قصة سليمان عليه السلام والنملة

مخطوطة "قصة سيدنا سليمان مع النملة"، التي تعود للعام 1274 هجري/ 1857، من مجموعة من القصص المرتبطة بشخصيات إسلامية بارزة متوفرة بالمكتبة الوطنية

مخطوطة "قصة سيدنا سليمان مع النملة"،من العام 1274 هجري/ 1857

مخطوطة "قصة سيدنا سليمان مع النملة"، التي تعود للعام 1274 هجري/ 1857، المكتبة الوطنية

مِن المَعروف أنَّ الأَنبياء الّذين أَرسلهم الله كان لكل منهم معجزةً معينةٌ أو قُدرة خارقة يمكنه القيام بها. بالنسبة للنبي سليمان، كان لديه القدرة على التحدث مع الحيوانات. وقد وردت قصة سليمان -عليه السلام- في عدد من سور القرآن الكريم منها سورة الأنبياء والنمل وص.

توفر المكتبة الوطنية مخطوطة بعنوان “قصة سيدنا سليمان مع النملة” وهي نسخة مشرقية تعود للعام 1274 هجري/ 1857، تحتوي المخطوطة مجهولة المؤلف مجموعة من القصص ذات العلاقة بشخصيات إسلامية منها قصة النبي عيسى عليه السلام وابن شحمة ابن الصحابي عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- وقصة سليمان عليه السلام. تتألف المخطوطة من خمسين صفحة نلقي الضوء على القسم الخاص بقصة سليمان عليه السلام منها.

سُليمان والنملة

وكان سليمان من الأنبياء القلائل الذين حظوا بثروة كبيرة. ودعا الله أن يمنحه ملكًا فريدًا لا يفوقه أحد، فأجاب الله طلبه، وأعطاه مملكة عظيمة ليحكمها. ولم يكن يحكم البشر فحسب، بل كان تحت إمرته الحيوانات والطيور والسحب والرياح وحتى الجن. كان سليمان قائداً حكيماً وعادلاً للإنسان والحيوان، وكان يتمتع بقدرة رائعة على فهم لغتهم.

مخطوطة "قصة سيدنا سليمان مع النملة"،من العام 1274 هجري/ 1857
مخطوطة “قصة سيدنا سليمان مع النملة”،من العام 1274 هجري/ 1857

في عصره، عاشت نملة معروفة بصفاتها القيادية بين أقرانها، وكانت دائمًا تعطي الأولوية لاحتياجات مجتمعها على احتياجاتها الخاصة. وفي أحد الأيام، بينما كان سليمان -عليه السلام- يقود قواته من الجن والإنس والطيور نحو وادي النمل، أدركت النملة التهديد الوشيك لمستعمرتها. اذ أن نوعها الصغير الذي لا يلاحظه أحد في كثير من الأحيان ليس لديه فرصة كبيرة في مواجهة الجيش الضخم.

أدركت النملة الخطر، فألحت على النملات بالرجوع إلى منطقة آمنة قائلة: “يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون”. ورغم المسافة الشاسعة وضجيج الجيش الزاحف، إلا أن سليمان -عليه السلام- فهم لغتها فابتسم.

مخطوطة "قصة سيدنا سليمان مع النملة"،من العام 1274 هجري/ 1857
مخطوطة “قصة سيدنا سليمان مع النملة”،من العام 1274 هجري/ 1857

استفزت النملة سليمان -عليه السلام- بجرأة عندما التقطها ووضعها على رأسه وسألته: “ماذا أعطاك الله؟” فأجاب سليمان-عليه السلام- بثقة: “مملكة عظيمة”. ثم سأل النملة: “وماذا لديكَ أنت؟” فأجابت: “لدي أنت تضعني على رأسك، ماذا أحتاج أكثر من ذلك؟” فغضب سليمان -عليه السلام- وأعادها إلى الأرض قائلاً: “ألا تعرفين من أنا؟” فردت النملة: “أنت إنسان موجود هنا مؤقتاً وسوف تموت يوماً ما”. بكى النبي عندما سمع كلماتها، لأنه أدرك الحقيقة في قولها، وأنه لا ينبغي له أن يفتخر بما أعطاه الله بشكل مؤقت ولا أن يشعر بالاستعلاء على أي من المخلوقات.

مخطوطة "قصة سيدنا سليمان مع النملة"،من العام 1274 هجري/ 1857
مخطوطة “قصة سيدنا سليمان مع النملة”،من العام 1274 هجري/ 1857

وعلى الرّغم من أَنَّه كانَ يَملك ثَروة دُنيوية هائلة، إلا أنَّ سُليمان -عليه السلام- تذكر على الفور نعمة الله عند سماعه نداء النملة. واعترف بهذه الهدية من الله بامتنان وأمر جيشه بتغيير مساره، مما أدى إلى إنقاذ مستعمرة النمل من الدمار. كان هذا التحول الملحوظ في الأحداث بسبب نداء نملة واحدة.

في الختام، تجسد قصة النبي سليمان -عليه السلام- مع النملة درسًا عظيمًا في التواضع والاعتراف بنعم الله، بغض النظر عن عظمة الملك والقوة التي يتمتع بها الإنسان. فقد أظهر سليمان -عليه السلام- أنه رغم القوة التي منحها الله له، كان قادرًا على الاستماع لنملة صغيرة والاستجابة لها بحكمة ورحمة.

من البئر إلى القصر: أسطورة النبي يوسف الصديق عليه السلام

قصص الأنبياء الذين اصطفاهم الله لهداية البشر مليئة بالتحديات التي صقلت إيمانهم وجعلت قصصهم عبرًا للأجيال. ومن هذه القصص الملهمة قصة النبي يوسف عليه السلام المروية بأسلوب رائع في سورة يوسف بالقرآن الكريم. وقد تناول هذه القصة أيضًا الفقيه ابن الجوزي في مخطوطته "قصة الصديق يوسف عليه السلام"، والتي نعرضها في هذا المقال، تسلط الضوء على أهم مراحل حياة النبي بما فيها خيانة إخوته له وتغلبّه على الإغراءات

832 629

مخطوطة الفقيه ابن الجوزي "قصة الصديق يوسف عليه السلام"

من المعلومِ أنَّ الأنبياء اختارهم الله لتنوير الناس وهدايتهم إلى الطريق الصحيح، ولكن لماذا اختار بعض البشر أن يكونوا أنبياء دون غيرهم؟ ما الذي جعل حياة بعض الأشخاص مميزة جدًا بحيث كانت قصصهم تستحق أن تروى ولا تزال تُحكى حتى يومنا هذا؟

ونحن نقرأ قصص الأنبياء، لا يَسعنا إلا أن نلاحظ شيئاً مشتركاً بينهم، وهو أن حياتهم لم تكن سهلة أبداً، بل على العكس، كانت مليئةً بالتحدياتِ والمتاعب التي اختبرهم بها الله، ليرى إِن كانوا سيستمرون بالتصرف بالأخلاق الرفيعة أم  سينحرفون إلى طريق الكذب والتلاعب والمكر، وهو الطريق الذي يعرفه معظم البشر العاديين جيد جداً.

ومن هذه القصص الرائعة قصة النبي يوسف التي كتبت كجزء من القرآن الكريم بعد أن أوحى بها الله على النبي محمد -عليه السلام-.

1200 630
من مخطوطة “قصة الصديق يوسف عليه السلام”، ابن الجوزي،1591

كتب الفقيه الحنبلي ابن الجوزي عام 1591 مخطوطة مكونة من 46 صفحة تحوي قصة النبي يوسف عليه السلام مستوحاة من سورة يوسف ومضيفاً بعض من تفسيراته وتعقيباته عليها تحت عنوان “قصة الصديق يوسف عليه السلام”. في المخطوطة مجموعة قصص تلخص أهم محطات حياة يوسف -عليه السلام- منها قصته مع اخوته وزليخا وتوليه المُلكَ في مصر، نلقي الضوء على بعضٍ من محتوى المخطوطة المتوفرة في المكتبة الوطنية.

تُبين المخطوطة بأنَّ نزول سورة يوسف كان بسبب تشكيك قريشٍ في نبوة النبي محمد، وفي سَعيهم لاختباره، طرحوا عليه أسئلة تٌتحدى بصيرته الروحية. ورواية قصة يوسف وإخوته غير المألوفة لأهل مكة تثبت صحة النبوة. من خلال الوحي الإلهي، نقل محمد تفاصيل معقدة للرواية غير المروية، مما يؤكد صحة نبوته. عملت السورة على رفع معنويات المؤمنين وسط الاضطهاد آنذاك، وقدمت لهم العزاء بأن أنبياء عانوا من قبلهم ونالوا من الدنيا والآخرة الخَير.

3423849 10 0007
من مخطوطة “قصة الصديق يوسف عليه السلام”، ابن الجوزي،1591

كتبَ ابن الجوزي أن يوسف -عليه السلام- وُلِدَ في عائلةٍ من الأنبياء، وهو ابن النبي يعقوب عليه السلام، وكان الابن الأصغر الذي يحتل مكانة خاصة في قلب أبيه، لكن هذه الرابطة العائلية أثارت الغيرة بين إخوة يوسف الأكبر سناً، الذين تآمروا عليه بدافع الحسد.

تبدأ قصة يوسف بحلم، اذ رأى في منامه أحد عشر كوكباً و الشمس و القمر يسجدون له. طلبَ يوسف الصبي المشورة من والده فيما يتعلق بتفسير الحلم، والذي نصحه بإخفاء الحلم عن إخوته خوفًا من حسدهم لأنه استنتج أن الأحد عشر كوباً يرمزون لأخوته الاحدى عشر. على الرغم من تحذير أبيه، و باصرار من أخوته و لكي لا يتسم بالكذب، باحَ يوسف برؤياه لاخوته.
تآمر إخوة يوسف ضده وعزموا على قتله، ومن المفارقة أنه و في خِضَّم ضَربهم له لم يسع النبي يوسف الا الضحك، مما استفز أخاه يهودا لسؤاله عما يضحكه وهو في هذه الحال فقال يوسف “بيني و بين الله سر” ، أدرك عندها يهودا فداحة فعله هو و اخوته و أقنعهم بعدم قتل يوسف وألقوا به في النهاية في بئر وخدعوا والدهم ليعتقد أن حيوانًا بريًا قد التهمه.

3423849 10 0004
من مخطوطة “قصة الصديق يوسف عليه السلام”، ابن الجوزي،1591

يعجب الملك ببصيرة يوسف، ويعينه رئيسًا للوزراء، ويكلفه بمسؤولية إدارة موارد مصر خلال الأزمة الوشيكة. وفيًا لسمعته، أثبت يوسف أنه قائد حكيم وصادق، مما يضمن استعداد شعب مصر للمجاعة المقبلة.

أثناء المجاعة، يسافر إخوة يوسف إلى مصر بحثًا عن الطعام، ويواجهون دون قصد شقيقهم المفقود منذ زمن طويل. بعد التعرف عليهم، يختبر يوسف صدقهم، ويكشف في النهاية عن هويته ويغفر لهم تجاوزاتهم الماضية. إن لم شمل يوسف مع عائلته، بما في ذلك والده الحبيب، هو لحظة مصالحة عميقة ومغفرة، مما يدل على القوة التحويلية للإيمان والرحمة.

3423849 10 0005
من مخطوطة “قصة الصديق يوسف عليه السلام”، ابن الجوزي،1591

وفي الختام، تُبين المخطوطة بأنَّ قصة النبي يوسف عليه السلام هي قصة خالدة عن الإيمان والصمود والتسامح، وتقدم دروسًا قيمة حول أهمية الثقة بالله، والصبر عند الشدائد، والرحمة تجاه الآخرين.وربما من أهم العبر في قصة يوسف الصديق هي أن على الانسان أن يتصرف بما تمليه عليه قيمه النبيلة دون الاكتراث بما يحيطه من العالم الخارجي، متسلحاً بالايمان بفكرة أن كل ما يمر به من مواقف صعبة، ان لم يسمح لها بتغييره ، ستودي به بالضرورة الى السعادة .

عبدُ القادرِ الجَزائري: الحَكيم الصوفي والقائد العسكري

في سِجِّلاتِ التّاريخ، تَقِفُ قِلّةٌ مِنَ الشَّخصياتِ بِقامَةِ البَطَل الجزائري عبد القادر. ومع ذلك، فإنَّ وَراءَ مُقاومته الشَّهيرة ضِدَّ الاستعمار الفَرنسي يَكمُنُ جانبٌ آخر أقلَّ شُهرة من شخصيته - روحانية عميقة أكسبته الاحترام ليس فقط في وطنه بل في أقاصي القارات. من قرية القيطنة المتواضعة إلى أروقة دمشق الموقرة، تجمَعُ رحلة عبد القادر بين الصّوفية والعلم والقيادة.

832 629

صحيفة الاتحاد: 21 كانون الأول 1995


من منّا لم يسمع  بأَحَدِ أكثر الشخصيات شهرة في القرن التاسع عشر، الأميرُ القائد عَبد القادِر الجزائري، لكنّ القليل منّا يعلم بأنه لم يكن مجرد محارب وقف في وجه الاعتداء الفرنسي على بلاده، بل كان أيضًا يتمتع بروحٍ روحيةٍ عميقة، ساعَدتهُ هذهِ الازدواجية الجميلة بأَن يَحظى بالاحترام ليس في وَطَنِه فحسب، بل في جميع أنحاء أوروبا، وحتى أنه يتم إحياء ذكراه في الولايات المتحدة إلى الآن.


1                                                                         صحيفة الإتحاد:21 كانون الأول 1995

تبدأُ رِحلَةُ عبد القادر في عام 1808 في قرية القيطنة، شمال غرب الجزائر، حيث ولد لسلالةٍ من عُلَماءِ الدين والمتصوفين المرموقين، والتي يقال أنها تعود إلى النبي محمد نفسه. كان والده محيي الدين يحظى باحترام كبير باعتباره مرابطًا، وهو لقب يدل على السلطة الدينية في الأوساط الصوفية، وخاصة داخل الطريقة القادرية الصوفية، السائدة في الجزائر آنذاك.

نشأ عبد القادر في أحضان محفل والده الصوفي، ولم يكتف بتعاليم القرآن وأحاديث النبي فحسب، بل غاص أيضًا في أعماق الروحانية الصوفية. لم يشمل تعليمه الدراسات اللاهوتية فحسب، بل شمل أيضًا مجموعة واسعة من المعرفة الدنيوية، من الفلسفة إلى الرياضيات، كما أمضى الكثير من وقته في التدريب الصارم على مهارات الفروسية، الضرورية لأسلوب الحياة البدوي السائد في عصره.

طالعوا أيضًا: من تاريخ التصوف


على الرغم من إعداده لحياة مليئة بالمساعي العلمية، إلا أن مصير عبد القادر اتخذ منعطفًا مفاجئًا عندما وجد نفسه مدفوعًا إلى ساحة الصراع المسلح. ومع ذلك، فإن نشأته في الصحراء منحته مهارات البقاء على قيد الحياة التي لا تقدر بثمن والقدرة على الصمود العميق التي ستشكل مصيره كقائد عسكري.

مُجاهدُ النفس

عِند وُصولهِ إلى مدينة  دِمَشق عام 1855، قام عبد القادر بخطوة مهمة، إذ استقر في منزل ابن عربي الذي كان مَثَلَهُ الأعلى في التربية الصوفية . كان طلبه الأول عند وصوله يعكس شوقَهُ الروحي العميق والذي تَمَثّلَ بزيارة ضريح ابن عربي في دمشق، انتقل عبد القادر بسلاسة إلى دورِ الحكيم الصوفي، ومنارة المعرفة الدينية، ورجل الدين المخلص، وقد حظيت تعاليمه اليومية في المسجد بإشادة واسعة النطاق، مما رفعه إلى مكانة عالم محترم في المجتمع.

ورُغمَ أَنَّ ابن عربي نَفسه لم يُؤسس طريقةً صوفية، إلا أن تأثيرهُ العميق تَرَدَّدَ صداه في أروقة محاضرات عبد القادر. من خلال التعمق في الآيات القرآنية والأحاديث وتأملاته الخاصة، صاغ عبد القادر بدقة رائعة عمله  بعنوانِ ” المَواقِفِ الّروحية والفيوضات السبوحية “، ويُعَدّ هذا الكتاب خلاصةً لكتاب “الفتوحات المكية” للشيخ محيي الدين بن عربي، الذي كان خاتم الأولياء في عصره. يتكون الكتاب من تنبيهات روحية وتوجيهات متجلية بمعارف إلهية وأسرار غيبية، تتجاوز حدود الاكتساب العادي والتأمل العقلاني.

Dedupmrg753108098 Ie168122710 Fl168123424 2


في قلبِ تَعاليمه تَكمُن الرحلة التنويرية نحوَ الاتّحاد الإلهي – الفناء – أي انحلال الذات حتى يبقى جوهر الله فقط، وشرح عبد القادر هذا المفهوم مردداً قول النبي محمد: “اعرِف نَفسك تعرف ربك”. وفي تَأَمّل هذه الوِحدة الإلهية، رأى جميعَ المخلوقات مجردَ انعكاسٍ للحقيقة الإلهيةِ نفسها، حيث تتلاشى الفروق، وتبقى الحقيقة الواحدة فقط.

كما أكد الأمير الجزائري بأن حُضورَ الله يتخلل كلَّ رُكنٍ مِن أَركانِ الوجود، ومع ذلك يَظّلُ جَوهره خارجَ نِطاقِ فهم البشر. هذه المفاهيم لا تؤيد الوثنية أو أشكال العبادة البديلة؛ بل إنها تعكس المذاهب الميتافيزيقية العميقة لابن عربي والمدرسة الأكبرية. حيثُ يتعمقون في تعقيدات أنظمة المعتقدات وطرق العبادة المتنوعة، ويقدمون منظورًا دقيقًا حول تعدد المسارات الروحية. هذا المنظور الذي قد يدفع بشكل إيجابي نحو احترام كافة أشكال العبادات والتسامح الديني.

Dedupmrg753108098 Ie168122710 Fl168123170 3
                                               من مخطوطة ” المواقف الروحية والفيوضات السبوحية” متوفرة في المكتبة الوطنية

 

بينما نختَتِم هذا الاستكشاف لإرثِ عَبدِ القادرِ مُتَعَدِّدِ الأَوجه، لا يسعنى إلا أن نرى قصته كأكثرَ من مجرد سردٍ تاريخي – إنها شهادة خالدة على قوةِ الروحانية والمرونة والفهم الثقافي. من خلال مقاومته الثابتة ضد القمع الاستعماري والتزامه الذي لا يتزعزع بالتنوير الروحي، تجاوز عبد القادر حدود عصره، تاركًا وراءه إرثًا نحن بأمس الحاجة إليه اليوم.

ذمُّ شره الطعام وتعظيم الجوع: حمية الإمام الغزالي الروحيّة

نقدّم لكم في هذا المقال عرضًا لرأي الإمام الغزالي في شره الطعام، والسرّ لديه في أهمّيّة الجوع، ونصائحه في التقليل من الأكل، كما ورد في أحد أقسام كتابه "الأربعين في أصول الدين".

832 629

كتاب الأربعين في أصول الدين، 1793، مجموعة الـ AP ضمن مجموعة المخطوطات، المكتبة الوطنية

ألّف الإمام أبي حامد الغزالي (1058-1111 م) كتابه الأربعين في أصول الدين في فترة عزلته واعتكافه التي امتدّت تقريبًا عشرة أعوام، قضاها في القدس ودمشق. قسّم كتابه إلى عدّة أقسام، منها ما هو في العقائد، وفي الأعمال الظاهرة، ومنها ما هو في تزكية القلب عن الأخلاق المذمومة، وقد وضّح رأيه في الطعام والجوع في هذا القسم، ونلمح في آرائه صدىً للأفكار الصوفيّة عن قهر الجسد وشهواته، وتأثيرًا لعزلته، إذ هي كالجوع تركٌ لملذّات الدنيا.

في شره الطعام

يعتبر الغزالي أنّ شره الطعام من أمّهات (أصل) الأخلاق السيّئة، فالمعدة بالنسبة إليه ينبوع الشهوات، فعندما تنتصر شهوة الطعام على الإنسان، يصبح أسيرًا لها، وينتج عنها شره المال، لأنّ المال هو الذي يجعل الإنسان قادرًا على الحصول على الأطعمة التي تشتهيها نفسه. ومن شهوة المال، تنبع الرغبة في الجاه، أي علوّ المكانة والمنزلة، لأنّه هو الذي يُسهّل كسب المال. وعندما يحصل الإنسان على المال والجاه ويسعى في طلبهما، ينتج عن ذلك آفاتٌ إضافيّة في أخلاقه، فيصيبه التكبّر والرياء (عمل الصالحات أمام الناس لتزداد المكانة) والحسد على من يملكون والحقد والعداوة وغيرها. ومنبع كلّ ذلك حسب الغزالي هو البطن، فكأنّه يريد أن يقول إنّ الرغبة الشرهة في الطعام هي أمٌّ تلد سلسةً من السلوكيّات المذمومة، ورحم هذه الأمّ هو البطن أو المعدة.

ولا يكتفي الإمام الغزالي بنقد شره الطعام بهذه السلسلة المنطقيّة من السبب والنتيجة (ربّما نتذكّر هنا أنّ الغزالي درس الفلسفة في فترة من حياته)، بل يورد أحاديثًا نبويّة، ليدعم رأيه لا بالعقل وحده، بل بالنقل عن الرسول كذلك، فيبدأ بحديثٍ يُعَظِّم الجوع (نقيض الشره): “ما من عمل أحبّ إلى الله من الجوع والعطش”، ثمّ “لا يدخل ملكوت السماء من ملأ بطنه”. ويورد حديثًا آخر توحي صياغته بضعف نسبته إلى الرسول: “الفكر نصف العبادة، وقلّة الطعام هي العبادة”، وحديثًا آخر يمدح التفكّر ويربطه بالجوع، ويذمّ كثرة الأكل (صيغة المبالغة أكول) ويربطها بالكسل (النؤوم): “أفضلكم عند الله أطولكم جوعًا وتفكرًا، وأبغضكم إلى الله كلّ أكول شروب نؤوم”. وقبل أن ينهي الغزالي حديثه عن شره الطعام، يورد عدّة أحاديث أخرى تدعم رأيه، أشهرها حديثٌ صحيحٌ يذمّ التخمة، ويحثّ -من يقدر على ذلك- على “حميةٍ روحيّةٍ” قائمةٍ على أكل اللقيمات (اللقم الصغيرة) لإمداده بالقوّة اللازمة على القيام بأعماله، وإذا كان ذلك صعبًا فليقسّم الشخص معدته 3 أقسام، واحد للطعام والثاني للشراب والثالث للهواء (أي فارغ):

 “ما ملأ ابن آدم وعاءً شرًّا من بطنه، حسب ابن آدم لقيماتٍ يُقمن صُلبه، وإن كان لا محالة (أي لا بدّ من الزيادة في الطعام) فثلثٌ لطعامه وثلثٌ لشرابه وثلثٌ لنفَسِه”.

Dedupmrg765329080 Ie144661144 Fl144661329 660

شره الطعام من مخطوطة الأربعين في أصول الدين- المكتبة الوطنيّة


السرّ في تعظيم الجوع

بالإضافة لأهمّيّة الجوع في القضاء على شره الطعام، يورد الغزالي فوائد كثيرة أخرى له، تجعله مناسبًا لمن يطلب الآخرة. فهو يؤدّي إلى صفاء القلب ونفاذ البصيرة (قوّة الإدراك والذكاء)، ما يسهّل تحصيل المعرفة المؤدّية إلى السعادة، عكس الشبع الذي يسبّب البلادة الفكريّة. والجوع أيضًا يجعل القلب رقيقًا، فيتأثّر بذكر الله وعبادته ولذّة مناجاته، ويقتبس الغزالي قولًا تعجبيًّا للصوفيّ الزاهد أبو القاسم الجنيد يقول فيه: “يجعل أحدكم بينه وبين قلبه مخلاة من الطعام ويريد أن يجد حلاوة المناجاة!”، ومعنى هذا القول أنّ الطعام الكثير المكنّى عنه بطريقة سلبيّة بالمخلاة (الكيس المعلّق على رقبة الدابّة يوضع فيه علفها) حاجزٌ بين الإنسان وذاته الحقيقيّة (قلبه) التي تتذوّق حلاوة العبادات.

 كذلك، يؤدّي الجوع -حسب الغزالي- إلى ذلّ النفس وزوال البطر والطغيان، فيمتنع الإنسان عن التكبّر، الذي هو في رأيه سبب الغفلة عن الله، والباب المؤدّي إلى الجحيم. والجوع أيضًا بابٌ من أبواب الجنّة، لأنّه بلاءٌ للنفس، وعندما يعذّب الإنسان نفسه بالجوع يتذكّر عذاب الآخرة، فيزيد خوفه من الله، وإقباله على طاعته. وهو يكسر كافّة الشهوات التي هي منابع المعاصي، ويسيطر على النفس الأمّارة بالسوء، ويقتبس الغزالي من صوفيٍّ آخر هو ذي النون قوله بأنّه عندما يشبع يعصي الله أو يرغب في المعاصي، وقول عائشة بأنّ الشبع يجعل النفس تجمح نحو الدنيا (الجموح عندما يتمرّد الحصان على راكبه، أو لا يقدر البحّارة على ضبط سفينتهم).

وآخر فائدتين يوردهما الغزالي للجوع تتعلّقان بالخفّة، خفّةِ الجسد (نشاطه) اللازمة للتهجد (صلاة الليل) والعبادة وزوال ثقل النعاس، وخفّة المؤنة، أي النفقات القليلة التي تجعل الإنسان يرضى بالقليل من الدنيا، فمن تخلّص من شره الطعام لا يرغب في المال الكثير لشرائه، ويزول عنه ثقل الهموم المتعلّقة بالحصول عليه.

التدرّج في التقليل من الطعام

ردًّا على سؤال “كيف أترك الشبع والإكثار في الطعام وقد أصبحا عادة عندي؟”، يجيب الغزالي أنّ الحلّ في التدريج، لتسهيل الأمر على النفس، فيُنقص الإنسان كلّ يومٍ من طعامه لقمة، وينتج عن ذلك أن يقلّ ما يأكله “رغيفًا في شهر”، وهكذا يتعوّد رويدًا رويدًا على الكمّيّات القليلة. وبعد المداومة على التقليل، يختار الإنسان حسب طاقته كمّيّة الطعام من ثلاث درجات يوضّحها الغزالي:

-أعلى درجة هي درجة الصدّيقين (أعلى المراتب بعد مرتبة النبوّة)، وكمّيّة الطعام في اليوم هنا على قدر القوام، أي قوت الطعام الذي يقيم الإنسان ويبقيه على قيد الحياة ولا يجعل عقله ضعيفًا، وبمعنى آخر الحدّ الأدنى من الطعام الذي إذا نقص يتشكّل خطرٌ على الحياة والعقل.

-الدرجة الثانية هي نصف المُدّ كلّ يوم (قيمة المدّ عند بعض الفقهاء المعاصرين تقريبًا 544 غرام)، وهذه كانت عادة جماعة من الصحابة كعمر بن الخطاب.

-الدرجة الثالثة هي المُدّ الواحد كلّ يوم، دون زيادة. لكن يؤكّد الغزالي أنّ هذه الحسابات تقريبيّة، ويؤثّر فيها اختلاف الأشخاص وأحوالهم. وهو يفضّل أن يأكل الإنسان عند الجوع الكبير، وأن يتوقّف عن الطعام وهو لا يزال يشتهيه. ودليل الجوع الصادق لديه هو الوصول إلى الحالة التي يصبح فيها راغبًا بأيّ نوعٍ من الخبز، حتّى لو كان يابسًا (من غير إدام أو مرق).

Dedupmrg765329080 Ie144661144 Fl144661330 660

من مخطوطة الأربعين في أصول الدين- المكتبة الوطنيّة 

كذلك، يعتبر الغزالي أنّ على الإنسان التقليل من خبز البُرّ (القمح) مع الإدام (المرق أو الدسم)، وأن يحاول الاقتصار على خبز الشعير بلا إدام. وينصح أيضًا بالتدرّج في مدّة الامتناع عن الطعام، فيمتنع في البداية عن الأكل في اليوم الواحد أكثر من مرّةٍ واحدة، ثمّ يمتنع عن الأكل ليومين متواصلين، ويستمرّ بالتدريج حتّى يصل أيّامًا عديدة بلا طعام، ككبار سالكي الطريق من الصوفيّين.

هكذا كانت حمية الغزالي الروحيّة، وإذا أعجبتكم، ننصحكم بعدم تجريبها، قبل أن تستشيروا طبيبكم!