كنز المفردات: سِجِل البِلاد الغني في قاعة

يُقَدم مَعرَض "كنز المفردات" رحلة فريدة عبر الزمان والمكان، ويكشف عن مجموعة مختارة من القطع الأثرية الثقافية القيّمة المحفوظة داخل المكتبة الوطنية. ويتيح هذا المعرض المتميز فرصة عميقة للتعمق في التاريخ والتراث من خلال النصوص المكتوبة والمطبوعة والمسجلة والمعروضة رقمياً. وسواء كانت هذه النصوص أدبية أو دينية أو علمية، فإنها تفتح نافذة على تجارب إنسانية متنوعة وثرية.

معرض كنز المفردات،المكتبة الوطنية الاسرائيلية

معرض كنز المفردات،المكتبة الوطنية الاسرائيلية

إنّه لمِنَ البَديهي عِندَ زِيارة أي مكتبةٍ في أَي مكان أن تجد قاعات مصفوفة بالكُتب ومَقاعد للزوار للدراسة أو القراءة. لا تختلف المكتبة الوطنيّة الاسرائيليّة عن غيرها من المكتبات في هذا الجانب، لكنّها تُخَبأُ في احدى زواياها كنزاً يميّزها عن قَريناتها. تحتوي المكتبة الوطنيّة الى جانب العدد الهائِلِ مِنَ الكُتب مجموعة مميزة من التحف القديمة والمخطوطات الغنية بلغات مُختَلِفة وذات الصّلة بثقافة البلاد واُتخذ القرار لِعَرضِ أَهَمِّها في قاعة من قاعات المكتبة كَمعرض تحتَ عنوان “كنز المفردات”.

يُقَدم مَعرَض “كنز المفردات” رحلة فريدة عبر الزمان والمكان، ويكشف عن مجموعة مختارة من القطع الأثرية الثقافية القيّمة المحفوظة داخل المكتبة الوطنية. ويتيح هذا المعرض المتميز فرصة عميقة للتعمق في التاريخ والتراث من خلال النصوص المكتوبة والمطبوعة والمسجلة والمعروضة رقمياً. وسواء كانت هذه النصوص أدبية أو دينية أو علمية، فإنها تفتح نافذة على تجارب إنسانية متنوعة وثرية.

يَهدفُ المعرض إلى إبراز القوة التحويلية للنصوص في تغيير العالم، وَصَقل الأَفكار، وَتَشكيل هَويّات الأَماكن والمجتمعات والأُمم. ويُسَلّط الضوء على كيف يمكن للنصوص أن تخلق حقائق جديدة وتعبر عن أرواح ومواهب المفكرين والكتاب والشعراء.

على الرُّغم من التصميم السّلس والمترابط للمعرض، فإنه يقدم مجموعة متنوعة من المواضيع. وتشمل هذه النصوص التأسيسية من اليهودية والإسلام والمسيحية، مخطوطات قديمة وحديثة لعيد الفصح؛ أصول الأبجديات العبرية والعربية وتطورها؛ نُسَخ متنوعة من القرآن الكريم وصحيح المسلم وأرشيفات لأدباء عرب كالأديب نزيه خير.

مصحف قرآني، بلاد فارس، القرن 10 هـ/ 16 م
مصحف قرآني، بلاد فارس، القرن 10 هـ/ 16 م

يُمكن للزّوار أن يفحصوا عن كثب القطع الفريدة والأصلية التي شكلت تاريخ وثقافة البلاد. ومن بين هذه المخطوطات مخطوطة قديمة توضح رحلة النبي محمد – عليه السلام- إلى السماء، والمعروفة بالإسراء والمعراج، والتي تصف من خلال الرسومات والأشعار كيف ارتحل من المسجد الأقصى على ظهر البراق وعرج إلى السماء. كما تُعرض أيضًا قصة الحب الفارسية الخالدة “مجنون ليلى” لنظامي، والتي تجاوزت الحدود الشرقية وألهمت العديد من الأعمال الفنية اللاحقة.

بالإضافة إلى ذلك، يعرض المعرض ثلاث رسائل مهمة للعالِم الإسلامي أحمد بن تيمية في القرن الرابع عشر. تتضمن هذه الرسائل، التي نسخها أحد تلاميذه المقربين بعد عقود من وفاته، نصوصًا مهمة عن تعاليمه والتي كان من الممكن أن تُفقد لولا هذه المخطوطة المحفوظة.

ولعل أكثر ما قد يجذب زوار المعرض في حال دخولهم هي الطاسات السحرية المعروضة في واجهة المعرض هذه الأوعية القديمة التي كانت تستخدم لاصطياد الشياطين من بابل، استخدمها اليهود لعدة قرون في طقوس طرد الأرواح الشريرة. تحتوي على تعويذات وصلوات وشتائم منقوشة، يعود تاريخ هذه الطاسات إلى الألفية الأولى بعد الميلاد، ويُعتقد أنها تحبس الأرواح الشريرة المسببة للمرض. غالبًا ما كان يتم دفن هذه الأوعية تحت المنازل من أجل الحماية. تظهر الأدلة الأثرية أن اليهود كانوا يعتبرون خبراء في صنع هذه الأوعية، حيث أن أكثر من 60% من الأمثلة المكتشفة تحتوي على نقوش يهودية.

هذه القطع الثمينة وذات الأهمية التاريخية، المكتوبة بالحبر على ورق وورق وألواح طينية، معرضة للتلف بسبب الضوء والرطوبة والظروف المناخية. لحمايتها، يتم عرضها في خزائن مصممة خصيصًا تحت ضوء خافت، مع تدوير بعض العناصر كل بضعة أشهر وفقًا لخطة محددة مسبقًا لتقليل التدهور.

وإلى جانب هذه المعروضات الحسّاسة، توجد عناصر أكثر متانة، مثل الشاشات الرقمية التي تعرض محتوى من المجموعات الصحفية التاريخية منها عناوين صُحُف من فترة فلسطين الانتدابية. كما يضم المعرض ركنًا صوتيًا حيث يمكن للزوار الاسترخاء على مقاعد مريحة والاستماع إلى التسجيلات الصوتية من الأرشيف للمكتبة.

علاوة على ذلك، فإن هذه الكنوز الثقافية مصحوبة بشاشات تعمل باللمس تتيح للمشاهدين رؤية صور مفصلة ومكبرة للمعروضات. على موقع المعرض، يمكن العثور على مجموعة مختارة من العناصر الأكثر روعة، ومعرفة القصص التي تقف وراءها، وفهم أهميتها الثقافية.

لمعلومات إضافية عن كيفية زيارة المعرض، اضغط هنا

أرشيف نَزيه خير: صدىً شعريٌ لحياةٍ غنية

في هذا المقال لَمحة عن الشاعر نزيه خير، مستوحى من أرشيفه الغني والمحفوظ في المكتبة الوطنية. من خلال أعماله الشعرية يقدم خير رؤى عميقة حولَ نَظرته الفَريدة للعالم وتجاربه الحياتية الغنية.

أرشيف نزيه خير

وُلد الشاعر نَزيه خير في قَرية داليةِ الكرمل الهادئة، الواقعة بالقرب من مدينة حيفا الصاخبة. نشأ نزيه في عائلة دُرزية مُتماسكة، مُحاطة بالأهل والثقافة والتقاليد الغنية لشعبه. منذ صغره، كان نزيه مفتونًا بقوة الكلمات، وهو الشغف الذي حمله معه طوال حياته.

كانت مَساعي نزيه الفكرية مجرد بداية لمساهماته في عالم الأدب. اذ قادَتهُ رحلته الأكاديمية إلى جامعة حيفا حيث انغمس في الأدب العربي والعلوم السياسية. وبحلول عام 1972، كان قد حصل على درجة البكالوريوس، وبعد أربع سنوات حصل على درجة الماجستير في العلوم السياسية.

بقلب مليء بالحماس وعقل مفعم بالأفكار، تولى نزيه منصب رئيس تحرير مجلتي “48” و”اتحاد الكتاب العرب الفلسطينيين”. كما شارك حبه للغة العربية وآدابها مع الطلاب المتحمسين في كلية المعلمين. وبدأت مجموعاته الشعرية تنمو، وكان كل بيت انعكاسًا لارتباطه العميق بوطنه وشعبه.

وقد اعتبرت الموسوعة الفلسطينية نزيه أحد الشعراء الخمسة الرواد من المجتمع العربي داخل إسرائيل، وتجسد أعماله روح وإبداع الشعر الفلسطيني المعاصر. وكان لكلماته صدى واسع النطاق، مجسدة جوهر تجاربه وتطلعاته.

لكن قصة نزيه لا تنتهي عند شعره. طوال حياته، جمع ثروة من المواد التي أرّخت رحلته كشاعر. إن هذا الأرشيف الثمين، الذي احتفظت به عائلته بمحبة بعد وفاته عام 2008، هو شهادة على العمل الذي قام به طوال حياته.

لسنوات، ظل هذا الأرشيف سرًا عائليًا، ولمحة خاصة عن عالم شاعر مميز. ومع ذلك، في عام 2023، تولت المَكتبة الوطنية في القدس المهمة الضخمة المتمثلة في فهرسة وأرشفة مواد نزيه. وتم اتاحة الأرشيف رقمياً، لضمان استمرار ارثه للأجيال القادمة.

يحتوي الأرشيف قصائد مكتوبة بخط اليد، بعضها لم ير النور أبدًا، ومسودات، وقصاصات صحف، ومجلات. وصور تلتقط نزيه في مناسبات ثقافية مختلفة، في الداخل والخارج، وهو يختلط مع شخصيات بارزة مثل فدوى طوقان، وميشيل حداد، ونجيب محفوظ، وسميح القاسم، وروني سوميك، والشاعر الأمريكي ألين جينسبيرج. ترسم هذه الصور، إلى جانب الصور الشخصية والعائلية، صورة حية لحياة مخصصة للفن والتعبير.

أرشيف نزيه خير
أرشيف نزيه خير

واليوم، يمكن لزوار المكتبة الوطنية في القدس استكشاف مخزون تفصيلي من أعمال نزيه خير الشعرية، مع عرض بعض القطع بفخر في معرض دائم. ومن خلال هذا الحفظ الدقيق، يستمر صوت نزيه في الإلهام، مرددًا صدى الجمال الخالد لشعره والروح الدائمة لوطنه.

شِعر خير

بعد الاطلاع على أعماله، يتَعذَّرُ حصر شعر نزيه في تخصص واحد، وربما هذا ما يميزه. اذ يتوضح لنا سَكبَهُ كل جانب من جوانب حياته على الورق، من تجاربه الشخصية إلى آرائه السياسية.

يتميز شعر  خير بمزجه بين الوطنية الفلسطينية والقومية العربية والموضوعات العالمية والانسانية. وقد خلق هذا المزيج الفريد، الذي أَثَرته معتقداته الدرزية التقدمية، تناغمًا نادرًا ما نجده بين الشعراء الآخرين. تعكس أعماله الفخر الوطني والعمق الثقافي، المتجذّرة بعمق في التراث العربي.

أرشيف نزيه خير

في فترات كتابته الأولى كتب عن صراعاته الشخصية، معبّرًا عن مشاعر الفقدان العميقة والإحساس العميق بالاغتراب بسبب هويته العربية الدرزية التي احتلت مساحة كبيرة من أعماله كما يظهر في قصيدته بين لحظتين، لكنه في الآن ذاته يرى أن كل ظلم أو حزن أو ألم ينتهي بالأمل، وهذا التفاؤل ينعكس كثيرًا في قصائده كما في قصيدته ما وراء الغيب.

يُقدم عمل نزيه رؤية فريدة لحياته المتعددة الأوجه، مما يوضح أنه لكي نفهمه حقًا، يجب على المرء أن يتعمق في أرشيفه الواسع. من خلال كلماته، يمكن للقراء استكشاف عمق عواطفه ومعتقداته والتراث الثقافي الغني الذي حدد رحلته الشعرية غير العادية.

أرشيف نزيه خير
أرشيف نزيه خير

“إذا المحبّة أومت إليكم فاتبعوها”: وصايا الحبّ في كتاب “النبيّ” لجبران

نقدّم لكم في هذا المقال سبرًا لعمق الحبّ في كتاب "النبيّ" لجبران خليل جبران (1883-1931)، الذي يُعتبر أشهر كتبه، ورائعته الأدبيّة العالميّة التي تُرجمت إلى عشرات اللغات.

جبران خليل جبران

جبران خليل جبران

نشر جبران خليل جبران كتابه “النبيّ” باللغة الإنكليزيّة عام 1923، وقد حقّق له شهرةً عالميّة، وتُرجِم إلى أكثر من 50 لغة، من بينها العربيّة التي ترُجِم إليها عدّة ترجمات. وضع في هذا الكتاب خلاصة حياته وتجربته، وقد اعتبر أنّ روحه كتبته منذ الأزل، وقال عنه أيضًا: “شغل هذا الكتاب الصغير كلّ حياتي. كنتُ أريد أن أتأكّد بشكلٍ مطلق من أن كلّ كلمة كانت حقًا أفضل ما أستطيع تقديمه“.

كتب جبران كتابه بلغةٍ شعريّةٍ عذبة، وبأسلوبٍ أدبيّ قابلٍ للتأويلات العميقة يذكّر بالكتب الدينيّة كالإنجيل والأسفار المقدّسة. ونشعر أثناء القراءة بانفتاح أفق الكتاب على مناطق ثقافيّة وإنسانيّة واسعة، كالصوفيّة ووحدة الوجود ومعاني الحبّ العابرة للحضارات، وكالرومانسيّة ممثّلةً بتقديسها للطبيعة، وبمفهومها عن الشاعر النبيّ الخلّاق.

الإعلان 25.10.1926

جريدة الإعلان، 25 تشرين الأوّل 1926*


يبدأ الكتاب من نقطة النهاية، من اللحظة التي تصل فيها سفينةٌ إلى المدينة الخياليّة أورفاليس، لتعيد النبيّ -المسمّى في الكتاب “المصطفى”، والموصوف بأنّه “المختار الحبيب”- إلى وطنه، بعد أن قضى في هذه المدينة 12 عامًا. وعندما يعلم السكّان بالأمر، يهرعون إليه، طالبين منه ألّا يغادرهم، لأنّ “المحبّة لا تعرف عمقها إلّا ساعة الفراق“. لكنّه لا يستطيع البقاء أكثر، لأنّ البقاء يعني لديه الجمود، وعليه أن يمضي إلى الآفاق الواسعة كالموج الذي لا يهدأ. حينها، يطلب منه السكّان أن يحدّثهم حديثًا أخيرًا نابعًا من حبّه لهم عن الحقيقة التي يعرفها، المحفور حبّها وشوقها في نفوسهم.

 قد تكون مدينة أورفاليس رمزًا للدنيا، وأهلها رمزًا للبشر، والسفينة رمزًا للموت، الذي يحمل الميّت إلى وطنه، إلى الأمّ الأزليّة كما يصفها، وإلى البحر اللامتناهي الذي يرمز بالأدب الصوفيّ إلى الله. وقد يكون النبيّ هنا رمزًا للصوفيّ، أو الشاعر كما وصفته المدرسة الرومانسيّة، وربّما أيضًا حين نتأمّل حبّه لأهل المدينة وتأجيله للرحيل كثيرًا وأمنيته أن يصحبهم معه، يُذكّرنا ذلك بالبوديساتفا في البوذيّة، وهو شخصٌ يؤجّل استنارته الكاملة كي يساعد الآخرين، نتيجة عطفه وحبّه لهم، في أن يصلوا الحقيقة وينالوا الاستنارة.

وكما يلخّص كتاب النبيّ حياة جبران وتجربته، فإنّ الحبّ يلخّص هذا الكتاب. فهو أوّل ما يتحدّث النبيّ عنه في حديثه الأخير لأهل مدينته، بعد أن تسأله عنه “ألمِطرا”، أبرز شخصيّةٍ بعده في الكتاب، وقد كانت هذه المرأة الكاهنة أوّل من عطف عليه وآمن به يوم وصوله إلى المدينة. والحبّ أيضًا موجودٌ إمّا بطريقةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرةٍ في كلّ أجوبة النبيّ على أسئلة سكّان المدينة عبر فصول الكتاب.

الاتحاد 21.11.1994

الاتحاد، 21 تشرين الثاني 1994*

يأمرنا نبيّ جبران منذ البداية أن نتبع الحبّ دائمًا، حتّى لو كان نداؤه إلينا، لا بصوتٍ جهورٍ مباشر، بل بمجرّد الإشارة. لكنّه يحذّرنا في الوقت ذاته بأنّ الحبّ ليس سهلًا، لأنّ طرقه صعبةٌ ووعرة وكثيرة المزالق. فالحبّ لدى نبيّ جبران هو الشيء ونقيضه معًا، هو نعومة ريش الأجنحة، وهو أيضًا السيف الجارح المختبئ بين هذا الريش. وكأنّ جبران حين يقول على لسان نبيّه بأنّ الحبّ يكلّل الإنسان بالمجد، لكنّه أيضًا يصلبه، أراد أن يُشير إلى هذه الآية من إنجيل يوحنا عن صلب المسيح: “لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ“، لكنّ الفرق لدى جبران أنّ هذا الحبّ الذي يؤمّن الحياة الأبديّة رغم جراحه القريبة من آلام الموت على الصليب، هو حبٌّ ليس مقتصرًا على الآلهة، بل يستطيعه جميع الناس، نظرًا لإيمان جبران، كما يظهر في كتابه، بقوّة قلب الإنسان، وبوحدة الوجود، وبوجود نفسٍ عليا داخل كلٍّ منّا، وقطرةٍ لامتناهية من البحر الإلهيّ الأبديّ.

وحين يكمل النبيّ وصفه للحبّ، يشبّهه بعمليّة الخَبز، فهو يضمّنا إليه كحزمة قمح، ويدرسنا على البيادر ليعرّينا من غرورنا، وهو يغربلنا ليخلّصنا من القشور التي نحبس أنفسنا داخلها، ثمّ يطحننا ليجعلنا أنقياء كالثلج، ثمّ يعجننا بالدموع كي نلين، ثمّ أخيرًا يسلّمنا إلى ناره المقدّسة فنصير خبزًا من حبٍّ يليق بأن يقدّم على مائدة الربّ. وفي هذه الأوصاف جميعها ندرك أنّ الحبّ لا يصنع منّا نسخًا أفضل من أنفسنا، إلّا بالألم (الطحن) أو بالحزن (الدموع)، وبأنّ على نار شوقه أن تحرقنا كي نكون جزءًا من مائدة الله اللانهائيّة. ونلمح مرّةً أخرى إشاراتٍ إنجيليّة تذكّرنا بالعلاقة بين الخبز وجسد المسيح، وبقول المسيح بأنّ من يأكل خبزه يحيا إلى الأبد.

ثمّ يحذّرنا نبيّ جبران بأنّنا إن كنّا لا نمتلك الشجاعة على تحمّل مشاقّ الحبّ، ولا نبحث فيه إلّا على الطمأنينة واللذة، فالأولى أن نغادر بيدر الحبّ إلى “عالمٍ لا تتعاقب فيه الفصول، حيث تضحكون، لكن ليس كلّ ضحكم، وتبكون، لكن ليس كلّ دموعكم“. وربّما قصد جبران بذلك أنّ الحياة بلا حبٍّ، وبلا ألم الحبّ ولذّته، ستشبه في رتابتها عالمًا بفصلٍ واحد لا يتجدّد، وسيعيشها الإنسان على السطح فقط، بفرحٍ لا يغوص إلى الأعماق، وبحزنٍ لا يأخذه إلى نبع الدموع داخله، فبالحبّ وحده يعيش أقصى طاقاتها وعواطفها.

وقبل أن ينهي النبيّ عظته عن الحبّ، وقبل أن ينهي جبران كتابة فصله الأوّل عن الحبّ الذي يلخّص الكتاب كأنّ باقي الفصول تذوب فيه، يؤكّد لنا أنّ الحبّ ليس تملّكًا، وليس سلبًا لحريّة الآخر، فالحبّ لا يملك إلّا ذاته، ولا يعطي إلّا ذاته، وهو مكتفٍ بها، وهو يقودك إن وجدك خليقًا له، ولا تقوده، فكأنّه يقصد أنّ علينا تسليم أنفسنا إليه، كما يسلّم الصوفيّ أمره لله يفعل به ما يشاء، لأنّ الحبّ، كما يقول نبيّ جبران، هو الذي يُذيبُ الإنسان في قلب الله الذي يسع كلّ شيء.

تستطيعون أن تستمعوا إلى مقتطفاتٍ عن الحبّ من كتاب النبيّ بغناء فيروز هنا:
https://www.youtube.com/watch?v=0WKMnEflR50


* للمزيد حول “جبران خليل جبران” في موقع “جرايد” أرشيف الصحف الفلسطينية التاريخية

مستخدمًا التناص للوصول إلى الأدب؛ مسيرة سميح القاسم الأدبية

العشرات في قصائد سميح القاسم المختلفة، وهي تدلل بشكلٍ خاص على أسلوبه المتفرد في الشعر في عصره وبالذات التناص الأدبي.

سميح القاسم

الشاعر سميح القاسم

أبصر سميح القاسم النور عام 1939 في مدينة الزرقاء بالأردن، لوالدٍ برتبة كابتن بالجيش الأردني. وقد كانت أسرته مؤلفة من الأب والأم وستة أخوة وست أخوات، يقول سميح عن طفولته الأولى، أنه عند انتهاء الحرب العالمية الثانية عادت الأسرة إلى بلدتهم الأصلية الرامة في الجليل الأعلى، حيث درس الابتدائية في دير اللاتين، المدرسة الروسية القديمة، ثم المرحلة الإعدادية في المدرسة الحكومية، وأكمل المرحلة الثانوية في الناصرة، ولاحقًا درس في أكاديمية موسكو الفلسفة والاقتصاد السياسي.

يحكي سميح القاسم عن أصول أسرته بأنهم يعودون في الأصل إلى الفاطميين الموحدين، وأن عائلته كبيرة وموزعة بين فلسطين وسوريا ولبنان. تزوج سميح وأنجب أربعة أولاد أسماهم: وطن محمد، وضاح، ياسر، عمر. علَّم في بداية حياته، ثم انصرف إلى نشاطه السياسي في الحزب الشيوعي، وتابع على التوازي نشاطه الأدبي، واعتقل عدة مرات ووضع تحت الإقامة الجبرية بسبب مواقفه ومقاومته ورفضه التجنيد الإجباري للدروز.

اقرأوا أيضًا: دالية الكرمل – من تمرّد جبل لبنان حتّى حلف الدّم مع إسرائيل

عمل عاملًا ومعلّمًا في مدينة حيفا، لكنه سرّح لاحقًا بسبب شعره، وانتقل بعد ذلك للعمل في مجال الصحافة، حيث أسهم في تحرير مجلتي الغد والاتحاد، ثم تولى رئاسة مجلة “هذا العالم” عام 1966، ثم عاد للعمل محررًا في صحيفة الاتحاد، وسكرتيرًا لصحيفة “الجديد” ثم رئيسًا لها، كما أسس منشورات “عربسك” 1973 وتولى رئاسة المؤسسة الشعبية للفنون في حيفا.

وقد تأثر شعر القاسم من خلال انتماءاته المختلفة الّتي تقلّبت واختلفت خلال حياته مثله كمثل بقية الشعراء والأدباء من جيله، حيث بدأ حياته بميول قومية واضحة لكنه سرعان ما انضم للحزب الشيوعي الإسرائيلي (راكاح) ليظل عضوًا فيه حتى نهاية الثمانينيّات، حيث قدم استقالته من الحزب وتفرغ للعمل الصحفي والأدبي كليًا.

وقد كتب القاسم عشرات الكتب الشعرية في سنوات حياته، حيث اختصت بقضايا الشعب الفلسطيني بشكل عام، وبأحوال الفلسطينيين في إسرائيل أيضًا، من هذه الكتب: مواكب الشمس 1958، أغاني الدروب 1964، إرَم 1965، دمي على كفي 1967، دخان البراكين 1968، إسكندرون في رحلة الخارج ورحلة الداخل 1970، قرآن الموت والياسمين 1971، الموت الكبير 1972، وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم 1976، كولاج 1983، عجائب قانا الجديدة 2006، وغيرها عشرات من الكتب ومئات من القصائد.

وقد توفي سميح القاسم بعد صراع مع مرض سرطان الكبد لمدة ثلاث سنوات وذلك في 19 أغسطس 2014.

اللّغة في شعر سميح القاسم

يستطيع الشاعر من خلال اللعب بأوتار اللغة التعبير عن نفسه ومواقفه، أفكاره وعواطفه وأحاسيسه وتوجهاته، فهي غطاء مرن للاختباء تحتها ونقل رسالة بصورة غير مباشرة، فالاستخدام الجيد للغة يحيل بالكاتب إلى التفرد، حتى يخيل للقارئ بأن هذا اللفظ أو الاستعارة اللغوية هي من اختراع الشاعر، على الرغم من أنه كان يعرفها مسبقًا.

وقد التزم سميح القاسم كمعظم شعراء عصره بلغة مباشرة دون مواربة، خاصةً في السنوات الأولى لكتابة الشعر، فقد كانت نوعية الكتابة لدى الشعراء في ذلك الجيل صيغة المباشرة دون الاختفاء خلف العبارات المنمقة والاختصارات الشعرية المختلفة. وقد اعتمد سميح القاسم هذا الأسلوب في التعبير عن أفكاره وتوجهاته وقضايا شعبه الّتي تشغله ويفكر فيها.

وقد جاء المعجم اللغوي الخاص بشعر سميح القاسم مستقى من الواقع المعيش لشعبه، حيث جاءت مفرداته كلها متعلقة بالشعب والوطن والثورة من خلال ألفاظ مختلفة منها: الوطن، الشهادة، الحرب، الحرب، السجن، الأرض، الثورة، العذاب، الانتصار، الطفل، الحجارة.. وتواجد مثل هذه المصطلحات في شعر سميح القاسم يعد طبيعيًا نسبةً إلى طبيعة تجربته وتوجهاته الفكرية.

ويتضح استخدامه لمثل هذه المصطلحات من خلال التالي:

“وانشّق عن صوت علاء الدين

ميلاد الحساسين الجوارح

أنا ألقيت على سيارة الجيش الحجارة

أنا وزّعت المناشير

وأعطيت الإشارة

أنا طرّزت الشعار

ناقلًا كرسيِّ”

التكرار: وهي ظاهرة من ظواهر الشعر الحديث الّتي بدأت في الانتشار في بداية القرن العشرين، وإن كانت جذورها تمتد إلى الشعر العربي القديم، فقد استخدمه العرب قديمًا. وهو من أهم الوسائل الّتي تلعب دورًا توضيحيًا في القصيدة، فتكرار لفظة ما أو عبارة ما يوحي بسيطرة هذا العنصر المكرّر وإلحاحه على فكر الشاعر.

ويمثل التكرار إحدى الظواهر الفنية الّتي برزت في شعر سميح القاسم، وقد تنوعت مظاهره في القصائد بحسب الحالة النفسية والشعورية الّتي ألمت بالشاعر لحظة الكتابة، إذ أن هناك بعض الموضوعات والصور الّتي تلحّ عليه في لحظة ما، فيكررها بغية التأثير في المتلقي أو الكشف عن الشعور الباطن الذي يسكنه، ومن الأمثلة على ذلك:

“قيل لي إنهم دُفنوا

وأُهيل لحاف التراب على الجثث النائمة

قيل لي إني واهم

وأنا أبصر الدم واللحم في الساحة الواهمة

ليتني واهمٌ أنني واهم

ليتني موقنٌ أنها يقظتي الحالمة”

حيث يعبر في هذه القصيدة عن رعبه عند رؤية الدم والجثث في قانا، وبتكراره اللفظي “ليتني” و “واهم” يحاول إقناع نفسه بأن هذا مجرد حلم لم يحدث.

استخدام الألفاظ العامية والأجنبية: اعتمد الشعراء في كثيرٍ من الأحيان استخدام اللغة العامية والمستخدمة اليومية من أجل إيصال المعنى والانفعالات، فاتجهوا إلى الاستفادة من المعجم العاميّ العربيّ وذلك انعكاسًا لطبيعة الموضوعات الّتي عالجوها. تقول سلمى الجيوسي: “إن اللهجة والمواقف في الشعر تغيرت بشكلٍ مباشر تحت تأثير الجو السياسي في الزطن العربي”.

وقد استخدم سميح القاسم العامية شعره بكثرة، وذلك بسبب الموضوعات الّتي عالجها من خلاله، على سبيل المثال قوله:

“وتعالوا

أحكموا فكّ الكلبشة”

فقد استخدم هنا اللفظ كلبشة في إشارة إلى القيد أو الأصفاد المستخدمة عند الاعتقال من الشرطة. وفي أبياتٍ أخرى يقول:

“أبي مات..

بيّي، أنا فاديه”

وقد جاء استخدام لفظة “بيي” بصورة محببة ومقربة إلى المتلقي، حيث تعني أبي في عامية بلاد الشام وفلسطين.

التناص كمحاولة للاختفاء خلفه

يبرز التناص كظاهرة لغوية واسعة الانتشار في الأدب العربي الحديث، ويعتمد في تمييزها على ثقافة المتلقي ومدى اطّلاعه وقدرته على الترجيح. والتناص هو أن نصّ أدبي ما نصوصًا أو أفكارًا أخرى سابقة عليه من خلال الاقتباس أو التضمين أو التلميح أو الإشارة، فهو مرتبط بثقافة الأديب. وتشترك جميع نظريات التناص في أنها تعير اهتمامًا بالغًا بالخلفية المعرفية للمبدع في عمليتي انتاج الخطاب أو تلقيه، غير أن الكاتب لا يستدعي “الأحداث والتجارب السابقة كلها وإنما يعيد بناءها وتنظيمها وإبراز بعض العناصر منها أو إخفائها بحسب الحاجة”.

ويعدّ سميح القاسم من أبرز الشعراء الّذين استخدموا التناص في شعرهم، حيث لجأ إلى استخدامه بمختلف أنواعه، وقد حضر بشكلٍ قوي من خلال التناص الديني والتناص الأسطوري. وقد جاء التناص الديني الأكثر تأثيرًا في شع القاسم، حيث ارتبط الدين بالوجدان الإنساني ارتباطًا عميقًا. وقد تعامل الشعراء العرب والفلسطينيين مع التراث الديني الإسلامي لما له من تأثير قوي وعميق في نفوس الناس، حيث اقتبس سميح القاسم من القرآن الكريم العديد من الآيات والشخصيات والقصص والأحداث. حيث يقول:

“دعهم، فإن ضلالهم سوف يرافقهم إلى اليوم الأخير

جالد إذا أفلحت، منتزعًا خطاك من الوحول الداميات

وعد إلى فردوسك المهجور، للجنات تجري تحتها

الأنهار، للقصر الكبير”

حيث اقتبس الشاعر “للجنات تجري من تحتها الأنهار من الآية: ﴿جزاؤهم عندَ ربّهم جنّات عدنٍ، تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا﴾

وفي موضعٍ آخر يقتبس من الآية ﴿إرمَ ذات العماد﴾ في قصيدة “أنادي الموت” حيث يقول:

“أبدًا تجذب وجهي بالنداءات الخفية

لمكانٍ خلف أسوار الشقاء

فيه شيّدت قصوري الذهبية

إرمي ذات العماد..

إرمي.. أمنحها من كل قلبي للعباد”

ومثل هذه الأمثلة العشرات في قصائد سميح القاسم المختلفة، وهي تدلل بشكلٍ خاص على أسلوبه المتفرد في الشعر في عصره. كما يعد القاسم من أكثر الشعراء الفلسطينيين شيوعًا، نظرًا لتجربته الفذة وحسه الإنساني وتجسيده لقضية شعبه بشكلٍ جلي في أشعاره.