في شمال القدس اليوم، يمرّ القطار الخفيف الّذي تمّ تشغيله رسميًا عام 2011، من محطّة جفعات هتحموشت، ومن يعتلي هذا القطار يوميًا يسمع هذا الاسم يتردّد بالتأكيد. لا يظهر الكثير للرّكاب من داخل القطار، فما يراه الرّاكب حوله من النّافذة يُشعره بأن هذه المنطقة ليست سوا مفترق طرقٍ كبير، يصل خطوط المواصلات ويربط غرب المدينة بشرقها وشمالها بجنوبها، إلّا أنّ الكثيرون لا يعلمون أنّهم يمرّون بجانب “مثلّث الموت” كما أسماه الجنود الّذين شاركوا في المعركة على القدس عام 1967 وهي ساحة لمعركة تلة الذّخيرة الشّرسة. تلك المعركة الحاسمة الّتي تقاتل فيها الجنود الأردنيّون مع اللّواء الخامس والخمسين من قوّات المظلّيين الإسرائيليّة، ومرّ من خلالها نجاح القوات الاسرائيليّة بالسّيطرة على القدس كاملة.
للتعرّف على معالم ساحة المعركة على القدس في حرب عام 1967 لا بدّ من التّطرّق إلى مآلات حرب عام 1948 في المنطقة، وكيف كانت تلّة جفعات هتحموشت تتربّع على منطقة مضطربة جغرافيّا في حين اندلاع الحرب الكبرى عام 1967، ممّا جعلها مسرحًا لهذه المعركة المفصليّة بين القوّات الأردنيّة والإسرائيليّة، والّتي وصفها البعض بالمعركة الأكثر دمويّة في تاريخ الحروب العربيّة-الإسرائيليّة على الإطلاق.
وفقًا لقرار التقسيم، كان يفترض أن تكون منطقة القدس تابعة لسيادة دوليّة، إلّا أن حرب عام 1948 أفضت لواقعٍ مختلف بدأ من عنده انقسام المدينة. فأصبح غربها بالكامل تحت السّيطرة الإسرائيليّة، وشرقها بمعظمه تحت السّيطرة الأردنيّة. وبهذا تم فصل جبل المشارف عن بقيّة الجزء الواقع تحت السّيطرة الإسرائيليّة في الغرب ومن هنا كان لا بدّ من استعادة الطّريق نحو الجبل في حرب 1967 من خلال احتلال تلّة الذّخيرة وجفعات همفتار أولًا.
بعد انضمام الأردن إلى الحرب وعمل جيشها تحت إمرة عربيّة موحّدة، كانت خطّة الجيش الإسرائيلي اقتحام التّلة من أجل الوصول إلى جبل المشارف، فبعد تأمين كلا الطّريقين بين القدس ورام الله والقدس وبيت لحم (تل الفول)، بقي تأمين الطريق نحو بلدة القدس القديمة. تلقّى لواء المظلّيين الخامس والخمسين الأمر بفتح الطّريق بين حيّ الشّيخ جرّاح وجبل المشارف وصولًا إلى متحف روكفلر، وبعد تردّدات حول التّوقيت الأنسب لشنّ الهجوم، بدأ جنود الوجدة بالتّقدّم في السّاعة الثّانية من صباح السّادس من حزيران، واندلعت هذه المعركة الّليليّة الّتي استمرّت لثلاث ساعات متواصلة.
اتّسمت معركة تلّة الذّخيرة بالدّمويّة وبالمواجهة المباشرة بين الجنود الأردنيّين والإسرائيليّين. فقد بدأ الجنود المظلّيين باقتحام أكاديميّة الشّرطة الّتي تمّ بنائها على يد الانتداب البريطاني وبقيت تحت السّيطرة الأردنيّة منذ تمكّنت منها عام 1948 وحتّى هذه اللّحظة من المعركة. وبعد أن تمّت السّيطرة عليها بسهولة بدأ الجنود بالتّحرك للهجوم على الحصن الأردني جنوب الأكاديميّة، ومنذ اللّحظة الأولى بدأ تبادل إطلاق النّيران بشراسة بين الجهتين. كان الحصن الأردنيّ محاط بالأسلاك الشّائكة وبحقول الألغام، كما أحيط من ثلاث جهات بقنوات حُفرت عميقًا ليطلق الجنود النّار من داخلها دون تعريض أجسادهم للخطر، بالإضافة إلى أنفاق ومنشئات بسيطة تحت الأرض أُعدّت للتّنقل الآمن بين أنحاء الحصن وربطه كذلك بناحية الأكاديميّة. بعد انضمام عناصر إضافيّة للمساعدة، تمكّن المقاتلون الإسرائيليّون من التّقدّم لمساحة كافية بحيث سمحت لهم مواقعهم بتفجير مخابئ المقاتلين الأردنيّين ممّا حسم نتيجة المعركة، وهكذا تمّت السّيطرة على تلّة الذّخيرة بالكامل بعد القضاء على السّرية الأردنيّة بأكملها تقريبًا، وسقوط أربعة وثلاثين جندي من القوّات الإسرائيلية.
لتخليد ذكرى المعركة، في “يوم القدس” الثّامن تمّ افتتاح موقعًا رسميًا في تلّة الذّخيرة يمكن زيارته لمشاهدة المخابئ والقنوات، بالإضافة إلى مبنى حديث بمثابة نصب تذكاري ليكون شاهدًا على معارك القدس بمجملها حيث تُعرض بعض الأسلحة والصّور والشّروحات، وفي ساحة الموقع تقوم الاحتفالات الرّسميّة بذكرى انتصار إسرائيل عام 1967، باعتبار هذا الموقع الأهم لثقل هذه المعركة وأثرها على بقيّة الحرب.
أراد الملك عبدالله في حرب 1948 الحفاظ على القدس بأي ثمن، ويقال أنه كلّم الضّباط الأردنيّين بنفسه قائلًا “القدس القدس، لآخر طلقة ولآخر رجل”، ويبدو أن هذه المقولة كانت تدوي كذلك بعد عشرين عامًا في نفوس الجنود الأردنييّن الّذين لقوا حتفهم في معركة جفعات هتحموشت أو تلّة الذّخيرة عام 1967 ويقدّر عددهم بثمانية وتسعين. وما زالت أرض المعركة إلى اليوم تكشف تفاصيلًا وقصّصًا مخبأة، ففي العام السّابق على سبيل المثال، وجدت بقايا رفات ومتعلّقات لجندي أردني منها خنجر وساعة يد وخوذة. ولا بدّ أن تلّة الذّخيرة الّتي احتفظ اسمها بطابعها الحربيّ، ما زالت تخبّئ المزيد من القصص والتّفاصيل الدّفينة لمعركة شديدة الدّمويّة وكبيرة الأثر.