يرجى التدخين: عبد الغني النابلسي وجدل التبغ العثماني

الدفاع المستميت لمفكّري القرن السابع عشر المسلمين عن التدخين يسلّط الضوء على ارتباط العادة بالحداثة وبمفهوم الترفيه.

رجل يدخّن نارجيلة من القدس، 1875، التقطت بعدسة المصوّر الإنجليزي فرانك ميسون غود (1839-1928)، من مجموعة المكتبة الوطنية الإسرائيلية

رجل يدخّن نارجيلة من القدس، 1875، التقطت بعدسة المصوّر الإنجليزي فرانك ميسون غود (1839-1928)، من مجموعة المكتبة الوطنية الإسرائيلية

الشرق الأوسط عاشق للسجائر. حتى مع انخفاض استهلاك التبغ عالميًا، لا يزال التدخين رائجًا في بيروت والقاهرة، والرياض- وفي تل أبيب أيضًا، بل وتشهد بعض البلدان ارتفاعًا في معدّلات التدخين. يشير تقرير صدر مؤخّرًا  إلى أنّ الأردن هي من البلدان الأكثر استهلاكًا للتبغ في العالم: أكثر من %80 من الرجال الأردنيين هم مدخنون منتظمون، بمعدّل 23 سيجارة في اليوم.

في مديح التدخين وذم والمُدخنين

مع أنّ التبغ يبدو جزءًا من النسيج الحياتي اليومي للمنطقة في عصرنا الحالي، إلّا أنّه لم يكن دومًا كذلك. عندما أدخل التبغ، القادم من الشعوب الأصلانية في العالم الجديد، لأول مرة إلى الإمبراطورية العثمانية في منتصف القرن السادس عشر، أثار الأمر جدلًا حادًا. هل التبغ مفيد أم مضر؟ هل التدخين مباح في الإسلام، أم يجب تحريمه؟

العديد من الواعظين، القادة الدينيين والمسؤوليين الحكوميين خاضوا هذا الجدل. ولكن أحد أبرز الأصوات في حينه كان عبد الغني النابلسي، شخصية فريدة، ومفكّر وفقيه صوفي ذو نفوذ قوي. كتب النابلسي أطروحة في مديح التدخين، الصلح بين الإخوان في حكم إباحة الدخان، والمخطوطة المأخوذة عن النسخة المدوّنة بخط يد المؤلّف نفسه، والتي تعود إلى العام 1774، هي واحدة من أعمال النابلسي العديدة الموجودة في المكتبة الوطنية الإسرائيلية. كيف أمكن لهذا الصوفي المتنسّك أن يكون أحد أبرز المدافعين عن التبغ؟

الصفحة الافتتاحية لأطروحة عبد الغني النابلسي، 1682، في مديح التدخين، الصلح بين الإخوان في حكم إباحة الدخان، من مجموعات المكتبة الوطنية الإسرائيلية.

اقرأ/ي أيضًا: مؤلفات وكتب الشيخ عبد الغني النابلسي، فتاوى وقصائد، وعلم الأنساب

عندما أُحضر التبغ إلى الشرق الأوسط لأول مرة عن طريق أوروبا، اعتبر في حينه علاجًا طبيًا مبتكرًا لجميع العلل، ابتداءً من الحروق وحتى التسمّم. ولكن بحلول العقد الأول من القرن السابع عشر، مع ازدياد استهلاك النساء والرجال للتدخين الترفيهي، ازداد الاعتراض على هذه العادة.  إحدى المعضلات بخصوص التبغ، من منظور ديني، كانت عدم وروده في القرآن، في الأحاديث النبوية الشريفة وفي قوانين الشريعة الإسلامية، لكونه منتجًا جديدًا.

أمام هذا الصمت، تعالت أصوات عديدة معارضة لاستهلاك التبغ. بإسناد حججهم إلى القياس، وهي طريقة شائعة في أصول الفقه الإسلامي، ادعى هؤلاء أنّه يمكن مقارنة التبغ بمادة محرّمة أخرى، وهي الخمور. ادّعى النقاد أنّ للتبغ آثار “مُسكرة” مماثلة، كالدَوار الذي يصيب المدخنين الجدد مثلًا.

الاستراحة والتدخين عند كشك على قارعة الطريق بجوار القدس، التقطت الصورة بعدسة المصوّر الإنجليزي فرانك ميسون غود (1839-1928)، من مجموعات المكتبة الوطنية الإسرائيلية

بالإضافة إلى الحجج الدينية، ادّعى النقاد أنّ التبغ مضرّ بالصحة: إذ أنّه يُضعف الجسم، يسبب رائحة كريهة ويؤدي إلى تبلّد الحواس. كان المدخّنون أيضًا قذرين، وتغطت ملابسهم بالرماد والبقع.  بالإضافة إلى ذلك، فإنّ هذا التلوّث الجسدي، كما سماه البعض، كان مصحوبًا بنجاسة أخلاقية أشدّ وطأة. بالنسبة لهؤلاء، كان التدخين يسبّب الخمول، واعتُبر بمثابة بدعة محفوفة بالمخاطر بطبيعتها.

 

كتب جيمس غريهان في مقالة له عن الموضوع: في التصوّرات الأكثر ترهيبًا، فإنّ الدخان والنار المرافقين لإشعال الغليون، يستحضران في أذهاننا نار الجحيم واللعنة الأبدية. حذّر النقاد من أنّ المدخنين سيظهرون في يوم القيامة بوجوه مسوّدة، ونراجيل تحيط بأعناقهم، حتى ذلك الحين، سيحترقون في قبورهم، تمامًا مثل التبغ الذي يدّخنونه.”

الاعتراض على استهلاك التبغ لم يقتصر على أوساط المفكرين والمثقّفين. فقد حاولت السلطات العثمانية مرارًا وتكرارًا حظر ومصادرة التبغ. ومع أنّ محاولاتها تلك باءت بالفشل، إلّا أنّ هذه الإجراءات الصارمة كانت مصحوبة بمحاولات وحشية ودامية لإنفاذ القوانين.

 

النابلسي، انتاج غزير وعشقٌ للسيجارة

لم يكن النابلسي في بداية الأمر شغوفًا بالتدخين. ولدَ النابلسي في دمشق في عام 1641 لعائلة من أصول مقدسية، وكان فقيهًا صوفيًا متنسكًا وكاتبًا غزير الإنتاج، فقد ألّف أكثر من 250 عملًا. لكثرة اهتماماته ومجالاته المعرفية، كتب النابلسي شروحًا لكتب علماء صوفيين سابقين، خاصة ابن عربي الذي عاش في القرن الثالث عشر، بالإضافة إلى شروح الشعر، قصص الرحلات، كتب الفن المعماري والزراعة وكتب القانون. خلال حياته، ولمدّة تزيد عن قرن بعد وفاته، بقي النابلسي شخصية مؤثّرة ومهمّة، من خلال كتاباته والحلقات الواسعة التي جمعت العديد من تلامذته. لا عجب إذًا أن تضم المكتبة الوطنية مخطوطات لستة وعشرين عملًا من أعماله، بالإضافة إلى العديد من الأعمال الأخرى التي نسخها بنفسه أو امتلكها.

مخطوطة لكتاب عبد الغني النابلسي من أواخر القرن التاسع عشر ” الملاحة في علم الفلاحة “، مجموعات المكتبة الوطنية الإسرائيلية

دافع النابلسي عن التدخين ضد مهاجميه على عدة جبهات، ومع أنّه لم يبدأ بالتدخين إلّا خلال سفراته إلى مكة بعد نحو عقد من الزمن، إلّا أنّ حججه كانت قوية ومتينة عندما ألّف الكتاب في عام 1682.

فيما يخص الصحة، أنكر النابلسي وجود علاقة بين التدخين والمرض، وادّعى أنّ الأطباء الذين وصفوا التبغ كعلاج يعرفون عملهم أكثر من النقاد عديمي الخبرة في الطب.

في الواقع، يفتتح النابلسي كتابه هذا بمثل هذه الحجج الطبية. في السطور الأولى، يحمد النابلسي الله على أنّ التبغ مفيد للجسم: “الحمد لله الذي جعل استعمال الدخان التتن نافعا لتجفيفه للرطوبات الزائدة في الأجسام، ومحللا لما تكاثف في الصدر من لزوجة البلغم ومهضما من المعدة ثقل الطعام…”. “بالإضافة إلى ذلك، فإنّ فاعليته ضد السموم أثبتت في الأدبيات الطبية”، يضيف في كتابه، “خصوصا سم العقرب”.

ما وراء الدخان يظهر سؤال الحداثة

ولكن حججه المثيرة للاهتمام تتناول مكانة التبغ في الشريعة الإسلامية. فاحتج على مزاعم القائلين إنّ التبغ هو “بدعة”، معلّلًا أنّهم مضلّلين بالأحكام المسبقة، الجهل والتعصب الأعمى.  كتب النابلسي أنّ قراره بكتابة الأطروحة لم يكن نابعًا من حبّه للتدخين أو من رغبته المجرّدة في المشاركة في الجدل الدائر حول التبغ، بل لاكتشاف الحقيقة حول هذا الموضوع. يرفض استخدام القياس من قبل معارضي استهلاك التبغ، وقال إنّه بغياب نص دينيّ يحظر استهلاك هذه المادة، فإنّها يجب أن تكون مباحة. مع أنّ السياق هنا يُعنى فقط بإباحة التدخين، إلّا أنّ التمييز بين الحقيقة والقانون، وبين العلماء الصوفيين الأجلّاء الذي يولون اهتمامًا للحقيقة وعلماء القانون الذين يولون اهتمامهم للقانون، هو موضوع مركزي ومتكرر في فكر النابلسي.

إذا نظرنا إلى جوهر الأمور، يمكننا القول إنّ حجج النابلسي توازي الدفاع عن قيمة مألوفة لنا جميعًا، ولكنها كانت في حينه فكرة جديدة وراديكالية: المتعة. بإتاحة المجال للتدخين، اقترح النابلسي وجوب منح حيز أكبر للحياة الشخصية وللمتعة الشخصية، طالما لم تتجاوز بوضوح قيود الشريعة الإسلامية.

إلى حد كبير، كان النابلسي يتتبّع أعقاب التغييرات الاجتماعية الحاصلة في حينه. لاقى التبغ، كالقهوة من قبله، رواجًا واسعًا لأنّه كان مرتبطًا بالأنس والمخالطة، وشجّع على تبادل الأحاديث وطمس الحدود الاجتماعية، خاصةً في المقاهي التي شكلّت ملتقى لأبناء الطبقات الاجتماعية المختلفة، حيث أمكنهم الاسترخاء وتبادل الأحاديث، وكان التبغ والمشروبات بمثابة وقود تبعث الحياة في هذه اللقاءات. في تأليفه لكتابه هذا عند منعطف الحداثة، فإنّ النابلسي لم يدافع عن التدخين فحسب، بل عن مفهوم ممارسة الحداثة نفسها.

صوتٌ نسويٌ في يوم الثامن من آذار

اليوم، لن نكتب عن حقوق المرأة، ولن نطالب بحقوقها ولا بإنصافها ولا حتى بدفعكم للخروج لأجلها. بل سنكتب حول كيف قامت المرأة نفسها بذلك

الصورة مقتبسة من كتاب كريمة عبود : رائدة التصوير النسوي في فلسطين

الثامن من آذار.  في مثل هذا اليوم من السنة، يحتفل العالم بيوم المرأة العالمي وفيه تخرج العديد من المظاهرات المطالبة بإنصاف المرأة، كما يكتب الكثيرون حوله، وكل ذلك في سبيل دعم المرأة وتعزيز فرص تمثيلها بسائر القطاعات بالمجتمع وإيصالها لمركزه بعيدًا عن الهامش الذي هو مكان الملايين من النساء حتى يومنا هذا.

اليوم، لن نكتب عن ذلك، ولن نطالب بحقوق المرأة ولا بإنصافها ولا حتى بدفعكم للخروج لأجلها. بل سنكتب حول كيف قامت المرأة نفسها بذلك؛ لن نكون بهذه المقالة سوى أداة لها، أداة من خلالها ستقوم هي بإيصال الرسالة التي تريد من المجتمع أن يقرأها -وبتمعن- قبل أن يقمعها، يقصيها، يستهزئ بقواها الذاتية والكامنة أو حتى يتجه لمحو صوتها فيه بالتهميش والعنف.

أنا كريمة عبود؛ أول مصورة في المجتمع العربي

ولدتُ بمدينة بيت لحم خريف عام 1893 لعائلة تنحدر من أصول لبنانية نزحت للناصرة. وأنا التي تعلمت بمدارس الناصرة والقدس وبيت لحم. بدأ حلمي بامتهان مهنة التصوير بالتحقق عندما بدأت بتعلم هذه المهنة لدى أحد المصورين الأرمن القاطنين في القدس (يُعرف الأرمن بامتهان الكثير منهم لمهنة التصوير خاصة في بداية القرن العشرين). كانت أول كاميرا وهي الأقرب إلي هدية والدي، والتي لم ألبث إلا وقصدت الكثير من الأماكن لأقوم بتوثيقها بكاميرتي الجديدة.

النساء كن دومًا هدفًا لي لتصويرهن وهذا ما دفعني لافتتاح أول استيديو للنساء في مدينة بيت لحم، فكن يأتين إلي لتصويرهن وهن يشعرن ببالغ السعادة لأنني كسرت حكر الرجال لهذه المهنة وبالتالي أتحت لهن الفرصة التي لم تكن متاحة لهن من قبل، إذ لم تكن تسمح التقاليد السائدة آن ذاك بأن يصور الرجال النساء وخاصةً المحجبات منهن.

أعلان للمصورة كريمة عبود في صحيفة الكرمل، صحيفة الكرمل بتاريخ 26 آذار 1924

أنا مي زيادة؛ خطيبة في الشعر والأدب

حياتي لم تكن سهلة ولا معبدة بالورود، وددت البدء بذلك حتى أقول لكن أيتها النساء، حتى لا تستلمن لمن هم حولكن. أنا مي زيادة، فلسطينية- لبنانية، ولدتُ في مدينة الناصرة لأب لبناني وأم فلسطينية. اسمي الحقيقي ماري إلياس زيادة ولكن اتخذت لنفسي اسم مي.

في هذه الحياة، تعلمت الكثير، فأتقنت تسع لغات: العربية، والفرنسية والإنجليزية والألمانية والإيطالية والإسبانية واللاتينية واليونانية والسريانية، كما تعمقت بالأدب خاصة الأدب العربي والتاريخ الإسلامي والفلسفة في جامعة القاهرة. نشرتُ الكثير من المقالات بمعظم المجلات الأدبية المصرية. أما كتبي، فقد كان الأول عام 1911 ديوان شعر نشرته باللغة الفرنسية وأول أعمالي بالفرنسية كان بعنوان “أزاهير حلم”. وفيما بعد صدر لي “باحثة البادية” عام 1920، و”كلمات وإشارات” عام 1922، و”المساواة” عام 1923، و”ظلمات وأشعة” عام 1923، و”بين الجزر والمد” عام 1924، و”الصحائف” عام 1924.

مي زيادة، الصورة مقتبسة من ويكيبيديا

اسمي ساذج؛ كاتبة ومحررة صحيفة الكرمل

أنا لست كما تظنون، فحتى صوتي التحرري لا يزال مسموعًا اليوم كما كان في الصحافة المكتوبة. ولدتُ في مدينة حيفا وأنا إيرانية الأصل عروبية الهوى. تزوجتُ من الأستاذ نجيب نصار وكنت قبل ذلك أكتب المقالات وبعد زواجي أيضًا، لم أعتني بالمنزل فقط،  بل كتبت وشاركت في تحرير صحيفة الكرمل وإدارتها إلى جانب نجيب.

قبل ذلك حرضت وها أنا أحرض الأمهات مرة أخرى، أحرضهن على تربية أولادهن على أساس المساواة بين الولد والبنت، أن تعليم المرأة الفلسطينية وتوفير فرص العمل أمامها هدفًا وليس خيارًا، ودخول معترك الحياة السياسية هو واجب وليس خيار.

صحيفة الكرمل التي عملت بها ساذج نصار

نازك الملائكة؛ متمردة الشعر العربي

لعلكن تتساءلن، ماذا فعلت للمرأة العربية وماذا قدمت. إذا كنت سأجيبكن فستكون إجابتي طويلة ولذلك سأقول فقط كلمتين: الشعر الحر. هاتان الكلمتان هما اللتان أوصلنني إلى ما وصلت عليه ولم أصل صوت فقط بل صوتكن أنتن أيضًا. لقد كسرت الجمود كما أن بنية التجديد بالشعر لم تعد مقتصرة على الرجال؛ فأنا نازك الملائكة قد كسرتها بالرغم من السخرية التي تعرضت لها بالبداية إلا أن تلك السخرية جعلتني رائدة شعر الحر باللغة العربية. لقد ساهمتُ في أن يكون للمرأة الدور في رسم الشعر والأدب العربي. فلا تقبلن بما هو أقل من ذلك.

نازك الملائكة، مقتبس من موقع صحيفة القدس العربي

فقط أنتن مسؤولات

لو عادت كل تلك الشخصيات النسوية إلى الحياة، ماذا برأيكن ستكون رسالتهن إليكن؟ هل سيقلن لكن احتفلن بالعيد وخذن عطلة في المنزل، أم سيقمن بحثكن على المقاومة وأخذ زمام المبادرة من أيدي المجتمع والعالم لتقررن أنتن مصيركن وتكن فقط أنتن مسؤولات؟

لتعرفن الإجابة، في المكتبة الوطنية، تجدن العديد من الكتب والمصادر حول الشخصيات النسائية والتي يمكنكن البحث والإبحار بها

بلديّة دمشق ضدّ شركة الكهرباء

شبكة الكهرباء وترام دمشق، على الرغم من أنّهما كانا بملكيّة شركة عثمانيّة مسجّلة، كانتا في الواقع تحت سيطرة مجموعة شركات بلجيكيّة. للمزيد في المقال.

فيما يلي ترجمة بتصرف خاصة بموقع مدونة “أمناء المكتبة” لمقال الكاتب عمري إيلات- ورشة التاريخ الاجتماعي. للاطلاع على المقالة باللغة العبرية الرجاء الضغط هنا.

تحكي مذكّرات عدد من الشخصيّات الدمشقيّة قصّة عن صالح بك العظم، من أبطال المدينة، الذي كان في صباه مغرمًا بفتاة يهوديّة. ذات ليلة أمضاها في السهر مع تلك الفتاة، رافقه صديقه سليم الميدانيّ، وفي طريقهما إلى منزليهما في الساعة الثانية أو الثالثة بعد انتصاف الليل صادفا دورية شرطة، تقدم رئيسها  ورفع مصباحه ليرى المارّين بلا مصباح. فلما تميّز صالح بك الثمل، توجّه اليه وقال: “يا سيّدي، أنت ابن الحكومة [كانت عائلة العظم من العائلات العريقة والقويّة في دمشق، وكان أفرادها يتبوّؤون الكثير من المناصب]، وأنتم تضعون القوانين. فلماذا تخالفها؟”

أجابه صالح بك: “بأي شيء أخالفها؟”

قائد الشرطة: “أنك تسير بلا مصباح، وهذا لا يجوز”

صالح بك: “مصباحي معي. إذهب في طريقك!”

 

وسأله الشرطي عن مصباحه، فأدار له صالح بك ظهره، ورفع ذيل سترته بتحدّ، كي يقول إنّه معفيّ من هذه القيود لكونه من وجهاء المدينة، وقال: “هذا مصباحي!”  ومشى صالح بك، وخلفه السيد سليم، فقال له المفوض: “وأنت يا رجل؟ أين مصباحك؟”  فأجاب سليم: “أنا سائر على ضوء البك”. فضحك رجال الدورية، وذهب كل واحد في سبيله!

 

كانت مدينة دمشق ،المُضاءة بشبكة من المصابيح الزيتيّة بمسؤوليّة البلديّة في مطلع القرن الـعشرين، مدينة مظلمة جدًّا. من حين إلى آخر كانت المصابيح الزيتيّة تخفت أو تُكسر، وفي كلّ الأحوال كان النور الذي يصدر عنها خافتًا. ولذلك، كان يتعيّن على سكّان المدينة أن يحملوا معهم فانوسًا فيه شمعة، يسمّى”فنار”. قصّة صالح بك توضّح أنّه في حين كانت المدن الساحليّة العثمانيّة مثل بيروت، إسطنبول، وإزمير قد اعتمدت إنارة الغاز بواسطة شركات تجاريّة، كانت دمشق تعتمد على شبكة إنارة محلّيّة شغّلها سكّان المدينة أو البلديّة التي كانت القوّة الرئيسيّة في تخطيط وإدارة الحياة اليوميّة في المدينة.

سكّان في دمشق يعبرون أمام مسارات الترام في الشارع المركزيّ في المدينة، في عشرينيّات القرن الـ-20، تصوير: الكولونية الأمريكية، مكتبة الكونجرس
سكّان في دمشق يعبرون أمام مسارات الترام في الشارع المركزيّ في المدينة، في عشرينيّات القرن الـ-20، تصوير: الكولونية الأمريكية، مكتبة الكونجرس

شكّل دخول الكهرباء إلى دمشق في العقد الأوّل من القرن العشرين تحوّلًا حادًّا في حياة المدينة ليس في مجال الإنارة والمواصلات فحسب، بل في موازين القوى البلديّة عامّة. على الرغم من أنّ شبكة الكهرباء والترام في دمشق كانت تخضع لملكيّة شركة عثمانيّة مسجّلة، في الواقع كانت تسيطر عليها مجموعة شركات بلجيكيّة. وهكذا دخلت قوّة منظِّمة جديدة إلى الحياة البلدية في مجالات الإنارة، قوّة التحريك، والمواصلات، على حساب قوّة البلديّة التي ادارتها النخبة المحلّيّة. تحوّلت الإنارة من نظام جماهيريّ خاضع لموازين القوى المحلّيّة غالبًا، إلى مورد يخضع لملكيّة خاصّة اجنبية. دخول شبكة الكهرباء والترام إلى المدينة أدّى الى مماحكات ملازمة للطريقة التي أقيمت بها الشركة. وهكذا أصبحت دمشق تشبه المدن الأخرى في أرجاء الإمبراطوريّة التي وضعت فيها البنية التحتيّة للكهرباء في مطلع القرن العشرين، مثل: بيروت، الإسكندريّة، إزمير، بورصة وسلانيك، وبعد ذلك بقليل، إسطنبول أيضًا.

في الإمبراطوريّة العثمانية في أواخر القرن الـتاسع عشر تمّ تشغيل الإنارة الكهربائيّة بواسطة مولّدات كهربائية في القصور، الفنادق، وفي ضِيَع الأثرياء، ولكن شبكات الكهرباء لم تكن تُنشأ بعد. أدّى الاعتماد التامّ لمستهلكي الكهرباء العثمانيّين على استيراد المعدّات والمعرفة التقنيّة إلى وقف تطوّر استخدام الكهرباء منذ منتصف سبعينيّات القرن الـتاسع عشر بسبب حالة الإفلاس التي عانى منها اقتصاد الإمبراطوريّة. استؤنفت الاستثمارات الأجنبيّة في الإمبراطوريّة فقط بعد استقرار مديريّة الديون العثمانيّة التي رهنت أجزاءً كبيرة من دخل الإمبراطوريّة لتسديد الديون. كانت عوامل الجذب الرئيسيّة للاستثمار هي السكك الحديديّة، الموانئ، والتعدين، التي شكّلت القطاعات التي خدمت عمليّات التصنيع العالميّة بقيادة الدول العظمى الأوروبّيّة، لكنّ جزءًا لا يستهان به من الاستثمارات تمّ توظيفه في شركات البنى التحتيّة الداخليّة وفي الصناعة.

بموازاة استئناف الاستثمارات الأجنبيّة ومنح الامتيازات للشركات الأجنبيّة، سعى نظام السلطان عبد الحميد الثاني إلى إنشاء طبقة مبادرين من بين شخصيّات النخبة المحلّيّة-العثمانيّة وموظّفي السلطة المركزيّة. كانت وزارة الأشغال العامّة هي الجهة المسؤولة عن إصدار المناقصات لإقامة الشركات المحدودة الضمان، وحُظر على الحائزين على الامتياز تحويله إلى الأجانب. هكذا كانت شركة الكهرباء والترام في دمشق التي حصل محمّد آل أرسلان البيروتيّ على امتياز إنشائها في عام 1903. كان يتعيّن عليه استقطاب رأسمال قدره ستّة ملايين فرنك (نحو- 300 ألف جنيّه عثمانيّ) من خلال بيع أسهم الشركة.

الترام في دمشق في شارع سنجقدار. بطاقة بريديّة مصوّرة من مطلع القرن الـ 20

ولكن المشكلة أنّ آل أرسلان لم ينجح في تجنيد رأس المال، فاشترت مجموعة شركات بلجيكيّة نواة السيطرة في الشركة مع الإبقاء على آل أرسلان مديرًا للشركة وصاحب الامتياز الرسميّ. تمّ هذا الإجراء من خلال الموافقة الضمنيّة للسلطة المركزيّة التي كانت تعي جيّدًا تبعات ذلك. في المقابل، ابتاعت الشركات ذاتها، مع شركات فرنسيّة وألمانيّة، نواة السيطرة على شركات الكهرباء والترام في بيروت، إزمير، وسلانيك. دُمجت جميع هذه الملكيّات تحت سيطرة شركة قابضة كان مقرّها في إسطنبول وشكلّت الغطاء القانونيّ لنشاط هذه الشركات (نمط شبيه جدًّا بالطريقة التي أدير بها قطاع النفط في الشرق الأوسط بين الحربين العالميّتين).

أُضيئ في مطلع عام 1907 ألف مصباح كهربائي في شوارع مدينة دمشق وبدأ خطّ الترام الأوّل بالعمل في المدينة. كان مصدر الطاقة الرئيسيّ توربينات المياه التي حرّكها التيّار المائيّ لنهر بردى الذي يجري عبر دمشق. وُضعت هذه التوربينات في شرقي المدينة. في الأوقات التي كان فيها تدفّق المياه ضعيفًا تمّ تدعيم التوربينات بمساعدة مولّدات الكهرباء التي كانت تعمل بواسطة المازوت. ظهرت الخلافات في فترة مبكّرة جدًّا وعلى نحو حادّ. فبينما تذمّر سكّان المدينة البسطاء من مصادرة أملاكهم لغرض توسيع الشوارع من حوادث السير والحرائق التي تسبّبت فيها الأعطال في توصيل الكهرباء، دخلت البلديّة في مواجهة مطوّلة مع شركة الكهرباء على خلفيّة تسوية المدفوعات والجدول الزمنيّ للإنارة. لم تكن البلديّة تشكّل لاعبًا ثانويًّا على الأكثر في إجراء المبادرة فحسب، بل إنّ احتكارها للرقابة على الإنارة قد تحطّم كلّيًّا. قوبلت الادّعاءات التي طرحتها البلديّة أمام السلطة المركزيّة بالرفض التامّ باستمرار، وفُرض عليها الالتزام بالاتّفاقيّات التي لم تشارك البلديّة حتى في صياغتها.

كتب أحد سكّان دمشق ويدعى منير الفرّاع مقال رأي في صحيفة بيروتيّة، ادّعى فيها أنّ شبكة مصابيح الزيت في البلديّة قد ميّزت فعلًا ضد بعض المناطق في المدينة من ناحية كمّيّة الإنارة، لكنّها على الاقلّ لم تعانِ من انقطاعات كهرباء عامّة تترك المدينة في ظلام دامس. الانقطاعات ودرجات الشدة المتفاوتة للتيّار الكهربائي كانت بالفعل أمرًا روتينيًّا، كما أنّ بعض اللاعبين أصحاب النفوذ، مثل ادارة القطار الحجازيّ، طالبوا وحصلوا على مولّدات قريبة من شركتهم في منطقة القدَم على مشارف دمشق عقب خسارة أيّام العمل التي تسبّب فيها انقطاع التيّار الكهربائيّ. وخلافًا لقطار الحجاز، فقد كانت البلديّة ذات قدرة مساومة أقلّ بكثير، وكما ذُكر أعلاه، فالمطالب التي أثارتها كانت تتناقض مع الاتّفاقيّات.

شارع رئيسي في سوق دمشق، 1942، تصوير: توم بيزلي/ جيف سي

في مطلع عام 1913، تخلفت البلدية بدفع مبلغ قدره 12 ألف جنيه عثمانيّ لشركة الكهرباء، فقامت الأخيرة، في خطوة أحادية الجانب، بقطع شبكة الإنارة. بادرت البلديّة، في المقابل، إلى تنظيم حملة مقاطعة لاستخدام الترام. عندما نجحت المقاطعة بشكل جزئيّ فقط، تحوّلت البلديّة إلى حثّ الجماهير على تخريب قاطرات الترام. بعد مفاوضات ودفع الديون مقابل إضافة مصابيح من قِبل شركة الكهرباء، عادت الأنوار للعمل في دمشق، لكنّ المناوشات بين البلديّة والشركة استمرّت خلال فترة الحرب العالميّة الأولى. في عام 1917، قطعت شركة الكهرباء التيّار الكهربائيّ حتّى نهاية الحرب. وفي ظلّ ضائقة الوقود الحادّة خلال الحرب، عادت دمشق لتكون مدينة يسودها الظلام أكثر ممّا كانت عليه قبل دخول الكهرباء إليها. وصف يوسف يوئيل ريڤلين، الذي عاش في المدينة خلال بعض من سنوات الحرب وبعدها، في جريدة “بريد اليوم” العبريّة عام 1921 الاستياء الذي تسبّبت فيه شركة الكهرباء في أوساط سكّان المدينة الذين ظلّوا يعانون من انقطاع التيّار الكهربائي، شدة التيار المتفاوتة، الحوادث، والحرائق.

يمكن أن نلاحظ إذًا، كيف أدّت السياسة العثمانيّة التي كانت تسعى إلى تعزيز مكانة النخب المحلّيّة-العثمانيّة، وتطوير البنى التحتيّة العامّة الصناعيّة لصالح الجمهور برمّته، إلى حالة من الاحتكاك المستمرّ وإلى إسناد مهمّة إدارة المجالات الهامّة في حياة المدينة، مثل الإنارة والمواصلات إلى شركات خاصّة أجنبيّة. تحوّلت الإنارة من نظام اجتماعيّ داخليّ إلى سلعة يوفّرها وسيط للمدينة بشكل مركزيّ. فقدتِ البلديّة من أهمّيتها كساحة مواجهة بين قوى داخليّة – بلدية، ومن جهة أخرى تحوّلت الخلافات المستمرّة بين البلديّة وشركة الكهرباء إلى سمة رئيسيّة للسياسة البلدية. يمكننا القول إنّ النخبة الدمشقيّة دفعت ثمنًا باهظًا لامتناعها عن أو عدم قدرتها على المجازفة المنوطة بالاستثمار في البنى التحتيّة للكهرباء. صحيح أنّها استثمرت في قنوات مربحة أكثر، مثل العقارات الخاصّة والتجاريّة، لكنّها خسرت احتكارها الهامّ لأحد اكثر المنتجات طلبًا في العصر الحديث: الضوء.

 

عمري إيلات هو طالب للدكتوراه في قسم التاريخ في جامعة تلّ أبيب. يُعنى بحثه بالأشغال العامّة ونشاط الخبراء في سوريا خلال فترة “تركيا الفتاة”، بإرشاد البروفيسور إيهود طولدانو.

 

الخطة التي عُرضت على نابليون تُكشف: دولة لليهود بتمويل يهودي

الكثير الكثير من الوقت قبل هرتسل، تعرفوا على مخطط اقامة دولة لليهود في فلسطين

خلال مسيرة نابليون في فلسطين، عُرض عليه خطة عمل مفصلة لاقامة دولة يهودية في فلسطين. أساسها: “الممولين” يقيمون الدولة وخلال ذلك “ينزلون الضربة القاضية للعدو البريطاني.

ثمة وثائق في مجموعات المكتبة الوطنية والتي تتعلق بنشاطات نابليون بونابرت. الكثير من هذه الوثائق تعود لفترة مكوث بونابرت وجيشه في مصر وفلسطين (1789-1801).

في معرض “نابليون.. كان هنا” والذي افتتح قبل أسبوع في المكتبة الوطنية (نيسان 2017) تم عرض ولأول مرة شهادات، رسومات، خرائط وميداليات التي توثق المسيرة لمصر وفلسطين. المجموعة والتي هي جزء من الإرث المميز للمستشرق الكبير إبراهيم شلومو يهودا، اشتراه بنفسه حين بيع في ميزاد علني في لندن عام 19363.

من بين 1013 الملفات التي اشتراها، كان ليهودا اهتمام خاص بمكتوب واحد مميز، كان ذلك مكتوب جندي إيرلندي متمرد ذا توجه بروتاستنتي محافظ، كان اسمه توماس كوربيت، والذي بالشراكه مع أخيه انضما للجيش الفرنسي، وفي عام 1798 قاتل جنباً إلى جنب مع الفرنسيين ضد إيرلندا. مضمون المكتوب: مقترح عمل يؤدي لاقامة دولة يهودية في فلسطين، تقريباً مائة عام قبل أن تطرح هذه الفكرة على يدر ثيودور هرتسل.

من رسالة توماس كوربيت
من رسالة توماس كوربيت

 

الرسالة من 17 شباط 1798، أيام معدودة قبل أن يحاصر نابليون غزة، الرسالة موجه إلى فول باراس والذين وقف على رأس مجلس ادارته في باريس وكان مخلصاً لنابليون. في بداية رسالته يشير كوربيت أنه كتب إلى باراس لكونه صديق بونبارت، والذي ميز ابداع وتميزه، وبالتالي يقدم له خطة ولدت لديه باستلهام الجنرال نفسه، ويبدو من قوله أنه معني أن يصل الأمر إلى بونبارت.