية كجزء من أرشيف جرايد.