جولة في القدس: أبنية وطرق عبر خرائط الانتداب البريطاني

أعدت السلطات الانتدابية في النصف الأول من القرن الـ 20 مجموعة من الخرائط للقدس، اليوم، صارت هذه الخرائط مرجعاً لدراسة الفارق بين الماضي والحاضر.

أعدت السلطات الانتدابية في النصف الأول من القرن العشرين مجموعة من الخرائط المميزة للقدس وكانت، في حينه، لأهداف عملية واضحة، مثل خرائط المواصلات والطرقات وغيرها، اليوم وبعد أكثر من سبعين عاماً على انتهاء الانتداب صارت هذه الخرائط مرجعاً مهماً يمدنا بمعلومات مهمة بحيث توفر لنا هذه الخرائط فرصة مميزة وجميلة للتعرف على القدس في حقبة مميزة ومرحلة مهمة من مراحل تشكلها، إذ تمنحنا القدرة على التجول في الشوارع، التعرف على الحارات والأحياء، الوقوف أمام المباني والبيوت التاريخية ومقاربة الواقع كما كان، ما يمدنا بمعرفة ثمينة حول تطور المدينة، وتجربة شعورية جميلة حول الفارق بين الماضي والحاضر.

 

في أرشيف المكتبة الوطنية الاسرائيلية هناك أكثر من مائتي خارطة تاريخية مميزة للقدس بجودة عالية ومتاحة للاستخدام، والتي أنتجت بين السنوات 1486-1947، بلغات وأشكال مختلفة وتوثق مدينة القدس كما رسمها الجغرافيون، المؤسسات والدول، والتي تكشف جمال المدينة وتفاصيلها المدهشة، وتوثق المراحل المختلفة. هناك من رسم مسلطاً الضوء على التفاصيل المسيحية، هناك من ركز على التفاصيل اليهودية وهناك من اهتم بالتفاصيل والوجود الإسلامي فيها، مئات الخرائط بمختلف اللغات والثقافات لتعكس القدس ببساطة هوية صاحبها لا هوية المدينة ذاتها والتي تعتبر مزيجاً جميلاً ومميزاً من الهويات والثقافات توفر لكل زائر مقصده.

 

جولة في القدس:

عام 1924 قامت مصلحة المساحة العمومية في مصر بإنتاج خارطة للقدس، لأن الانتداب لم يكن قد شكل هيئة للمساحة في القدس بعد، وبالتالي قامت المصلحة المصرية بفعل ذلك وكان هدف الخارطة التعريف بشوارع القدس والمباني الهامة في المدينة.

 

خارطة شوارع القدس، مصلحة المساحة العمومية في مصر. مجموعة عيران لَئور للخرائط، المكتبة الوطنية الإسرائيلية.
خارطة شوارع القدس، مصلحة المساحة العمومية في مصر. مجموعة عيران لَئور للخرائط، المكتبة الوطنية الإسرائيلية.

 

يوضح لنا هذا الجانب من الخريطة الكثير من المواقع الرئيسية في القدس من أبواب المدخل القديمة، الكنائس والمساجد، والمؤسسات الرسمية كالبلدية ودائرة البريد. كما يظهر أسماء العديد من الشوارع؛ بعضها لا يزال يحمل نفس الاسم كشارع السلطان سليمان وبعضها تغيرت كطريق بردويل الأول.

يظهر في الصورة أقصى اليمين مباني الجامعة العبرية والتي كانت قد بنيت وتنتظر اطلاقها حيث ستفتتح سنة واحدة بعد هذه الخريطة عام 1925، كما يظهر أن مستشفى هداسا ليس بجانبها، بل بجوار المسكوبية (السجن المركزي) وإلى يسار دار المهاجرة، في حين يظهر اسم المكتبة العبرية، وهو الاسم السابق للمكتبة الوطنية الاسرائيلية حيث يظهر مبناها حين كان المقر بجانب مسجد النبي عكاشة.

إن جولة في الخريطة توفر إطلالة مدهشة على القدس في بداية الانتداب البريطاني كما لا يمكن أن يوفر أي مصدر تاريخي آخر من تلك الفترة.

جولة في المسجد الأقصى:

عند التجول في البلدة القديمة، حتماً، لا بد من المرور بالمسجد الأقصى والتعرّف على معالمه من مصليات، بوائك، قباب وأبواب. في الخريطة المرفقة أدناه، الجاري مسحها في العام 1942، بينما صدرت في العام 1944 من دائرة مسح فلسطين، تبين معالم وساحات المسجد الأقصى بدقة وتفصيل وباللغة العربية أيضاً. تم الحصول على مسح بعض المباني من مسح سابق من العام 1865. وتم تأطير الخريطة بإطار زخرفي يحاكي إطار حائط الجزء الجنوبي للمسجد الأقصى.

 الحرم الشريف، خرائط مسح فلسطين، 1944، مجموعة عيران لئور، المكتبة الوطنية الإسرائيلية.

الحرم الشريف، خرائط مسح فلسطين، 1944، مجموعة عيران لئور، المكتبة الوطنية الإسرائيلية.

 

 

جولة خارج القدس:

وفي حال أردتم التجول خارج القدس، فإن خارطة فلسطين للسيارات توفر فرصة فريدة من نوعها، فالخريطة التي أعدت عام 1934 بإشراف مدير المساحة في فلسطين تحوي معلومات هامة عن الشوارع الهامة في المدن الرئيسية كيافا وحيفا والقدس، كما تحوي جدول المسافات بين كل مدينة ومدينة، وبين مدن البلاد ومدن الأردن ومصر وسوريا ولبنان.

خارطة شوارع القدس عام 1934، مجموعة عيران لئور، المكتبة الوطنية الإسرائيلية
خارطة شوارع القدس عام 1934، مجموعة عيران لئور، المكتبة الوطنية الإسرائيلية

 

إن التمعن في الخارطة أعلاه، يوضح الكثير من التفاصيل حول المواصلات في الحقبة الانتدابية، حيث تشير الخطوط الحمراء لشوارع سيارات جيدة، في حين أنّ الخطوط السوداء المتقطعة تشير إلى شوارع بحالة سيئة، وبالتالي يمكن الاستنتاج أن المواصلات كانت سهلة ومتاحة بين المدن الرئيسية في حين أن غالبية شوارع القرى لا تصلح للسفر.

كما توضح الخارطة شوارع السيارات وطرق القطارات (الحمراء المتقطعة) وهو ما يعد مدخلاً جيداً ليس فقط لدراسات المواصلات، بل لدراسة تنقلات الفلسطينيين في فترة الانتداب والتي لا بد أن تتلائم بحسب خطوط المواصلات، فالقرى التي كانت يمر من جانبها خطوط مواصلات جيدة، كان يمكن لأبنائها أن يسافروا نحو المدينة للعمل وهو موضوع يستحق البحث على ضوء خرائط مميزة مثل هذه.

إن الخارطة أعلاه بموازاة خارطة الشوارع في القدس وخرائط أخرى، تمكننا من السفر عبر الزمن وتعلم المساحات والأماكن مجدداً وهو مساحة تستحق البحث والتأمل.

الخرائط السابقة برزت في فترة الانتداب البريطاني على البلاد فيما يعرف بـ خرائط مسح فلسطين Survey of Palestine، منها ما أعيد إنتاجه عن الفترة العثمانية، ومنها ما تم إنتاجه وابتكاره لدراسات استعمارية في مجال الثقافة والعمران والبنى التحتية.

رحلة مدرسة روضة المعارف: أكثر من أربعين عاماً في نشر المعرفة

الشيخ محمد الصالح وتأسيس مدرسة وطنية (عام 1906) خطوة ملفتة ترتكز على اللغة العربية كمادة للتدريس، وتبث التوّجهات الوطنية في قلوب الطلبة المنتسبين إليها، إليكم مدرسة روضة المعارف

مع ازدياد حالات التتريك التي شهدتها البلاد في نهاية الحقبة العثمانية، اتخذ الشيخ محمد الصالح خطوة ملفتة؛ حيث ذهب إلى تأسيس مدرسة وطنية (عام 1906) ترتكز على اللغة العربية كمادة للتدريس، وتبث التوّجهات الوطنية في قلوب الطلبة المنتسبين إليها. بدت الخطوة متواضعة وبمساعدة مجموعة من زملاء الشيخ منهم: الشيخ حسن أبو السعود، إسحق درويش، عبد اللطيف الحسيني، والتي اعتبرت خطوة جريئة ومميزة في فترة مضطربة من تاريخ فلسطين العثماني.

الشيخ محمد الصالح والأستاذ عبد اللطيف الحسيني، مجلة روضة المعارف. العدد الأول، كانون الثاني 1932
الشيخ محمد الصالح والأستاذ عبد اللطيف الحسيني، مجلة روضة المعارف. العدد الأول، كانون الثاني 1932

 

الشيخ محمد الصالح والأستاذ عبد اللطيف الحسيني، مجلة روضة المعارف. العدد الأول، كانون الثاني 1932
الشيخ محمد الصالح والأستاذ عبد اللطيف الحسيني، مجلة روضة المعارف. العدد الأول، كانون الثاني 1932

ولى في طريق الآلام بحسب المعتقد المسيحي، وبدأت ببث الحسّ العروبي لدى الطلبة، حيث كانت تعلّم باللغة العربية وإلى جوارها اللغتين التركية والفرنسية. كما تم إنشاء قسم للتعليم الليلي لاستغلال الوقت في تدريس الوقت حيث درس في المدرسة حوالي 360 تلميذاً، كما تذكر مجلة المنادي في 16 تموز 1912. لكن الواقع لن يستمر؛ فمع اندلاع الحرب العالمية الأولى ستسقط الدولة العثمانية وتنسحب من القدس، وستفرض بريطانيا نظاماً جديداً يتبدل فيه الشعور الفلسطيني بالخطر، فإذا كان في الفترة العثمانية الخوف على اللغة العربية، فهذه المرة الخوف هو على المكان نفسه؛ جراء الصراع بين الفلسطينيين وبين الحركة الصهيونية.

مع تأسيس المجلس الإسلامي الأعلى، باتت المدرسة إحدى المشروعات المهمة التي يمولها، وبالتالي توّفر الاستقرار المادي من المجلس ساهم في انطلاقة وتطور نشاطات المدرسة فأصدرت بدءًا من تلك الفترة مجلة مميزة.

مجلة روضة المعارف، العدد الثالث والرابع، سنة 1922
مجلة روضة المعارف، العدد الثالث والرابع، سنة 1922

 

روضة المعارف التي سرعان ما تحوّلت إلى كلية، استطاعت استقطاب نخبة من المثقفين الفلسطينيين، فأنشأت اللجنة العلمية لتطوير موضوعات العلوم والبحث والكتابة فيها، كما طوّرت لجان أخرى في مختلف المجالات كاللجان الرياضية، لجنة الكشافة، لجنة اللغة الانجليزية، اللجان الصناعية، لكن الكلية لم تستقطب المثقفين فقط لأغراض التدريس، بل استعانت بهم لتتحول إلى مساحة فنية وثقافية حيث شهدت عشرات النشاطات السياسية، الثقافية والفنية المميزة.

جريدة الجامعة العربية، 15 تموز 1929. لقراءة أخبار عن روضة المعارف الصحف الفلسطينية
جريدة الجامعة العربية، 15 تموز 1929. لقراءة أخبار عن روضة المعارف الصحف الفلسطينية

في عام 1938 أخلت القوات البريطانية المبنى وسيطرت عليه من أجل استخدامه كنقطة شرطية للسيطرة على الحالة الأمنية داخل المدينة في ظل اشتداد الثورة الفلسطينية، وهو ما اضطر الكلية إلى ترك مبناها التاريخي والذي عملت فيه لأكثر من ثلاثين عام والبحث عن مكان بديل.

اللجنة العلمية، مجلة روضة المعارف. العدد الثاني، آذار 1932
اللجنة العلمية، مجلة روضة المعارف. العدد الثاني، آذار 1932

 

كان المكان البديل الذي استأجرته الكلية هو في باب الساهرة، والذي ظلت فيه أكثر من عشر سنوات حتى أعلنت الحكومة عن نيتها ترك المبنى وإعادته إلى ملكية روضة المعارف.

 

جريدة فلسطين، 13 آب 1947
جريدة فلسطين، 13 آب 1947

 

ستكون العودة إلى المبنى القديم عودة مؤقتة، ستندلع المعارك في عام 1948، وسينتهي الانتداب البريطاني عن البلاد، وستخضع القدس الشرقية للسيطرة الأردنية.

فمع اندلاع المعارك سنة 1948 ستقفل المدرسة أبوابها، ولن تعاود الافتتاح، ومع انتهاء مرحلة الانتداب وإعلان السلطات الأردنية ضمها لمنطقة القدس الشرقية ستكون روضة المعارف شيئاً من الماضي، وفي مبناها التاريخي ستنطلق مدرسة جديدة في مسيرتها هي المدرسة العمرية والتي ستعمل في نفس المبنى، لكنها ستتوقف أيضاً عن العمل عام 1967، لتظل مدرسة روضة المعارف كالمدرسة العمرية كالمدرسة الجاولية وغيرها من المدارس التي عملت في نفس المبنى، مادة تاريخية ومساحات ساهمت في تعليم وتثقيف الفلسطينيين على مدار سنين طويلة من التاريخ.

 

 

الكتابة حول بيت المقدس من باعث النفوس إلى الأنس الجليل

شكلت مدينة القدس مركزاً لأدب الفضائل وحازت على مساحة كبيرة ضمن الكتب المنشورة حولها، ومن هذه الكتب كتاب باعث النفوس في زيارة القدس المحروس.

باعث النفوس في زيارة القدس المحروس

في مطلع القرن الرابع عشر، نشر الفقيه أبو اسحق إبراهيم بن عبد الرحمن ابن الفركاح الفرازي (1262-1329) كتابه الذي ترون تحت عنوان “باعث النفوس في زيارة القدس المحروس” والذي يعدّ أحد الكتب المهمة حول القدس ومكانتها في الفكر التراث الإسلامي، وهو من الكتب التي سعت إلى حثّ المسلمين على زيارة ولذلك حمل عنوان “باعث النفوس”، فالهدف أن يبعث في نفس القارئ رغبة الزيارة.

جاء هذا النوع من الكتابة مرافقاً ومواكباً للحملات الصليبية واحتلالها للمدن الإسلامية، فنشأ هذا النوع الأدبي تحت عنوان “أدب فضائل القدس”. وأدب الفضائل هو الأدب الذي يركز على فضائل المدينة المقدسة، والذي يهتم بإدراج الأحاديث النبوية والقيمة المميزة للمدينة كما ورد في الفقه الإسلامي، كما يهتم أدب الفضائل بتفصيل قدسية الأماكن والمواقع، بما فيها المساجد والمواقع والمقامات والمزارات، كما يهتم بالحثّ على زيارة المدينة وعلى مقدار الخير في ذلك وفي فضل وقيمة كل خير يتم فيها. وبالتالي فالهدف العام لأدب الفضائل كما يتجلى هو تعزيز العلاقة بين المسلمين وبين القدس لاجل التواجد فيها وحمايتها.

شكلت مدينة القدس مركزاً لأدب الفضائل وستكون هناك مدنٌ أخرى ستحظى بذلك أيضاً كمكة والمدينة والخليل وغيرهم، ولكن الكتب حول القدس كانت أكثر عدداً وأكثر زخماً على خلاف المدن الأخرى، ربما لمكانة القدس ولكونها أيضاً محطّ أمل الصليبيين ومركزاً للصراع بينهم وبين المسلمين؛ حيثُ دارت الحروب حولها لأكثر من ثلاثة قرون ورضخت المدينة خلالها لسيطرة الحكم الصليبي لمدة سبعة عقود، وبالتالي تطوّرت خلال هذه السنين أدبيات مميزة وملفتة أنتجها كبار علماء المسلمين مثل ابن عساكر (1106-1176) في كتابه “المستقصى في فضائل المسجد الأقصى” أو كتاب أمين الدين بن هبة الله الشافعي “كتاب الأنس في فضائل القدس” وابن الجوزي (1116-1201) “فضائل القدس”.

هدفت هذه المؤلفات إلى تثبيت مركزية القدس في الوعي الإسلامي وإلى خلق إجماع إسلامي حول أهميتها وتعزيز العلاقة بين المسلمين وبين المدينة، في مسعى لتوطيد العلاقة وحثهم على الدفاع عنها وحمايتها، وهو ما حدث في حقبة القائد صلاح الدين الأيوبي وفي حقبة الظاهر بيبرس، وفي حقب مختلفة على مر التاريخ.

باعث النفوس في زيارة القدس المحروس
 باعث النفوس في زيارة القدس المحروس

موضوعات الكتاب كما وردت في المخطوطة

إنّ كمية الكتب والمؤلفات الذي كتبت في هذا الإطار، تعكس كم الجهد المبذول، سحرت هذه الكتب أجيالاً من المسلمين والعرب ليس للدفاع عن المدينة فحسب، بل إلى زيارتها والكتابة عنها وهو ما يُدرج اليوم تحت عنوان “أدب الرحلات” حيث كتب في هذا النوع الأدبي حول القدس الكثير من الرحالة المسلمين المهمين من بينهم المؤرخ ناصر خسرو (1004-1088)، الجغرافي الإدريسي (1100-1165)، الرحالة ابن جبير (1145-1217)، الشيخ الأكبر ابن عربي (1165-1240)، والرحالة ابن بطوطة (1304-1377)، والفقيه عبد الغني النابلسي (1641-1731) وغيرهم.

سيكون أضخم عمل كتب في هذا الباب هو مؤلف قاضي القضاة عبد الرحمن بن محمد العليمي المقدسي والذي عاش في أواسط القرن الخامس عشر (ولد غلم 860 هجري، 1455 ميلادي) وقد لخّص تقريباً كل ما كتب عن القدس خلال مئات السنين، من كتابات الرحّالة والمؤرخين وحتى كتابات العلماء والفقهاء، حيث لخّص كل ذلك في عمله الموسوعي “الأنس الجليل، في تاريخ القدس والخليل” واعتبر، لسنين طويلة، خلاصة ما كتب في تاريخ القدس على مر التاريخ قاطبة.

مخطوطة الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل
مخطوطة الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل

يقول العليمي في مطلع كتابه: “فإن بعض العلماء كتب شيئاً يتعلق بالفضاء فقط، وبعضهم تعرّض لذكر الفتح العمري وعمارة بني أمية، وبعضهم ذكر الفتح الصلاحي، واقتصر عليه ولم يذكر ما وقع بعده، وبعضهم كتب تاريخاً تعرض فيه لذكر بعض جماعة من أعيان بيت المقدس مما ليس فيه فائدة كبيرة، فأحببت أن أجمع بين ذكر البناء والفضائل والفتوحات وتراجم الأعيان، وذكر بعض الحوادث المشهورة ليكون تاريخاً كاملاً والله سبحانه وتعال المسؤول، وهو المأمول أن يمنّ عليّ بتيسير إتمام”

مخطوطة الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل
مخطوطة الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل

 

منّ الله على العليمي والمعروف باسم مجير الدين الحنبلي بإتمام كتابه والذي ظهر إلى النور حوالي عام 900 هجري (1495 ميلادي) بأكثر من 1000 صفحة تقريباً من القطع المتوسط ليكون بذلك من أحد الأعمال الجامعة والضخمة حول القدس والخليل، والذي يظل حتى اليوم شاهداً على تطوّر أدب الفضائل وعلى التطورات التي شهدها حقل الكتابة في فضائل بيت المقدس والتي من الصعب دراستها دون العودة إلى الكتابين: باعث النفوس في زيارة القدس المحروس، والأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل.

 

لفتا – ذكريات مصوّرة

"إذا دخلتم القدس عبر لفتا- روميما أو عبر محانيه يهودا أو عبر الملك جورج أو مئاه شعاريم فإنكم لن تجدوا غريبًا واحدًا" هكذا بدأ دافيد بن غوريون حديثه حول قرية لفتا.

كلارا ورفيقتها في نقطة الحراسة

في مطلع شباط من العام 1948، قال دافيد بن غوريون رئيس الوكالة اليهوديّة حينها ورئيس حكومة إسرائيل فيما بعد “إذا دخلتم القدس عبر لفتا- روميما أو عبر محانيه يهودا أو عبر الملك جورج أو مئاه شعاريم فإنكم لن تجدوا غريبًا واحدًا”. وكان كلامه هذا احتفائًا بانتصارات الجماعات اليهوديّة المسلّحة ونجاحها بإحكام قبضتها على تلك المناطق في الشهر السابق وخلوها من غير اليهود.

لفتا، البوابة الغربيّة للقدس، الّتي امتدّت على مساحات شاسعة، تختلف حدودها بحسب الشهادات المختلفة. إلّا أن جمالها لا يختلف عليه أحد. شملت القرية بيوتًا جميلة ذات طابع معماري مميّز، بالإضافة إلى عين الماء الّتي ما زالت موجودة إلى اليوم، معصرة زيتون، أراضي زراعيّة ودور عبادة، مدرسة ومقبرة. كما أن تاريخها العريق يمتدّ بعيدًا. حيث وُجدت في أراضي لفتا آثار للعصر الحديديّ، كما يربط بعض المؤرّخين اليهود لفتا بقرية “مي نفتواح” المذكورة في التوراة، ومن أسمائها الأخرى “نيفثو” و “كليبستا”، نيفثو كان اسمها إبّان الحكم البيزنطيّ والرومانيّ، وكلبستا أثناء الحكم الصّليبي. أما في فترة الحكم العثماني فكانت تابعة للواء القدس.

تصوير جوي لقرية لفتا عام 1947، من ملف مسح القرى العربيّة للهجاناه، أرشيف ياد يتسحاك بن تسفي، المكتبة الوطنية.
تصوير جوي لقرية لفتا عام 1947، من ملف مسح القرى العربيّة للهجاناه، أرشيف ياد يتسحاك بن تسفي، المكتبة الوطنية.

ومن المصادر الّتي توضح  شيئًا من تفاصيل الحياة الجميلة في لفتا نهاية الفترة العثمانية هي مقالة كتبها المؤرّخ الألمانيّ جوستاف روشتاين بعنوان “عادات العرس الإسلامي في قرية لفتا قرب القدس”، فقد زار القرية عام 1907 ملبيَا دعوة مدرّسه للّغة العربيّة وابن القرية إلياس نصرالله وفُتن بعادات الأعراس الّتي كانت تستمرّ لياليها لأكثر من أسبوع يحفل بالرقص والغناء والطعام المميّز والعادات الخاصّة بالأعراس كرسم الحنّاء والأزياء.

عند الانتداب البريطاني، كان تعداد سكّان لفتا يقارب ال 1500 ساكن، كلّهم من المسلمين، وقد شارك أهالي القرية بما عُرف بثورة البراق عام 1929 وهاجموا الأحياء اليهوديّة القريبة منهم.

بدأ القتال في لفتا نهاية عام 1947 حين هاجم عناصر من الهاجاناه محطة وقود يملكها أحد سكّان لفتا ظنًّا بأنه ينقل معلومات للمقاتلين العرب حول حركة المجموعات اليهوديّة بين القدس وتل أبيب، بحسب المؤرّخ الإسرائيلي بيني موريس، أما وفقًا لشهادات فلسطينيّة وثّقها عارف العارف فإنّ الشّرارة الأولى كانت هجومًا شُنّ على أحد مقاهي القرية، والذي أسفر عن مقتل ستة رجال كانوا يجلسون بها ومن ثمّ الهجوم بالنيران على حافلة كانت على مداخل القرية، وقد أدت هذه الحوادث إلى خروج أهالي لفتا منها، بالإضافة إلى تفجير البيوت، كما ذكر مقاتل الليحي عيزرا يخين في مذكّراته، حيث شارك في عمليات الليحي في القرية حين بلغ 19 عامًا والّتي شملت تفجير ثلاثة بيوت، كما كان مشاركًا في معركة دير ياسين كذلك ومعارك أخرى.

 

غلاف كتاب "الناكام : قصّة محارب لحريّة إسرائيل"، عزرا يخين، مجموعة المكتبة الوطنيّة.
غلاف كتاب “الناكام : قصّة محارب لحريّة إسرائيل”، عزرا يخين، مجموعة المكتبة الوطنيّة.

 

بين مجموعات المكتبة الوطنيّة وُجدت بعض الصّور من معسكر الهجاناه في القرية أثناء الحرب وهي من مجموعة كلارا دي هرتوخ (من أرشيف ياد يتسحاك بن تسفي) وقد كانت مجنّدة في الهاجاناه حينها، وأصبحت فيما بعد في درجة ضابط ورقيب في الجيش. توثّق هذه الصّور نقاط الحراسة الخاصّة بالهجاناه والتي كان دورها إيجاد المقاتلين العرب وترقّب اقترابهم.

كلارا دي هيرتوخ وإليعزر غرايبر، لفتا، أرشيف ياد يتسحاك، المكتبة الوطنيّة
كلارا دي هيرتوخ وإليعزر غرايبر، لفتا، أرشيف ياد يتسحاك، المكتبة الوطنيّة

 

كلارا في نقطة الحراسة وتظهر مع السلاح وبعض القنابل والمنظار، لفتا، أرشيف ياد يتسحاك، المكتبة الوطنيّة.
كلارا في نقطة الحراسة وتظهر مع السلاح وبعض القنابل والمنظار، لفتا، أرشيف ياد يتسحاك، المكتبة الوطنيّة.

 

أثناء الحرب، كانت قرية لفتا خالية بالكامل وحينها تم توطين أكثر من مائتي عائلة يهوديّة يمنيّة بهدف منع العائلات العربيّة من العودة كما تمّ توطين عائلات يهوديّة كرديّة كذلك والتي سكنت القرية لعشرات السّنين.

باتيا مازور، الّتي عاشت طفولتها في القرية قامت بإنتاج فيلم قصير يحكي ذكريات ساكنيها من اليمنييّن والأكراد اليهود قبل نقلهم منذ بداية السّبعينات إلى وحدات سكنيّة خارج القرية، ومعارضة أبنائهم فيما بعد لمشاريع حكوميّة كان من المخطّط إقامتها على أراضي لفتا.

لمشاهدة الفيلم (بالعبريّة)