رجل يدخّن نارجيلة من القدس، 1875، التقطت بعدسة المصوّر الإنجليزي فرانك ميسون غود (1839-1928)، من مجموعة المكتبة الوطنية الإسرائيلية
الشرق الأوسط عاشق للسجائر. حتى مع انخفاض استهلاك التبغ عالميًا، لا يزال التدخين رائجًا في بيروت والقاهرة، والرياض- وفي تل أبيب أيضًا، بل وتشهد بعض البلدان ارتفاعًا في معدّلات التدخين. يشير تقرير صدر مؤخّرًا إلى أنّ الأردن هي من البلدان الأكثر استهلاكًا للتبغ في العالم: أكثر من %80 من الرجال الأردنيين هم مدخنون منتظمون، بمعدّل 23 سيجارة في اليوم.
في مديح التدخين وذم والمُدخنين
مع أنّ التبغ يبدو جزءًا من النسيج الحياتي اليومي للمنطقة في عصرنا الحالي، إلّا أنّه لم يكن دومًا كذلك. عندما أدخل التبغ، القادم من الشعوب الأصلانية في العالم الجديد، لأول مرة إلى الإمبراطورية العثمانية في منتصف القرن السادس عشر، أثار الأمر جدلًا حادًا. هل التبغ مفيد أم مضر؟ هل التدخين مباح في الإسلام، أم يجب تحريمه؟
العديد من الواعظين، القادة الدينيين والمسؤوليين الحكوميين خاضوا هذا الجدل. ولكن أحد أبرز الأصوات في حينه كان عبد الغني النابلسي، شخصية فريدة، ومفكّر وفقيه صوفي ذو نفوذ قوي. كتب النابلسي أطروحة في مديح التدخين، الصلح بين الإخوان في حكم إباحة الدخان، والمخطوطة المأخوذة عن النسخة المدوّنة بخط يد المؤلّف نفسه، والتي تعود إلى العام 1774، هي واحدة من أعمال النابلسي العديدة الموجودة في المكتبة الوطنية الإسرائيلية. كيف أمكن لهذا الصوفي المتنسّك أن يكون أحد أبرز المدافعين عن التبغ؟
اقرأ/ي أيضًا: مؤلفات وكتب الشيخ عبد الغني النابلسي، فتاوى وقصائد، وعلم الأنساب
عندما أُحضر التبغ إلى الشرق الأوسط لأول مرة عن طريق أوروبا، اعتبر في حينه علاجًا طبيًا مبتكرًا لجميع العلل، ابتداءً من الحروق وحتى التسمّم. ولكن بحلول العقد الأول من القرن السابع عشر، مع ازدياد استهلاك النساء والرجال للتدخين الترفيهي، ازداد الاعتراض على هذه العادة. إحدى المعضلات بخصوص التبغ، من منظور ديني، كانت عدم وروده في القرآن، في الأحاديث النبوية الشريفة وفي قوانين الشريعة الإسلامية، لكونه منتجًا جديدًا.
أمام هذا الصمت، تعالت أصوات عديدة معارضة لاستهلاك التبغ. بإسناد حججهم إلى القياس، وهي طريقة شائعة في أصول الفقه الإسلامي، ادعى هؤلاء أنّه يمكن مقارنة التبغ بمادة محرّمة أخرى، وهي الخمور. ادّعى النقاد أنّ للتبغ آثار “مُسكرة” مماثلة، كالدَوار الذي يصيب المدخنين الجدد مثلًا.
بالإضافة إلى الحجج الدينية، ادّعى النقاد أنّ التبغ مضرّ بالصحة: إذ أنّه يُضعف الجسم، يسبب رائحة كريهة ويؤدي إلى تبلّد الحواس. كان المدخّنون أيضًا قذرين، وتغطت ملابسهم بالرماد والبقع. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ هذا التلوّث الجسدي، كما سماه البعض، كان مصحوبًا بنجاسة أخلاقية أشدّ وطأة. بالنسبة لهؤلاء، كان التدخين يسبّب الخمول، واعتُبر بمثابة بدعة محفوفة بالمخاطر بطبيعتها.
كتب جيمس غريهان في مقالة له عن الموضوع: “في التصوّرات الأكثر ترهيبًا، فإنّ الدخان والنار المرافقين لإشعال الغليون، يستحضران في أذهاننا نار الجحيم واللعنة الأبدية. حذّر النقاد من أنّ المدخنين سيظهرون في يوم القيامة بوجوه مسوّدة، ونراجيل تحيط بأعناقهم، حتى ذلك الحين، سيحترقون في قبورهم، تمامًا مثل التبغ الذي يدّخنونه.”
الاعتراض على استهلاك التبغ لم يقتصر على أوساط المفكرين والمثقّفين. فقد حاولت السلطات العثمانية مرارًا وتكرارًا حظر ومصادرة التبغ. ومع أنّ محاولاتها تلك باءت بالفشل، إلّا أنّ هذه الإجراءات الصارمة كانت مصحوبة بمحاولات وحشية ودامية لإنفاذ القوانين.
النابلسي، انتاج غزير وعشقٌ للسيجارة
لم يكن النابلسي في بداية الأمر شغوفًا بالتدخين. ولدَ النابلسي في دمشق في عام 1641 لعائلة من أصول مقدسية، وكان فقيهًا صوفيًا متنسكًا وكاتبًا غزير الإنتاج، فقد ألّف أكثر من 250 عملًا. لكثرة اهتماماته ومجالاته المعرفية، كتب النابلسي شروحًا لكتب علماء صوفيين سابقين، خاصة ابن عربي الذي عاش في القرن الثالث عشر، بالإضافة إلى شروح الشعر، قصص الرحلات، كتب الفن المعماري والزراعة وكتب القانون. خلال حياته، ولمدّة تزيد عن قرن بعد وفاته، بقي النابلسي شخصية مؤثّرة ومهمّة، من خلال كتاباته والحلقات الواسعة التي جمعت العديد من تلامذته. لا عجب إذًا أن تضم المكتبة الوطنية مخطوطات لستة وعشرين عملًا من أعماله، بالإضافة إلى العديد من الأعمال الأخرى التي نسخها بنفسه أو امتلكها.
دافع النابلسي عن التدخين ضد مهاجميه على عدة جبهات، ومع أنّه لم يبدأ بالتدخين إلّا خلال سفراته إلى مكة بعد نحو عقد من الزمن، إلّا أنّ حججه كانت قوية ومتينة عندما ألّف الكتاب في عام 1682.
فيما يخص الصحة، أنكر النابلسي وجود علاقة بين التدخين والمرض، وادّعى أنّ الأطباء الذين وصفوا التبغ كعلاج يعرفون عملهم أكثر من النقاد عديمي الخبرة في الطب.
في الواقع، يفتتح النابلسي كتابه هذا بمثل هذه الحجج الطبية. في السطور الأولى، يحمد النابلسي الله على أنّ التبغ مفيد للجسم: “الحمد لله الذي جعل استعمال الدخان التتن نافعا لتجفيفه للرطوبات الزائدة في الأجسام، ومحللا لما تكاثف في الصدر من لزوجة البلغم ومهضما من المعدة ثقل الطعام…”. “بالإضافة إلى ذلك، فإنّ فاعليته ضد السموم أثبتت في الأدبيات الطبية”، يضيف في كتابه، “خصوصا سم العقرب”.
ما وراء الدخان يظهر سؤال الحداثة
ولكن حججه المثيرة للاهتمام تتناول مكانة التبغ في الشريعة الإسلامية. فاحتج على مزاعم القائلين إنّ التبغ هو “بدعة”، معلّلًا أنّهم مضلّلين بالأحكام المسبقة، الجهل والتعصب الأعمى. كتب النابلسي أنّ قراره بكتابة الأطروحة لم يكن نابعًا من حبّه للتدخين أو من رغبته المجرّدة في المشاركة في الجدل الدائر حول التبغ، بل لاكتشاف الحقيقة حول هذا الموضوع. يرفض استخدام القياس من قبل معارضي استهلاك التبغ، وقال إنّه بغياب نص دينيّ يحظر استهلاك هذه المادة، فإنّها يجب أن تكون مباحة. مع أنّ السياق هنا يُعنى فقط بإباحة التدخين، إلّا أنّ التمييز بين الحقيقة والقانون، وبين العلماء الصوفيين الأجلّاء الذي يولون اهتمامًا للحقيقة وعلماء القانون الذين يولون اهتمامهم للقانون، هو موضوع مركزي ومتكرر في فكر النابلسي.
إذا نظرنا إلى جوهر الأمور، يمكننا القول إنّ حجج النابلسي توازي الدفاع عن قيمة مألوفة لنا جميعًا، ولكنها كانت في حينه فكرة جديدة وراديكالية: المتعة. بإتاحة المجال للتدخين، اقترح النابلسي وجوب منح حيز أكبر للحياة الشخصية وللمتعة الشخصية، طالما لم تتجاوز بوضوح قيود الشريعة الإسلامية.
إلى حد كبير، كان النابلسي يتتبّع أعقاب التغييرات الاجتماعية الحاصلة في حينه. لاقى التبغ، كالقهوة من قبله، رواجًا واسعًا لأنّه كان مرتبطًا بالأنس والمخالطة، وشجّع على تبادل الأحاديث وطمس الحدود الاجتماعية، خاصةً في المقاهي التي شكلّت ملتقى لأبناء الطبقات الاجتماعية المختلفة، حيث أمكنهم الاسترخاء وتبادل الأحاديث، وكان التبغ والمشروبات بمثابة وقود تبعث الحياة في هذه اللقاءات. في تأليفه لكتابه هذا عند منعطف الحداثة، فإنّ النابلسي لم يدافع عن التدخين فحسب، بل عن مفهوم ممارسة الحداثة نفسها.