من البئر إلى القصر: أسطورة النبي يوسف الصديق عليه السلام

قصص الأنبياء الذين اصطفاهم الله لهداية البشر مليئة بالتحديات التي صقلت إيمانهم وجعلت قصصهم عبرًا للأجيال. ومن هذه القصص الملهمة قصة النبي يوسف عليه السلام المروية بأسلوب رائع في سورة يوسف بالقرآن الكريم. وقد تناول هذه القصة أيضًا الفقيه ابن الجوزي في مخطوطته "قصة الصديق يوسف عليه السلام"، والتي نعرضها في هذا المقال، تسلط الضوء على أهم مراحل حياة النبي بما فيها خيانة إخوته له وتغلبّه على الإغراءات

832 629

مخطوطة الفقيه ابن الجوزي "قصة الصديق يوسف عليه السلام"

من المعلومِ أنَّ الأنبياء اختارهم الله لتنوير الناس وهدايتهم إلى الطريق الصحيح، ولكن لماذا اختار بعض البشر أن يكونوا أنبياء دون غيرهم؟ ما الذي جعل حياة بعض الأشخاص مميزة جدًا بحيث كانت قصصهم تستحق أن تروى ولا تزال تُحكى حتى يومنا هذا؟

ونحن نقرأ قصص الأنبياء، لا يَسعنا إلا أن نلاحظ شيئاً مشتركاً بينهم، وهو أن حياتهم لم تكن سهلة أبداً، بل على العكس، كانت مليئةً بالتحدياتِ والمتاعب التي اختبرهم بها الله، ليرى إِن كانوا سيستمرون بالتصرف بالأخلاق الرفيعة أم  سينحرفون إلى طريق الكذب والتلاعب والمكر، وهو الطريق الذي يعرفه معظم البشر العاديين جيد جداً.

ومن هذه القصص الرائعة قصة النبي يوسف التي كتبت كجزء من القرآن الكريم بعد أن أوحى بها الله على النبي محمد -عليه السلام-.

1200 630
من مخطوطة “قصة الصديق يوسف عليه السلام”، ابن الجوزي،1591

كتب الفقيه الحنبلي ابن الجوزي عام 1591 مخطوطة مكونة من 46 صفحة تحوي قصة النبي يوسف عليه السلام مستوحاة من سورة يوسف ومضيفاً بعض من تفسيراته وتعقيباته عليها تحت عنوان “قصة الصديق يوسف عليه السلام”. في المخطوطة مجموعة قصص تلخص أهم محطات حياة يوسف -عليه السلام- منها قصته مع اخوته وزليخا وتوليه المُلكَ في مصر، نلقي الضوء على بعضٍ من محتوى المخطوطة المتوفرة في المكتبة الوطنية.

تُبين المخطوطة بأنَّ نزول سورة يوسف كان بسبب تشكيك قريشٍ في نبوة النبي محمد، وفي سَعيهم لاختباره، طرحوا عليه أسئلة تٌتحدى بصيرته الروحية. ورواية قصة يوسف وإخوته غير المألوفة لأهل مكة تثبت صحة النبوة. من خلال الوحي الإلهي، نقل محمد تفاصيل معقدة للرواية غير المروية، مما يؤكد صحة نبوته. عملت السورة على رفع معنويات المؤمنين وسط الاضطهاد آنذاك، وقدمت لهم العزاء بأن أنبياء عانوا من قبلهم ونالوا من الدنيا والآخرة الخَير.

3423849 10 0007
من مخطوطة “قصة الصديق يوسف عليه السلام”، ابن الجوزي،1591

كتبَ ابن الجوزي أن يوسف -عليه السلام- وُلِدَ في عائلةٍ من الأنبياء، وهو ابن النبي يعقوب عليه السلام، وكان الابن الأصغر الذي يحتل مكانة خاصة في قلب أبيه، لكن هذه الرابطة العائلية أثارت الغيرة بين إخوة يوسف الأكبر سناً، الذين تآمروا عليه بدافع الحسد.

تبدأ قصة يوسف بحلم، اذ رأى في منامه أحد عشر كوكباً و الشمس و القمر يسجدون له. طلبَ يوسف الصبي المشورة من والده فيما يتعلق بتفسير الحلم، والذي نصحه بإخفاء الحلم عن إخوته خوفًا من حسدهم لأنه استنتج أن الأحد عشر كوباً يرمزون لأخوته الاحدى عشر. على الرغم من تحذير أبيه، و باصرار من أخوته و لكي لا يتسم بالكذب، باحَ يوسف برؤياه لاخوته.
تآمر إخوة يوسف ضده وعزموا على قتله، ومن المفارقة أنه و في خِضَّم ضَربهم له لم يسع النبي يوسف الا الضحك، مما استفز أخاه يهودا لسؤاله عما يضحكه وهو في هذه الحال فقال يوسف “بيني و بين الله سر” ، أدرك عندها يهودا فداحة فعله هو و اخوته و أقنعهم بعدم قتل يوسف وألقوا به في النهاية في بئر وخدعوا والدهم ليعتقد أن حيوانًا بريًا قد التهمه.

3423849 10 0004
من مخطوطة “قصة الصديق يوسف عليه السلام”، ابن الجوزي،1591

يعجب الملك ببصيرة يوسف، ويعينه رئيسًا للوزراء، ويكلفه بمسؤولية إدارة موارد مصر خلال الأزمة الوشيكة. وفيًا لسمعته، أثبت يوسف أنه قائد حكيم وصادق، مما يضمن استعداد شعب مصر للمجاعة المقبلة.

أثناء المجاعة، يسافر إخوة يوسف إلى مصر بحثًا عن الطعام، ويواجهون دون قصد شقيقهم المفقود منذ زمن طويل. بعد التعرف عليهم، يختبر يوسف صدقهم، ويكشف في النهاية عن هويته ويغفر لهم تجاوزاتهم الماضية. إن لم شمل يوسف مع عائلته، بما في ذلك والده الحبيب، هو لحظة مصالحة عميقة ومغفرة، مما يدل على القوة التحويلية للإيمان والرحمة.

3423849 10 0005
من مخطوطة “قصة الصديق يوسف عليه السلام”، ابن الجوزي،1591

وفي الختام، تُبين المخطوطة بأنَّ قصة النبي يوسف عليه السلام هي قصة خالدة عن الإيمان والصمود والتسامح، وتقدم دروسًا قيمة حول أهمية الثقة بالله، والصبر عند الشدائد، والرحمة تجاه الآخرين.وربما من أهم العبر في قصة يوسف الصديق هي أن على الانسان أن يتصرف بما تمليه عليه قيمه النبيلة دون الاكتراث بما يحيطه من العالم الخارجي، متسلحاً بالايمان بفكرة أن كل ما يمر به من مواقف صعبة، ان لم يسمح لها بتغييره ، ستودي به بالضرورة الى السعادة .

ذمُّ شره الطعام وتعظيم الجوع: حمية الإمام الغزالي الروحيّة

نقدّم لكم في هذا المقال عرضًا لرأي الإمام الغزالي في شره الطعام، والسرّ لديه في أهمّيّة الجوع، ونصائحه في التقليل من الأكل، كما ورد في أحد أقسام كتابه "الأربعين في أصول الدين".

832 629

كتاب الأربعين في أصول الدين، 1793، مجموعة الـ AP ضمن مجموعة المخطوطات، المكتبة الوطنية

ألّف الإمام أبي حامد الغزالي (1058-1111 م) كتابه الأربعين في أصول الدين في فترة عزلته واعتكافه التي امتدّت تقريبًا عشرة أعوام، قضاها في القدس ودمشق. قسّم كتابه إلى عدّة أقسام، منها ما هو في العقائد، وفي الأعمال الظاهرة، ومنها ما هو في تزكية القلب عن الأخلاق المذمومة، وقد وضّح رأيه في الطعام والجوع في هذا القسم، ونلمح في آرائه صدىً للأفكار الصوفيّة عن قهر الجسد وشهواته، وتأثيرًا لعزلته، إذ هي كالجوع تركٌ لملذّات الدنيا.

في شره الطعام

يعتبر الغزالي أنّ شره الطعام من أمّهات (أصل) الأخلاق السيّئة، فالمعدة بالنسبة إليه ينبوع الشهوات، فعندما تنتصر شهوة الطعام على الإنسان، يصبح أسيرًا لها، وينتج عنها شره المال، لأنّ المال هو الذي يجعل الإنسان قادرًا على الحصول على الأطعمة التي تشتهيها نفسه. ومن شهوة المال، تنبع الرغبة في الجاه، أي علوّ المكانة والمنزلة، لأنّه هو الذي يُسهّل كسب المال. وعندما يحصل الإنسان على المال والجاه ويسعى في طلبهما، ينتج عن ذلك آفاتٌ إضافيّة في أخلاقه، فيصيبه التكبّر والرياء (عمل الصالحات أمام الناس لتزداد المكانة) والحسد على من يملكون والحقد والعداوة وغيرها. ومنبع كلّ ذلك حسب الغزالي هو البطن، فكأنّه يريد أن يقول إنّ الرغبة الشرهة في الطعام هي أمٌّ تلد سلسةً من السلوكيّات المذمومة، ورحم هذه الأمّ هو البطن أو المعدة.

ولا يكتفي الإمام الغزالي بنقد شره الطعام بهذه السلسلة المنطقيّة من السبب والنتيجة (ربّما نتذكّر هنا أنّ الغزالي درس الفلسفة في فترة من حياته)، بل يورد أحاديثًا نبويّة، ليدعم رأيه لا بالعقل وحده، بل بالنقل عن الرسول كذلك، فيبدأ بحديثٍ يُعَظِّم الجوع (نقيض الشره): “ما من عمل أحبّ إلى الله من الجوع والعطش”، ثمّ “لا يدخل ملكوت السماء من ملأ بطنه”. ويورد حديثًا آخر توحي صياغته بضعف نسبته إلى الرسول: “الفكر نصف العبادة، وقلّة الطعام هي العبادة”، وحديثًا آخر يمدح التفكّر ويربطه بالجوع، ويذمّ كثرة الأكل (صيغة المبالغة أكول) ويربطها بالكسل (النؤوم): “أفضلكم عند الله أطولكم جوعًا وتفكرًا، وأبغضكم إلى الله كلّ أكول شروب نؤوم”. وقبل أن ينهي الغزالي حديثه عن شره الطعام، يورد عدّة أحاديث أخرى تدعم رأيه، أشهرها حديثٌ صحيحٌ يذمّ التخمة، ويحثّ -من يقدر على ذلك- على “حميةٍ روحيّةٍ” قائمةٍ على أكل اللقيمات (اللقم الصغيرة) لإمداده بالقوّة اللازمة على القيام بأعماله، وإذا كان ذلك صعبًا فليقسّم الشخص معدته 3 أقسام، واحد للطعام والثاني للشراب والثالث للهواء (أي فارغ):

 “ما ملأ ابن آدم وعاءً شرًّا من بطنه، حسب ابن آدم لقيماتٍ يُقمن صُلبه، وإن كان لا محالة (أي لا بدّ من الزيادة في الطعام) فثلثٌ لطعامه وثلثٌ لشرابه وثلثٌ لنفَسِه”.

Dedupmrg765329080 Ie144661144 Fl144661329 660

شره الطعام من مخطوطة الأربعين في أصول الدين- المكتبة الوطنيّة


السرّ في تعظيم الجوع

بالإضافة لأهمّيّة الجوع في القضاء على شره الطعام، يورد الغزالي فوائد كثيرة أخرى له، تجعله مناسبًا لمن يطلب الآخرة. فهو يؤدّي إلى صفاء القلب ونفاذ البصيرة (قوّة الإدراك والذكاء)، ما يسهّل تحصيل المعرفة المؤدّية إلى السعادة، عكس الشبع الذي يسبّب البلادة الفكريّة. والجوع أيضًا يجعل القلب رقيقًا، فيتأثّر بذكر الله وعبادته ولذّة مناجاته، ويقتبس الغزالي قولًا تعجبيًّا للصوفيّ الزاهد أبو القاسم الجنيد يقول فيه: “يجعل أحدكم بينه وبين قلبه مخلاة من الطعام ويريد أن يجد حلاوة المناجاة!”، ومعنى هذا القول أنّ الطعام الكثير المكنّى عنه بطريقة سلبيّة بالمخلاة (الكيس المعلّق على رقبة الدابّة يوضع فيه علفها) حاجزٌ بين الإنسان وذاته الحقيقيّة (قلبه) التي تتذوّق حلاوة العبادات.

 كذلك، يؤدّي الجوع -حسب الغزالي- إلى ذلّ النفس وزوال البطر والطغيان، فيمتنع الإنسان عن التكبّر، الذي هو في رأيه سبب الغفلة عن الله، والباب المؤدّي إلى الجحيم. والجوع أيضًا بابٌ من أبواب الجنّة، لأنّه بلاءٌ للنفس، وعندما يعذّب الإنسان نفسه بالجوع يتذكّر عذاب الآخرة، فيزيد خوفه من الله، وإقباله على طاعته. وهو يكسر كافّة الشهوات التي هي منابع المعاصي، ويسيطر على النفس الأمّارة بالسوء، ويقتبس الغزالي من صوفيٍّ آخر هو ذي النون قوله بأنّه عندما يشبع يعصي الله أو يرغب في المعاصي، وقول عائشة بأنّ الشبع يجعل النفس تجمح نحو الدنيا (الجموح عندما يتمرّد الحصان على راكبه، أو لا يقدر البحّارة على ضبط سفينتهم).

وآخر فائدتين يوردهما الغزالي للجوع تتعلّقان بالخفّة، خفّةِ الجسد (نشاطه) اللازمة للتهجد (صلاة الليل) والعبادة وزوال ثقل النعاس، وخفّة المؤنة، أي النفقات القليلة التي تجعل الإنسان يرضى بالقليل من الدنيا، فمن تخلّص من شره الطعام لا يرغب في المال الكثير لشرائه، ويزول عنه ثقل الهموم المتعلّقة بالحصول عليه.

التدرّج في التقليل من الطعام

ردًّا على سؤال “كيف أترك الشبع والإكثار في الطعام وقد أصبحا عادة عندي؟”، يجيب الغزالي أنّ الحلّ في التدريج، لتسهيل الأمر على النفس، فيُنقص الإنسان كلّ يومٍ من طعامه لقمة، وينتج عن ذلك أن يقلّ ما يأكله “رغيفًا في شهر”، وهكذا يتعوّد رويدًا رويدًا على الكمّيّات القليلة. وبعد المداومة على التقليل، يختار الإنسان حسب طاقته كمّيّة الطعام من ثلاث درجات يوضّحها الغزالي:

-أعلى درجة هي درجة الصدّيقين (أعلى المراتب بعد مرتبة النبوّة)، وكمّيّة الطعام في اليوم هنا على قدر القوام، أي قوت الطعام الذي يقيم الإنسان ويبقيه على قيد الحياة ولا يجعل عقله ضعيفًا، وبمعنى آخر الحدّ الأدنى من الطعام الذي إذا نقص يتشكّل خطرٌ على الحياة والعقل.

-الدرجة الثانية هي نصف المُدّ كلّ يوم (قيمة المدّ عند بعض الفقهاء المعاصرين تقريبًا 544 غرام)، وهذه كانت عادة جماعة من الصحابة كعمر بن الخطاب.

-الدرجة الثالثة هي المُدّ الواحد كلّ يوم، دون زيادة. لكن يؤكّد الغزالي أنّ هذه الحسابات تقريبيّة، ويؤثّر فيها اختلاف الأشخاص وأحوالهم. وهو يفضّل أن يأكل الإنسان عند الجوع الكبير، وأن يتوقّف عن الطعام وهو لا يزال يشتهيه. ودليل الجوع الصادق لديه هو الوصول إلى الحالة التي يصبح فيها راغبًا بأيّ نوعٍ من الخبز، حتّى لو كان يابسًا (من غير إدام أو مرق).

Dedupmrg765329080 Ie144661144 Fl144661330 660

من مخطوطة الأربعين في أصول الدين- المكتبة الوطنيّة 

كذلك، يعتبر الغزالي أنّ على الإنسان التقليل من خبز البُرّ (القمح) مع الإدام (المرق أو الدسم)، وأن يحاول الاقتصار على خبز الشعير بلا إدام. وينصح أيضًا بالتدرّج في مدّة الامتناع عن الطعام، فيمتنع في البداية عن الأكل في اليوم الواحد أكثر من مرّةٍ واحدة، ثمّ يمتنع عن الأكل ليومين متواصلين، ويستمرّ بالتدريج حتّى يصل أيّامًا عديدة بلا طعام، ككبار سالكي الطريق من الصوفيّين.

هكذا كانت حمية الغزالي الروحيّة، وإذا أعجبتكم، ننصحكم بعدم تجريبها، قبل أن تستشيروا طبيبكم!

بعيداً عن ضَوضاءِ الأسواق: سُنّةُ الاعتكاف في رمضان

في شَهرِ رمضانَ المُبارك، تمثل رؤية الهلال بداية طقوس روحانية مهمة لدى المسلمين في جميع أنحاء العالم، حيث يجتمعون على موائد الافطار وفي المساجد على حد سواء. ومن بين هذه الطقوس الاعتكاف، وهو خلوة روحية ذات أهمية بالغة، حيث يسعى المؤمنون إلى الاعتزالِ والتّقرب من الله تعالى. يُعتبر الاعتكاف، المتجذر في سنة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وسيلة لتعميق الإيمان، ويدعو المؤمنين إلى الانغماس في أعمال العبادة والتأمل داخل جدران المسجد المقدسة.

832 629

بطاقة بريدية تظهر مجموعة من المصلين في الجامع الأزهر في القاهرة، مجموعة بن تسفي.

في شَهرِ رَمَضانَ المُبارك، عندَ تَتِمّة رُؤيةِ الهلال، تبدأُ شعائر الشهر الكريم بالحضور في زوايا منازل المسلمين ومساجدهم في جميع أنحاء العالم. أحدُ هذه التقاليد هو تقليدٌ معروفٌ باسم الاعتكاف، وهو خلوة روحية لها أهمية عميقة بالنسبة للمؤمنين الذين يسعون إلى التقرب إلى الله سبحانه وتعالى.

مع اقتراب الأيام العشرة الأخيرة والأقدس من شهر رمضان، تترقبُ المساجد و تستَعِد لاستقبال المصلين الذين يشرعون في رحلة الاعتكاف الروحية. شَرّعَ الإسلام الاعتكاف كوسيلة  لتعميق اتصال المؤمن بالله تعالى، وتعزيز الجانب الروحاني للإيمان، والعودة إلى الحياة اليومية بإيمان والتزام أقوى. إنه وقت التأمل والتفاني والاستسلام، حيث يقضي المؤمنون في حرم المسجد، ساعة، أو يومًا، أو حتى أكثر، منغمسين في أعمال العبادة بعيدًا عن مُلهيات العالم الخارجي. وهم في هذا المكان المقدس يقتدون بالملائكة الذين يسبحون الله ليلا ونهارا، ولا يتوانون في طاعتهم. كما يمكنُ اعتبار الاعتكاف تدريباً للنفس على الصبر والمثابرة في مواجهة الشدائد وإيجاد العزاء في عبادة الله تعالى.

End Of Ramadan
صلاة الجمعة الأخيرة في المسجد الأقصى، 1993، أرشيف دان هداني، المكتبة الوطنية.


تعود أصول الاعتكاف إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، الذي مارس هذه الخلوة الروحية خلال العشر الأواخر من رمضان. “عَنْ أبي هُريرةَ، رضي اللَّه عنهُ، قالَ: كانَ النبيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يَعْتَكِفُ في كُلِّ رَمَضَانَ عَشَرةَ أيَّامٍ، فَلَمًا كَانَ العَامُ الَّذِي قُبًضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشرِينَ يَوْماً”.


للمزيد من مقالات مجلة المكتبة الوطنية حول شهر رمضان.

في ممارسة الاعتكاف المقدسة، لا يُدعى المؤمنون إلى العزلة في المسجد فحسب، بل أيضًا إلى الانخراط في العبادات المفيدة التي تغذي الروح وتعمق علاقتهم بالله، ممارسات كقراءة ما استطاعوا من القرآن الكريم و اقامة صلاة النوافل و الدروس الدينية.

لكن الاعتكاف لا يقتصر على شهر رمضان المبارك وحده. ويمكن ممارسته في أي وقت من السنة، وفي أي شهر، كوسيلة للتقرب من الله. ومع ذلك، هناك جاذبية خاصة للعزلة خلال شهر رمضان، وهو الوقت الذي يقال فيه أن الحسناتِ تتدفق بكثرة.

الاعتكاف في كَنَف القدس

الإتحاد, 10 كانون الثاني 1999 660
جريدة الإتحاد، 10 كانون الثاني 1999، موقع جرايد

لعقودٍ طَويلة، كانَ المسجدُ الأًقصى، داخل أسوار القدس القديمة، ملاذاً لأولئك الذين يبحثون عن الاعتزال الروحي والعبادة. منذ عصر الإمبراطورية العثمانية إلى يومنا هذا، كان المسلمون يجتمعون داخل ساحات المسجد على مدى الثلاثون يوماً للإفطار و آداءِ صلاةِ التراويح و أخيراً الاعتكاف.  

للمزيد من المواد الرقمية حول شهر رمضان في القدس.

ومنذ عام 1967، اكتسبت الاعتكافُ خلال الأيام العشرة الأخيرة من رمضان أهميةً خاصة في القدس، حيث يتدفق المصلون من كل مكان للمشاركة في هذا التقليد المقدس. وتشهد الأيام الإضافية، مثل الخميس والجمعة، تدفقًا للمصلين من جميع أنحاء البلاد، حريصين على الاستمتاع بالجو الروحي للمدينة المقدسة.

الأهمية الرّوحانيّة لشهر رمضان

وصلت بعض المخطوطات العربية إلى المكتبة الوطنية وقد صُنّفت في مجموعة يهودا (1877-1951) وهي عبارة عن 93 ورقة بخط اليد، وتحتوي على أحاديث نبوية صحيحة وأخرى يُختلف على مدى صحّتها في السّنة النبويّة والصحيحين لكننا من خلالها نستشّف الأهمية الرّوحانية لشهر رمضان لدى المسلمين وفضائله.

832 629

مخطوطة مغربية، 1873-1882، مجموعة يهودا، المكتبة الوطنية

وصلت بعض المخطوطات العربية إلى المكتبة الوطنية وقد صُنّفت في مجموعة يهودا (1877-1951) وهي عبارة عن 93 ورقة بخط اليد، وتحتوي على أحاديث نبوية صحيحة وأخرى يُختلف على مدى صحّتها في السّنة النبويّة والصحيحين لكننا من خلالها نستشّف الأهمية الرّوحانية لشهر رمضان لدى المسلمين وفضائله. من خلال المقال نسلّط الضوء على بعض المخطوطات الّتي يتم الحديث فيها عن شهر رمضان المبارك.

 المخطوطة الّتي وصلتنا تعود إلى القرن الثالث عشر الهجري\ التاسع عشر الميلادي من المغرب (1290 هــ – 1873م)، حيث يشيرُ الفصل في البداية بالعنوان «باب فضل شهر رمضان» إلى الأهميّة الرّوحانية للشّهر لدى المسلمين عمومًا، حيث جاء في هذا الباب ما تمّ نقله عن الرسول محمد ﷺ بنقله المتن كاملًا للحديث في البداية قائلًا: «إنّ الجنّة لتَتزيَّنُ من الحَولِ إلى الحولِ بقدومِ شهر رمضان، فإذا كان أوّل ليلةٍ من شهر رمضان، هبَّت ريحٌ من تحتِ العرش يُقالُ لها المُثيرة فيصطفقُ ورق أشجار الجنة وحلَقُ المصاريع فيسمع لها طنينٌ لم يسمع السامعين أحسنَ منهُ».

Dedupmrg760662917 Ie160153398 Fl160153976
مخطوطة مغربية، 1873-1882، مجموعة يهودا، المكتبة الوطنية

وقد ذُكر هذا الحديث في صورٍ عديدة واختلفَ فيه الرّواةُ وفي مدى صحّته، على غِرار العديد من الأحاديث الأخرى في التّاريخ الإسلامي، حيث تم الاختلاف في العديد من الروايات لكن إن تدّل هذه الاختلافات بحسب العديد من الدّراسات الإسلامية على شيء، فإنها تدّل على اختلاف التدوين وبدايته في الإسلام، حيث بدأ تدوين الأحاديث متأخرًا ممّا أدى إلى الاختلاف في مدى صحّتها. وفي حالة المخطوطة الّتي نعالجها، وعلى الرغم من عدم التأكد من مدى صحّة الأحاديث النبويّة، إلّا أن الأحاديث المذكورة، تناقش الأهميّة الروحانية للشّهر الفضيل. وقد ذُكر الحديث في مراجع أخرى بالصّيغة التالية على سبيل المثال

«إنّ الجنّة للتتزيّن من الحَوَل إلى الحوَل لشهرِ رمضان، وإنّ الحورَ ليُّزيّن من الحول إلى الحول لصوّامِ رمضان، فإذا دخل رمضان قالت الجنّة: اللّهم اجعل لي في هذا الشّهرِ من عِبادكَ. ويقولنَ الحَوَر: اللّهم اجعل لي من عِبادكَ في هذا الشَّهرِ أزواجًا، فمَن لم يقذف فيه مسلّمًا ببهتان ولم يَشرب مُسكِرًا كفَّر الله عن ذنوبه، ومن قذفَ فيه مُسلمًا، أو شربَ فيه مُسكِرًا أحبطَ الله فيه عمله لسَنتهِ، فاتّقوا شهر رمضان فإنّه شهر الله، جعلَ الله لكم أحد عشرة شهرًا تأكلون فيه وتشربون وتتلّذذون وجعل لنفسهِ شهرًا، فاتقّوا شهر رمضان فإنه شهر الله».

ويتفق الحديث الّذي ذُكر في المخطوطة المغربية مع الحديث الثاني في الأهمية الرّوحانية لهذا الشّهر، وعلى أهميّته لدى الله تعالى عند الحديث عن العِبادات، فالعِبادات هي البوابة الّتي تصِل الإنسان بربّه بحسب الدّين الإسلاميّ، وأعظم الأوقات للقيام بهذا الرابط الروحاني بين العبد وربّه يكون في هذا الشّهر.

في الحديث الثاني، كانت هناك إضافة طفيفة لكن مهمّة، وهي حول تجنّب العبد لبعض الذنوب والخطايا الّتي منعها الدّين الإسلاميّ، وذلك من أجل قبول الصّيام والعِبادات والتّوبة فيه.

اطلعوا على بوابة شهر رمضان الرقمية في موقع المكتبة الوطنية.


وفي مخطوطةٍ أخرى، يُذكر حديثٌ آخر للنبيّ ﷺ حول فضل ليلة القدر للمسلمين وأهميتها الروحانية، حيث ذُكر في المخطوطة عن النبي ﷺ: «أريدُ أن أخبركم بليلة القدر ولكن خشيتُ أن تتكلّموا عليها وعسى أن تكون خيرًا فاطلبوها في تسع يمضين أو سبع يمضين أو خمس يمضين أو ثلاث يمضين أو في آخر ليلة، وجاء من أماراتها ليلةٌ بلحة سمحة لا حارّة ولا باردة تطلعُ الشّمس في صبيحتها ليس لها شعاع من قامها إيمانًا واحتسابًا غُفرَ له ما تقدّم من ذنبه»

وقد ذُكر هذا الحديث أيضًا في عدّة صِور منها، جاء عن رسول الله ﷺ أنه قال: «إن أمارةُ ليلة القدر أنها صافية بلجةُ كأنّ فيها قمرًا ساطعًا، ساكنةٌ ضاحيةٌ لا بَرْدَ فيها ولا حرّ، ولا يحلّ لكوكبٍ أن يُرمى فيها حتى يُصبح، وإن أمارتها أنّ الشّمس صبيحتُها تخرجٌ مستويةً ليس لها شعاع، مثل القمر البدر، لا يحلُّ للشيطان أن يخرج معها يومئذٍ»

وفي كلا الحديثين بغض النّظر عن مدى صحّتهما، فإنهما يشيران إلى مدى أهمية هذه اللّيلة في العبادة والتعبّد، ويردُ في  كلا الحديثين بأنها ليلةٌ تُغفر فيها الذنوب ويُمنع فيها الشيطان من النّزول إلى الأرض. وفي العديد من التفسيرات الّتي ذُكرت أيضًا في المخطوطة، فإنّ المغفرة الّتي تمّ الحديث عنها في الحديث الأوّل، هي مغفرة عن الذنوب الّتي اُرتكبَت بين العبد وربّه وليس بين العبد وبقيّة العِباد، فحقوق العِباد محفوظة لليوم الآخر. والمغفرة هذه مشروطة بمعرفة العبد بشروط الشّهر الفضيل من حفظ اللّسان، والتّحرّر من الغيبة والنميمة والحسد، وصون جوارحه والكف عن الخطأ على المسلمين وحفظ أهل بيته.

Dedupmrg760662917 Ie160153398 Fl160153979 3

وذكر في إحدى المخطوطات، عن عائشة رضي الله عنها، زوجة الرسول محمد ﷺ، «إنه خرج في جوف اللّيل في إحدى ليالي رمضان وصلّى في المسجد وصلّا النّاس بصّلاته، وأصبح الناس يتحدّثون بذلك وكثُر النّاس في اللّيلة الثامنة وصلّوا بصلاته، فلّما كانت اللّيلة التّاسعة كثُر النّاس حتى عجز المسجد عن أهله، فلم يخرج إليهم حتى خرج لصلاة الفجر، فلمّا صلّى صلاة الفجر أقبل على النّاس وقال أنه لم يخفَ عليّ شأنكم اللّيلة ولكن خشيت أن يعزم عليكم في صلاة اللّيل فتعجزوا عن ذلك» وبعد وفاة الرسول ﷺ استمر أبو بكرٍ وعمر الخلفاء من بعده بقيام الصلاة من بعد العشاء حتى الفجر في ليالي رمضان، وصارت سُنّةً نبويّة يقتدي فيها الناس.

Dedupmrg760662917 Ie160153398 Fl160153979 2

وتعتبر صلاة التّراويح اليوم (الصلاة من بعد العشاء حتى الفجر في ليالي رمضان) سنّةً مثبتةً خلال الشّهر حتى يومنا هذا، فيقوم المسلمون بأداء صلاة التراويح كجزء من التّقرب من الله ومن محاولة زيادة التعبّد خلال الشّهر.

استمر شهر رمضان على مدار التاريخ الإسلامي بكونه شهرًا روحانيًا وفرضًا للصيام ومفضلًا للمسلمين ينتظرون قدومه للتقرب من الله تعالى خلاله، ففيه يتم التجرّد من رغبات النفس والذنوب ويتم التركيز على التّقرب من الله وصلة الأرحام والأقارب وقراءة القرآن وإقامة الصّلاة، ليكون بذلك أكثر الشهور روحانيةً وفضلًا للمسلمين.

إنّ المخطوطات الّتي في حوزتنا طويلة وكثيرة كما ذكرنا في بداية المقال، وإن أردنا الاستطراد أثناء الحديث عنها فإننا نحتاج إلى سلسلة من المقالات، لكننا حاولنا الاختصار من خلال إدراج بعض الأحاديث الّتي يتم تداولها سنويًا للحديث عن أهمية شهر رمضان روحيًا في الدين الإسلاميّ، إنّ الأحاديث المذكورة تهتم بإبراز الجانب الروحاني من خلال إظهار كيفية تزيُّن الجنّة واستعداد الملائكة لاستقبال الشّهر.