أعدت السلطات الانتدابية في النصف الأول من القرن العشرين مجموعة من الخرائط المميزة للقدس وكانت، في حينه، لأهداف عملية واضحة، مثل خرائط المواصلات والطرقات وغيرها، اليوم وبعد أكثر من سبعين عاماً على انتهاء الانتداب صارت هذه الخرائط مرجعاً مهماً يمدنا بمعلومات مهمة بحيث توفر لنا هذه الخرائط فرصة مميزة وجميلة للتعرف على القدس في حقبة مميزة ومرحلة مهمة من مراحل تشكلها، إذ تمنحنا القدرة على التجول في الشوارع، التعرف على الحارات والأحياء، الوقوف أمام المباني والبيوت التاريخية ومقاربة الواقع كما كان، ما يمدنا بمعرفة ثمينة حول تطور المدينة، وتجربة شعورية جميلة حول الفارق بين الماضي والحاضر.
في أرشيف المكتبة الوطنية الاسرائيلية هناك أكثر من مائتي خارطة تاريخية مميزة للقدس بجودة عالية ومتاحة للاستخدام، والتي أنتجت بين السنوات 1486-1947، بلغات وأشكال مختلفة وتوثق مدينة القدس كما رسمها الجغرافيون، المؤسسات والدول، والتي تكشف جمال المدينة وتفاصيلها المدهشة، وتوثق المراحل المختلفة. هناك من رسم مسلطاً الضوء على التفاصيل المسيحية، هناك من ركز على التفاصيل اليهودية وهناك من اهتم بالتفاصيل والوجود الإسلامي فيها، مئات الخرائط بمختلف اللغات والثقافات لتعكس القدس ببساطة هوية صاحبها لا هوية المدينة ذاتها والتي تعتبر مزيجاً جميلاً ومميزاً من الهويات والثقافات توفر لكل زائر مقصده.
جولة في القدس:
عام 1924 قامت مصلحة المساحة العمومية في مصر بإنتاج خارطة للقدس، لأن الانتداب لم يكن قد شكل هيئة للمساحة في القدس بعد، وبالتالي قامت المصلحة المصرية بفعل ذلك وكان هدف الخارطة التعريف بشوارع القدس والمباني الهامة في المدينة.
يوضح لنا هذا الجانب من الخريطة الكثير من المواقع الرئيسية في القدس من أبواب المدخل القديمة، الكنائس والمساجد، والمؤسسات الرسمية كالبلدية ودائرة البريد. كما يظهر أسماء العديد من الشوارع؛ بعضها لا يزال يحمل نفس الاسم كشارع السلطان سليمان وبعضها تغيرت كطريق بردويل الأول.
يظهر في الصورة أقصى اليمين مباني الجامعة العبرية والتي كانت قد بنيت وتنتظر اطلاقها حيث ستفتتح سنة واحدة بعد هذه الخريطة عام 1925، كما يظهر أن مستشفى هداسا ليس بجانبها، بل بجوار المسكوبية (السجن المركزي) وإلى يسار دار المهاجرة، في حين يظهر اسم المكتبة العبرية، وهو الاسم السابق للمكتبة الوطنية الاسرائيلية حيث يظهر مبناها حين كان المقر بجانب مسجد النبي عكاشة.
إن جولة في الخريطة توفر إطلالة مدهشة على القدس في بداية الانتداب البريطاني كما لا يمكن أن يوفر أي مصدر تاريخي آخر من تلك الفترة.
جولة في المسجد الأقصى:
عند التجول في البلدة القديمة، حتماً، لا بد من المرور بالمسجد الأقصى والتعرّف على معالمه من مصليات، بوائك، قباب وأبواب. في الخريطة المرفقة أدناه، الجاري مسحها في العام 1942، بينما صدرت في العام 1944 من دائرة مسح فلسطين، تبين معالم وساحات المسجد الأقصى بدقة وتفصيل وباللغة العربية أيضاً. تم الحصول على مسح بعض المباني من مسح سابق من العام 1865. وتم تأطير الخريطة بإطار زخرفي يحاكي إطار حائط الجزء الجنوبي للمسجد الأقصى.
جولة خارج القدس:
وفي حال أردتم التجول خارج القدس، فإن خارطة فلسطين للسيارات توفر فرصة فريدة من نوعها، فالخريطة التي أعدت عام 1934 بإشراف مدير المساحة في فلسطين تحوي معلومات هامة عن الشوارع الهامة في المدن الرئيسية كيافا وحيفا والقدس، كما تحوي جدول المسافات بين كل مدينة ومدينة، وبين مدن البلاد ومدن الأردن ومصر وسوريا ولبنان.
إن التمعن في الخارطة أعلاه، يوضح الكثير من التفاصيل حول المواصلات في الحقبة الانتدابية، حيث تشير الخطوط الحمراء لشوارع سيارات جيدة، في حين أنّ الخطوط السوداء المتقطعة تشير إلى شوارع بحالة سيئة، وبالتالي يمكن الاستنتاج أن المواصلات كانت سهلة ومتاحة بين المدن الرئيسية في حين أن غالبية شوارع القرى لا تصلح للسفر.
كما توضح الخارطة شوارع السيارات وطرق القطارات (الحمراء المتقطعة) وهو ما يعد مدخلاً جيداً ليس فقط لدراسات المواصلات، بل لدراسة تنقلات الفلسطينيين في فترة الانتداب والتي لا بد أن تتلائم بحسب خطوط المواصلات، فالقرى التي كانت يمر من جانبها خطوط مواصلات جيدة، كان يمكن لأبنائها أن يسافروا نحو المدينة للعمل وهو موضوع يستحق البحث على ضوء خرائط مميزة مثل هذه.
إن الخارطة أعلاه بموازاة خارطة الشوارع في القدس وخرائط أخرى، تمكننا من السفر عبر الزمن وتعلم المساحات والأماكن مجدداً وهو مساحة تستحق البحث والتأمل.
الخرائط السابقة برزت في فترة الانتداب البريطاني على البلاد فيما يعرف بـ خرائط مسح فلسطين Survey of Palestine، منها ما أعيد إنتاجه عن الفترة العثمانية، ومنها ما تم إنتاجه وابتكاره لدراسات استعمارية في مجال الثقافة والعمران والبنى التحتية.